Translate

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

ج2.تفسير القرآن أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ

 

2. تفسير القرآن
أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني
سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ

( ^ الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ( 199 ) يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 200 ) ) * * * *
أعده للمؤمنين من نعيم الجنة : نزلا من عند الله ( ^ وما عند الله خير للأبرار ) < < آل عمران : ( 199 ) وإن من أهل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) قيل : أراد النجاشي ، وروى أنه لما مات قال النبي لأصحابه : ' صلوا على أخ لكم مات ، وهو أصحمة النجاشي ' فقال المنافقون : انظروا يصلي على علج من النصارى ويدعوا له ؛ فنزلت الآية .
وقيل : هو في عبد الله بن سلام ، ومن أسلم معه ؛ فذلك قوله : ( ^ لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) أي : متواضعين لله ( ^ لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ) . < < آل عمران : ( 200 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ) يعني : على الجهاد ، ( ^ وصابروا ) أي : مع الأعداء ( ^ ورابطوا ) أي : في الثغور بالملازمة ، وقيل : اصبروا على دينكم ، وصابروا مع الأعداء ، ورابطوا بالمحافظة على الصلوات ، وفي الحديث : قال رسول الله : ' ألا أدلكم على ما يمحو الله به السيئات ، ويرفع الله به الدرجات ، قيل : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم ، الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ' .
( ^ واتقوا الله لعلكم تفلحون ) أي : كونوا على رجاء الفلاح .
____________________

<
> تفسير سوره النساء <
> <
> بسم الله الرحمن الرحيم <
>
قال : اعلم أن هذه السورة تسمى : سورة النساء ، وتسمى سورة الأحكام ، وهي مدنية على قول أكثر المفسرين ، إلا قوله تعالى : ( ^ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة في مفاتيح الكعبة ، وأورد النحاس أن السورة مكية .
وفي الحديث : ' من قرأ سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء في ليلة ؛ كتب من القانتين ' ، وعن عمر - رضي الله عنه - قال : تعلموا سورة البقرة ، والنساء ، والمائدة ، وسورة النور ، والأحزاب ؛ فإن فيهن الفرائض .
____________________

( ^ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ) * * * * < < النساء : ( 1 ) يا أيها الناس . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الناس ) قال علقمة : كل ما نزل في القرآن : ( ^ يا أيها الناس ) فإنما نزل بمكة ، وكل ما ورد في القرآن : ( ^ يا أيها الذين آمنوا ) فإنما نزل بالمدينة .
وقوله : ( ^ يا أيها ) ' يا ' للنداء ، و ' أي ' للإشارة ، و ' ها ' للتنبيه ( ^ اتقوا ربكم ) وقرأ ابن مسعود : ' اتقوا ( الله ) ربكم ' .
بدأ من السورة بالوعظ والتحذير ، فقال : ( ^ اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) ، وأراد بالنفس الواحدة آدم - صلوات الله عليه - وإنما قال : ( ^ واحدة ) على التأنيث ؛ لأجل اللفظ ؛ لأن النفس مؤنثة ، وهذا مثل قول الشاعر :
( أبوك خليفة ولدته أخرى ** وأنت خليفة ذاك الكمال )
وإنما قال : ولدته للفظ الخليفة ، وإن كان معناه الذكر ( ^ وخلق منها زوجها ) يعني : حواء ، وسميت حواء ؛ لأنها خلقت من حي ، وفي القصص : أن الله تعالى خلق حواء من ضلع لآدم في جنبه الأيسر يسمى : ' القصيراء ' وفي الخبر المعروف ' أن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن أردت أن تقيمها كسرتها ، وإن تركتها استمتعت بها على اعوجاج ' وقيل : إن حواء خلقت من التراب .
وقوله : ( ^ وخلق منها زوجها ) معناه : وخلق من جنسها زوجها ، يعني : التراب ، والأصح الأول . وفي الخبر : أن الله تعالى لما خلق آدم ألقى عليه النوم ، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه ، وخلق منه حواء ، فجلست بجنبه ، فلما انتبه رآها جالسه بجنبه ، وقيل : إنه لم يؤذه أخذ الضلع شيئا ، ولو آذاه لما عطف رجل على امرأة أبدا .
وعن ابن عباس : أن الله تعالى خلق الرجل من التراب ؛ فهمه في التراب ، وخلق
____________________

( ^ ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 ) وآتوا اليتامى أموالهم ) * * * * المرأة من الرجل ، فهمها في الرجل ؛ فاحبسوا نساءكم .
( ^ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) ذكر هذا كله لبيان القدرة ؛ وإظهار المنة ( ^ واتقوا الله الذي تساءلون به ) أي : تسألون به ، وذلك مثل قول الرجل : أسألك بالله ، ونشدتك بالله ، وقيل : معناه : واتقوا الله الذي تعاهدون به ، وذلك أن تقول : عليك عهد الله ، وعلي عهد الله ، ونحو ذلك .
وأما قوله : ( ^ والأرحام ) قرأ حمزة : ' الأرحام ' بكسر الميم وتقديره : تساءلون به وبالأرحام ، قال إبراهيم النخعي : تقول العرب : نشدتك بالله وبالرحم . وضعفوا هذه القراءة ، والقراءة المعروفة : بنصب الميم ، وتقديره : واتقوا الأرحام أن تقطعوها .
وفي الخبر : يقول الله تعالى : ' أنا الرحمن ، وخلقت الرحم ، واشتققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته ' .
وروى عن رسول الله أنه قال : ' إن الله تعالى يعمر الكفار ، ويكثر أموالهم ، ولم ينظر إليهم منذ خلقهم ؛ بغضا لهم ، فقيل : مم ذاك يا رسول الله ؟ قال : بصلة الأرحام ' .
( ^ إن الله كان عليكم رقيبا ) أي : حفيظا . < < النساء : ( 2 ) وآتوا اليتامى أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآتوا اليتامى أموالهم ) أراد به : دفع المال إليهم بعد البلوغ ،
____________________

( ^ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ( 2 ) وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا ) * * * * وسماهم بعد البلوغ يتامى ؛ لقرب عهدهم باليتيم ، وكانت قريش تسمي رسول الله يتيم أبي طالب لذلك .
( ^ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) وفي قراءة شاذة : ' ولا تشتروا الخبيث بالطيب ' فالخبيث : الحرام ، والطيب الحلال ، ومعنى الكلام : ولا تأكلوا أموال اليتامى حراما ، وتدعوا أموالكم الحلال ، وقال مجاهد : معناه : لا تستعجلوا أكل الحرام ؛ فإن الحلال يأتيكم .
( ^ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) قال الفراء : معناه : مع أموالكم ، وقال غيره : ' إلى ' لا تكون بمعنى ' مع ' ، وهي على حقيقتها ، ومعناه : ولا تأكلوا أموالهم مضافة إلى أموالكم .
( ^ إنه كان حوبا كبيرا ) فالحوب : الإثم ، وفي الخبر : ' أن أبا أيوب الأنصاري أراد أن يطلق امرأته أم أيوب ، فقال النبي : إن طلاق أم أيوب لحوب ' < < النساء : ( 3 ) وإن خفتم ألا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) أي : ألا تعدلوا ، يقال : أقسط ، إذا عدل ، وقسط ، إذا جار ، وفي معنى الآية قولان : أحدهما أورده البخاري في الصحيح ، وهو ما روى الزهري عن عروة أنه سأل عائشة عن شأن هذه الآية ، فقالت : يا ابن أختي ، نزلت الآية في يتيمة تكون في حجر وليها ، ويرغب في مالها وجمالها ، ولا يقسط في صداقها ؛ فنهوا عن نكاحهن ، وأمروا أن ينكحوا غيرهن '
فعلى هذا تقدير الآية : وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى ؛ ( ^ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) .
وقال ابن عباس : قصر نكاح النساء على الأربع من أجل أموال اليتامى ، فإن قيل :
____________________

( ^ فواحده أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ( 3 ) وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ( 4 ) ولا تؤتوا ) * * * * كيف يعرف هذا ، وكيف يلتئم بذاك هذا ؟ قيل : معناه : أن الله تعالى لما شدد في أموال اليتامى ، تحرج المسلمون عنها غاية التحرج ، وشرعوا في نكاح النساء ، واستهانوا به ؛ فنزلت الآية ، وأراد : إنكم كما تحرجتم عن أموال اليتامى ؛ خوفا من الجور ، فتحرجوا عن الزيادة على الأربع أيضا ؛ خوفا من الجور والميل ، فهذا معنى قوله : ( ^ فانكحوا ما طاب لكم ) أي : ما حل لكم ( ^ من النساء مثنى وثلاث ورباع ) أي : لا تجاوزوا الأربع .
وذهب بعض الناس إلى أن نكاح التسع جائز بظاهر هذه الآية ؛ لأن الاثنين والثلاث والأربع يكون تسعا ليس بصحيح ، بل فيه قولان : أحدهما : قال الزجاج : مثنى مثنى ، ثلاث ثلاث ، رباع رباع ، يعني : لكل الناس ، وقيل : ' الواو ' بمعنى : ' أو ' يعني : مثنى ، أو ثلاث ، أو رباع ؛ ولأن على التقدير الذي ذكروا [ عي ] في الكلام ؛ لأن من أراد أن يذكر التسع فيقول : مثنى وثلاث ورباع ، عد ذلك عيبا في الكلام وقد قال : ( ^ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) ؛ لأنه أخف مؤنه ( ^ أو ما ملكت أيمانكم ) لأن حقوق ملك اليمين أدنى من حقوق ملك النكاح ، وهو معنى قوله : ( ^ ذلك أدنى ألا تعولوا ) أي : ذلك أقرب أن لا تجوروا ، يقال : عال ، يعول إذا جار ، وأعال يعيل إذا كثر عياله ، قال الشاعر :
( إنا اتبعنا الرسول واطرحوا ** أمر الرسول وعالوا في الموازين )
أي جاروا ، وروى : أن أهل الكوفة عتبوا على عثمان في شيء ، فقال : لست بقسطاء ، فلا أعول ، أي لست بقسطاس ؛ فلا أجور .
وقال الشافعي : معناه : ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم . وحكى الأزهري عن الكسائي
____________________

( ^ السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ( 5 ) وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها ) * * * * إنه حكى عن العرب : عال يعول : إذا كثر عياله ، وهذا يؤيد قول الشافعي . < < النساء : ( 4 ) وآتوا النساء صدقاتهن . . . . . > >
( ^ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) الصدقة والصداق واحد ( ^ نحلة ) أي : تدينا ، وقال ابن عباس : معناه : فريضة ، والخطاب مع الأزواج على الأصح وقيل : هو خطاب مع الأولياء ، وكان أهل الجاهلية لا يعطون المرأة صداقها ، وإنما يأخذ الأولياء ؛ فخطاب الأولياء بإعطاء المرأة صداقها نحلة ، أي : هو عطية لها من الله .
( ^ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) أي : فإن أعطين عن طيب نفس من الصداق شيئا . و ' من ' للتخيير هاهنا ، لا للتبعيض ؛ حتى يجوز للمرأة هبة كل الصداق ، ( ^ فكلوه هنيئا مريئا ) الهنيء : ما أكلت من غير تنغيص ، والمريء : هو المحمود العاقبة ؛ وذلك ألا يورث تخمة . وعن علي رضي الله عنه أنه قال : إذا مرض أحدكم ، فليستقرض من امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ، وليشتري بها عسلا ، وليخلطه بماء السماء ، ثم ليأكل ؛ فإنه الشفاء المبارك والهنيء المريء . < < النساء : ( 5 ) ولا تؤتوا السفهاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) أكثر المفسرين على أن المراد بالسفهاء : الصبيان والنساء هاهنا ، وقال الشعبي : المرأة أسفه من كل سفيه .
قال سعيد بن جبير : معنى الآية : أن لا تجعلوا المرأة قيمة البيت في المعاش ، بل كونوا أنتم قوامين على النساء في المعاش ، وقوله : ( ^ التي جعل الله لكم قياما ) فالقيام والقوام واحد ، يعني : أموالكم التي جعلها الله قواما لمعاشكم ، وقال الزجاج : تقديره : الأموال التي تقيمكم فتقومون به قياما ( ^ وارزقوهم فيها وأكسوهم ) قيل : معناه : وارزقوهم منها ، وقيل كلمة في حقيقتهما ، ومعناه : اجعلوا وظائفهم من الرزق والكسوة فيها .
( ^ وقولوا لهم قولا معروفا ) قيل : معناه : تعليم الدين والشرائع ، وقيل : أراد به : وعد الجميل ؛ وذلك أن تقول لهم : إن سافرت وربحت ، أعطيكم كذا ، وإن غزوت
____________________

( ^ إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيب ( 6 ) للرجال نصيب مما ترك الوالدان ) * * * * فغنمت ، أعطيكم كذا ، فهذا هو القول المعروف . < < النساء : ( 6 ) وابتلوا اليتامى حتى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وابتلوا اليتامى ) يعني : واختبروا اليتامى ، ثم منهم من قال : إنما نختبرهم بعد البلوغ ، وسماهم يتامى ؛ لقرب عهدهم باليتيم ، والصحيح أنه أراد به : الاختبار قبل البلوغ ، ثم اختلفوا ، فأما الفقهاء قالوا : يدفع إليه شيئا يسيرا ، ويبعثه إلى السوق ، حتى يستام السلعة ، ثم إذا آل الأمر إلى العقد يعقد الولي ، ومنهم من قال : يعقد الصبي ، ويجوز ذلك في الشيء اليسير ؛ لأجل الاختبار .
وأما الذي قاله المفسرون : أنه يدفع إليه مالا ، ويجعل إليه نفقة البيت ، ويختبره فيها ، ( ^ حتى إذا بلغوا النكاح ) أي : أوان الحلم ( ^ فإن آنستم ) أي : أحسستم ، ووجدتم ( ^ منهم رشدا ) قال مجاهد : عقلا ، وقال سفيان الثوري : عقلا وإصلاحا في المال . ومذهب الشافعي : أن الرشد : هو الصلاح في الدين ، والإصلاح في المال .
( ^ فادفعوا إليهم أموالهم ) أمر الأولياء بدفع المال إليهم عند البلوغ والرشد . ( ^ ولا تأكلوها إسرافا ) أي : لا تأكلوها مسرفين ( ^ وبدارا أن يكبروا ) أي : لا تبادروا إلى أكل أموال اليتامى ، خوفا من أن يكبروا ؛ فيأخذوا أموالهم .
( ^ ومن كان غنيا فليستعفف ) أي : فليستعفف بماله عن مال اليتيم ( ^ ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال عمر رضي الله عنه إذا كان الولي فقيرا ، يأكل من مال اليتيم بقدر الحاجة ، وقال أيضا : أنا في هذا المال : كولي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت . وإلى هذا ذهب قوم من العلماء ، أن له أن يأكل بقدر ما يسد به الخلة ، وقال بعضهم : عباءا غليظا ، وخبز الشعير ، وقال الشعبي وجماعة : يأكل من مال اليتيم على سبيل القرض ، وقال مجاهد : لا يأكل أصلا ، لا قرضا ، ولا غير قرض ، قال : والآية منسوخة بقوله تعالى : ( ^ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )
____________________

( ^ والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ( 7 ) وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ( 8 ) ) * * * * ( ^ إلا أن تكون تجارة عن تراضي ) وإلى هذا ذهب أكثر العلماء ، وعليه الفتوى ، أنه لا يأكل أصلا ، ومن قال : إنه يأكل ، يقول : يأخذ بقدر أجرته على القيام ، وقد روى أن رجلا ( جاء ) إلى ابن عباس ، وقال : ( إن ) لي يتيما وله إبل ، فماذا أصيب منها ؟ فقال : أتلوط حوضها وتهنأ جرباها ؟ قال : نعم ، فقال ابن عباس : أصب من رسلها غير مضر بنسل ، ولا ناهك في حلب .
وفيه قول رابع : أن معنى قوله : ( ^ فليأكل بالمعروف ) يعني : يأكل الفقير من قوت نفسه بالمعروف ، ولا يستكثر منه حتى ينفذ ماله ؛ فيحتاج إلى مال اليتيم .
( ^ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) ندب إلى الإشهاد ؛ كيلا يجحدوا .
( ^ وكفى بالله حسيبا ) أي : شهيدا . < < النساء : ( 7 ) للرجال نصيب مما . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) سبب نزول الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري مات وخلف ثلاث بنات وامرأة يقال لها : أم كجة وابني عم : عرفجة ، وسويد ، فجاء ابنا عمه وأخذا جميع المال ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء من الميت ، ويقولون : لا يرث أموالنا إلا من طاعن بالرماح ، وضارب بالسيوف ؛ فنزلت الآية ، وهذه أول آية نزلت في توريث النساء المال .
( ^ مما قل منه أو كثر نصيب مفروضا ) وقد بين الأنصبة المفروضة في آيات المواريث . < < النساء : ( 8 ) وإذا حضر القسمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ) يعني : قسمة التركة في مواريث إذا حضرها من لا يرث الميت من أقاربه ، أو اليتامى ، والمساكين ( ^ فارزقوهم منه ) فأعطوهم شيئا ( ^ وقولوا لهم قولا معروفا ) أي : قولوا لهم : بورك فيكم .
____________________

( ^ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ( 9 ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ( 10 ) يوصيكم ) * * * *
ثم اختلفوا ، فقال بعضهم : الآية منسوخة ، فيجوز أن يعطوا ، ويجوز أن لا يعطوا ، وقيل : هو على الندب ، ويستحب أن يعطيهم شيئا ، ومنهم من قال : إن قسموا العين والورق ونحوه يوضح لهم ، وإن قسموا الدور والعقار ، والعبيد ، والثياب ، ونحوها ، يقول لهم : بورك فيكم . < < النساء : ( 9 ) وليخش الذين لو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله ) سبب نزول الآية : أن أصحاب رسول الله كان الرجل منهم إذا حضره الموت ، يأتون إليه ، ويقولون له : انظر لنفسك أيها الرجل ، وأوصي بمالك ، وإن ورثتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، وربما يحملونه على أن يوصي بجميع المال فنزلت الآية ( ^ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ) أي : إن تركوا من خلفهم ( ^ ذرية ضعافا ) أي : أولاد صغارا ( ^ خافوا عليهم ) أو على أولادهم ؛ فليخافوا على أولاد الناس كما يخافون على أولادهم ؛ فإن أولاد الميت أحق بماله من الأجانب ، فهذا معنى قوله : ( ^ فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) أي : عدلا . < < النساء : ( 10 ) إن الذين يأكلون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) نزلت الآية في حنظلة ابن الشمردل ، كان قد ولى يتيما ، فأكل جميع ماله ، وقيل : الآية نزلت ابتداء في حق الكافر ( ^ إنما يأكلون في بطونهم نارا ) لأنه لما كان أكلهم ذلك يؤدي إلى النار ، سماهم آكلين للنار ، وهذا كقول النبي ' : الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ' . وفى الحديث : ' يخرج لهيب النار من جوفهم يوم القيامة ' . وفى رواية : ' أن الملك يأتيهم ، فيفتح أفواههم ، ويلقمهم الجمر ،
____________________

( ^ الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد ) * * * * ويقول : هذا بأكلكم مال اليتيم '
وقال : ' من أبكى يتيما ، فحق على الله أن يبكى عينيه يوم القيامة ' .
( ^ وسيصلون سعيرا ) أي : سيدخلون جهنم ، وقيل : يعاينون سعيرا ، والسعير : النار المستعرة ، وهو اسم من أسماء جهنم . < < النساء : ( 11 ) يوصيكم الله في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوصيكم الله في أولادكم ) معناه : يفرض الله عليكم في أولادكم ، وذلك مثل قوله - تعالى - : ( ^ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به ) أي : فرض عليكم ( ^ للذكر مثل حظ الأنثيين ) .
سبب نزول الآية : ' أن سعد بن الربيع لما استشهد يوم أحد خلف ابنتين وامرأة وأخا ، فجاء الأخ وأخذ جميع المال ، فجاءت المرأة تشكوا إلى رسول الله ؛ فنزلت الآية ' . فدعا رسول الله الأخ ، وقال : اعط الابنتين الثلثين والمرأة الثمن ، وخذ الباقي ' .
وقوله : ( ^ للذكر مثل حظ الأنثيين ) يعني : إذا خلف ابنا وابنه ، فالمال من ثلاثة أسهم : سهمان للإبن ، وسهم للبنت ( ^ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) أكثر الصحابة والعلماء على أن للابنتين ، والثلاث : الثلثين .
وقال ابن عباس : للابنتين النصف ، وإنما الثلثان للثلاث وما زاد ؛ تمسكا بظاهر الآية . والأول أصح .
____________________

( ^ وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ( 11 ) ولكم ) * * * *
ومعنى قوله : ( ^ فإن كن نساء فوق اثنتين ) يعني : كن نساء اثنتين فما فوقهما ، وهذا كقوله : ( ^ فاضربوا فوق الأعناق ) أي : فاضربوا الأعناق فما فوقها ، وقيل : ' فوق ' فيه صلة ، وتقديره : فإن كن نساء اثنتين ، واسم الجمع ينطلق على الاثنين ؛ لأن الجمع عبارة عن جمع الشيء ، ويستوي فيه الاثنان والثلاث ، ولأنا أجمعنا على أن الأختين ترثان الثلثين ، وهما ابنتا أب الميت ، فالابنتان لأن يرثا الثلثين أولى ، وهما ابنتاه للصلب .
( ^ وإن كانت واحدة فلها النصف ) وفيه إجماع ( ^ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك وإن كان له ولد ) يعني : للميت ، ( ^ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) وهذا لا خلاف فيه .
( ^ فإن كان له إخوه فلأمه السدس ) أكثر الصحابة والعلماء على أن الأخوين والثلاثة يردون الأم من الثلث إلى السدس .
وقال ابن عباس : الثلاثة يردون ، فأما الأخوان فلا يردان ، لأنه ذكر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة .
وقد بينا أن اسم الجمع ينطلق على اثنين والثلاثة .
وقرأ حمزة والكسائي : ' فلأمه السدس ' بكسر الهمزة ، وهو لغة في الأم ، والمعروف بالضم ( ^ من بعد وصية يوصى بها أو دين ) يقرأ بقرآتين ' يوصى ' بكسر الصاد على معنى : يوصيها الموصى ، ويقرأ : ' يوصى ' بفتح الصاد ، على ما لم يسم فاعله .
____________________

( ^ نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لها ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما ) * * * *
وعن علي رضى الله عنه أنه قال : إنكم تقرءون الوصية قبل الدين ، والدين قبل الوصية ، يعني : في القضاء ، ثم اختلفوا ، منهم من قال : ' أو ' بمعنى ' الواو ' والمراد الجمع بينهما ، وبيان أن الإرث مؤخرا عنهما جميعا ، ومنهم من قال ' أو ' على حقيقته ، ومعناه : من بعد وصية ، إن كانت وصية ، أو دين إن كان دين ، فالإرث مؤخر عن كل واحد منهما ؛ من ذلك عرف تأخيره عنهما إذا اجتمعنا بطريق الأولى .
وقوله : ( ^ آباؤكم وأبناؤكم ) يعني : الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم ( ^ لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) أي : لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا .
فمنهم من يظن أن الآباء تنفع فتكون الأبناء أنفع ، ومنهم من يظن أن الأبناء أنفع ، فتكون الأباء أنفع ، وأنتم لا تعلمون ، وأنا أعلم بمن هو أنفع لكم ؛ وقد دبرت أمركم على ما فيه الحكمة والمصلحة ، فخذوه ، واتبعوه . وفي الأخبار ' أن في الجنة يكون الأب على الدرجة العالية ، والابن في الدرجة السافلة ، فيسأل الابن الله تعالى فيرفعه إلى درجة أبيه . ويكون الابن على الدرجة العالية ، والأب في الدرجة السافلة ، فيسأل الأب الله تعالى فيرفعه إلى درجة الابن ' فهذا معنى الآية لا تدرون أيهم أنفع لكم في الآخرة ، وأرفع درجة ، فتصلون إلى درجته .
( ^ فريضة من الله ) يعني : ما قدر من المواريث ( ^ إن الله كان عليما ) بأمر العباد ( ^ حكيما ) بنصب الأحكام .
____________________

( ^ تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين ) * * * * < < النساء : ( 12 ) ولكم نصف ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ) هذا في ميراث الأزواج ، وفيه إجماع ( ^ ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ) وهذا في ميراث الزوجات ، ولا خلاف فيه .
قوله تعالى : ( ^ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ) يعنى : أو امرأة تورث كلالة ، قال بعض العلماء : الكلالة لا يعلم معناها ، وعن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله من الدنيا ولم يبين لنا ثلاثة : الكلالة ، والخلافة ، والربا .
والصحيح أنها معلومة المعنى ، ثم اختلفوا ، قال ابن عباس في رواية وهي إحدى الروايتين عن عمر : إن الكلالة اسم لميت لا ولد له ، وورث الاخوة مع الأب .
وقال الحكم بن عتيبة : والكلالة : اسم لميت لا ولد له ، وورث الاخوة مع الوالد ، وهما قولان في شواذ الخلاف ، والصحيح فيه قولان :
أحدهما قول لأهل المدينة والكوفة أن الكلالة اسم لورثة ليس فيهم ولد ولا والد ؛ مأخوذ من الإكليل ، وهو الذي على جانبي الوجه ، فالكلالة اسم لمن يحيط بجانبي الميت من الاخوة والأخوات ، والأعمام ، ونحوهم ، ولم يكن أعلى ولا أسفل .
واستدلوا عليه بحديث جابر ' كان مريضا ؛ فدخل عليه رسول الله يعوده ، فقال : إنما يرثني كلالة ' . ولم يكن في ورثته ولد ولا والد ، وجعل الكلالة اسما للوارث ، ويشهد لهذا ما قرئ في الشواذ : ' وإن كان رجل يورث كلالة ' مشددا بكسر الراء .
____________________

( ^ غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ( 12 ) تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ( 13 ) ومن يعص الله ورسوله ويتعد ) * * * *
وقال البصريون : وهو قول أبى بكر ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد ، وفى أصح الروايتين عن ابن عباس : أن الكلالة : اسم للميت الذي ليس له ولد ولا والد ، وهو ظاهر الآية ، وتشهد له القراءة الأخرى في الشواذ : ' وإن كان رجل يورث كلالة ' مشددا بفتح الراء . قال الشاعر :
( وإن أبا المرء أحمى له ** ومولى الكلالة لا يغضب )
فيجعل الكلالة اسما للميت .
وفيه قول آخر : أن الكلالة اسم للتركة ، قاله عطاء . وقوله : ( ^ وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ) أجمعوا على أن المراد بالأخ والأخت هاهنا أولاد الأم ، وفرض لكل واحد منهم السدس ذكرا كان أو أنثى .
( ^ فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ) وفيه إجماع ، أن فرضهم الثلث إذا تعددوا ، وإن كثروا ( ^ من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) يعني : الموصي لا يضر بالورثة بمجاوزة الثلث ، ونحوه ( ^ وصية من الله ) أي : فريضة من الله ( ^ والله عليم حليم ) < < النساء : ( 13 ) تلك حدود الله . . . . . > > ( ^ تلك حدود الله ) يعني : ما ذكر من الفروض المحدودة ، ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) ذكر ثواب من أطاعه ، ولم يجاوز حدوده < < النساء : ( 14 ) ومن يعص الله . . . . . > > ( ^ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) ذكر عقاب من عصاه ، وجاوز حدوده . < < النساء : ( 15 ) واللاتي يأتين الفاحشة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ) اللاتي ، والتي ،
____________________

( ^ حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ( 14 ) واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله ) * * * * واللواتي : اسم لجماعة النساء ، قال الشاعر :
( هن اللواتي والتي واللاتي ** زعمن أنى قد كبرت لداتي )
ومثله : اللائي أيضا ، قال الشاعر :
( من اللائي لم يحججن تبغين حسبة ** ولكن ليقتلن البريء المغفلا )
وقوله : ( ^ يأتين الفاحشة ) أراد بالفاحشة هاهنا الزنا : ( ^ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) هو خطاب للحكام ، يعني : فاطلبوا عليهن أربعة من الشهود ، وهذه الآية هي الحجة على أن شهود الزنا أربعة ( ^ فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وكان هذا هو الحكم في ابتداء الإسلام ، وأن المرأة إذا زنت حبست في البيت إلى أن تموت . ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب ، وفي حق الثيب بالجلد والرجم ، وهو بيان السبيل المذكور في الآية ، والحجة عليه : حديث عبادة : ' خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ؛ والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ' .
ثم نسخ الجلد في حق الثيب ، واستقر أمرها على الرجم .
وقال بعض العلماء : الجلد مع الرجم باق على الحكم ، والأول أصح .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : التغريب أيضا منسوخ في حق البكر ، والخلوف مذكور في الفقه .
واختلفوا في أن ذلك الإمساك في البيت كان على سبيل الحد أم كان حبسا ؛ ليظهر الحد ؟ على قولين : أحدهما : أنه كان حدا ، والثاني : أنه كان حبسا ليظهر الحد .
____________________

( ^ لهن سبيلا ( 15 ) واللذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ( 16 ) إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب ) * * * * < < النساء : ( 16 ) واللذان يأتيانها منكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) اختلفوا في المراد من الآيتين ، قال مجاهد : الآية الأولى في النساء ، وهذه الآية في الرجال إذا زنوا .
وقال غيره : الأولى في الثيب ، وهذه الآية في الأبكار .
وفيه قول ثالث : أن الآية الأولى في المرأة إذا أتت المرأة سحقا ، والآية الثانية في الرجل إذا أتى الرجل .
وقد قال : ' إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ؛ وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ' .
والمراد بالإيذاء في هذه الآية : هو السب باللسان ، وإسماع المكروه ، والتعبير ، والضرب بالنعال .
فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى ، والإيذاء في الآية الثانية ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : أما على قول من قال : إن الآية الأولى في صنف ، والآية الثانية في صنف آخر ، يستقيم الكلام .
وقال بعضهم : أراد به : الجمع بين الإيذاء والحبس في حق الزاني فيؤذى أولا ، ثم
____________________

يحبس ، والآية الثانية وإن كانت في التلاوة متأخرة ، فهي في المعنى متقدمة ، كأنه قال : واللذان يأتيان الفاحشة منكم فآذوهما وأمسكوهما في البيت ( ^ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) أي : أعرضوا عن الإيذاء ( ^ إن الله كان توابا رحيما ) . < < النساء : ( 17 ) إنما التوبة على . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ) قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله على أن من عصى الله فهو جاهل ، وقيل : أراد به : الجهال بكنه عقوبة الله ، وقيل : الجهالة في المعصية : أنه اختار اللذة الفانية على اللذة الباقية .
( ^ ثم يتوبون من قريب ) يعني : قبل الموت ، قال الضحاك : كل ما بينك وبين الموت فهو قريب ، وقيل : أراد به : التوبة قبل أن يعاين ملك الموت ، وقيل : أراد به : ثم يتوبون قبل أن يغرغروا .
وفي الخبر : أن النبي قال : ' من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه ، ثم قال : إن السنة ( لكثيرة ) ، ثم قال : من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه ، ثم قال : إن الشهر لكثير ، ثم قال : من تاب قبل موته بجمعة ، تاب الله عليه ، ثم قال : إن الجمعة ( لكثيرة ) ، ثم قال : من تاب قبل موته بيوم ، تاب الله عليه ، ثم قال : إن اليوم لكثير ، ( من تاب قبل موته بنصف يوم تاب الله عليه ، ثم قال : إن نصف اليوم لكثير ) من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ، ثم قال : إن الساعة لكثيرة ، من تاب قبل أن يغرغر تاب الله عليه ' . رواه عبادة بن الصامت ، فهذا معنى قوله : ( ^ ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ) . < < النساء : ( 18 ) وليست التوبة للذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وليست التوبة للذين يعملون السيئات ) قيل : أراد
____________________

( ^ الله عليهم وكان الله عليما حكيما ( 17 ) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر ) * * * * بالسيئات : الشرك ، وقال ابن عباس : هو النفاق ، وقيل : كل المعاصي .
( ^ حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) يعني : حالة الموت ، يتوب حين يساق ، ووجه ذلك : مثل توبة فرعون حين أدركه الغرق ، قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، يقول الله تعالى ليس لهؤلاء توبة .
( ^ ولا الذين يموتون وهم كفار ) يعني : ولا الذين يموتون كفارا لهم توبة ( ^ أولئك اعتدنا لهم ) أي : أعددنا لهم ( ! ( عذابا أليما ) { < النساء : ( 19 ) يا أيها الذين . . . . . > > يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) نزلت الآية في الأنصار ، كان الرجل منهم إذا مات أبوه ؛ ورث امرأة أبيه ، ثم إن شاء أمسكها لنفسه زوجة ، وإن شاء زوجها من غيره ، وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها عن الأزواج ، حتى تضجر [ فتفدي ] نفسها بمال ، حتى مات أبو قيس بن الأسلت الأنصاري عن امرأته كبيشة بنت معن الأنصاري ، فجاء [ ابنه ] حصن وورث المرأة ؛ فجاءت المرأة تشكو إلى النبي فنزل قوله - تعالى - : ( ^ لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) ويقرأ : ' كرها ' بضم الكاف ، فالكره بالفتح : الإكراه ، والكره بالضم المشقة . ( ^ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أي : تمنعوهن من الأزواج حتى يضجرن ؛ فيفتدين ببعض مالهن ، فيكون خطابا لأولياء الميت .
والصحيح أنه خطاب للأزواج ، يعني : إذا لم تكن الزوجة بموافقة ، فلا تمسكها
____________________

( ^ أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ( 18 ) ) * * * * ضرارا ؛ لتفتدى ببعض مالها ( ^ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) قال ابن عباس : هو النشوز ، وقيل : هو الزنا ، يعني : إذا نشزت أو زنت ، فحينئذ يحل أن يفاديها ، ويأخذ مالها ، وكان في ابتداء الإسلام إذا زنت المرأة أخذ الزوج جميع صداقها منها ثم نسخ ( ^ وعاشروهن بالمعروف ) أي : الإجمال في المبيت ، والقول ، والنفقة ( ^ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . < < النساء : ( 20 ) وإن أردتم استبدال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ) أراد بالزوج هاهنا : الزوجة ، وهو اسم للرجل والمرأة ( ^ وآتيتم إحداهن قنطارا ) يعني : من الصداق ، ( ^ فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا ) أي : ظلما ( ^ وإثما مبينا ) . < < النساء : ( 21 ) وكيف تأخذونه وقد . . . . . > >
( ^ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) أي : وصل بعضكم إلى بعض بالدخول ، وحكى عن الزجاج : أنه الخلوة ، والأول أصح .
( ^ وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) هو قول الولي : زوجتكها على أن تمسكها بمعروف ، أو تسرحها بإحسان ، وقيل : هو معنى ما روى : ' اتقوا الله في النساء ؛ فإنهن عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ' فهذا هو الميثاق الغليظ . < < النساء : ( 22 ) ولا تنكحوا ما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم ؛ فورد الشرع بالنهى عنه ( ^ إلا ما قد سلف ) يعنى : بعدما سلف ، وقال المبرد : ومعناه : لكن ما سلف في الجاهلية ؛ فهو مغفور .
( ^ إنه كان فاحشة ومقتا ) قيل ' كان ' : فيه صلة ، وتقديره : إنه فاحشة ، وهذا كما
____________________

( ^ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا ) * * * * يقول الشاعر :
( فكيف إذا رأيت ديار قومي ** وجيران لنا كانوا كرام )
وقيل : ' كان ' في موضعه ، ومعناه : أنه كان في الجاهلية يعدونه فاحشة ومقتا ، وكانوا يسمون ولد امرأة الأب : مقيتا ، والفاحشة : أقبح معصية ، وأما المقت : قال أبو عبيدة هو المبغضة من الله ، وقال ابن عباس : أراد به المقت من الملائكة ( ^ وساء سبيلا ) أي : بئس المسلك . < < النساء : ( 23 ) حرمت عليكم أمهاتكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ حرمت عليكم أمهاتكم ) قال ابن عباس : حرم الله تعالى سبعا بالنسب ، وسبعا بالمهر ، وقال الفقهاء : سبعا بالنسب ، وسبعا بالسبب .
أما السبع بالنسب : منهن الأمهات : وهي كل امرأة تنسب إليها بالولادة ، سواء قربت أو بعدت ، سواء كان بينك وبينها ذكر أو أنثى ، أو لم يكن أحد ، فالكل حرام .
قال : ( ^ وبناتكم ) ومنها البنات : وهى كل امرأة تنسب إليكم بالولادة ، سواء قربت أو سلفت ، سواء كان بينك وبينها ذكر أو أنثى ، أو لم يكن أحد ، فالكل حرام .
قال ( ^ وأخواتكم ) ومنها الأخوات : وهي كل امرأة تنسب إلى من تنسب إليه بالولادة ، فالكل حرام . قال : ( ^ وعماتكم ) ومنها العمات ، والعمة : أخت كل ذكر تنسب إليه بالولادة ، فالكل حرام ، قرب أم بعد ، قال : ( ^ وخالاتكم ) ومنها الخالات ، والخالة : أخت كل امرأة تنسب إليها بالولادة ، قربت أم بعدت .
____________________

* * * * ( ^ أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( 19 ) وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) * * * *
قال : ( ^ وبنات الأخ وبنات الأخت ) ومنها بنات الأخ وبنات الأخت : وهي بنت كل من تنسب إلى من تنسب إليه ، فهذه السبعة بالنسب .
وأما السبع بالسبب : فإحداهن مذكورة قبل هذه الآية في قوله : ( ^ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) ، والثانية في قوله : ( ^ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) ، والثالثة : ( ^ وأخواتكم من الرضاعة ) ، ولا خلاف أن الأم والأخت من الرضاعة حرام على الرجل نكاحها ، فأما ما عدا الأمهات والأخوات من الرضاعة حرام أيضا عند أكثر العلماء ؛ لقوله ' يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ' .
قال داود ، وأهل الظاهر : لا يحرم ما عدا الأمهات والأخوات بالرضاع ؛ تمسكا بظاهر القرآن .
قال ( ^ وأمهات نسائكم ) الرابعة : أم الزوجة ، تحرم على الإطلاق بنفس العقد على قول الأكثرين ، وحكى خلاس عن علي رضى الله عنه أنه قال : ' لا تحرم أم الزوجة إلا بعد الدخول بالزوجة لقوله تعالى : ( ^ وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) قال : فقوله : ( ^ من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) ينصرف إليهما جميعا . والأول أصح .
قال ابن عباس : أبهموا ما أبهمه الله ، أي : أطلقوا ما أطلقه الله ، ولأن قوله : ( ^ وأمهات نسائكم ) مستقل بنفسه ، معتد بحكمه ، فيستغني عن الإظهار ؛ ولأن قوله : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن على هذا التقدير يكون عيا في الكلام ، فلا يليق بكلام الله تعالى الذي هو أفصح أنواع الكلام .
قال : ( ^ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) .
____________________

( ^ أتأخذونه بهتانا وأثما مبينا ( 20 ) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ( 21 ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا ) * * * *
الخامسة : الربيبة ؛ وهي ابنة الزوجة ، وسميت ربيبة ؛ لأن الزوج يربها في حجره على الأغلب ، فهي حرام بعد الدخول بالزوجة ، وسواء كانت في حجره ، أو في حجر غيره .
وقال داود : يختص التحريم بالتي في حجره ؛ لقوله : ( ^ وربائبكم اللاتي في حجوركم ) ، وهذا لا يصح ؛ لأن الكلام خرج على لأغلب .
( ^ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) يعني : في نكاحهن .
وقال : ( ^ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) السادسة : حليلة الابن ، وهي حرام ، وسميت حليلة ؛ لأنها مع الابن يحلان فراشا واحدا ، وقيل : لأنها تحل إزار الابن ، والابن يحل إزارها ، وقيل : سميت حليلة ؛ لأنها تحل له .
وقوله ( ^ الذين من أصلابكم ) إنما قيد بالصلب ، وإن كان حليلة ولد الولد حراما ، ليبين أن حليلة ولد التبني حلال . وقد تزوج رسول الله زينب بنت جحش امرأة زيد بن حارثة ، وكان قد تبنى زيدا ، حتى قال عبد الله بن أبى بن سلول : انظروا إلى هذا الرجل ، كيف وثب على امرأة ابنه وتزوجها : فقال الله تعالى : ( ^ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) بذلك السبب .
( ^ وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) السابعة : الجمع بين الأختين حرام بالنكاح ، وكذلك بالوطء في ملك اليمين ؛ وقال أهل الظاهر : لا يحرم الجمع بينهما إلا في النكاح ؛ لأن الآية في التحريم بالنكاح ، قال عثمان : حرمتها آية وأحلتها آية ، فآية التحريم هذه ؛ وآية التحليل قوله : ( ^ إلا ما ملكت أيمانكم ) ( ^ إلا ما قد سلف ) أي : بعدما سلف وقد [ بينا لك ] ( ^ إن الله كان غفورا رحيما ) .
قوله تعالى : ( ^ والمحصنات من النساء ) أراد به : ذوات الأزواج ( ^ إلا ما ملكت أيمانكم ) اختلفوا فيه ، فقال علي ، وابن عباس : أراد به : إلا ما ملكت أيمانكم من
____________________

( ^ وساء سبيلا ( 22 ) حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل ) * * * * سبايا أو طاس ، وفيه نزلت الآية ، قال أبو سعيد الخدري : ' لما سبا رسول الله سبايا أو طاس ، هرب الرجال ؛ فتحرج المسلمون من وطء النساء بمكان الأزواج ؛ فنزلت الآية ، وأذن رسول الله في وطئهن ' .
وقال ابن مسعود ، وأبى بن كعب : إن قوله : ( ^ إلا ما ملكت أيمانكم ) هو أن يبيع الجارية المزوجة ، فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ، ويحل للمشترى وطأها ، ويكون بيعها طلاقا لها . < < النساء : ( 24 ) والمحصنات من النساء . . . . . > >
وقيل : معنى الآية ( ^ والمحصنات من النساء ) يعني : ذوات الأزواج يحرم الاستمتاع بهن ، ( ^ إلا ما ملكت أيمانكم ) من مهرهن ، فيحل الاستمتاع به ، فكأنه حرم الاستمتاع ببعضهن وأباح الاستمتاع بمهرهن .
( ^ كتاب الله عليكم ) أي : فرض الله عليكم ، ويقرأ : ' كتب الله عليكم ' أي : فرض الله عليكم ( ^ وأحل لكم ما وراء ذلكم ) يعني : أحل لله لكم ، ويقرأ : ' أحل لكم ' - بضم الألف - على نظم قوله : ( ! ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ! أن تبتغوا بأموالكم ) قيل : الإحلال : بالابتغاء بالأموال ، وفيه دليل على أن استحلال البضع لا يخلو عن عوض ( ^ محصنين ) أي : متزوجين متعففين ( ^ غير مسافحين ) غير زانين ، مأخوذ من سفح الماء ، وهو الصب ، ومنه قول امرئ القيس :
( وإن شفائي عبرة إن سفحتها ** فهل عند رسم دارس من معول )
____________________

( ^ أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ( 23 ) والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) * * * *
أي : صببتها ( ^ فما استمتعتم به منهن ) قيل : أراد به : فما استمتعتم به بالنكاح منهن ، ( ^ فأتوهن أجورهن فريضة ) أي : مهورهن ، وقال ابن عباس : هو المتعة المعروفة .
وكانت المتعة حلالا في ابتداء الإسلام ، وصورتها : أن يقول الرجل للمرأة : أجرتك أو عقدت عليك لأستمتع بك عشرة أيام بكذا ، وكان هذا حلالا ، ثم نسخ ، وكان ابن عباس يفتى بإباحتها ، والصحيح أنه منسوخ .
وروى علي ، والربيع عن سبرة ، عن النبي ' : أنه نهى عن نكاح المتعة '
وقال علي لابن عباس : إنك رجل تائه نهى رسول الله عن نكاح المتعة . وقيل : إن ابن عباس رجع عن إباحة المتعة ، وتاب . وقال بعض السلف : لولا أن عمر نهى عن المتعة ؛ مازنى أحد في العالم .
( ^ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) فمن حمل ما قبله على المتعة ، قال : المراد بهذا : أن يزيد الرجل في المهر ، وتزيد المرأة في الأجل ، ومن حمل ذلك على الاستمتاع بالنكاح ؛ فالمراد بقوله : ( ^ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به ) يعنى : من الإبراء ، والاعتياض عن المهر ( ^ إن الله كان عليما حكيما ) . < < النساء : ( 25 ) ومن لم يستطع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) قال مجاهد : الطول : السعة ، والغنى .
وأصل الطول الفضل ، ومنه الطول ؛ لفضل القامة ، ويقال : لا طائل تحته أي ، لا معنى تحته .
____________________

( ^ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ( 24 ) ومن لم يستطيع منكم طولا أن ينكح المحصنات ) * * * *
ومعنى الآية : ومن لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة ؛ فليتزوج بالأمة المؤمنة ، وفيه دليل على أن نكاح الأمة الكتابية باطل .
قال الشعبي : نكاح الأمة مع القدرة على مهر الحرة حرام ، كالميتة والدم ، وقال عطاء : الطول الهوى ، ومعنى الآية : ومن لم يستطيع من هواه أن ينكح الحرة ؛ بأن كان يهوى الأمة دون الحرة ، فليتزوج بالأمة ؛ فعلى هذا يجوز نكاح الأمة ، وإن كان قادرا على مهر الحرة ، والفتى : العبد ، والفتاة الجارية ، فمعنى قوله تعالى : ( ^ من فتياتكم المؤمنات ) أي : من جواريكم .
( ^ والله أعلم بإيمانكم ) أي : لا تتعرضوا للباطن في الإيمان ، وخذوا بالإيمان الظاهر ؛ فإن الله أعلم بإيمانكم ( ^ بعضكم من بعض ) أي : كلكم من نفس واحدة ؛ فلا تستنكفوا من نكاح الإماء ، وقيل : معناه بعضكم أخوة لبعض .
( ^ فانكحوهن ) أي : الإماء ( ^ بإذن أهلهن ) أي : إذن مواليهن ( ^ وآتوهن أجورهن ) أي : مهورهن ( ^ بالمعروف محصنات ) يعني : عفائف بالتزويج ( ^ غير مسافحات ) أي : غير زانيات ( ^ ولا متخذات أخدان ) فالمسافحة : هي أن تمكن منها كل أحد ، قال الحسن : المسافحة : هي امرأة كل من أوى إليها تبعته ، و ذات الخدن : هي أن تختص بصديق ، والعرب كانت تحرم الأولى وتستبيح الثانية .
قوله تعالى : ( ^ فإذا أحصن ) قال ابن مسعود : فإذا أسلمن . وقال ابن عباس : فإذا تزوجن ، ويقرأ فإذا ' أحصن ' بضم الآلف ، ومعناه : زوجن .
( ^ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) ومعنى الآية على قول ابن عباس ، وهو الأصح : أن الإماء إذا تزوجن وصرن ثيبا ( ^ فعليهن نصف )
____________________

( ! ( المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات ) ! ما على المحصنات ) يعني : الحرائر ( ^ من العذاب ) أي : من عذاب الحد ، وحد الحرائر : يكون بالجلد ؛ ويكون بالرجم ، والرجم لا ينتصف ؛ فكان المراد تنصيف الجلد . وذهب بعض العلماء إلى أن الأمة البكر إذا زنت ، لا حد عليها ؛ لظاهر هذه الآية ، وهذا لا يصح .
قال الزهري : حد الأمة الثيب ثابت بهذه الآية ، وحد الأمة البكر ثابت بالسنة ، والسنة المعروفة فيه : قوله : ' إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ' ( ^ ذلك لمن خشي العنت منكم ) العنت : الزنا ، وقد يكون بمعنى المشقة ، كما بينا ( ^ وأن تصبروا ) يعني : عن نكاح الإماء ( ^ خير لكم ) كيلا يخلق الولد رقيقا ( ^ والله غفور رحيم ) . < < النساء : ( 26 ) يريد الله ليبين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يريد الله ليبين لكم ) يعني : أن يبين لكم ، ومثله قول الشاعر :
( أريد لأنسى ذكرها فكأنما ** تمثل لي ليلى بكل سبيل )
يعني : أريد أن أنسى ذكرها .
قوله : ( ^ ليبين لكم ) أي : يوضح لكم الأحكام ( ^ ويهديكم ) أي : يرشدكم ( ^ سنن الذين من قبلكم ) أي : طرائق الذين من قبلكم من النبين ، والصالحين ، وقيل : من قوم موسى ، وعيسى ، الذين هدوا بالحق ؛ وذلك أنه حرم عليهم ما حرم على المسلمين من المحارم المذكورات ، وقيل : معناه : ويهديكم إلى الملة الحنيفية ، ملة إبراهيم ، ( ^ ويتوب عليكم ) قال ابن عباس : بداء من الله ، ومعناه : يوفقكم للتوبة ، وقيل : يرشدكم إلى السبيل الذي يدعوكم إلى التوبة ( ^ والله عليم ) بمصالح أمركم
____________________


( ^ أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ( 25 ) يريد الله ليبين لكم ) * * * * ( ^ حكيم ) فيما دبر . < < النساء : ( 27 ) والله يريد أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله يريد أن يتوب عليكم ) هو ما ذكرنا . ( ^ ويريد الذين يتبعون الشهوات ) قال مجاهد : هم الزناة ، وقيل : أراد به : اليهود ، والنصارى ، قال مقاتل بن حيان : اليهود خاصة ؛ لأنهم استحلوا نكاح الأخت من الأب ( ^ أن تميلوا ميلا عظيما ) الميل العظيم : هو أن يفعل فعلا لا يخاف الله فيه ، ولا يرقب الناس ، وقيل : الميل العظيم باتباع الشهوات . < < النساء : ( 28 ) يريد الله أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يريد الله أن يخفف عنكم ) أي : يسهل عليكم ، وقد سهل هذا الدين ؛ قال : ' بعثت بالسمحة السهلة الحنيفية ' ، وروى : ' بالحنيفية السمحة السهلة ' وقال الله تعالى : ( ! ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ! وخلق الإنسان ضعيفا ) قال طاوس ، ومجاهد : وخلق ضعيفا في أمر النساء ؛ لا يصبر عنهن ، وقال وكيع : يذهب عقله عندهن ؛ فهو ضعيف ، وقال الزجاج : يستميله هواه وشهوته . < < النساء : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) قال السدى : هو القمار ، والربا ، ونحوه ، وقال غيره : كل العقود الباطلة ( ^ إلا أن تكون تجارة ) يقرأ : بالضم والفتح ، قد ذكرنا وجه القرائتين في سورة البقرة .
( ^ عن تراض منكم ) أي : بطيبة نفس منكم ( ^ ولا تقتلوا أنفسكم ) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، وقرأ الحسن : ( ^ ولا تقتلوا أنفسكم ) مشددا على التكثير .
____________________

( ^ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ( 26 ) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ( 27 ) يريد الله أن يخفف عنكم ) * * * *
وقيل : معناه : ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال الباطل ، وقيل : أراد به : قتل الرجل نفسه على الحقيقة ( ^ إن الله كان بكم رحيما ) . < < النساء : ( 30 ) ومن يفعل ذلك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يفعل ذلك ) يعني : ما سبق من الحرام ( ^ عدوانا وظلما ) فالعدوان : مجاوزة الحد ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه .
( ^ فسوف نصليه نارا ) : ندخله نارا ، يصلى بها ( ^ وكان ذلك على الله يسيرا ) أي هينا ، وروى عن ابن عمر أنه قال : كنا نشهد لمن ارتكب الكبائر بالنار بهذه الآيات ؛ حتى نزل قوله تعالى ( ^ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فتوقفنا . < < النساء : ( 31 ) إن تجتنبوا كبائر . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه ) سئل رسول الله فقيل له : ' أي الكبائر أكبر ؟ فقال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ، ثم قرأ ( ^ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) ' وروى عن رسول الله أنه قال : ' أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وكان متكئا فاستوى جالسا ، وقال : وشهادة الزور ، وشهادة الزور ، فما زال يردده حتى قلنا : ليته سكت ' .
وقال ابن مسعود : الكبائر : ما ذكر الله تعالى في هذه السورة إلى هذه الآية : ( ^ إن تجتنبوا كبائر ) .
____________________

( ^ وخلق الإنسان ضعيفا ( 28 ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ( 29 ) ومن يفعل ذلك ) * * * *
وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : الكبائر أربعة : الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله .
وقال ابن عباس : الكبائر سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير نفس ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، يعني : إلى دار الحرب .
وقال ابن عمر : الكبائر تسع فذكر هذه السبع وزاد شيئين أحدهما : السحر ، والثاني : الإلحاد في الحرم بالميل والظلم .
وسئل ابن عباس ، فقيل له : الكبائر سبع ؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع ، وقال المغيرة بن مقسم الضبي : شتم أبي بكر ، وعمر من الكبائر .
والجملة أن الكبائر : كل جريمة أوعد الله تعالى عليها النار ، وقال أبو صالح : الكبيرة كل ما أوجب الحد ؛ غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار .
وقوله : ( ^ نكفر عنكم سيئاتكم ) قال السدى : أراد بالسيئات : الصغائر ( ^ نكفر عنكم سيئاتكم ) إن شئت ؛ فالمشيئة مضمرة فيه ، وروى عن رسول الله أنه قال : ' الجمعة إلى الجمعة ، والصلوات الخمس ، كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ' .
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله قال : ' ما من مسلم يصيبه وصب ، أو نصب ، إلا كفر عنه خطاياه حتى الشوكة يشاكها '
____________________


( ^ عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ( 30 ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ( 31 ) ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم ) * * * *
وقيل : باجتناب الكبائر ، تقع الصغائر مكفرة ، ومذهب أهل السنة : أن تكفير الصغائر معلقة بالمشيئة ؛ فيجوز أن يعفو الله عن الكبائر ، ويأخذ بالصغائر ، ويجوز أن يجتنب الرجل الكبائر ، فيؤخذ بالصغائر .
( ^ وندخلكم مدخلا كريما ) وتقرأ : ' مدخلا ' - بفتح الميم فالمدخل : الجنة والمدخل بضم الميم : الإدخال ، يعني : إدخالا كريما . < < النساء : ( 32 ) ولا تتمنوا ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) سبب نزول الآية : ما روى عن أم سلمة ، قالت : يا رسول الله : إن الرجال يغزون ولا نغزوا ، ولهم ضعف مالنا من الميراث ، فلو كنا رجالا غزونا كما غزوا ، وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا ؛ فنزل قوله : ( ^ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) وقيل : سبب نزول الآية : أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ؛ فلما نزلت الآية بتوريث النساء ، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، قالت النساء : لو كنا رجالا لأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا ، وقال الرجال : كما فضلنا عليكن في الدنيا ، نفضل عليكن في الآخرة ؛ فنزلت الآية .
قال الفراء : هذا نهي تأديب وتهذيب ، وقال غيره : إنه نهي تحريم ( ^ للرجال نصيب مما اكتسبوا ) يعني : من الأجر ( ^ وللنساء نصيب مما اكتسبن ) يعني : من الأجر ، ومعنى الآية : أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وإن فضل الرجال على النساء في الدنيا ، فالحسنة بعشر أمثالها يستوي فيها الرجل والمرأة ، وقيل : معناه : للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من طاعة الأزواج ، وحفظ الفروج ، يعني : إن كان للرجل فضل الجهاد ، فللنساء فضل طاعة الأزواج ، وحفظ الفروج .
____________________


( ^ على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما ( 32 ) ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين ) * * * *
( ^ واسألوا الله من فضله ) وفي هذا دليل على أن الحسد حرام ؛ والحسد : هو أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه ، ويتمناها لنفسه ، والغبطة : هو أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه ، فالحسد حرام ، والغبطة لا بأس بها ، ثم اختلفوا في معنى الفضل هاهنا ، قال ابن عباس : واسألوا الله من فضله ، أي : من رزقه .
وقال سعيد بن جبير : معناه : ( ^ واسألوا الله من فضله ) أي : من عبادته ، وقيل : هو سؤال التوفيق على الطاعة ( ^ إن الله كان بكل شئ عليما ) . < < النساء : ( 33 ) ولكل جعلنا موالي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولكل جعلنا موالى ) ولكل من الرجال والنساء جعلنا ورثة ، قال مجاهد : الموالى هاهنا : بنو الأعمام ، وقال الشاعر :
( مهلا بني عمنا مهلا موالينا ** لا تنشبوا بيننا ما كان مدفونا )
وقيل : هم جميع الأقارب ، ومعنى الآية : ولكل جعلنا موالي يعطون ( ^ مما ترك الوالدان والأقربون ) ( ^ والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) عاقدت ، وعقدت ، وحالفت بمعنى واحد ، وهو من الحلف والعهد : وهو أن يقول الرجل لصاحبه : دمي دمك ، ومالي مالك ، وترثني وأرثك ، وكان في الجاهلية يورث بالحلف ، وأقر عليه في الإسلام ، وكان للحليف السدس ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالي : ( ^ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) وقيل : هذا في التوريث بالتبني ، وكان ثابتا ، ثم نسخ ( ^ إن الله كان على كل شئ شهيدا ) . < < النساء : ( 34 ) الرجال قوامون على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ) سبب نزول الآية : أن امرأة سعد بن الربيع جاءت إلى النبي وقالت : ' إن زوجي
____________________


( ^ عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا ( 33 ) الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات ) * * * * لطمني على وجهي ، وهذا أثره ، فقال : اذهبي فاقتصي منه ؛ فنزل قوله تعالى : ( ^ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله ) يعني : بالتأديب .
قال الحسن : لما قال لها : اذهبي فاقتصي منه ؛ نزل قوله : ( ^ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) أي : لا تحكم قبل أن ينزل حكم الله .
والقوام والقيم بمعنى واحد ، والقوام أبلغ : وهو القائم بالمصالح والتدبير ، قال الشاعر :
( الله بيني وبين قيمها ** يفر مني وأتبع )
( ^ بما فضل الله بعضهم على بعض ) يعني : الرجال على النساء بالعقل ، والعلم ، والحلم . ( ^ وبما أنفقوا من أموالهم ) يعني : بإعطاء المهر ، والنفقة .
( ^ فالصالحات قانتات ) يعني : مطيعات ، وقيل : مصليات ( ^ حافظات للغيب ) أي : حافظات للفروج في غيبة الأزواج ( ^ بما حفظ الله ) يعني : بما حفظهن الله من إيصاء الأزواج بأداء حقهن من المهر والنفقة ، وقيل : معناه : حافظات للغيب بحفظ الله ، وقرأ أبو جعفر المدني ' بما حفظ الله ' بفتح الهاء يعني : بما حفظ الله من طاعتهن وعبادتهن .
( ^ واللاتي تخافون نشوزهن ) النشوز : هو الشقاق ( فعظوهن ) أي : بالتخويف من الله ، والوعظ بالقول ، ( ^ واهجروهن في المضاجع ) قال ابن عباس : ومعناه : ولوهن ظهوركم في المضاجع ؛ وذلك بأن يوليها ظهره في الفراش ، ولا يكلمها ، وقيل : معناه : أن يعتزل عنها في فراش آخر .
____________________


( ^ للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ( 34 ) وإن خفتم شقاق بينهما ) * * * *
( ^ واضربوهن ) يعنى : ضربا غير مبرح ، وذلك ضرب ، ليس فيه جرح ولا كسر ، قال عطاء : ضرب بالسواك ونحوه . ( ^ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ) يعني : بالتعلل ، والتجني ، وقيل : فلا تكلفوهن محبتكم ؛ فإن القلب ليس بأيديهن ( ^ إن الله كان عليا كبيرا ) أي : متعاليا عن أن يكلف العباد ما لا يطيقونه ، وفي الخبر : ' لو جاز أن يسجد أحد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ؛ لما له عليها من الحقوق ' .
وروى مرفوعا : ' خير النساء من إذا دخلت عليها سرتك ، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك ' . < < النساء : ( 35 ) وإن خفتم شقاق . . . . . > >
( ^ وإن خفتم شقاق بينهما ) : هو النشوز ، قال أبو عبيدة : أراد به : إن تيقنتم شقاق بينهما ، فالخوف بمعنى : اليقين ، ومنه قول الشاعر :
( إذا مت فارميني إلى جنب كرمة ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ) أي : أتيقن .
____________________

( ^ فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( 35 ) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ) * * * * وأنكر الزجاج ذلك عليه ، وقال : إذا تيقن الشقاق ، فلا معنى لبعث الحكمين ، بل الخوف بمعنى الظن ، يعني : إن ظننتم شقاق بينهما ( ^ فابعثوا حكما من أهله ) يعني من أهل الزوج ، ( ^ وحكما من أهلها ) يعني : من أهل الزوجة . ( ^ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ) وهل يجوز للحكمين التفريق ؟ فللسلف فيه قولان : أحدهما : أنه يجوز التفريق ، كما يجوز الجمع من غير رضا الزوج ، وروى عن علي : أنه بعث الحكمين ، فقال الزوج : أما الفرقة فلا ، فقال علي : لا حتى ترضى بكتاب الله تعالى ؛ فعلى هذا معنى قوله : ( ^ يوفق الله بينهما ) يعني : يوفق الله بين الحكمين بما فيه الصلاح من الفرقة أو الجمع ، والصحيح وعليه الفتوى : أنه لا يجوز التفريق ، وهو ظاهر الآية . < < النساء : ( 36 ) واعبدوا الله ولا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) روى عن معاذ أنه قال : ' كنت رديف رسول الله ، فقال لي : يا معاذ . فقلت : لبيك وسعديك . فقال : أتدري ما حق الله على العباد ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . فقال : حق الله على العباد : أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا ، ثم قال : يا معاذ ، قلت : لبيك وسعديك ، قال : أتدري ما حق العباد على الله ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . فقال : حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة ، ولا يعذبهم ' .
( ^ وبالوالدين إحسانا ) أي : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، ومن الإحسان بالوالدين : لين الجانب ، وألا يرفع صوته فوق صوتهما ، ولا يجبه بالرد ، ويكون لهما كالعبد الذليل لسيده ( ^ وبذي القربى ) أي : أحسنوا بذي القربى ( ^ واليتامى والمساكين
____________________


( ^ أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ( 36 ) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( 37 ) والذين ينفقون أموالهم ) * * * * ( ^ والجار ذي القربى ) فيه قولان : أحدهما : انه الجار الذي له قرابة . والثاني : أنه الجار الذي بقرب داره ، وهو الملاصق ، ( ^ والجار الجنب ) فيه قولان : أحدهما : أنه الجار الغريب الأجنبي ، والثاني : أنه الجار الذي يبعد داره .
وقد ورد في حق الجار أخبار ، منها : ما روى عن النبي أنه قال : ' ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتى ظننت أنه سيورثه ' وقال : ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ' ، وقال لمناديه حتى نادى : ' ألا إن الجيران أربعون دارا ، ولم يؤمن بالله من آذى جاره ' .
وقالت عائشة لرسول الله : ' إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ فقال : إلى أقربهما بابا ' فحق الجار القريب المسلم ثلاثة حقوق : حق القرابة ، وحق الإسلام ، وحق الجوار ، وللجار الغريب المسلم حقان : حق الإسلام ، وحق الجوار ، وللجار الذمي حق واحد ، وهو حق الجوار .
قوله تعالى : ( ^ والصاحب بالجنب ) قال علي ، وابن مسعود : هي المرأة ، وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وجماعة : هو الرفيق في السفر ، ( ^ وابن السبيل ) فيه
____________________

( ^ رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ( 38 ) ) * * * * قولان : أحدهما : أنه الملازم للطريق ، قاله ابن عباس ، وقال غيره : هو الضيف ، وقال ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ' وقال ' الضيافة ثلاثة أيام ، فما زاد فهو صدقة ' .
( ^ وما ملكت أيمانكم ) يعني : أحسنوا إلى المماليك ، وآخر ما حفظ عن رسول الله أنه قال : ' الصلاة ، وما ملكت أيمانكم ' أي : الزموا الصلاة ، وحق ما ملكت أيمانكم .
( ^ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) المختال : المتكبر ، والفخور : الذي يفخر بنفسه تكبرا ، قال الشاعر :
( وإن كنت سيدنا سدتنا ** وإن كنت للخال فاذهب فخل )
يعنى : إن كنت للخيلاء فاذهب فخل ، فإن قيل : أي معنى لهذا بعد هذه الأحكام ؟ قيل : لأن الآدمي قد يقصر في أداء الحقوق تكبرا ؛ فنهى عنه ، وفي الخبر : ' أن رجلا كان يتبختر في حلة له ، فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ' . < < النساء : ( 37 ) الذين يبخلون ويأمرون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) قيل : هو عام في كل
____________________


( ^ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ( 39 ) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ( 40 ) فكيف ) * * * * بخيل في العالم ، وقيل أراد به : اليهود والنصارى بخلوا بنعت محمد ، وأمروا سفلتهم بذلك ، ( ^ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله اعتدنا ) أي : أعددنا ( ^ للكافرين عذابا مهينا ) . < < النساء : ( 38 ) والذين ينفقون أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) قال إبراهيم النخعي : هم اليهود والنصارى ، وقال غيره : هم المنافقون .
( ^ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) أي : فبئس القرين ، قال الشاعر :
( عن المرء لا تسأل وبصر قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي ) < < النساء : ( 39 ) وماذا عليهم لو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وماذا عليهم ) أي : وأي شئ عليهم ( ^ لو آمنوا بالله ) وهو مثل ما يحاسب الرجل نفسه ، فينظر فيما له ، وفيما عليه ؛ يقول الله تعالى أي : شئ عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ( ^ وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ) . < < النساء : ( 40 ) إن الله لا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) قرأ ابن مسعود : ' مثقال نملة ' والذرة : هي النملة الحمراء ، ( ^ وإن تك حسنة يضاعفها ) وقرئ : ' يضعفها ' وهما في المعنى سواء . ( ^ ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) . < < النساء : ( 41 ) فكيف إذا جئنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) معناه : فكيف الحال إذا جئنا من كل أمة بشهيد ؟ وأراد بالشهيد من كل أمة نبيها ، وشهيد هذه الأمة : نبينا .
وأختلفوا على أن شهادتهم على ماذا ؟ منهم من قال : يشهدون على تبليغ الرسالة ، ومنهم من قال : يشهدون على الأمة بالأعمال .
____________________

( ^ إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ( 41 ) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ( 42 ) يا أيها الذين آمنوا لا ) * * * *
واختلفوا في أن النبي هل يشهد على من لم يره ؟ منهم من قال : إنما يشهد على من رآه ، والصحيح : أنه يشهد على الكل ، على من رأى ، وعلى من لم ير .
وروى عن ابن مسعود : ' أن النبي قال لي : اقرأ علي القرآن ' فقلت : كيف أقرأ عليك القرآن ، وعليك أنزل ؟ ! فقال : أريد أن أسمعه من غيري . قال ابن مسعود : فافتتحت سورة النساء ، فلما بلغت قوله : ( ^ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) غمزني رسول الله بيده ، وقال : حسبك ، فنظرت إليه ، فإذا عيناه تذرفان ' ، وفي رواية : ' لما قرأت هذه الآية ، قرأ رسول الله : ( ^ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) ' وفي رواية ثالثة : ' هذا يا رب فيمن رأيته ، فكيف بمن لم أره ؟ ' وأصل الحديث صحيح . < < النساء : ( 42 ) يومئذ يود الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يومئذ ) يعني : يوم القيامة ( ^ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ) ويقرأ : ' لو تسوى بهم الأرض ' أي : تستوي ، يعني : يودون أن يصيروا ترابا ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) ، وذلك حين تحشر البهائم ثم يقول الله تعالى لهم : كونوا ترابا ، فيكونون ترابا ؛ فيود الكفار هنالك أن يصيروا مثل البهائم ترابا ، وقيل : يودون أن
____________________

( ^ تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ) * * * * تنخرق الأرض ؛ فساخوا فيها وهلكوا ، وتسوى بهم الأرض ، أي : عليهم الأرض .
( ^ ولا يكتمون الله حديثا ) فإن قيل : قد أخبر هاهنا أنهم لا يكتمون الله حديثا ، وذكر في موضع آخر قولهم : ( ^ والله ربنا ما كنا مشركين ) فقد كتموا ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : قال الحسن البصري : وهذا في موطن وذاك في موطن ، آخر ، وفي القيامة مواطن ، وهذا جواب معروف أورده القتيبي في مشكل القرآن . وقيل : معناه : يودون أن لا يكتمون الله حديثا ، وذلك أنهم يقولون : ( ^ والله ربنا ما كنا مشركين ) ونحو ذلك ، فيختم الله على أفواههم ، وينطق جوارحهم ؛ فيودون أنهم لم يكتموا الله حديثا فهو راجع إلى قوله : ( ^ يود الذين كفروا ) وقيل : معناه : لا يقدرون أن يكتموا الله حديثا . < < النساء : ( 43 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) يعني : لا تقربوا موضع الصلاة ، ( ^ وأنتم سكارى ) فالأصح وعليه أكثر المفسرين أنه أراد به : السكر من الشراب ، وهو قول ابن عباس . وقال الضحاك : أراد به : السكر من النوم .
والسكر من السكر فهو أشد ، فالسكر يسد العقل والمعرفة ، والصحيح أنه في السكر من الشراب .
وسبب نزول الآية ما روى : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ، واتخذ شرابا ، ودعا رهطا من أصحاب رسول الله ، فأكلوا ، وشربوا حتى ثملوا ، فدخل وقت المغرب ، فقاموا إلى الصلاة ، وقدموا واحدا منهم ، فقرأ سورة ( ^ قل يا أيها الكافرون ) وقرأ : أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، قرأ هكذا إلى آخر السورة بطرح ' لا ' ؛
____________________

( ^ فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ( 43 ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ( 44 ) والله أعلم ) * * * * فنزل قوله : ( ^ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ' أي : حتى تميزوا ، وتعرفوا ما تقولون .
فإن قيل : كيف خاطب السكارى ، والسكران لا يخاطب ؟ قيل أراد به لا تتعرضوا للسكر في أوقات الصلاة ، فكانوا يشربون بعد ذلك بعد صلاة الصبح ، ويصحون عند الظهر ، ويشربون بعد العشاء الآخرة ، ويصحون عند الصبح .
( ^ ولا جنبا إلا عابري سبيل ) يعني : ولا تقربوا المسجد موضع الصلاة جنبا ، إلا عابري سبيل ، اختلفوا فيه : قال جماعة من التابعين وهو قول الشافعي : إنه أراد به عبور : الجنب في المسجد من غير أن يجلس ؛ فرخص فيه ، وقال بعضهم إنه يتيمم للعبور ، ثم يعبر إذا لم يكن له بد من العبور ، والآية في قوم من الأنصار كانت أبواب بيوتهم في المسجد : فرخص لهم في العبور بالتيمم ، فهذا معنى قوله : ( ^ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) .
( ^ وإن كنتم مرضى ) أراد به : المرضى من القروح والجروح ، وفيه تفاصيل تذكر في الفقه ، ( ^ أو على سفر ) وحد السفر : مسيرة يوم وليلة ، وقال أصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام ( ^ أو جاء أحد منكم من الغائط ) قال الفراء : معناه : وجاء أحد منكم من الغائط ؛ حتى يستقيم الكلام ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ؛ فلما جرت عادة العرب بإتيان الغائط للحدث ؛ سمى الحدث غائطا باسم المكان .
( ^ أو لمستم النساء ) ويقرأ : ' أو لامستم النساء ' قال علي ، وابن عباس : أراد به الجماع ، قال ابن عباس : إن الله حيى كريم ، يكنى بالحسن عن القبيح ؛ فكنى باللمس عن الجماع ، وقال ابن مسعود ، وابن عمر : هو اللمس باليد ، وهو قول الشافعي ، فمن قال بالأول قال : إن التيمم للجنب ثابت بنص الكتاب ، ومن قال
____________________

( ^ بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ( 45 ) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو ) * * * * بالثاني قال : إن التيمم للمحدث ثابت بالكتاب ، وللجنب ثابت بالسنة .
وقال عمر ، وابن مسعود : ليس للجنب أن يتيمم أصلا ، وحملوا الآية على اللمس باليد ، وتمسكوا بظاهر الآية .
والأصح أن اللمس والملامسة واحد ، وقال بعضهم : ومن قرأ : ( ^ أو لامستم ) ففيه دليل على انتقاض طهارة اللامس والملموس جميعا . ومن قرأ ( أو لمستم ) ففيه دلالة على انتقاض طهارة اللامس فحسب .
( ^ فلم تجدوا ماء فتيمموا ) أي : اقصدوا ، وتعمدوا ، والتيمم : القصد ، قال الشاعر :
( تيممت قيسا وكم دونه ** من الأرض من مهمة ذي شزن )
( ^ صعيدا ) قال أبو عبيدة : الصعيد : التراب ، وهو قول الشافعي ، وقال ابن الأعرابي : الصعيد : ما يصعد من وجه الأرض ، وهو اختيار الزجاج ، وقال الزجاج : لو ضرب يده على صخرة صماء حصل التيمم ، وإن لم يعلق به شئ ، واستدلوا بقوله : ( ^ صعيدا زلقا ) وأراد به : وجه الأرض ، والأول أصح ؛ لأنه قال في آية أخرى : ( ^ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) يعني : من الصعيد ؛ فدل أنه التراب حتى يكون التيمم منه وقوله : ( ^ طيبا ) أي : طاهرا ، وقال بعضهم : حلالا ( فامسحوا بوجهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ) فالعفو المسهل والغفور : الساتر . < < النساء : ( 44 ) ألم تر إلى . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) فإن قال قائل : كيف يسمي اليهود والنصارى : ' أهل الكتاب ' ، وهو اسم مدح ، وهم يستحقون الذم ؟
قيل : قال ذلك لإلزام الحجة ، وقيل : سماهم بذلك على زعمهم أنهم أهل الكتاب .
____________________

( ^ أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 46 ) يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن ) * * * *
( ^ يشترون الضلالة ) لأنهم لما استبدلوا الضلالة بالهدى ، فكأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، وكل مشتر مستبدل .
( ^ ويريدون أن تضلوا السبيل < < النساء : ( 45 ) والله أعلم بأعدائكم . . . . . > > والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) قال الزجاج : معناه : اكتفوا بالله وليا واكتفوا به نصيرا ؛ لتكون ' الباء ' في موضعها ، وقال غيره : الباء صلة ، وتقديره : وكفى الله وليا وكفى الله نصيرا . < < النساء : ( 46 ) من الذين هادوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من الذين هادوا يحرفون ) قيل تقديره : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرفون ، وقيل معناه : من الذين هادوا فريق يحرفون ( ^ الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا ) لأنهم لما سمعوا ولم يطيعوا ، فكأنهم قالوا : سمعنا وعصينا .
( ^ واسمع غير مسمع ) قال ابن عباس : كانوا يقولون لرسول الله : اسمع ، ثم يقولون في أنفسهم : لا سمعت ، فهذا معناه ، وقال الحسن : اسمع غير مسمع منك ، يعني : اسمع منا ، ولا نسمع منك ( ^ وراعنا ) كانوا يقولون ذلك ، ويريدون به : النسبة إلى الرعونة ، فذلك معنى قوله : ( ^ ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) ؛ لأن قولهم : راعنا من المراعاة ، فلما حرفوه إلى الرعونة ، فذلك معنى قوله : ( ! ( ليا بألسنتهم ) ! ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا ) أي : انظر إلينا ( ^ لكان خيرا لهم وأقوم ) أي : أعدل ( ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) فيه قولان : أحدهما فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، لا يستحقون به اسم الإيمان ؛ وذلك أنهم يؤمنون بالله ، والآخرة ، وموسى ، وقيل : معناه : فلا يؤمنون إلا نفر قليل منهم ، وأراد به : عبد الله بن سلام ، وقوما منهم أسلموا . < < النساء : ( 47 ) يا أيها الذين . . . . . > >
( ^ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ) يعني : من القرآن ( مصدقا لما
____________________

( ^ نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ( 47 ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى ) * * * * ( ^ معكم ) من التوراة والإنجيل ( ^ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) الطمس : المحو ، ومعناه : من قبل أن نطمس الوجه ، ونرده إلى القفا ، وقيل : معناه : نبات الشعر عليه ، حتى يصير كالقردة ، وقيل : يجعل عينيه على القفا ليمشي بقهقرى ، وروى : أن عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية ، جاء إلى النبي ويده على وجهه ، فأسلم ، وقال : خفت أن يطمس وجهي قبل أن أصل إليك ، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه .
فإن قال قائل : قد أوعد اليهود بالطمس إن لم يسلموا ، ولم يطمس وجوههم ، فكيف ذلك ؟ قيل : هذا كان في قوم معدودين أسلموا ، وذلك : عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعيد ، وأوس بن سعيد ، والمحيريق ، وجماعة ، ولو لم يسلموا لطمسوا .
وقيل : أراد به : الطمس في القيامة ، قال مجاهد : أراد بقوله ( ^ نطمس وجوها ) أي : نتركهم في الضلالة ؛ فيكون المراد طمس القلب ( ^ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ) أي : نجعلهم قردة كما جعلنا أصحاب السبت قردة ( ^ وكان أمر الله مفعولا ) . < < النساء : ( 48 ) إن الله لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) قيل : هذه أرجى آية في القرآن ، قال ابن عمر : كنا نطلق القول فيمن ارتكب الكبائر بالخلود في النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فتوقفنا ( ^ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) أي : اختلق إثما عظيما ، فإن قال قائل : قد قال الله تعالى : ( ^ إن الله لا يغفر أن يشرك به ) وقال في موضع آخر : ( ^ إن الله يغفر الذنوب جميعا ) فكيف وجه الجمع ؟
قيل أراد به : يغفر الذنوب جميعا سوى الشرك .
____________________

( ^ إثما عظيما ( 48 ) ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ( 49 ) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ( 50 ) ألم تر إلى الذين أوتوا ) * * * *
وفي الخبر : ' أنه لما قرأ قوله تعالى : ( ^ إن الله يغفر الذنوب جميعا ) فقال رجل : والشرك يا رسول الله ؟ فنزل قوله تعالى ( ^ إن الله لا يغفر أن يشرك به ) . < < النساء : ( 49 ) ألم تر إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) نزلت الآية في رحبي بن عمرو ، ومرحب بن زيد ، جاءا إلى النبي بأطفالهما ، وقالا : هل على هؤلاء ذنب ؟ ، فقال : لا . فقالا : نحن مثلهم ؛ ما فعلنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما فعلنا بالنهار يكفر عنا بالليل ، فنزل قوله : ( ! ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) ! بل الله يزكي من يشاء ) ' يطهر من يشاء .
( ^ ولا يظلمون فتيلا ) أي : لا ينقص من أجورهم شئ إن أسلموا ، ولا من أوزارهم إن لم يسلموا . والفتيل والقطمير والنقير : ثلاثة أسامي مذكورة في القرآن فالفتيل : اسم لما يكون في شق النواة ، والقطمير : اسم للقشرة التي تكون على النواة ، والنقير : اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة ، هذا قول ابن عباس ، وقال غيره : الفتيل من الفتل ، وهو اسم لما يحصل من الوسخ بين الإصبعين عند الفتل ، قال الشاعر :
( تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ** ثم لا ترزأ العدو فتيلا )
قاله النابغة ، وأنشده الأزهري . < < النساء : ( 50 ) انظر كيف يفترون . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به ) أي : بالكذب ( ! ( إثما مبينا ) { < النساء : ( 51 ) ألم تر إلى . . . . . > > ألم تر إلي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) قال عمر رضي الله عنه : الجبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وبه قال الشعبي ، وقال
____________________

( ^ نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ( 51 ) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ( 52 ) أم لهم ) * * * * قتادة : الجبت : الشيطان والطاغوت : الكاهن ، وعن ابن عباس في رواية الكلبي عنه أنه قال : هما اسما رجلين من اليهود ، فالجبت : حيى بن أخطب والطاغوت : كعب بن الأشرف ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أن الجبت : الساحر بلغة الحبشة فعرب ، وذكر عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس رحمة الله أنه قال : الطاغوت : كل ما يعبد من دون الله ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ واجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) فقيل له : ما ' الجبت ' ؟ ، فقال سمعت أنه الكاهن .
( ^ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) هذا قول جماعة من اليهود وحضروا موسم الحج ، فقال لهم المشركون : نحن أحسن طريقة أم محمد وأصحابه ؟ فقالوا : أنتم . وهذا دليل على شدة معاندة اليهود ؛ حيث فضلوا المشركين على المسلمين ، مع علمهم أنهم لم يؤمنوا بشيء من الكتب ، وأن المسلمين آمنوا بالكتب المتقدمة . < < النساء : ( 52 ) أولئك الذين لعنهم . . . . . > >
( ^ أولئك الذين لعنهم الله ) هم اليهود ( ^ ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) . < < النساء : ( 53 ) أم لهم نصيب . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) فالنقير : اسم تلك النقطة على ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة ، وفي الآية قولان : أحدهما : أنه : استفهام بمعنى الإنكار والنفي ، يعنى : ليس لهم نصيب من الملك ؛ إذ لو كان الملك لهم ، فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ، وقد ذكرنا نزع الملك من اليهود ، والقول الثاني : إنه بمعنى الإثبات ، يعني : لهم نصيب من الملك : وأراد بالملك المال ، ثم هم إذا لا يؤتون الناس نقيرا ، وصفهم بشدة البخل ، وهذا على طريق ضرب المثل ؛ إذ من اليهود من يؤتي المال . < < النساء : ( 54 ) أم يحسدون الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) أي : بل يحسدون ، واختلفوا في الناس هاهنا ، من المراد به ؟ قال ابن عباس ، والحسن ،
____________________

( ^ نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ( 53 ) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ( 54 ) فمنهم من آمن به ) * * * * ومجاهد ، وجماعة : أراد به : محمدا وحده ، وقال قتادة : أراد به العرب ؛ حسدهم اليهود ببعث النبي منهم ، وفيه قول ثالث : أراد به : محمدا وأصحابه ، وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : نحن الناس ؛ وذلك أنهم حسدوا ، فإذا قلنا بالقول الأول : أنه محمد وحده ؛ فاختلفوا في الفضل المذكور في الآية ما هو ؟ قال بعضهم : هو النبوة حسد الرسول بها ، وقال بعضهم : هو تحليل الزوجات فيما زاد على الأربع ، حسده اليهود عليه ؛ فقالوا : ما بال هذا الرجل همه في النكاح ، ينكح ، وينكح . ( ^ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ) أراد بآل إبراهيم : داود ، وسليمان ، والكتاب : هو الكتاب الذي أنزل عليهم ، وأما الحكمة : قيل : هي النبوة ، وقيل هي السنة .
ومعنى الآية : أنهم إن حسدوا الرسول بما أوتى من الفضل ، فليحسدوا آل إبراهيم ؛ فإنهم قد أوتوا الكتاب والحكمة ( ^ وآتيناهم ملكا عظيما ) اختلفوا في الملك العظيم : فمن فسر الفضل بتحليل الزوجات ، فسر الملك العظيم به أيضا ، وقد كان لداود تسع وتسعون امرأة ، ولسليمان مائة امرأة ، وقيل : كان لسليمان سبعمائة امرأة ، وثلثمائة سرية ، وقيل : أعطى نبينا صلوات الله عليه قوة سبعين شابا في المباضعة .
وقيل : الملك العظيم : ملك سليمان ، وقيل : المراد به تأييدهم بالجنود من الملائكة . < < النساء : ( 55 ) فمنهم من آمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فمنهم من آمن به ) يعنى : بالكتاب ( ^ ومنهم من صد عنه ) أي : أعرض عنه ، وقيل : معناه : فمنهم من آمن بمحمد ، ومنهم من صد عنه ( ^ وكفى بجهنم سعيرا ) والسعير : هي النار المسعرة .
____________________

( ^ ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ( 55 ) إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ) * * * * < < النساء : ( 56 ) إن الذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ) أي نلقيهم في النار ، ويقال : صلى النار ، إذا قرب منها ، قال الشاعر يصف امرأة :
( تجعل المسك واليلنجوج والند ** صلاء لها على الكانون )
( ^ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) قيل : قرئت هذه الآية عند عمر رضي الله عنه وكان عنده معاذ بن جبل ، فقال : تبدل جلودهم في كل ساعة سبعين مرة ، قال عمر : كذا سمعت رسول الله ' .
وقال الحسن : في كل يوم سبعين ألف مرة .
فإن قيل : إذا بدلت جلودهم ، فكيف يعذب غير الجلد الذي كان في الدنيا ؟ قيل : إنما يعذب الشخص في الجلد دون الجلد ، وقيل : يعاد الجلد الأول في كل مرة ، إلا أنه سماه جلدا غيره ، ومثله جائز ، تقول العرب : صغت من خاتمي خاتما غيره ، وإن كان الثاني إعادة للأول ، وفي الخبر : ' أن بصر جلد الكافر في النار أربعون ذراعا يعني : غلظه وضرسه مثل جبل أحد ، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام ' .
____________________

( ^ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ( 57 ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى ) * * * *
وفي الأخبار : ' يكون عليه مائة جلد ، بين كل جلدين لون من العذاب ' ( ^ إن الله كان عزيزا حكيما ) عزيزا : غالبا . حكيما : فيما دبر ، < < النساء : ( 57 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . . > > قوله : ( ^ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة ) وقد ذكرنا معنى الجميع ، ( ^ وندخلهم ظلا ظليلا ) وهو الكن الذي يقي من الحر والبرد . < < النساء : ( 58 ) إن الله يأمركم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أن المراد منه : جميع الأمانات ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يجاء بالذي خان في الأمانة يوم القيامة ، فيقال له : رد الأمانة . فيقول : ذهبت الدنيا أنى لي الأمانة ، فتمثل له الأمانة في النار ، ويقال له : خذ الأمانة وردها ، فيأتي ليأخذ الأمانة ؛ فيهوي في النار ، ثم يعود ليأخذ فيهوي فيها أبدا .
وفي الخبر أنه قال : ' أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ' . وروى عن ابن عباس ، عن النبي أن قال : ' لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له
____________________

( ^ أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ( 58 ) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم ) * * * * والقول الثاني : أنه أراد به : تفويض الأمر إلى الولاة بالطاعة لهم ، والقول الثالث - وهو قول عامة المفسرين - : أن المراد منه رد مفاتيح الكعبة .
وسبب نزول الآية ما روى : ' أن رسول الله لما فتح مكة ، أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ، وفتح الباب ، ودخل الكعبة ، فلما خرج ، قال العباس : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، اجمع لي بين السدانة والسقاية فهم رسول الله أن يدفع المفتاح إليه ؛ فنزل قوله تعالى : ( ^ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ، فدعا رسول الله عثمان بن طلحة ، ودفع إليه المفتاح ، وقال : خذوها يا بني طلحة ، خالدة تالدة ، لا ينزعها عنكم إلا ظالم ' وكان مع عثمان حياته ، فلما توفي دفعه إلى أخيه شيبة ، فهو في بني شيبة إلى قيام الساعة .
( ^ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) أي : بالقسط ( ^ إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) . < < النساء : ( 59 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) اختلفوا في أولى الأمر ، قال ابن عباس ، وجابر - وهو قول جماعة - : هم العلماء والفقهاء ، وقال أبو هريرة : هم الولاة والسلاطين ، وقيل : هم أمراء السرايا الذين بعثهم رسول الله في الحروب ، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال : ' من عصى أميري فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن أطاعني فقد أطاع الله ' .
____________________

( ^ في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ( 59 ) ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون ) * * * *
وقال عكرمة : أراد به : أبا بكر وعمر .
( ^ فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) التنازع : هو التشاجر ، سمى تنازعا ؛ لأن كل واحد من الخصمين ينزع بحجة وآية .
وقوله : ( ^ فردوه إلى الله ) يعنى : إلى الكتاب ، وإلى الرسول إن كان حيا ، وإلى سنته إن كان ميتا .
والرد إلى الكتاب والسنة واجب ، ما دام في الحادثة شئ من الكتاب والسنة ، فإن لم يكن فالسبيل فيه الاجتهاد ، وروى أن مسلمة بن عبد الملك قال لرجل : إنكم أمرتم أن تطيعونا ، فقال الرجل : قد نزعها الله منكم ؛ حيث قال : ( ^ فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) وقد تنازعتم ، فقال مسلمة : أين الله ؟ فقال : الكتاب ، وقال : أين الرسول ؟ فقال : السنة .
وقيل : الرد إلى الله والرسول : أن يقول الرجل فيما لا يدرى : الله ورسوله أعلم ، وهذا قول حسن ( ^ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) أي : أحسن مآل وعاقبة . < < النساء : ( 60 ) ألم تر إلى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) .
في الآية قولان : أحدهما : أنه في جماعة من المنافقين منهم خلاس بن الصامت ، كانت لهم خصومة مع جماعة من المسلمين ، فقال المسلمون : نتحاكم إلى الرسول ، وقال المنافقون : نتحاكم إلى الكهنة .
والقول الثاني - وهو الأصح : ' أن رجلا من اليهود خاصم رجلا من المنافقين ،
____________________

( ^ أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ( 60 ) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ( 61 ) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن ) * * * * فقال اليهودي : نتحاكم إلى أبي القاسم إذ عرف أنه لا يأخذ الرشوة على الحكم فيحكم بالحق ، وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فتحاكما إلى النبي فحكم لليهودي ، وكان الحكم له ، فقال المنافق : لا أرضى بحكمه ، نتحاكم إلى أبي بكر ، فتحاكما إلى أبي بكر ، فحكم لليهودي بمثل ما حكم رسول الله فقال المنافق : لا أرضى بحكمه ، نتحاكم إلى عمر ، فتحاكما إلى عمر ، فقال عمر : هل تحاكمتما إلى أحد ؟ فقال اليهودي : نعم إلى أبي القاسم ، وإلى أبي بكر ، وقد حكما لي ، وهو لا يرضى ، فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل البيت ، واشتمل على السيف ، ثم خرج ، وضرب عنق المنافق ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال : أنت الفاروق ' . < < النساء : ( 61 ) وإذا قيل لهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) هو ما ذكرنا ، أن المنافقين دعوا إلى التحاكم إلى الرسول ، فأعرضوا عنه ، وتحاكموا إلى الطاغوت . < < النساء : ( 62 ) فكيف إذا أصابتهم . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ) قيل : هذا في المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت ، وقوله : ( ^ أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ) قيل : هو قتل عمر رضي الله عنه ذلك المنافق ؛ فإنهم جاءوا يطلبون دمه ، وقيل : هو في جميع المنافقين ، والمصيبة : كل مصيبة تصيبهم في الدنيا والعقبى .
يقول الله تعالى : فكيف الحال إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ( ^ ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) قيل : هو إحسان بعضهم إلى بعض ، وقيل أرادوا بالإحسان : تقريب الأمر من الحق ، لا القضاء على مر الحكم .
____________________

( ^ أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ( 62 ) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ( 63 ) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) * * * *
وأما التوفيق : موافقة الحق ، وقيل : هو التأليف والجمع بين الخصمين . ومعنى الآية : أن المنافقين يحلفون ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا إحسانا وتوفيقا .
وقي الآية قول آخر : أنها في المنافقين ، حلفوا في المسجد الذي بنوا ضرارا على ما هو مذكور قي سورة التوبة ( ^ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ) . < < النساء : ( 63 ) أولئك الذين يعلم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) خلاف ما على ألسنتهم ( ^ فأعرض عنهم وعظهم ) فإن قال قائل : كيف يتصور الجمع بين الإعراض والوعظ وقد أمر الله تعالى بهما ؟
قيل معناه : فأعرض عن عقوبتهم ، وعظهم .
وقيل : معناه : فأعرض عن قبول عذرهم ، وعظهم ( ^ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) القول البليغ : هو ما يبلغ الإنسان بلسانه كنه ما في قلبه ، وقيل : هو التخويف بالله تعالى وقيل : هو أن يقول : إن رجعتم إلى هذا ، فأمركم القتل . < < النساء : ( 64 ) وما أرسلنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) قال أهل المعاني : قوله ( ^ إلا ليطاع ) كلام كاف مفيد بنفسه ، وقوله : ( ^ بإذن الله ) كلام آخر ومعناه بعلم الله وقضاء الله يعنى : أن طاعته تقع بإذن الله .
( ^ ولو أنهم ) يعني : المنافقين ( ^ إذا ظلموا أنفسهم ) يعنى : بالتحاكم إلى الطاغوت ( ^ جاءوك فاستغفروا الله ) لأنهم ما جاءوا مستغفرين ، وإنما جاءوا معتذرين بالأعذار الكاذبة .
قوله : ( ^ فاستغفروا الله ) أي : سألوا مغفرة الله ، ( ^ واستغفر لهم الرسول ) أي : دعا لهم الرسول بالاستغفار ( ^ لوجدوا الله توابا رحيما ) .
____________________

( ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا قي أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( 65 ) ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ) * * * * < < النساء : ( 65 ) فلا وربك لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا ربك لا يؤمنون ) قوله : ( ^ فلا ) : رد لقول المنافقين وعذرهم ، ثم ابتداء بقوله : ( ^ وربك لا يؤمنون ) والمراد به : الإيمان الكامل ، أي : لا يكمل إيمانهم ، ( ^ حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) أي : اختلف ، والاشتجار : الاختلاف ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها على بعض ، قال الشاعر :
( هم الحكام أرباب الندي ** وسراة الناس إذ الأمر شجر ) أي : اختلف ، ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) أي : ضيقا ، ومنه الحرجة ، روى أن عمر - رضي الله عنه - قال لبعض العرب : ما الحرجة عندكم ؟ قال : هي شجرة ملتفة ، لا يصل الماء إليها .
ومن ذلك قوله - تعالى - : ( ^ يجعل صدره ضيقا حرجا ) أي : يضيق مسلكه بحيث لا تصل إليه الهداية ( ^ ويسلموا تسليما ) ومعنى الآية : لا يكمل إيمانهم حتى يرضوا بحكمك ، وينقادوا لك ، قيل : هذه أبلغ آية في كتاب الله - تعالى - في الوعيد .
واختلفوا في سبب نزول الآية ، قال عطاء ، ومجاهد : الآية في المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعروة بن الزبير ، وجماعة : ' الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له : حاطب بن أبي بلتعة - وكان من أهل بدر - خاصم الزبير بن العوام في ماء أرض عند النبي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - للزبير : اسق أرضك الماء ثم أرسله إلى جارك ، وكانت أرض الأنصاري دون أرضه ؛ فقال الأنصاري : أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه النبي ، وقال للزبير : اسق أرضك ، واحبس الماء حتى يبلغ الجدر ' - وفي رواية - حتى يبلغ الكعبين ثم سرحه يمر '
____________________

( ^ ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ( 66 ) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ( 67 ) ولهديناهم صراطا مستقيما ( 68 ) ومن يطع الله ) * * * *
كان النبي ساهل في حق الزبير في ابتداء الأمر ، فلما أغضبه الأنصاري استوعب جميع حقه ، وكلا الحكمين كان حقا ، وفي الخبر : قال الزبير : ' احسب أن قوله : ( ^ فلا وربك لا يؤمنون ) نزل في هذا .
وروى أن اليهود لما بلغهم ذلك ، قالوا : انظروا إلى أصحاب محمد كيف يخالفونه ، وإن موسى عتب علينا ، فأمرنا بقتل أنفسنا ، فقتلنا أنفسنا حتى بلغ القتلى سبعين ألفا . < < النساء : ( 66 ) ولو أنا كتبنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) معناه : لو كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ، أو اخرجوا من دياركم ، بدل ما أمرناهم به من طاعة الرسول ، والانقياد لحكمه ( ^ ما فعلوه إلا قليل منهم ) قال ثابت بن قيس بن شماس : لو أمرني رسول الله بقتل نفسي لقتلت ، وفي الخبر : أن ابن مسعود وعمار بن ياسر ، وثابت بن قيس بن شماس ، من ذلك القليل ، وروى أن النبي أشار إلى عبد الله بن رواحه ، فقال له : ' أنت من ذلك القليل ' .
ويقرأ ' إلا قليلا منهم ' فمن قرأ بالرفع ؛ فلأنه معطوف على قوله : ( ^ ما فعلوه ) وذلك في محل الرفع ، وتقديره : ما فعلوه إلا نفر قليل منهم فعلوه . ومن قرأ بالنصب ، فعلى الاستثناء .
( ^ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ) يعنى : من طاعة الرسول ، والرضا لحكمه ( لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) أي : تصديقا < < النساء : ( 67 ) وإذا لآتيناهم من . . . . . > > ( وإذ لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ) هو الجنة < < النساء : ( 68 ) ولهديناهم صراطا مستقيما > > ( ^ ولهديناهم صراطا مستقيما ) قيل : هو القرآن ، وقيل : الإسلام .
____________________

( ^ والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ( 69 ) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ( 70 ) يا أيها الذين آمنوا ) * * * * < < النساء : ( 69 - 70 ) ومن يطع الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ) سبب نزول الآية ، ما روى : أن بعض أصحاب رسول الله قالوا : يا رسول الله ، كيف يكون الحال في الجنة ، وأنت في الدرجات العلي ، ونحن أسفل منك ، وكيف نراك ؟ فنزلت الآية . وذكر النقاش في تفسيره : أن ذلك القائل كان عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري .
وروى : أن رجلا قال : لرسول الله أنت أحب إلى من أهلي ومالي وولدي ، وإذا غبت عنى يصيبني شبه الجنون ، حبا لك ، فكيف حالي معك في الجنة ؟ فنزلت الآية ' ( ^ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) قيل : ذلك بأن ينزل إليهم النبيون ؛ حتى يروهم ، لا أن يرفعوا إلى درجاتهم ، وقيل : معناه : أنهم لا يفوتهم رؤية النبيين ومجالستهم ، وقوله : ( ^ والصديقين ) يعنى : أصحاب رسول الله ، والصديق المبالغ في الصدق ، ( ^ والشهداء ) الذين استشهدوا يوم أحد .
واختلفوا في أنهم لم سموا شهداء ؟ قال بعضهم : لأنهم قاموا بشهادة الحق حتى قتلوا ، وقيل : لأن أرواحهم تشهد الجنة عقيب القتل ، ( ^ والصالحين ) الصالح : من استوت سريرتيه علانيته ( ^ وحسن أولئك رفيقا ) الرفيق : الواحد ، وهو بمعنى الجمع هاهنا ( ^ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ) . < < النساء : ( 71 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) أي : عدتكم ، والحذر : ما يتقى به من العدو ، نحو العدة والسلاح ، ( فانفروا ثبات ) جمع ' ثبة ' قال ابن عباس : ' الثبة ' : ما فوق العشرة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : ' الثبة ' النفر ، ومعناه : انفروا جماعات ، نفرا نفرا ( أو انفروا جميعا ) .
وهذا دليل على أن الجهاد فرض على الكفاية ، وقيل إن الآية صارت منسوخة ؛
____________________

( ^ خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ( 71 ) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ( 72 ) ولئن أصابكم فضل من الله ) * * * * لقوله - تعالى - : ( ^ وما كان المؤمنين لينفروا كافة ) . < < النساء : ( 72 ) وإن منكم لمن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإن منكم لمن ليبطئن ) أي : ليتأخرن ، والبطء : التأخير .
وقيل : هذا في عبد الله بن أبي بن سلول ( ^ فإن أصابتكم مصيبة ) يعنى : بالقتل والجرح في الجهاد ( ^ قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا ) أي : حاضرا < < النساء : ( 73 ) ولئن أصابكم فضل . . . . . > > ( ^ ولئن أصابكم فضل من الله ) أي : الغنيمة ( ليقولن ) - بنصب اللام - ويقرأ في الشواذ : برفع اللام والمعنى واحد ( ^ كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) قيل : في الآية تقديم وتأخير ، وتقديره : فإن أصابتكم مصيبة ، قال : قد أنعم الله على ؛ إذ لم أكن معهم شهيدا ، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ، أي : معاقدة ومعاهدة على الجهاد ، وقيل : أراد به : مودة الصحبة . ثم ابتدأ ( ^ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) . < < النساء : ( 74 ) فليقاتل في سبيل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا ) أي : يبيعون ( ^ بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) وهو معنى قوله في سورة التوبة : ( ^ فيقتلون ويقتلون ) . < < النساء : ( 75 ) وما لكم لا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ) عتب على أصحاب رسول الله بترك القتال ( ^ والمستضعفين ) وهم الذين أسلموا بمكة وسكنوا بأعذار ، وبعضهم منعوا من الهجرة ، قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين .
قال الأزهري : معنى الآية : لا تقاتلون في سبيل الله ، وفي سبيل المستضعفين ؛ بتخليصهم من أيدي المشركين ( ^ من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية ) وهي مكة باتفاق المفسرين ( ^ الظالم أهلها ) أي : المشرك أهلها ( ^ واجعل لنا من لدنك وليا ) أي : من يلي أمرنا ( ^ واجعل لنا من لدنك
____________________

( ^ ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ( 73 ) فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب ) * * * * ( ^ نصيرا ) أي : من يمنع العدو عنا ؛ فاستجاب الله دعوتهم ، حتى فتح رسول الله مكة ، وولى عليها عتاب بن أسيد ، فكان ينصف المظلوم ، وينتصف من الظالم . < < النساء : ( 76 ) الذين آمنوا يقاتلون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) قد بينا معنى الطاغوت ( ^ فقاتلوا أولياء الشيطان ) أي : الكفار ( ^ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) قيل كان ضعيفا بمعنى : أنه لا يرد أحدا عن الإسلام والهداية ، وقيل : أراد به أن كيده كان ضعيفا يوم بدر ، حين رأى الملائكة ، وخاف أن يأخذوه ، فهرب ، فكيده ضعيف بأحد هذين المعنيين . < < النساء : ( 77 ) ألم تر إلى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ) قيل : هذا في قوم أسلموا بمكة فآذاهم المشركون ؛ ' فقالوا : يا رسول الله ، ائذن لنا نقاتلهم ، فقال لهم : ( ^ كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ؛ فإني لم أؤمر بالقتال ، ثم لما هاجر إلى المدينة ، فأمر بالقتال ، فكرهوا القتال ' قيل : أولئك الذين أسلموا وقالوا ذلك ، منهم : عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وقدامة بن مظعون ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وجماعة .
( ^ فلما كتب عليهم القتال ) يعنى : بعد الهجرة ( ^ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) أي : يخشون الناس كخشيتهم من الله ، أو أشد خشية ، قال الحسن البصري : ما كانوا يخشون أمر الله بالقتال ، وإنما ذلك : خشية طبع البشرية .
( ^ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) أي : هلا أخرتنا إلى أجل قريب ؛ فنموت بآجالنا ، قيل : هذا قول المنافقين ، وقيل : كان ذلك قول بعض
____________________

( ^ فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( 74 ) وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ) * * * * أصحاب رسول الله : قالوا ذلك خوفا و ( جبنا ) لا اعتقادا . وقال بعضهم : هو قول طلحة بن عبيد الله ؛ قال ذلك خوفا ثم تاب عنه .
( ^ قل متاع الدنيا قليل ) يعنى : أن ما تستمتعون به من الدنيا فهو قليل ، وفي الخبر المعروف : ' ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم المخيط في البحر ، فلينظر بم يرجع ؟ ! ' ( ^ والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ) أي : لا ينقص من أجرهم شئ ، ولا مقدار الفتيل . < < النساء : ( 78 ) أينما تكونوا يدرككم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) معناه : أينما كنتم يأتيكم الموت ، وإن كنتم في بروج مشيدة ، والبروج : الحصون ، قال السدي : وهي قصور بيض في السماء ، قوله : ( ^ مشيدة ) قال ابن عباس - في القول المعروف - : هي المعروفة المطولة ، وقال عكرمة : المشيدة : المجصصة ، والشيد : الجص . وقال بعضهم : المشيد : المجصص ، والمشيدة : المرفوعة ، وفيه قول آخر عن ابن عباس : أنه أراد : في بروج من حديد .
( ^ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) فالحسنة : الخصب ، والسيئة : الجدب ، وقيل الحسنة : النصر ، والظفر يوم بدر ، والسيئة : الهزيمة والقتل يوم أحد ، ومعنى الآية : أن المسلمين إذا أصابتهم حسنة ، فقال الكفار : هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة قالوا هذا من عندك أي : بشؤمك ؛ وذلك أن النبي لما قدم المدينة أصاب أهلها نوع سوء ؛ فقالت اليهود : ما رأينا أشأم
____________________

( ^ وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ( 75 ) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ( 76 ) ألم تر ) * * * * من هذا الرجل ؛ منذ دخل ديارنا ، قد غلت أسعارنا ، ونقصت ثمارنا ؛ وذلك بلية للمسلمين ، وهذا نحو ما قالوا لصالح عليه السلام ( ^ اطيرنا بك وبمن معك ) وفي قصة موسى : ( ^ يطيروا بموسى ومن معه ) وفي سورة ' يس ' : ( ^ إنا تطيرنا بكم ) .
( ^ قل كل من عند الله ) أي : الخصب ، والجدب ، والنصر ، والهزيمة ، كل من عند الله ، ( ^ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) أي : ما لهم لا يعلمون حديثا . والحديث : القرآن هاهنا ، أي : لا يعلمون معاني القرآن . < < النساء : ( 79 ) ما أصابك من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ما أصابك من حسنة فمن الله ) يعني : ما أصابك من خصب ، فمن فضل الله ، ( ^ وما أصابك من سيئة ) أي : من جدب ( ^ فمن نفسك ) أي : بذنبك .
والخطاب وإن كان مع الرسول ، فالمراد به : الأمة ؛ وذلك معنى قوله - تعالى - : ( ^ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) قيل معناه : وما أصابك من حسنة أيها الإنسان فمن الله ، وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك ؛ فيكون الخطاب مع كل أحد من الناس ، وقيل : معناه ( ^ ما أصابك من حسنة ) أي : من النصر ، والظفر فمن فضل الله ( ^ وما أصابك من سيئة ) أي : من هزيمة ، وقتل يوم أحد ( ^ فمن نفسك ) أي : بذنب نفسك من مخالفة النبي كما سبق .
فإن قيل : كيف وجه الجمع بين الآيتين ، فإنه قد قال - في الآية الأولى - : ( ^ قل كل من عند الله ) قيل : معنى الآية الأولى : أن الخصب والجدب والنصر والهزيمة
____________________

( ^ إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا ) * * * * كلها تقع من عند الله ، ومعنى الآية الثانية ( ^ وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) أي : ما أصابك من سيئة من الله ، فبذنب نفسك ؛ عقوبة لك .
واعلم أنه ليس في الآية متعلق لأهل القدر أصلا ؛ فإن الآية فيما يصيب الناس من النعم والمحن ، لا في الطاعات والمعاصي ؛ إذ لو كان المراد ما توهموا ، لقال : ما أصبت من حسنة ، فمن الله وما أصبت من سيئة ؛ فلما قال : ما أصابك من حسنة وما أصابك من سيئة ؛ دل أنه أراد : ما يصيب العباد من النعم والمحن ، لا في الطاعات والمعاصي ، وحكى عبد الوهاب بن مجاهد ، عن مجاهد ، أن ابن عباس قرأ : ' وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك ' وكذا حكى عن ابن مسعود أنه قرأ كذلك ، وهو معروف عن ابن عباس ، وهو يؤيد قولنا : إن المراد : بذنب نفسك .
وفي الآية قول آخر : مضمر فيه ، وتقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؛ يقولون : ما أصابك من حسنة ، فمن الله ، وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك فيكون حكاية لقول الكفار ( ^ وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) . < < النساء : ( 80 ) من يطع الرسول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من يطع الرسول فقد أطاع الله ) روى : ' أن النبي قال : ' من أطاعني فقد أطاع الله تعالى ومن أحبني فقد أحب الله ، فقالت اليهود : إن هذا الرجل يريد أن نتخذه ربا وحنانا ، كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية على وفاق قول الرسول ' ( ^ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) أي : كل أمره إلى . < < النساء : ( 81 ) ويقولون طاعة فإذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقولون طاعة ) يعني : المنافقين يقولون باللسان : مرنا ، فإن أمرك طاعة ( ^ فإذا برزوا ) أي : خرجوا ( ^ من عندك بيت طائفة منهم غير الذي
____________________

( ^ أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ( 77 ) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من ) * * * * ( ^ تقول ) قال أبو رزين : بيت أي : ألف . وقال غيره : بيت ، أي : بدل ؛ والأصح أنه من التبييت ، وهو فعل الشيء ليلا ، يقال : هذا أمر بيت ليلا ، قيل : أي : فعل بالليل ، ويجوز أن يقال لما فعل بالنهار : تبييتا ؛ لأن الفعل بالليل إنما سمى تبييتا ؛ لأن الإنسان بالليل يكون أفرغ لتدبير أمره ، فعلى هذا المعنى يجوز أن يقال لما فعل بالنهار : تبييتا ، قال الشاعر :
( بيتوا أمرهم بليل فلما ** أصبحوا أصبحوا على ضوضاء )
ومعنى ( ^ بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) أي : خالفوا بالليل ما قالوا بالنهار ( ^ والله يكتب ما يبيتون ) أي : يحصى ويحفظ ؛ ليجازى عليه ، وقيل : يأمر الكتبة حتى يكتبوا ( فأعرض عنهم ) قال الضحاك : معناه : لا تخبر بأسمائهم ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يعرف المنافقين ، وما كان يخبر بأسمائهم ( ^ وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) أي : اتخذه وكيلا . < < النساء : ( 82 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أفلا يتدبرون القرآن ) التدبر : النظر في الأمر إلى آخره ، وهو من دبر الشيء : آخره ، وفي الخبر : ' من أشراط الساعة : ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ' أي : آخرا ومنه قوله : ' لا تدابروا ' أي : لا يول بعضكم ظهره إلى بعض عداوة .
____________________

( ^ عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ( 78 ) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) * * * * فقوله ( ^ أفلا يتدبرون القرآن ) أي : أفلا يتفكرون في القرآن ( ^ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) قال ابن عباس : ليس في القرآن تناقض ولا تفاوت ؛ فهذا معنى الآية .
وقال الزجاج : ما أخبر عن الغيب فكله صدق ، ليس بعضه صدقا ، وبعضه كذبا ، وقيل : معناه : أن كله بليغ صحيح ، ليس فيه مرذول ولا فاسد . < < النساء : ( 83 ) وإذا جاءهم أمر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ) يعني : المنافقين إذا جاءهم أمر وخبر من أمر السرايا الذين بعثهم رسول الله ، فإن كان بالأمن والنصر ، كتموا ، وقصروا في الأخبار ، وإن كان بالخوف والهزيمة أذاعوا به ، وزادوا .
وفي الآية إضمار ، وتقديرها : وإذا جاءهم أمر من الأمن قصروا في الإخبار به ، وكتموا ، [ وإذا ] جاءهم أمر من الخوف أذاعوا به ( ^ ولو روده إلى الرسول ) قيل أراد بقوله : ( ^ ولو ردوه ) يعني : ضعفة المسلمين الذين سمعوا تلك الأخبار من المنافقين قالوا مثل قولهم ؛ فقال الله تعالى : ( ^ ولو ردوه إلى الرسول ) ويحتمل أن يكون المراد به في الكلام المؤمنين والمنافقين ، لو ردوه إلى الرسول .
( ^ وإلى أولي الأمر منهم ) يعني : إلى أمراء السرايا ( ^ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) يعني : لو طلبوا تلك الأخبار من عند أمراء السرايا ، ووكلوا الإخبار بها إليهم ؛ لعلمه الذين يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو ، والاستنباط : هو استخراج العلم ومنه النبط ، وهم قوم يستخرجون الماء ، وقيل : أراد به العلماء يعني : ولو ردوه إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر منهم لعلم الذين يستنبطونه منهم ما ينبغي أن
____________________

( ^ وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ( 79 ) من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ( 80 ) ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير ) * * * * يكتم ، ويعلمون ما ينبغي أن يفشي ، يعني : العلماء .
( ^ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) فإن قال قائل : كيف استثنى القليل ، ولولا فضله لاتبع الكل الشيطان ؟ قيل : اختلفوا فيه ، قال الفراء : هذا الاستثناء راجع إلى قوله : ( ^ أذاعوا به ) إلا قليلا ، وقوله : ( ^ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان ) ، كلام تام ، وقيل : هو راجع إلى قوله : ( ^ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ثم قال : ( ^ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان ) وقيل : هو على نظمه ، ومعناه : ولولا ما تفضل الله عليكم به من البيان لما ينبغي أن يفعل وما ينبغي أن يجتنب ( ^ لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) .
وفيه قول رابع : أنه أراد بالقليل : قوما اهتدوا بالحق قبل بعث الرسول ، وإنزال القرآن ، وأقروا بالتوحيد ، وذلك مثل : زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة ، وقد قال في زيد بن عمرو بن نفيل : ' إنه يبعث أمة على حدة ' . < < النساء : ( 84 ) فقاتل في سبيل . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ فقاتل في سبيل الله ) كذا يتصل بما سبق من قوله : ( ^ وما لكم لا تقاتلون ) لما عاتبهم على ترك القتال ، قال للرسول : إن لم يقاتل هؤلاء ، فقاتل أنت وحدك ( ^ لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ) يعني : عذاب الذين كفروا ، وعسى من الله واجب ، والمراد به : تطميع المؤمنين ، ( ^ والله أشد بأسا ) أي : أشد عذابا ( ^ وأشد تنكيلا ) التنكيل من النكل ، وهو المنع ، ومنه النكال : وهو ما يفعل بالإنسان ، فيمنع غيره عن فعله . < < النساء : ( 85 ) من يشفع شفاعة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع )
____________________

( ^ الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 81 ) أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( 82 ) وإذا جاءهم ) * * * * ( ^ شفاعة سيئة يكن له كفل منها ) قال ابن عباس : الشفاعة الحسنة : هي الإصلاح بين الناس ، والشفاعة السيئة : هي المشي بالنميمة بين الناس ، وقيل : هو في كل الشفاعات ، فالشفاعة الحسنة : هي أن يقول قولا حسنا ؛ ينال به الخير ، والشفاعة السيئة : هي أن يقول قولا قبيحا ؛ يلحق به سوء .
قوله : ( ^ يكن له نصيب منها ) أي : من أجرها ، وقوله : ( ^ يكن له كفل منها ) أي : من وزرها ، والكفل : النصيب ، قال الله تعالى : ( ^ يؤتكم كفلين من رحمته ) أي نصيبين .
واعلم أن الإنسان يؤجر على الشفاعة ، وإن لم يشفع ؛ لأن الله تعالى يقول : ( ^ من يشفع ) ، ولم يقل : من يشفع ، وقد روى أبو موسى الأشعري عن رسول الله أنه قال : ' اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ' .
واعلم أن الشفاعة مستحبة في كل الحقوق إلا في حدود الله تعالى ؛ فإنه لا يجوز فيها الشفاعة ليترك الحد ، وقد قال : ' من شفع في حد من حدود من الله تعالى فقد ضاد الله في ملكه ' أي : نازعه في ملكه .
( ^ وكان الله على كل شيء مقيتا ) قال ابن عباس : المقيت : المقتدر ، قال الشاعر :
( وذي ضغن كففت النفس عنه ** وكنت على مساءته مقيتا )
والقول الثاني عن ابن عباس : المقيت : الحافظ ، وفي الخبر : ' كفى بالمرء إثما أن
____________________

( ^ أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ( 83 ) فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفرا والله ) * * * * يضيع من يقوته ' أي : من قوته ، وفي رواية : ' من يقيت ' أي : من في حفظه ، وفيه قول ثالث : أن الله تعالى على كل حيوان مقيت ، أي : يوصل القوت إليه ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وكان الله على كل شيء ) أي : حيوان ( ^ مقيتا ) . < < النساء : ( 86 ) وإذا حييتم بتحية . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا حييتم بتحية ) أكثر المفسرين على أن المراد بالتحية هاهنا : السلام ، وأصل التحية : هو دعاء بالحياة ، وهو في الشريعة عبارة عن السلام ، والسلام : دعاء السلامة ، وقد تكون التحية بمعنى : الملك والبقاء ، ومنه : التحيات لله ، وقال الشاعر :
( ولكل ما نال الفتى ** قد نلته إلا التحية )
يعني : إلا الملك ، وعلى معنى السلام أنشدوا قول الشاعر :
( إنا محيوك يا سلمى فحيينا ** وإن سقيت كرام الناس فاسقينا )
( ^ فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) أراد به : رد السلام بأحسن مما سلم ، أو ترد كما سلم ، فإذا قال : السلام عليك ، فالمستحب أن تقول : وعليك السلام ورحمة الله ، وإذا قال : السلام عليك ورحمة الله ، تقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وهو الأحسن .
وفي الخبر : ' أن رجلا جاء ، فسلم على النبي ، فقال : وعليكم السلام ورحمة الله ، فدخل آخر وقال : السلام عليك ورحمة الله ، فقال : وعليكم السلام ورحمة الله
____________________


( ^ أشد بأسا وأشد تنكيلا ( 84 ) من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة ) * * * * وبركاته ، فدخل ثالث ، وقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليكم ؛ فقيل له في ذلك ، فقال - عليه السلام - إن الأول والثاني تركا من التحية شيئا ؛ فأجبت بأحسن ، وإن الثالث لم يترك من التحية شيئا فرددت عليه ' .
واعلم أن السلام ، سنة ورد السلام فريضة ، لكنه فرض على الكفاية ، حتى إذا سلم على جماعة فرد أحدهم ؛ سقط الفرض عن الباقين ، وكذلك السلام سنة على الكفاية ، حتى إذا كانت جماعة ، فسلم أحدهم كفى في السنة . وروى الحسن مرسلا عن النبي أنه قال : ' السلام سنة ورده فريضة ' .
وقال بعض المفسرين : أراد بالتحية : الهبات والهدايا ، وقوله : ( ^ فحيوا بأحسن منها ) أراد به : الثواب على الهدية ، وهو سنة ، ' وكان عليه السلام يقبل الهدية ، ويثيب عليها ' ، والأصح هو القول الأول .
( ^ إن الله كان على شئ حسيبا ) أي : محاسبا ، وقيل كافيا ، ومنه قوله تعالى : ( ^ جزاء من ربك عطاء حسابا ) أي : كافيا .
____________________

( ^ سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا ( 85 ) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا ( 86 ) الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم ) * * * * < < النساء : ( 87 ) الله لا إله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) ' اللام ' لام القسم ، وتقديره : والله ليجمعنكم الله إلى يوم القيامة ، واختلفوا : أنه فيم يجمعهم ؟ قال بعضهم : يجمعهم في الإهلاك والموت إلى القيامة ، وقال بعضهم : يجمعهم في القبور إلى القيامة .
واختلفوا : لم سميت القيامة قيامة ؟ قال بعضهم : لأن الناس يقومون فيها إلى رب العالمين ، كما قال الله تعالي : ( ^ يوم يقوم الناس لرب العالمين ) وقيل : إن الناس يقومون فيها إلى الحساب . ( ^ ومن أصدق من الله حديثا ) أي : قولا وخبرا . < < النساء : ( 88 ) فما لكم في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فما لكم في المنافقين فئتين ) اختلفوا في سبب نزول الآية على ثلاثة أقوال : قال زيد بن ثابت : هذا في الذين تخلفوا عن رسول الله يوم أحد ، فقال بعض الصحابة لرسول الله : اعف عنهم ؛ فإنهم تكلموا بالإسلام . وقال بعضهم : اقتلهم ؛ فإنهم منافقون ؛ فنزلت الآية ( ^ فما لكم في المنافقين فئتين ) ' أي : ما لكم افترقتم فيهم فرقتين ؟ عتب عليهم بالاختلاف بينهم ، وحكم بنفاقهم .
وقال مجاهد : الآية في جماعة من أهل مكة هاجروا إلى المدينة ، وأسلموا ، ثم استأذنوا رسول الله في الرجوع إلى مكة ، بعلة أن لهم بها بضائع ؛ فرجعوا ، وارتدوا فقال بعض أصحابه : هم مسلمون ؛ لأنهم تكلموا بالإسلام ، وقال بعضهم : هم قد نافقوا ؛ فنزل قوله تعالى : ( ^ فما لكم في المنافقين فئتين ) وحكى مجاهد هذا عن ابن عباس .
والقول الثالث وهو الرواية الثانية عن ابن عباس : أن الآية في قوم من المشركين أسلموا بمكة ، وكانوا يعاونون المشركين ، ويظاهرونهم ؛ فاختلف الصحابة فيهم
____________________

( ^ القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ( 87 ) فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ( 88 ) ) * * * * فرقتين ؛ فنزل قوله - تعالى - : ( ^ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ) أركسهم وركسهم بمعنى واحد .
وقرأ ابن مسعود ( ^ والله ركسهم ) قال الزجاج : معناه : نكسهم ، وقال النضر بن شميل : معناه : أعادهم ، يعنى : إلى الكفر بما كسبوا ، ومنه : الركس ؛ لأنه كان طعاما فصار رجيعا .
( ^ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ) يعنى : أتريدون أن ترشدوا من أضله الله ( ^ ومن يضلل الله ) يعنى : ومن يضلله ( ^ فلن تجد له سبيلا ) أي : طريقا إلى الحق . < < النساء : ( 89 ) ودوا لو تكفرون . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ ودوا لو تكفرون كما كفروا ) يعنى : الذين عادوا إلى الكفر ودوا أن تعودوا إلى الكفر ( ^ فتكونون سواء ) يعنى : في الكفر .
( ^ فلا تتخذوا منهم أولياء ) منعهم من الموالاة معهم ( ^ حتى يهاجروا في سبيل الله ) أي : حتى يسلموا ( ^ فإن تولوا ) يعنى : في الكفر ( ^ فخذوهم ) أي : فأسروهم ، والأخذ هاهنا : الأسر ، ويقال للأسير : أخيذ ( ^ واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) . < < النساء : ( 90 ) إلا الذين يصلون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) قال أبو عبيده : معناه إلا الذين ينتسبون إلى قوم ، وأنشد فيه قول الشاعر :
( إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل ** وبكر سباها والأنوف رواغم )
يعنى : إذا انتسبت تلك القبيلة .
وأنكر أهل المعاني هذا على أبى عبيده ، وقالوا : هذا لا يستقيم في معنى هذا الاستثناء المنع من القتل ، وما كان المنع لأجل النسبة ، فإن النبي كان يقاتل المشركين من قريش ، وإن كانوا من نسبه ، بل معنى قوله : ( ^ إلا الذين يصلون ) أي :
____________________

( ^ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ( 89 ) ) * * * * يخالطون ، ويتصلون بقوم كان بينهم وبين النبي موادعة وعهد .
وذلك هلال بن عويمر الأسلمي ، وقومه ، وكان الله - تعالى - منع من قتل أولئك ممن اتصل بهم ، وفي ذمامهم ( ^ أو جاءوكم ) أو يصلون بقوم جاءوكم للمعاهدة والموادعة ، ( ^ حصرت صدورهم ) ضاقت ، فضاقت صدورهم من القتال معكم ، ومن معاونتكم على القتال مع قومهم ؛ لأجل الرعب الذي ألقى الله - تعالى - في قلوبهم ، وقرأ الحسن - وهو قراءة يعقوب وسهل - ' حصرة صدورهم ' على الحال ، أي : ضيقة صدورهم ، قال المبرد : حصرت صدورهم على سبيل الدعاء ، كقوله : ( ^ قاتلهم الله ) كأن الله - تعالى - يقول : ( ^ حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ) على سبيل الدعاء .
( ^ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ) معنى هذا : أن الله - تعالى - هو الذي ألقى الرعب في قلوبهم ، وكفهم عن قتالكم ، حتى جاءوا معاهدين ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم ( ^ فلقاتلوكم ) ؛ فإذا لا تقاتلوهم ومن اتصل بهم ( ^ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم ) يعنى : الصلح فانقادوا ، واستسلموا ( ^ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) أي : طريقا عليهم بالقتل والقتال . < < النساء : ( 91 ) ستجدون آخرين يريدون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ) قال ابن عباس : أراد به : أسد وغطفان ، جاءوا إلى النبي وأسلموا ؛ فلما رجعوا إلى قومهم قالوا : إنا آمنا بالعقرب والخنفساء ورجعوا إلى الكفر .
وقال قتادة : أراد به : سراقة بن مالك بن جعشم ، لما جاء إلى النبي ، وقال : أنا منكم ، ثم رجع إلى قومه ، فقال أنا منكم .
____________________

( ^ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا ) * * * *
( ^ يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ) أي : يريدون أن يأمنوا منكم ، ومن قومهم . ( ^ كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ) أي كلما دعوا إلى الشرك دخلوا فيه .
( ^ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ) يعني : القيادة والاستسلام ( ^ ويكفوا أيديهم فخذوهم ) أي : فأسروهم ( ^ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) وجدتموهم ، ( ^ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) حجة بينة بالقتل والقتال . < < النساء : ( 92 ) وما كان لمؤمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) سبب نزول الآية : ما روى أن عياش بن أبي ربيعة قتل الحارث بن يزيد ، وكان الحارث يؤذي عياشا في الجاهلية ، حتى أسلم عياش ؛ فنذر أن يقتله متى ظفر به ، فظفر بالحارث وقد أسلم الحارث ، ولم يعلم هو بإسلامه ، فنزلت الآية : ( ^ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ) وهذا نهى عن قتل المؤمن على الإطلاق ، وقوله : ( ^ إلا خطأ ) استثناء منقطع ، ومعناه : لكن إن وقع خطأ . وقال بعضهم : ' إلا ' بمعنى ' ولا ' يعنى : ولا خطأ ، ولا يعرف في كلام العرب ' إلا ' بمعنى ' ولا ' ؛ ولأنه يقتضي النهي عن قتل الخطأ ، والخطأ لا يدخل تحت النهي والأمر ، والأول أصح ، ثم ذكر حكم القتل الخطأ ، فقال : ( ^ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) أي : فاعتقوا رقبة مؤمنة ، ثم اختلف العلماء ، فقال الحسن ، والشعبي ، والنخعي : أراد به : رقبة بالغة ولا تجزئ الرقبة الصغيرة ، وإن كانت مؤمنة ، وقال عطاء وهو الذي أخذ به الفقهاء : إنه تجزئ الصغيرة .
( ^ ودية مسلمة إلى أهله ) يعني : سلموا الدية إلى أهله ، وظاهر الآية يقتضي أن تكون الدية قي قتل الخطأ في مال القاتل ، كالكفارة ، لكن عرفنا بالسنة أن الكفارة في مال القاتل والدية على العاقلة .
وقوله : ( ^ إلا أن يصدقوا ) يعني : أن يتصدقوا ، وقرأ أبي بن كعب كذلك ، ومعنى التصدق : العفو عن الدية ( ^ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة )
____________________

( ^ إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ( 90 ) ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ) * * * * ( ^ مؤمنة ) أكثر المفسرين وهو قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد وجماعة : أن المراد به : وإن كان من [ نسب ] قوم عدو لكم وهو مؤمن ، ومعناه المؤمن يكون في دار الإسلام ، وقرابته في دار الحرب ، فيقتل خطأ ، قالواجب بقتله الكفارة ، ولا دية ؛ لأنها إذا سلمت إلى قرابته يقووا بها على المسلمين ، والأصح والذي عرفه الفقهاء أن المراد به : المؤمن الذي أسلم في دار الحرب ، فيقتله من لم يعلم إسلامه ، فالواجب فيه الكفارة ، دون الدية .
( ^ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ) هذا في أهل الذمة والمعاهدين ( ^ فدية مسلمة إلى أهله ) يعني : على القدر الذي اختلف فيه ( ^ وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله ) يعني : ليتوبوا إلى الله ( ^ وكان الله عليما حكيما ) . < < النساء : ( 93 ) ومن يقتل مؤمنا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) نزلت الآية في مقيس بن ضبابة الليثي ، أسلم وأخوه هشام ، ثم وجد أخاه مقتولا في بني النجار ؛ فجاء إلى النبي في ذلك ، فبعث معه رجلا فهربا إلى بني النجار ، وأمرهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه ، أو يسلموا الدية ، فجاءا إليهم ، وبلغا الرسالة فقالوا : سمعا وطاعة لرسول الله ، والله ما نعرف القاتل ، وساقوا الدية إليه مائة من الإبل ؛ فلما رجعا أقبل مقيس وقتل الفهري ، واستاق الإبل ، ولحق بمكة وارتد ، وقال الشعر :
( قتلت به فهرا وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارع )
( فأدركت ثأري واضطجعت موسرا ** وكنت إلى الأوثان أول راجع )
فنزلت الآية فيه ، وهو الذي أمر النبي بقتله ؛ فجاء الجماعة الذين عينهم
____________________

( ^ ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ( 91 ) وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية ) * * * * للقتل يوم فتح مكة ؛ فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة فقوله : ( ^ ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) فالقتل المتعمد عند أكثر العلماء : هو الذي يحصل بكل ما يقصد به القتل ، وقال سعيد بن المسيب ، وطاوس : القتل العمد لا يكون إلا بالحديد ( ^ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ) أي : طرده عن الرحمة ( ^ وأعد له عذابا عظيما ) وقال ابن عباس : الآية مدنية لم ينسخها شئ ؛ فكان يقول : ليس لقاتل المؤمن توبة ، وسئل عن توبته ؛ فقال : أنى تكون له التوبة ، فقيل له : أليس قد قال الله تعالى : ( ^ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب ) فقال ابن عباس : تلك آية مكية ، وهذه آية مدنية لم تنسخ بشيء حتى قبض رسول الله .
وقال زيد بن ثابت : الشديدة بعد الهينة بستة أشهر ، يعني بالهينة آية الفرقان ، وبالشديدة هذه الآية .
وروى حميد ، عن أنس ، عن النبي أنه قال : ' أبى الله تعالى أن يكون لقاتل المؤمن توبة ' وفي الخبر عن النبي : ' لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ' .
والأصح ، والذي عليه الأكثرون وهو مذهب أهل السنة : أن لقاتل المؤمن عمدا توبة ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ^ وإني لغفار لمن تاب وآمن ) وقوله : ( ^ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ولأن القتل العمد ليس بأشد من الكفر ، ومن
____________________

( ^ مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد ) * * * * الكفر توبة ؛ فمن القتل أولى ، وأما الذي روى عن ابن عباس ، فعلى سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل ، وهو مثل ما روى عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، منعا له عن القتل ، وإن قتل يقال له : لك توبة ، حتى يتوب . وروى أن رجلا جاء إلى ابن عباس وسأله : هل لقاتل المؤمن توبة ، قال : لا ، فجاءه آخر ، وسأله عن ذلك ، فقال : نعم ، له توبة ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن الأول لم يكن قتل ؛ فمنعته عن القتل ، وإن الثاني ؛ قتل ؛ فأرشدته إلى التوبة .
واعلم أن لا متعلق في هذه الآية لمن يقول بالتخليد في النار لأهل الكبائر من المسلمين ؛ لأنا إن نظرنا إلى سبب نزول الآية ، فالآية نزلت في قاتل كافر كما بينا ، وقيل : إنه فيمن يقتل مستحلا ، والأولى أن تقول فيه ما قاله أبو صالح : إن معنى قوله : ( ^ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) إن جازى ، وبه نقول : إن الله تعالى إن جازاه ذلك خالدا ، فهو جزاؤه ، ولكنه ربما لا يجازي ، وقد وعد أن لا يجازى ويغفر لمن يشاء ، وهو لا يخلف الميعاد ، وحكى عن قريش بن أنس رحمه الله أنه قال : كنت في مجلس فيه عمرو بن عبيد ، فقال : لو قال الله لي يوم القيامة : لم قلت بتخليد القاتل المتعمد في النار ؟ فأقول له : أنت الذي قلت : ( ^ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) قال قريش : وكنت أصغر القوم ، فقلت له : أرأيت لو قال الله تعالى لك : ألست قلت ( ^ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فمن أين علمت أنى لم أشأ مغفرة القاتل ؟ فسكت ولم يستطع الجواب .
وحكى أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء رحمه الله وقال له : هل يخلف الله وعده ؟ فقال : لا ، فقال : أليس قد قال الله تعالى : ( ^ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) فأنا على هذا ؛ لأنه لا يخلف وعده ، فقال أبو عمرو : ومن العجمة أتيت يا أبا عثمان ؛ إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا
____________________

( ^ فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ( 92 ) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( 93 ) يا أيها الذين ) * * * * وذما ، وإنما ذلك في الخلف في الوعد ، وأنشد له قول القائل فيه :
( إني إذا أوعدته وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي )
فقد تمدح بالخلف في الوعيد ، وقال آخر :
( وإذا وعد السراء أنجز وعده ** وإن وعد الضراء فالعفو مانعه )
فالله تعالى يجوز أن يخلف في الوعيد ، وإنما لا يخلف الميعاد . < < النساء : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) أي : سافرتم في سبيل الله ، يعني : الغزو ( ^ فتبينوا ) ويقرأ : ' فتثبتوا ' ومعناهما : ترك العجلة .
وفي الخبر : ' التأني من الله ، والعجلة من الشيطان ' ( ^ فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) يقرأ ' إليكم السلام ' ويقرأ ' إليكم السلم ' ، فالسلام : هو التسليم المعهود ، والسلم : المقادة والاستسلام ، والسلم : الصلح ، وقرأ أبو جعفر المدني يزيد بن القعقاع : ' لست مؤمنا ' من الأمان ( ^ تبتغون عرض الحياة الدنيا ) يعني : تبتغون الدنيا ، وفي الآثار : ' الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق ، يقضي فيها ملك قادر ' .
____________________

( ! ( آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله ) ! فعند الله مغانم كثيرة ) أي : غنائم كثيرة . ( ^ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) أي : تفضل الله عليكم ، وفيه قولان : قال سعيد بن جبير : معناه كذلك كنتم من قبل تكتمون الإيمان ، فمن الله عليكم ، وفيه قولان بالإظهار ، وقال قتادة : معناه : كذلك كنتم من قبل ضلالا ، فمن الله عليكم بالهداية ( ^ فتبينوا ) إعادة تأكيد ( ^ إن الله كان بما تعملون خبيرا ) وسبب نزول الآية ما روى : ' أن النبي بعث سرية ، فلقوا رجلا يقال له : مرداس بن عمرو من فدك ، له غنيمات ، فانحاز بها إلى الجبل لما أحس بالسرية ، ثم تقدم إليهم ، فقال : السلام عليكم أنا مؤمن ، فبادر إليه أسامة بن زيد وهو يقول : لا إله إلا الله ، وقتله ، وأخذ سلبه ، والغنيمات التي له ، فلما رجعوا إلى النبي قال لأسامة : أقتلت رجلا يقول : لا إله إلا الله ، فقال : إنه إنما أسلم متعوذا ، وقال : إنما أسلم ، ليحرز نفسه وماله ، فقال عليه الصلاة والسلام : هلا شققت عن قلبه ؟ فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله ، فقال كيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ فقال : استغفر لي يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : كيف بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ هكذا حتى أعاده ثلاثا - فنزلت الآية فيه . ( ^ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ) ' ولأن ذلك الرجل كان قد سلم عليهم ، وأسلم لهم ( ^ لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ) يعنى : تبتغون بقتله غنيمات كانت له .
وفي رواية أن النبي استغفر لأسامة ، وأمره بإعتاق رقبة وكان أسامة من علية الصحابة ، وعاش إلى زمان على - رضى الله عنه - فدعاه على إلى المقاتلة معه في الحروب ، فقال لعلى : أنت أعز على من كل أحد ، ولو قاتلت المسلمين مع أحد لقاتلت معك ، ولكني منذ سمعت رسول الله قال لي : كيف بلا إله إلا الله يوم القيامة ، امتنعت من القتال ، فإن أعطيتني سيفا يميز المسلم من الكافر حتى أقاتل فتركه على .
____________________

( ^ كان بما تعملون خبيرا ( 94 ) لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على ) * * * *
وكان ممن اعتزل الفريقين هو وسعد بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين .
وقيل : إن قاتل صاحب الغنيمات ، كان المقداد بن عمرو الكندي - هو ابن الأسود - هذا هو القول المعروف في سبب نزول الآية ، وفي الآية قول آخر : ' أنها نزلت في محلم بن جثامة الليثي ، قتل رجلا وهو يقول : لا إله إلا الله ، ثم جاء إلى النبي ، وقال : يا رسول الله ، استغفر لي ، فقال : لا غفر الله لك ، فقام يبكي ، وانصرف ، فلما مات دفن في الأرض ، فلفظته الأرض ، ثم دفن فلفظته الأرض ، ثم دفن فلفظته الأرض - هكذا ثلاثا - فأمر النبي حتى ألقي عليه الحجارة ، قال : إن الأرض لتنطبق على من هو شر منه - يعنى من محلم - ، ولكن الله - تعالى - أراد أن يريكم الآية ' . < < النساء : ( 95 ) لا يستوي القاعدون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر ) اعلم أن الذي نزل في الابتداء من هذه الآية قوله : ' لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ' قال زيد بن ثابت : ' كان النبي يملى على هذه الآية ، وفخذه على فخذي ، فدخل عبد الله بن أم مكتوم ، وقال يا رسول الله ، أنا رجل ضرير ، ولو استطعت أن أقاتل لقاتلت معك ؛ فتغشى رسول الله الوحي ؛ فثقل فخذه على فخذي حتى كاد يرضه ؛ فلما سرى عنه ، قال لي : اكتب ( ^ غير أولى الضرر ) فنزل هذا القدر في ابن أم مكتوم ، وكان ضريرا من أولى الضرر ، وقوله :
____________________

( ^ القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ( 95 ) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ( 96 ) إن الذين توفاهم الملائكة ) * * * *
( ^ غير أولي الضرر ) يقرأ على وجوه : ' غير ' - برفع الراء - وتقديره : لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر ، ويقرأ : بفتح الراء ، على الاستثناء ، يعنى : إلا أولي الضرر ، وقيل : هو نصب على الحال ، يعنى : في حال الصحة ، وانتفاء الضرر ، كأنه قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين أصحاء ، وهذا أشهر القراءتين ، وكذلك قرأ النبي ' غير أولي الضرر ' - بكسر الراء يعنى - ، من المؤمنين غير أولي الضرر ، ( ^ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) أراد بالقاعدين هاهنا : أولى الضرر ، فضل المجاهدين عليهم بدرجة ؛ لأن المجاهدين باشروا الجهاد مع النية ، وأولوا الضرر كانت لهم نية الجهاد ، ولكن لم يباشروا ؛ فنزلوا عنهم بدرجة ( ^ وكلا وعد الله الحسنى ) يعنى : الجنة ( ^ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) وأراد بالقاعدين هنا : غير أولي الضرر ، فضل الله المجاهدين عليهم أجرا عظيما < < النساء : ( 96 ) درجات منه ومغفرة . . . . . > > ( ^ درجات منه ومغفرة ورحمة ) قال ابن محيريز : هي سبعون درجة ، ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة ، وفي الخبر ' في الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ' ، وقيل : أراد بالدرجات : الإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، والشهادة في الجهاد ، وفاز بتلك الدرجات المجاهدون ( ^ وكان الله غفورا رحيما ) . < < النساء : ( 97 ) إن الذين توفاهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين توفاهم الملائكة ) قرأ عيسى بن عمر النحوي : ' تتوفاهم ' - بالتائين - والمعروف ' توفاهم ' وأصله : تتوفاهم ، فأدغمت إحدى التائين تخفيفا ، على القراءة المشهورة ، فإن قال قائل : لم قال : تتوفاهم الملائكة والمتوفى ملك واحد ، كما قال : ( ^ قل يتوفاكم ملك الموت ) ؟ قيل : ذكره بلفظ
____________________

( ^ ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ( 97 ) إلا المستضعفين من الرجال ) * * * *
الجمع ، والمراد به الواحد ، ومثله شائع في كلام العرب ، وقيل : إن لملك الموت أعوانا ، فلعله أراده مع أعوانه ؛ فلذلك ذكر بلفظ الجمع .
قال عكرمة والضحاك : الآية في قوم أسلموا بمكة قبل الهجرة ، فلما هاجر النبي إلى المدينة ، تخلفوا عن الهجرة ، فلما كان يوم بدر حملهم الكفار مع أنفسهم إلى بدر كرها ، فقتلوا بين الكفار .
وقوله ( ^ ظالمي أنفسهم ) يعنى : بالشرك ؛ فإنهم قتلوا مشركين ؛ إذ ما كان يقبل الإسلام بعد هجرة النبي إلا بالهجرة ، ثم أبيح ذلك بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ' لا هجرة بعد الفتح ' .
( ^ قالوا فيم كنتم ) يعنى : الملائكة قالوا لأولئك الذين أسلموا ولم يهاجروا : ( ^ فيم كنتم ) يعنى : في أي الفريقين كنتم ، في المسلمين أم المشركين ؟ وهذا سؤال توبيخ ، لا سؤال استعلام ( ^ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) يعنى : كنا بمكة مستضعفين بين المشركين ( ^ قالوا ) يعنى : الملائكة ( ^ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) يعنى : إلى المدينة ( ^ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) حكم لهم بالنار ؛ لأنهم ماتوا مشركين < < النساء : ( 98 ) إلا المستضعفين من . . . . . > > ( ^ إلا المستضعفين ) وهم أصحاب الأعذار ( ^ من الرجال والنساء والولدان ) منهم الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة .
قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة ، وهم الذين دعا لهم النبي في القنوت ، فقال : ' اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة ، وأشدد وطأتك على مضر ، هكذا كان يدعوا لهم
____________________

( ^ والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ( 98 ) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ( 99 ) ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا ) * * * * شهرا ، حتى نجوا ، وقدموا ؛ فترك ذلك الدعاء ، فقيل له في ذلك فقال : ألا ترونهم قد قدموا ' . ( ^ لا يستطيعون حيلة ) يعنى : للخروج ( ^ ولا يهتدون سبيلا ) أي : طريقا إلى المدينة < < النساء : ( 99 ) فأولئك عسى الله . . . . . > > ( ^ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) ' وعسى ' من الله واجب ؛ لأنه للإطماع ، والله - تعالى - إذا أطمع عبدا أوجب له وأوصله إليه .
( ^ وكان الله عفوا غفورا ) روى : أنه لما نزلت هذه الآية ، كتب بها أصحاب رسول الله إلى المستضعفين بمكة ، وكان فيهم شيخ كبير يقال له : جندع بن ضمرة ويقال له حبيب بن ضمرة فقال : لست من المستضعفين ، وأنا أعرف طريق المدينة ، وقال لبنيه : احملوني إلى المدينة ، فحملوه يأتون به ، فلما بلغ التنعيم ؛ أدركه الموت ، فبلغ ذلك أصحاب رسول الله فقالوا : لو وصل إلى المدينة لأتمم الله أجره ؛ فنزل قوله تعالى : ( ^ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) يعنى : تم أجره . < < النساء : ( 100 ) ومن يهاجر في . . . . . > >
وقوله : ( ^ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعه ) المراغم : المهاجر ، والمراغمة : المهاجرة ، المهاجر ، قال أبو عمر بن العلاء : وإنما سميت المهاجرة مراغمة ؛ لأنه من هاجر مراغم قومه وقرابته ، وقال الشاعر :
( كطود يلوذ بأركانه ** عزيز المراغم والمهرب )
وقال ابن عباس : مراغما ، أي : متحولا يتحول إليه ، وقال مجاهد : مراغما ، أي : متزحزحا ، وقوله : ( ^ وسعة ) قال ابن عباس : معناه : وسعة في الرزق ، قال قتادة :
____________________

( ^ وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( 100 ) وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من ) * * * * ومعناه : وسعة من الضلالة إلى الهدي .
( ^ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) قد ذكرنا أنه فيم نزل ( ^ وكان الله غفورا رحيما ) . < < النساء : ( 101 ) وإذا ضربتم في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم ( ^ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .
قصر الصلاة في السفر لا خلاف في جوازه في حال الخوف ، وأما في حال الأمن : قال سعد بن أبي وقاص : إنه لا يجوز ، وبه قال داود ، وأهل الظاهر ؛ تمسكا بظاهر القرآن ، وقال جمهور العلماء وهو قول أكثر الأمة - : إنه يجوز القصر في حال الأمن ؛ لما روى عن يعلي بن أمية أنه قال لعمر - رضي الله عنه - : ' ما بالنا نقصر ، وقد أمنا ، والله - تعالى - يقول في كتابه : ( ^ أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) قال عمر : عجبت مما تعجبت أنت ، فسألت النبي ، فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ' وروى ' أن رسول الله سافر من مكة إلى المدينة - لا يخاف إلا الله - وقصر الصلاة ' وكان - عليه السلام - يقصر الصلاة في جميع أسفاره ، ولم ينقل أنه أتم في سفر ما ؛ ولذلك قال الشافعي : القصر أولى ؛ وإن جاز الإتمام .
وروى عن جابر ، والحسن - وهو قول ابن عباس - : أن صلاة الحضر أربع ركعات ، وصلاة السفر ركعتان ، وصلاة الخوف ركعة ، وروى عن ابن عباس أنه قال : ' فرض الله - تعالى - الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربع ركعات ، وفي السفر ركعتين ، وفي
____________________

( ^ الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبنيا ( 101 ) وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا ) * * * * الخوف ركعة ' وأكثر الأمة على أن القصر في الخوف ركعتان ، مثل قصر السفر ، ثم اختلفوا في القصر على قولين : أنه إباحة ، أم واجب ، قال بعضهم : هو إباحة ، وهو اختيار الشافعي ، وهو أصح ؛ لقوله عز ذكره : ( ^ فليس عليكم جناح ) وهو مثل قوله : ( ^ فلا جناح عليهما أن يتراجعا ) .
وقال بعضهم : هو واجب . والخلاف بين السلف مشهور فيه .
وقوله : ( ^ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) أي : يقتلكم ، والفتنة بمعنى : القتل هاهنا ، وقرأ أبى بن كعب : ' أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا ' - من غير قوله : ( ^ إن خفتم ) - ويروى عن أبى أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله : ( ^ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) هذا القدر فحسب ، ثم مضى حول ، ولم ينزل شئ ؛ فسئل رسول الله عن صلاة الخوف ، ثم نزل قوله : ( ! ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) ! وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) فأشار إلى أنه راجع إلى صلاة الخوف ، لا إلى صلاة السفر . < < النساء : ( 102 ) وإذا كنت فيهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) بين في هذه الآية كيفية صلاة الخوف ، وأعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله على قول أكثر العلماء ، وقال بعضهم : صلاة الخوف لا تجوز لأحد بعده ، وهو قول أبى يوسف ؛ تمسكا بظاهر الآية ، قوله : ( ^ وإذا كنت فيهم ) فشرط كونه فيهم ، والأصح هو الأول . وقوله : ( ^ وإذا كنتم فيهم ) ليس على سبيل الشرط ، وإنما خرج الكلام على وفق الحال ، وقد ورد أن أصحاب رسول الله صلوا بعده صلاة الخوف .
____________________

( ! ( من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم ) ! فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ) وسبب نزول الآية : ما روى أبو عياش الزرقي : ' أن رسول الله نزل بعسفان ، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد ، فصلى النبي مع أصحابه صلاة الظهر ، فقال المشركون : قد وجدنا منهم غرة إن قصدناهم ، وحملنا عليهم ، فقال بعضهم : ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من أولادهم ، وأهاليهم - يعنون صلاة العصر - فنزل جبريل ، وأخبره بمقالتهم ، وأمر بصلاة الخوف ' .
وقد روى عن رسول الله صلاة الخوف بروايات شتى ، وأخذ الشافعي برواية صالح بن خوات بن جبير عن أبيه عن النبي : ' أنه صلى صلاة الخوف ، فجعل أصحابه فرقتين ، وصلى بإحدى الطائفتين ركعة ، فقاموا ، وأتموا ركعتين ، وذهبوا إلى وجه العدو ؛ وجاءت الطائفة الثانية والنبي ينتظرهم ، فصلى بهم الركعة الثانية وانتظرهم جالسا حتى قاموا وأتموا ركعتين ، ثم سلم بهم ' فهذا معنى قوله : ( ^ فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ) .
واختلفوا في أنهم متى يأخذون أسلحتهم ؟ قال بعضهم : يأخذونه في الصلاة ؛ ليكونوا أهيب في عين العدو ؛ فعلى هذا يأخذون من السلاح ما لا يمنعهم من الإتيان بأركان الصلاة ، وقال آخرون : يأخذون السلاح إذا ذهبوا إلى وجه العدو .
( ^ فإذا سجدوا ) يعنى : فإذا صلوا ( ^ فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم
____________________

( ^ إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ( 102 ) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا ) * * * * يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) والحذر : ما يتقى به للحذر من العدو ( ^ ود الذين كفروا لو تغفلون ) لو وجدوكم غافلين ( ^ عن أسلحتكم وأمتعتكم ) يعني : بالصلاة ( ^ فيميلون عليكم ميلة واحدة ) أي : فيحملون عليكم حملة واحدة .
( ^ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ) رخص لهم في وضع السلاح في حال المطر ، والمرض ؛ لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين . ( ^ وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) . < < النساء : ( 103 ) فإذا قضيتم الصلاة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإذا قضيتم الصلاة ) يعني : صلاة الخوف ، ( ^ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) يعني : الذكر بالتسبيح والتهليل ، والتحميد ، والتمجيد . ( ^ فإذا إطمأننتم ) يعني : فإذا سكنتم وأقمتم وأمنتم ( ^ فأقيموا الصلاة ) يعني على أركانها وهيئتها كما عرفتم ( ^ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) قال مجاهد : أي : فرضا مؤقتا يؤدى ( في ) أوقاته ، وقال زيد بن أسلم : أراد به : فرضا منجما يأتي نجم بعد نجم . < < النساء : ( 104 ) ولا تهنوا في . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ) سبب نزول الآية : ' أن الكفار يوم أحد لما انهزموا ، بعث النبي طائفة من أصحابه على إثرهم ، فشكوا ألم الجراحات ؛ فنزلت الآية ' ( ^ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) أي : لا تضعفوا في طلب القوم . ( ^ إن تكونوا تألمون ) أي : توجعون وتشكون الألم ، فإنهم يألمون ، أي : يوجعون ويشكون الألم كما تألمون ، قال الشاعر في معناه :
( قاتل القوم يا خزاع ولا يدخلنكم ** )
____________________

( ^ اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ( 103 ) ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان ) * * * *
( من قتالهم ، فشد القوم أمثالكم لهم ** شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلوا )
( ^ وترجون من الله ما لا يبرجون ) أي : وتأملون من الله مالا يأملون ، من الظفر في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، وقال الفراء والكسائي : الرجاء بمعنى الخوف ، وكل راج خائف ؛ لأنه يخاف ألا يدرك المأمول ، ومنه قوله تعالى : ( ^ ما لكم لا ترجون لله وقارا ) وأجمعوا على أن معناه : لا تخافون لله عظمة ، قال الشاعر :
( لا ترتجي إذا تلاقى الزائدا ** أسبعة تلقى معا أم واحدا )
( ^ وكان الله عليما حكيما ) < < النساء : ( 105 ) إنا أنزلنا إليك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) سبب نزول الآية : ما روى ' أن طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا ، فلما أتاهم به ألقاه في دار يهودي ، وقال : إنه سرق وفي رواية : أودعه عند يهودي فلما ظهر ، قال : إن اليهودي سرقه ؛ فجاء قومه إلى النبي وهم بنو ظفر بن الحارث ؛ ليدافعوا عنه ، وهم النبي بدفع السرقة عنه ، وقطع يد اليهودي ، وكان عند قومه أنه السارق ؛ فنزل قوله : ( ^ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) أي : لتحكم بالحق . ( ^ لتحكم بين الناس بما أراك الله ) أي : بما علمك ، وحكى عن ابن عباس أنه قال : إياك والرأي فإن
____________________

( ^ الله عليما حكيما ( 104 ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ( 105 ) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ( 106 ) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ( 107 ) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ) * * * * الله تعالى يقول : ( ^ بما أراك الله ) ولم يقل : بما رأيت ، ( ^ ولا تكن للخائنين خصيما ) يعني : طعمة من الخائنين ، فلا تكن مدافعا عنه < < النساء : ( 106 ) واستغفر الله إن . . . . . > > ( ^ واستغفر الله ) أمره بالاستغفار ؛ لأنه كان قد هم أن يدافع عنه ( ^ إن الله كان غفورا رحيما ) . < < النساء : ( 107 ) ولا تجادل عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) أي : يخونون أنفسهم والاختيان : افتعال من الخيانة ( ^ إن الله لا يحب ) قال أهل التفسير : معناه : إن الله لا يقرب ( ^ من كان خوانا أثيما ) الخوان : الخائن والأثيم : ذو الإثم . < < النساء : ( 108 ) يستخفون من الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم ) بشكوى بني ظفر بن الحارث ، معناه : يستترون من الناس ، ولا يستترون من الله ، وهو معهم ( ^ إذ يبيتون مالا يرضى من القول ) قد بينا أن التبييت : تدبير الفعل ليلا ؛ وذلك التبييت منهم أن قوم طعمة قالوا : ندفع أمره إلى النبي ؛ فإنه يسمع يمينه ، وقوله ؛ لأنه مسلم ، ولا يسمع من اليهودي ؛ لأنه كافر ، فلم يرض الله تعالى قولهم ( ^ وكان الله بما تعملون محيطا ) . < < النساء : ( 109 ) ها أنتم هؤلاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ها أنتم هؤلاء ) يعني : أنتم يا هؤلاء ، قال الزجاج : معناه : ها أنتم الذين ( ^ جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا ) أي : خاصمتم ، وأصل الجدال : الجدل ، وهو الفتل ، ويقال : شخص أجدل ، إذا كان وثيق الخلق ، ويقال للصقر : أجدل ؛ لأنه أقوى الطيور على الصيد .
( ^ فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ) يعني : من الذي يتولى أمرهم ، ويذب عنهم يوم القيامة ؟ < < النساء : ( 110 ) ومن يعمل سوءا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) عرض التوبة على طعمة وقومه في هذه الآية ، وأمرهم بالاستغفار .
____________________

( ( 108 ) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ( 109 ) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ( 110 ) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ( 111 ) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ( 112 ) ولولا فضل الله ) * * * * < < النساء : ( 111 ) ومن يكسب إثما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ) سبب هذا أن قومه قالوا له : تب إلى الله ، فحلف أنى ما سرقته ، وإنما سرقه اليهودي ؛ فذلك الذي يقول الله - تعالى - ومن كسبه الإثم ( ^ وكان الله عليما حكيما ) . < < النساء : ( 112 ) ومن يكسب خطيئة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن يكسب خطيئة أو إثما ) هو سرقته التي ذكرنا ، ( ^ ثم يرم به بريئا ) هو نسبته السرقة إلى اليهودي الذي كان بريئا عنها ( ^ فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ) فالبهتان : الكذب الذي يتحير منه الإنسان ، وهو البهت ، وأراد بالإثم المبين : اليمين الفاجرة . < < النساء : ( 113 ) ولولا فضل الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولولا فضل الله عليك ورحمته ) هذا خطاب للرسول ( ^ لهمت طائفة منهم أن يضلوك ) يعنى : قوم طعمه ، هموا أن يلبسوا عليك ؛ لتدافع عنه ( ^ وما يضلون إلا أنفسهم ) أي : يرجع وباله عليهم ( ^ وما يضرونك من شئ ) يعنى : ضرره عائد عليهم ، ولا يضرك ؛ لأنك معصوم ( ^ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) قيل : أراد به : وأنزل الله عليك الكتاب بالحكمة ، وقيل : أراد بالكتاب : القرآن ، وبالحكمة : السنة ( ^ وعلمك ما لم تكن تعلم ) يعنى : من أحكام القرآن ، وقيل : من علم الغيب ، وقيل : علمك قدرك ، ولم تكن تعلمه ( ^ وكان فضل الله عليك عظيما ) . < < النساء : ( 114 ) لا خير في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة ) . النجوى : السرائر في التدبير ، قال الزجاج : كل ما انفرد بتدبيره قوم يخوضون فيه ؛ فهو نجوى : سرا كان أو علانية ، وأراد هاهنا : نجوى قوم طعمه وتدبيرهم ، وقيل : هو في جميع الحوادث .
( ^ إلا من أمر بصدقة ) قيل : أراد به إلا نجوى من أمر بصدقة ، وقيل : هو استثناء منقطع ، يعنى : لكن من أمر بصدقة ( ^ أو معروف ) وهو كل ما عرفه الشرع ( ^ أو
____________________

( ^ عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ( 113 ) لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( 114 ) ومن يشاقق الرسول من بعد ) * * * * إصلاح بين الناس ) وفي الخبر : ' كل كلام ابن آدم عليه إلا ثلاثة : أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، أو ذكر الله ' وقيل لسفيان بن عيينة - حين روى هذا الحديث ؛ فقالوا - : ما أشد هذا الحديث ؟ ! فقال : اقرءوا قوله - تعالى - : ( ^ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه ) الآية .
وروى : أن رسول الله قال لأبى أيوب الأنصاري : ' ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم - أي : من الصدقة بحمر النعم ؟ - قال : بلى يا رسول الله ، فقال : أن تصلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وأن تقرب بينهم إذا تباعدوا ' .
( ^ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) . < < النساء : ( 115 ) ومن يشاقق الرسول . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ) أراد به : طعمه ، جادل النبي ، ثم لحق بمكة ، وارتد حين ظهر عليه الحكم بالقطع .
قال سعيد بن جبير : إنه لما لحق بمكة سرق هنالك ، فوجد في نقب يسرق ، فقتل .
____________________

( ^ ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ( 115 ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ( 116 ) إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ( 117 ) لعنه الله وقال ) * * * *
وفي بعض القصص : أنه حين لحق بمكة نزل على الحجاج بن غلاط الأسلمي ، فقام في بعض الليل يسرق ، فأحسوا به ، فأخذوه واجتمعوا عليه ، وقالوا : إنه ضيف ، وتركوه ؛ فلحق بحرة بني سليم ، وكان يعبد الأصنام ، ومات عليه ؛ ففيه نزلت الآية ( ^ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ) لأنه لما ارتد ، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين .
واستدل أهل العلم بهذه الآية على أن الإجماع حجة .
قوله : ( ^ نوله ما تولى ) أي : نوله ما اختاره ، وقيل : نكله إلى ( من ) تولاه ( ^ ونصله جهنم وساءت مصيرا ) . < < النساء : ( 116 ) إن الله لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقد ذكرنا معنى الآية فيما سبق ( ^ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) روى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن علي رضي الله عنه انه قال : هذه أحب آية إلي في القرآن . < < النساء : ( 117 ) إن يدعون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن يدعون من دونه ) أي : ما يدعون من دونه ( ^ إلا إناثا ) قيل : معناه الأوثان ، وإنما سميت الأوثان إناثا ؛ لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث ، فيقولون : اللات ، والعزى ، ومناة ، وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة : أنثى بني فلان ، قال أبي بن كعب : كان مع كل صنم جنية من الشياطين ، وقيل : معناه : الموات وإنما سمي الموات إناثا ؛ لأن الإناث أرذل الجنسين ، وأدونهما ، فكذلك الموات أرذل من الحيوان ، وكانت أصنامهم من الموات والجماد .
قال الضحاك : أراد به : الملائكة ، وكانوا يقولون : الملائكة إناث ، وكان بعضهم
____________________

( ^ لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ( 118 ) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا ) * * * * يعبدون الملائكة ، ويصورون الأصنام على صور الملائكة ، وقرأ ابن عباس : ' إلا أنثا ' جمع الأوثان ، وقرأ في الشواذ أيضا ' إلا أنثا ' جمع الإناث ؛ فيكون على جمع الجمع كالمثل . ( ^ وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ) ؛ لأنهم إذا عبدوا الأصنام ، فقد أطاعوا الشيطان ، وأراد به : إبليس ، والمريد العاتي المتمرد ، وحقيقته : العاري من كل خير ، ومنه الأمرد ، ويقال : شجرة مرداء ، إذا تساقطت أغصانها . < < النساء : ( 118 ) لعنه الله وقال . . . . . > >
( ^ لعنه الله ) أي : أبعده الله من الرحمة ؛ معاقبة ، ولذلك لا يجوز لعن البهائم ؛ لأنها لا تستوجب العقوبة ، والطرد عن الرحمة . ( ^ وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ) أي : مقدارا معلوما ، قيل في التفسير : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للشيطان وواحد لله . وأصل الفرض : الحز والقطع ، ومنه فرض القوس : وهو الشق الذي يجعل فيه الوتر . ومنه فرض السواك : وهو الموضع الذي يجعل فيه الخيط ، ومنه فرضة البحر : وهو المشرع الذي توقف إليه السفينة ، والفرض : نوع من التمر يكون بعمان ، قال الشاعر :
( إذا أكلت سمكا وفرضا ** ذهبت طولا وذهبت عرضا ) < < النساء : ( 119 ) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولأضلنهم ) أي : لأغوينهم ، فإن قال قائل : كيف نسب إليه الإضلال ، وليس إليه الضلالة ؟ قلنا : معناه : التزيين والدعوة إلى الضلالة ، وقد قال : ' بعثت داعيا ، وليس إلى من الهداية شئ ، وبعث الشيطان مزينا ، وليس إليه من الضلالة شئ ' . ( ^ ولأمنينهم ) قيل : معناه : أمنينهم ركوب الأهواء ، وقيل
____________________

( ^ مبينا ( 119 ) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 120 ) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ( 121 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من ) * * * * معناه : أمنينهم طول العمر في النعيم ؛ ليؤثروا الدنيا على الآخرة ، وقال الزجاج : معناه : أمنيهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي .
( ^ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) أراد به : البحيرة التي تأتي في سورة المائدة ، والبتك : القطع ، والمراد به : شق الآذان ، ( ^ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) قال ابن عباس في إحدى الروايتين ، وهو قول مجاهد : معناه : فليغيرن دين الله ، أي : وضع الله في الدين : بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، ونحو ذلك ، والرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أنس ، وعكرمة : أراد به : إخصاء الأنعام ، وكان أنس يكره إخصاء البهائم من أجل هذا ، وكان يجيزه الحسن ، وقال ابن مسعود : أراد به الوشم ، ويحتمل أن يكون المراد به تغير الأنساب ؛ وذلك أن ينتقل من نسب إلى نسب ، ويحتمل أن يكون المراد به : الخضاب بالسواد ، وهو منهي عنه ، وإنما الخضاب المباح بالحمرة ، والصفرة ( ^ ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ) أي : يواليه باتباعه ( ^ فقد خسر خسرانا مبينا ) . < < النساء : ( 120 ) يعدهم ويمنيهم وما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يعدهم ) وعده قد يكون بالتخويف كما قال الله تعالى ( ^ الشيطان يعدكم الفقر ) وقيل : أنه يتمثل في صورة الآدمي ، فيعد ، ويمنى ، وكان قد ظهر يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وظهر في اليوم الذي اجتمعت فيه قريش ، وتشاوروا في إخراج النبي ، في صورة شيخ من نجد .
وقوله ( ^ ويمنيهم ) قد ذكرنا ، ومن ذلك تمنى الإنسان قضاء الشهوات .
واعلم أن الإنسان لا يؤاخذ بغلبة الشهوة ، واشتهاء الشهوات ؛ لأن ذلك شئ جبل عليه ، ويؤاخذ بالتمني ، وذلك أن يتمنى خمرا ليشربه ، أو امرأة ؛ ليزني بها ، فذلك من المعصية ، ويؤاخذ به ( ^ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) الغرور : إيهام الوصول إلى النفع من موضع الضر < < النساء : ( 121 ) أولئك مأواهم جهنم . . . . . > > ( ^ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ) أي : معدلا .
____________________

( ^ تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ( 122 ) ليس بأمانيكم ) * * * * < < النساء : ( 122 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ) فإن قيل : ما الفائدة في تكرار الوعد والوعيد في القرآن ؟ قيل : فائدته : التوكيد ، قطعا من سواء التأويل ، وقيل إنما كرر الوعد على تفاصيل الإيمان ، وكرر الوعيد على تفاصيل الكفر ، ( ^ ومن أصدق من الله قيلا ) أي : قولا . < < النساء : ( 123 ) ليس بأمانيكم ولا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) قال مسروق هو أبو عائشة مسروق بن الأجدع الهمداني : أراد به : ليس بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا أماني أهل الكتاب ، وهم اليهود ، والنصارى .
وقال مجاهد : أراد بقوله : ( ^ ليس بأمانيكم ) مشركي العرب ، ( ^ ولا أماني أهل الكتاب ) يعني : اليهود ، والنصارى ، فعلى القول الأول معنى الآية : أن اليهود قالوا : نحن أولى ؛ لأن ديننا أقدم وكتابنا أقدم .
وقالت النصارى : نحن أولى ؛ لأنا على دين عيسى ، وهو روح الله ، وكلمته ، وكان يحيي الموتى .
وقال المسلمون : نحن أولى ؛ لأن نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا ناسخ للكتب ، وقد آمنا بكتابكم ، ولم تؤمنوا بكتابنا ؛ قال الله تعالى : ( ^ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) يعني : ليس الأمر بالأماني ، وإنما الأمر بالعمل الصالح ، وقد قال : ' ليس الدين بالتمني ، ولا بالتحلي . . ' الخبر .
وأما على القول الثاني : معنى الآية : أن اليهود والنصارى قالوا : نحن أهل الجنة ،
____________________

( ^ ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ( 123 ) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون ) * * * * وذلك قول الله تعالى : ( ^ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) وقال المشركون : لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ؛ قال الله تعالى : ( ^ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) أي : ليس كما قال المشركون ، ولا كما قال اليهود والنصارى .
( ^ من يعمل سوءا يجز به ) قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتاده ، وجماعة المفسرين : إن الآية على العموم في حق كل عامل . وقال الحسن : أراد به : أهل الشرك .
وفي حديث أبي هريرة : ' أن هذه الآية لما نزلت ، قالت الصحابة : أينا لم يعمل سوءا ؟ وشقت عليهم الآية ، فرجعوا إلى رسول الله في ذلك ، فقال : ما منكم من أحد تصيبه مصيبة ، إلا كفر عنه ، حتى الشوكة يشاكها ، والنكبة ينكبها ' .
وروى : ' أن أبا بكر دخل على رسول الله ، فقال له رسول الله : ' ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟ قال : بلى فقرأ : ( ^ من يعمل سوءا يحز به ) قال أبو بكر : فوجدت انقصاما في ظهري ، فقال - عليه السلام - : مالك يا أبا بكر ؟ فقلت : كيف النجاة بعد هذه الآية ، هلكنا ، وأينا لم يعمل سوءا ؟ فقال : أما أنت يا أبا بكر ، والمؤمنون تجزون به في الدنيا ، فتلقون الله تعالى وما عليكم ذنب ، وأما الكافرون يجمع عليهم ، ثم يجزون به في الآخرة ' وفي رواية قال له عليه السلام :
____________________

( ^ نقيرا ( 124 ) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ( 125 ) ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء ) * * * * ' ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تمرض ؟ أليس تصيبك اللأواء ؟ فذلك الذي تجزون به ' فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) . < < النساء : ( 124 ) ومن يعمل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) أي : مقدار النقير ، وذلك أن الله تعالى لما أحال الخلق على العمل بين العمل في هذه الآيات ، وجزاء العمل . < < النساء : ( 125 ) ومن أحسن دينا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ) أي : أخلص عبادته لله ، وقيل : توجه عبادته إلى الله ، والوجه يذكر بمعنى : الدين والعبادة ، ومنه قول المصلى : وجهت وجهي ، أي : ديني وهو الصلاة .
( ^ وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) وإنما خص إبراهيم ؛ لأنه كان مقبول الأمم أجمع ، وقيل : لأنه بعث على ملة إبراهيم ؛ وزيد له أشياء .
( ^ واتخذ الله إبراهيم خليلا ) يعني : حبيبا ، لا خلل في حبه ، والخلة : صفاوة المودة ، فمعناه : أنه اتخذه حبيبا ، وجعله صفيه ، وخاص نفسه ، كما يكون الحبيب مع الحبيب ، قال الشاعر :
( قد تخللت مسلك الروح منى ** وبذا سمى الخليل خليلا )
وقيل : المحتاج من الخلة ، وهي الحاجة ، يعني : جعل حاجته إلى نفسه ، دون غيره ، وقال الشاعر :
( وإن أتاه خليل يوم مسألة ** فقال لا غائب مالي ولا حرم )
____________________

( ^ محيطا ( 126 ) ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ( 127 ) وإن ) * * * * يعني : وإن أتاه محتاج ، والأول أصح ؛ لأن قوله ( ^ واتخذ الله إبراهيم خليلا ) يقتضي الخلة من الجانبين . ولا يتصور الحاجة من الجانبين . وفي الخبر قال : ' إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا خليلا ، لاتخذت أبا بكر ؛ ولكن ود وإخاء إيمان ، وإن صاحبكم خليل الله ' . < < النساء : ( 126 ) ولله ما في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا ) المحيط : هو العالم بالشيء بجميع ما يتصور العلم به . < < النساء : ( 127 ) ويستفتونك في النساء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويستفتونك في النساء ) أي : يطلبون فتواك في النساء ، قيل : هذا في أم كجة وقد بينا قصتها ، وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصبيان .
( ^ قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ) قال الزجاج : يعنى : ويفتيكم كما يتلى عليكم في الكتاب ( ^ في يتامى النساء ) هذا إضافة الشيء إلى نفسه ؛ لأنه أراد باليتامى : النساء ( ^ اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ) قال الحسن ، وجماعة : أراد به : لا تؤتونهن حقهن من الميراث ( ^ وترغبون أن تنكحوهن ) به ، بمعنى : عن أن تنكحوهن لدمامتهن ، وحملوا الآية على الميراث .
وقالت عائشة : أراد به : لا تؤتونهن ما كتب لهن من الصداق . وقوله : ( ^ وترغبون أن تنكحوهن ) يعني : في أن تنكحوهن ، ( ^ والمستضعفين من الولدان ) يعني :
____________________

( ^ امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( 128 ) ولن ) * * * * ويفتيكم في المستضعفين من الوالدان ، وهم الصغار ( ^ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) أي : بالعدل ( ^ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ) . < < النساء : ( 128 ) وإن امرأة خافت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا ) النشوز : هو الارتفاع ، والمراد به ، ارتفاع الزوج ، والتكبر بنفسه على الزوجة ، ومنه النشز . ( ^ أو إعراضا ) يعنى : أو خافت إعراضا من الزوج ( ^ فلا جناح عليهما أن يصلحا ) وقرئ : ' أن يصالحا بينهما صلحا ' يعني : بين الزوجين ، واختلفوا فيمن نزلت الآية ، قال بعضهم : نزلت في امرأة رافع بن خديج ، فإنها كبرت ، وتزوج رافع عليها شابة وخافت أن يعرض عنها ؛ فنزلت الآية .
وقوله : ( ^ أن يصلحا بينهما صلحا ) يعني : أن يترك شيئا من القسم ، وترضى بأن يكون القسم للشابة أكثر ، وقيل : هو الصلح عن المهر بالإبراء ، ونحوه ، والقول الثاني : أن الآية نزلت في سودة بنت زمعة ؛ أراد النبي أن يطلقها ؛ فقالت : لا تطلقني ، قد وهبت ليلتي لعائشة ، فلا تطلقني حتى أحشر يوم القيامة في زمرة نسائك .
( ^ والصلح خير ) قيل : أراد به : الصلح خير من الفرقة ، وقيل : أراد به : الصلح خير من النشوز ، والإعراض ( ^ وأحضرت الأنفس الشح ) والشح : البخل ، وقيل : هو أقبح البخل ، وحقيقته : الحرص على منع الخير ، وأراد به : شح الزوجين على حقيهما ( ^ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) .
____________________

( ^ تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( 129 ) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ( 130 ) ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب ) * * * * < < النساء : ( 129 ) ولن تستطيعوا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) قال عمر ، وعلي ، وابن عباس ، أراد بالعدل : المحبة في القلب ( ^ فلا تميلوا كل الميل ) يعنى : إن ملتم في المحبة ، فلا تميلوا في القسم ، وقد قال : ' اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذاني فيما لا أملك ' ( ^ فتذروها كالمعلقة ) يعني لا أيما ولا ذات بعل ، وقيل : كالمحبوسة ( ^ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) . < < النساء : ( 130 ) وإن يتفرقا يغن . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) يعني : الزوجين إذا تفرقا ، فالزوج يجد الزوجة ، والزوجة تجد الزوج ( ^ وكان الله واسعا حكيما ) أي : واسع الفضل والرحمة والقدرة . < < النساء : ( 131 ) ولله ما في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) هذه وصية الله العباد بالتقوى ، ( ! ( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ) { < النساء : ( 132 ) ولله ما في . . . . . > > ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) فإن قيل : أي فائدة في تكرار قوله : ( ^ ولله ما في السموات وما في الأرض ) قيل : لكل واحد منها وجه : أما الأول : فمعناه : ولله ما في السموات وما في الأرض ، وهو يوصيكم بالتقوى ، فاتقوه ، واقبلوا وصيته .
____________________

( ^ من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ( 131 ) ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 132 ) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ( 133 ) من كان يريد ثواب ) * * * *
وأما الثاني : يقول : فإن لله ما في السموات وما في الأرض ، وكان الله غنيا حميدا ؛ فاطلبوا منه ما تطلبون .
وأما الثالث يقول : ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ، أي : اتخذوه وكيلا ولا تتكلوا على غيره . < < النساء : ( 133 ) إن يشأ يذهبكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن يشاء يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ) روى : ' أن النبي كان يضرب بيده كتف سلمان ، ويقرأ : ( ^ ويأت بآخرين ) ويقول : سلمان وأصحابه ' ( ^ وكان الله على ذلك قديرا ) . < < النساء : ( 134 ) من كان يريد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ) أراد به : الكفار ؛ فإنهم يعملون ابتغاء ثواب الدنيا ، وطلبا لنعيمها ، ولا يطلبون ثواب الآخرة ، ولا يؤمنون بها ؛ فقال الله تعالى : ( ^ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ) . < < النساء : ( 135 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) القوام : مبالغة من القائم ، والقسط : العدل ، ومعناه : كونوا قائلين بالعدل ( ^ شهداء لله ) لأنهم إذا شهدوا بالحق وقاموا بالعدل ، كانوا شهداء لله ( ^ ولو على أنفسكم ) فإن قيل : كيف يشهد على نفسه ؟ قيل : شهادته على نفسه : هو الإقرار ، وهو معنى ما روى عن ابن عباس : ' قولوا الحق ولو على أنفسكم ' .
( ^ أو الوالدين والأقربين ) أي : قولوا الحق ، ولو على الوالدين والأقربين ، قيل : نزلت الآية في رجل كانت عنده شهادة على أبيه ، فهم أن يمتنع عنها ؛ فنزل قوله :
____________________

( ^ الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ( 134 ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) * * * *
( ^ أو الوالدين والأقربين ) ، ( ^ إن يكن غنيا أو فقيرا ) قال السدي : نزل ذلك في رجلين اختصما إلى النبي ، أحدهما غني ، والآخر فقير ، وكان ضلع النبي عليه السلام إلى الفقير ، وكان عنده أن الفقير لا يخاصم بالباطل ، وكان الحق للغني في الباطن ؛ فنزلت الآية ( ^ إن يكن غنيا أو فقير ) .
قال ابن عباس : معناه : لا تجادلوا الغني لغناه ، ولا ترحموا الفقير لفقره ، وقال عطاء : لا تحيفوا على الفقير ، ولا تعظموا الغني ؛ فهذا معنى الآية ، وحقيقة المعنى : قوموا بالشهادة ، سواء كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا ، وسواء كان المشهود له غنيا أو فقيرا ، ولا تمتنعوا عن الشهادة للغني لغناه ، ولا عن الشهادة على الفقير لفقره .
وقوله : ( ^ إن يكن غنيا أو فقيرا ) : يعني : إن يكن المشهود عليه غنيا ، أو فقيرا ( ^ فالله أولى بهما ) أي : كلوا أمرهما إلى الله ، قال الحسن : معناه : فالله أعلم بهما . ( ^ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) قيل : معناه : فلا تتبعوا الهوى بأن تعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين ، كما يقال : لا تعص فترضى ربك ، وقيل : معناه : لا تتبعوا الهوى لتميلوا من الحق إلى الباطل ( ^ وإن تلووا ) وهي من اللي قال الشاعر :
( وكنت داينت به حسانا ** مخافة الإفلاس والليانا )
وفي معناه قولان : أحدهما : أنه خطاب للحكام ، ومعنى ( ^ وإن تلووا ) أي : تميلوا إلى أحد الخصمين ، أو تعرضوا عنه .
والثاني وهو قول أكثر المفسرين أنه خطاب للشهود ، واللي منهم : تحريف الشهادة ' والإعراض : كتمان الشهادة والأول : قول ابن عباس ، وأما القراءة الثانية : ' وإن تلوا ' فيه قولان : أحدهما : أن أصله : ' وإن تلووا ' فإدخلت إحدى الواوين
____________________

( ( 135 ) يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ( 136 ) إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ) * * * * في الأخرى تخفيفا ، والمعنى ما بينا ، والثاني : أنه من الولاية ، يعني : وإن تلوا القيام بأداء الشهادة ( ^ أو تعرضوا ) فتتركوا أداء الشهادة ( ^ فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) . < < النساء : ( 136 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قول تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) أكثر المفسرين علي أنه في المؤمنين ، ومعناه : يا أيها الذين آمنوا آمنوا ، أي اثبتوا على الإيمان ، كما يقال : قف حتى أرجع إليك للرجل الواقف أي : أثبت واقفا .
وقال مجاهد : هو خطاب للمنافقين ، ومعناه : يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب ، وقال الضحاك وهو رواية الكلبي عن ابن عباس : هو خطاب لأهل الكتاب ، ومعناه : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد ( ^ والكتاب الذي نزل على رسوله ) يعني : القرآن ( ^ والكتاب الذي أنزل من قبل ) يعني : الكتب المنزلة من قبل القرآن .
( ^ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي : بعيدا عن الحق . < < النساء : ( 137 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ) قال قتادة : هذا في اليهود ، آمنوا بموسى ، ثم كفروا به بعبادة العجل ، ثم آمنوا بموسى بالتوبة ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفروا بمحمد ، وقيل : هو في جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ آمنوا بنبيهم ، ثم كفروا به ، وآمنوا بكتابهم ، ثم كفروا به ثم ازدادوا كفرا بمحمد . وقال مجاهد : هو في قوم مرتدين آمنوا ، ثم ارتدوا ، ثم آمنوا ثم ارتدوا .
ومثل هذا هل تقبل توبته ؟
قال علي : لا تقبل توبته ؛ فإنه إذا آمن ، ثم كفر ، ثم آمن ، ثم كفر ، فلو أراد أن يؤمن
____________________

( ^ ولا ليهديهم سبيلا ( 137 ) بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ( 138 ) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ( 139 ) وقد نزل عليكم في ) * * * * لا يقبل منه ، ويقتل ؛ لقوله - تعالى - : ( ^ لم يكن الله ليغفر لهم ) .
وأكثر أهل العلم على أنه : تقبل توبته ، ويحتمل أن تكون الآية في المنافقين ، وقوم من أهل الكتاب ، كانوا يؤمنون باللسان ، ثم يرجعون إلى الكفر ، ثم يأتون ، فيؤمنون ، ثم يرجعون إلى الكفر .
( ^ لم يكن الله ليغفر لهم ) فإن قيل : أيش معنى قوله - تعالى - : ( ^ لم يكن الله ليغفر لهم ) ، ومعلوم أن الله لا يغفر الكفر ؟ قيل : أجاب النقاش في تفسيره أن معناه : أن الكافر إذا أسلم ، يغفر له كفره السابق ، فهذا الذي أسلم ، ثم كفر ثم أسلم ، ثم كفر ، لا يغفر كفره السابق الذي كان يغفر لو ثبت على الإسلام ( ^ ولا يهديهم سبيلا ) أي : طريقا إلى الحق . < < النساء : ( 138 ) بشر المنافقين بأن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) فإن قيل : ما معنى البشارة بالعذاب الأليم ؟ قيل : أصل البشارة : كل خبر تتغير به بشرة الوجه ، سارا كان أم مكروها ، لكنه في الغالب إنما يستعمل في الخبر السار ، فإذا استعمل في الخبر السيء كان على الأصل ، وقيل : أراد به : ضع هذا موضع البشارة ، كما تقول العرب : تحيتك السوط ، وعقابك السيف .
يعنى : وضعت السوط مع التحية ، قال الشاعر :
( وخيل قد دلفت بها لخيل ** تحية بينهم ضرب وجيع ) < < النساء : ( 139 ) الذين يتخذون الكافرين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) هذا في المنافقين ، كانوا يوالون الكفار ، ويظنون أن النصرة والغلبة لهم ( ^ أيبتغون عندهم العزة ) يعنى : أيطلبون عندهم القوة والغلبة ( ^ فإن العزة لله جميعا ) أي : القوة والغلبة كلها لله - تعالى - .
____________________

( ^ الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ( 140 ) الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ) * * * * فإن قال قائل : قد نرى في بعض الأحوال الغلبة للكفار ؛ فما معنى قوله : ( ^ فإن العزة لله جميعا ) ؟ قيل : معناه : أن المقوى هو الله - تعالى - في الأحوال كلها .
وقيل : معناه : الغلبة بالحجة لله جميعا . < < النساء : ( 140 ) وقد نزل عليكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) .
هذا إشارة إلى ما أنزل في سورة الأنعام ( ^ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم . . . . ) الآية . نهى عن القعود معهم ، وما حكم القعود معهم ؟ أما إذا قعد معهم . . . ورضى بما يخوضون فيه ، فهو كافر مثلهم ، وهو معنى قوله : ( ^ إنكم إذا مثلهم ) . وإن قعد ، ولم يرض بما يخوضون فيه ، فالأولى أن لا يقعد ، ولكن لو قعد كارها ، فلا يكفر ، وهذا هو الحكم في كل بدعة يخاض فيها ، فلو تركوا الخوض فيه وخاضوا في حديث غيره ، فلا بأس بالقعود معهم وإن كره ؛ لقوله ( ^ حتى يخوضوا في حديث غيره ) قال الحسن : وإن خاضوا في حديث غيره لا يجوز القعود معهم ؛ لقوله في سورة الأنعام : ( ^ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) والأكثرون على أنه يجوز ، وآية الأنعام مكية وهذه الآية مدنية ، والمتأخر أولى .
( ^ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا < < النساء : ( 141 ) الذين يتربصون بكم . . . . . > > الذين يتربصون بكم ) يعنى : المنافقين ينتظرون أمركم ( فإن كان لكم فتح من الله ) يعنى : ظفر ( ^ قالوا ألم نكن معكم ) يعنى : كنا معكم ، فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة ( ^ وإن كان للكافرين نصيب ) يعنى : وإن كانت القوة للكافرين ( ^ قالوا ألم نستحوذ عليكم
____________________

( ^ ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( 141 ) إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) مذبذبين بين ذلك لا إلى ) * * * * ونمنعكم من المؤمنين ) الاستحواذ : الاستيلاء والغلبة ومنه قوله - تعالى - : ( ^ استحوذ عليهم الشيطان ) قال المبرد : معنى هذا : قالوا : ألم نغلبكم على رأيكم ، ونمنعكم من المؤمنين ، والدخول في جملتهم ، وتخذيل المؤمنين عنكم .
وقال غيره : معناه : ألم نستول عليكم بالنصرة لكم من جهة مراسلتنا إياكم بأخبار المؤمنين ، وأمورهم ، وتخذيلنا إياهم عنكم . ( ! ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) ! ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال على ، وابن عباس : أراد به : في القيامة ، وقيل : هو سبيل الحجة ، أي : لا تكون الحجة للكافرين على المؤمنين أبدا . < < النساء : ( 142 ) إن المنافقين يخادعون . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) يخادعون الله ، أي : يعاملون الله معاملة المخادعين حيث أظهروا الإيمان ، وأبطنوا الكفر ، وهو خادعهم ، أي : يعاملهم معاملة المخادعين ، وذلك على وجهين : أحدهما : أنه حكم بإيمانهم في الظاهر ، وكفرهم في الباطن ، كما فعلوا هم والثاني : أنه في القيامة يعطيهم نورا ، كما يعطى المؤمنين ، ثم إذا كانوا على الصراط طفئ نورهم ، وذهب المؤمنون بنورهم ، وهذا معنى قوله : ( ^ وهو خادعهم ) وقيل : معناه : يخادعون رسول الله ، وهو خادعهم ، أي : يجازيهم على مخادعتهم الرسول ، وسمى الثاني خداعا على الازدواج ، كما قال : ( ^ وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وفي حديث عدى بن حاتم أن النبي قال : ' يؤتى بناس من الناس يوم القيامة إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها ، واستنشقوا رائحتها ، ورأوا فيها من النعيم ، يأمر الله - تعالى - بصرفهم عنها ، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها ، فيقولون : يا رب ، لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا ، فيقول الله - تعالى - : ذاك أردت لكم ،
____________________

( ^ هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ( 143 ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ( 144 ) إن ) * * * * وكنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس ، لقيتموهم مخبتين ، هبتم الناس ولم تهابوني ، أجللتم الناس ، ولم تجلوني ، تركتم للناس ، ولم تتركوا لي ؛ فاليوم أذيقكم العذاب ، مع ما حرمتم من الثواب ' .
وقوله : ( ^ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) يعنى : متثاقلين ، وهذا دأب المنافقين ؛ لقلة الدواعي لهم ، وأما المؤمنين ينشطون إلى القيام إلى الصلاة ؛ لكثرة الدواعي لهم ، ( ^ يراءون الناس ) أي : يعملون ما يعملون ، مراءه للناس ، لا اتباعا لأمر الله .
واعلم أن الرياء لا يوجب الكفر ، وهو عيب عظيم ، وأما النفاق كفر محض .
( ^ ولا يذكرون الله إلا قليلا ) قال الحسن : لأنه لما لم يتقبل عملهم ، كان قليلا < < النساء : ( 143 ) مذبذبين بين ذلك . . . . . > > ( ^ مذبذبين بين ذلك ) أي : متذبذبين وكذلك قرأ أبى بن كعب ، ومعناه : مضطربين متحيرين ( ^ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) ، يعنى : لا إلى الكفار بالتصريح بالشرك ، ولا إلى المؤمنين باعتقاد الإيمان .
وروى ابن عمر عن النبي أنه قال : ' مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين ربيضين ، إن جاءت إلى هذه ، نطحتها ، وإن جاءت إلى هذه نطحتها ' ( ^ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) أي : ومن يضلله الله ، فلن تجد له طريقا إلى الحق . < < النساء : ( 144 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون
____________________

( ^ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ( 145 ) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا ) * * * * المؤمنين ) في الآية نهى عن موالاة المؤمنين مع الكفار ( ^ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) السلطان : الحجة ، ومنه يقال : للأمير سلطان ؛ لأنه ذو الحجة ، ومعناه : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة في عذابكم ، بحيث لا يبقى لكم عذر عنده ؟ ! . < < النساء : ( 145 ) إن المنافقين في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) ويقرأ : ' في الدرك ' بجزم الراء - قال أبو عبيده ، والأخفش : النار دركات ، والجنة درجات ، قال أهل العلم : يجوز أن يكون فرعون وهامان أشد عذابا من المنافقين ، وإن كان المنافقون في الدرك الأسفل . قال ابن مسعود : الدرك الأسفل : تابوت من حديد مقفل عليهم ، وقيل : تابوت من النار . قال أبو هريرة : والدرك الأسفل : بيت مطبق عليهم ، تتوقد النار فيه من فوقهم ، ومن تحتهم ( ^ ولن تجد لهم نصيرا ) مانعا من العذاب . < < النساء : ( 146 ) إلا الذين تابوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إلا الذين تابوا ) أي : أسلموا ( ^ وأصلحوا ) أي : داموا على التوبة ( ^ واعتصموا بالله ) الاعتصام : هو الامتناع بالشيء مما يخاف ، فالاعتصام بالله : هو الامتناع بطاعته من كل ما يخاف عاجلا ، وآجلا ( ^ وأخلصوا دينهم لله ) شرط الإخلاص بالقلب ؛ لأن الآية في المنافقين ، والنفاق : كفر القلب ، فزواله بالإخلاص ( ^ فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) ، وإنما لم يقل : فأولئك هم المؤمنون ، وسوف يؤتيهم الله أجرا عظيما ؛ غيظا على المنافقين . < < النساء : ( 147 ) ما يفعل الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) هذا استفهام بمعنى التقرير ، ومعناه : لا يعذب الله المؤمن الشاكر ، وتقدير قوله : ( ^ إن شكرتم وآمنتم ) أي : إن آمنتم وشكرتم ، والشكر ضد الكفر ، والكفر : ستر النعمة والشكر : إظهار النعمة ( ^ وكان الله شاكرا عليما ) الشكر من الله قبول العمل ، ومعناه : وكان
____________________

( ^ عظيما ( 146 ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ( 147 ) لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ( 148 ) إن تبدوا خيرا أو ) * * * * الله قابلا للطاعات ، عليما بالنيات . < < النساء : ( 148 ) لا يحب الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) قال ابن عباس : معناه : إلا من ظلم ، فيجوز له أن يجهر بالسوء بالإخبار عن ظلم الظالم ، والدعاء عليه ، قال الحسن : دعاؤه عليه : أن يقول : اللهم اعني عليه ، اللهم استخرج حقي منه .
وقيل : يجوز له أن يشتم ، ولكن بمثل ما شتم ، لا يزيد عليه ، بما لم يكن قذفا ، وقد ورد في الحديث : ' السبتان بالسبة ربا ' قال مجاهد : هو في الضيف يأتي قوما ، فلم يقروه ، ولم يحسنوا ضيافته ، يجوز له أن يجهر بالسوء لهم .
ويقرأ : ' إلا من ظلم ' بفتح الظاء واللام .
قال الزجاج : معناه : إلا من ظلم ، فأجهر قوله بالسوء ، وقيل : هو راجع إلى الآية المتقدمة ، وتقديره : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم وقيل : هو استثناء منقطع ، يعنى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، لكن يجهر بالسوء من ظلم ( ^ وكان الله سميعا عليما ) سميعا لأقوالكم : عليما بنياتكم . < < النساء : ( 149 ) إن تبدوا خيرا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن تبدوا خيرا أو تخفوه ) معناه : إن تبدوا شيئا من الصدقات ؛ ليقتدي بكم ، أو تخفوه ؛ مخافة الرياء ( ^ أو تعفوا عن سوء ) تصابون به ( ^ فإن الله كان عفوا قديرا ) . < < النساء : ( 150 ) إن الذين يكفرون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين يكفرون بالله ورسله ) أراد به اليهود لما كفروا بمحمد فكأنهم كفروا بالله ( ^ ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ) يريدون أن يؤمنوا بالله ، ويكفروا بالرسول ( ^ ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) يؤمنون بموسى ، ويكفرون بعيسى ، ومحمد ( ^ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) أي : مذهبا يذهبون إليه .
____________________

( ^ تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( 149 ) إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ( 150 ) أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( 151 ) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ( 153 ) يسئلك عن أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من ) * * * * < < النساء : ( 151 ) أولئك هم الكافرون . . . . . > >
( ^ أولئك هم الكافرون حقا ) إنما حقق كفرهم ، ليعلم أنهم كفار مطلقا لئلا يظن ظان أنهم لما آمنوا بالله وبعض الرسل لا يكون كفرهم مطلقا ( ^ اعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) . < < النساء : ( 152 ) والذين آمنوا بالله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) إنما سماه أجرا مجازا ؛ لأنه ذكره بإزاء العمل ، لأن العمل يوجبه ، وهذا نحو قوله - تعالى - في قصة موسى : ( ^ إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) سماه أجرا على مقابلة العمل ؛ لأن موسى عمل ؛ ليؤجر عليه ( ^ وكان الله غفورا رحيما ) . < < النساء : ( 153 ) يسألك أهل الكتاب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) هم اليهود ، قالوا للنبي لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء جملة ، كما أنزلت التوراة على موسى جملة .
قال الحسن : ولم يكن ذلك سؤال انقياد ، وإنما ذلك سؤال تحكم ، واقتراح ؛ فإنهم لو أنزل عليهم الكتاب جملة ، كما سألوا ؛ لم يؤمنوا ، والله - تعالى - لا ينزل الآيات على اقتراح العباد ، وإنما ينزلها على مشيئته ( ^ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) أي : أعظم من ذلك ( ^ فقالوا أرنا الله جهرة ) أي : عيانا ، وذلك أن العرب كانت تعد العلم بالقلب رؤية ؛ فقال : ( ^ جهرة ) ليعلم أنه أراد العيان ، وقال أبو عبيده : معناه :
____________________

( ^ السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( 153 ) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ( 154 ) فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا ) * * * *
فقالوا جهرة : أرنا الله ( ^ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) ، ( ^ ثم اتخذوا العجل ) يعنى : إلها ( ^ من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ) فيه استدعاء للتوبة ، ومعناه : أن أولئك الذين اجترموا ذلك الإجرام ، عفونا عنهم ؛ فتوبوا أنتم ، حتى نعفو عنكم ( ^ وآتينا موسى سلطانا مبينا ) حجة بينة من المعجزات . < < النساء : ( 154 ) ورفعنا فوقهم الطور . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ) الطور : جبل الطور ، وقيل : كل جبل ينبت شيئا ، فهو طور ، فإن لم ينبت ، لا يسمى طورا ، والميثاق : العهد المؤكد باليمين .
( ^ وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ) قيل : إنهم سجدوا على أنصاف وجوههم ، حتى دخلوا الباب ، وفي القصة : أنهم قالوا : بهذا السجود رفع العذاب عنا ، فلا نترك هذا السجود ، وكانوا يسجدون بعد ذلك على أنصاف وجوههم .
( ^ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ) وقرأ نافع - برواية قالوا - : ( ^ لا تعدوا ) - بجزم العين ، مشددة الدال وفي رواية ورش عنه ( ^ لا تعدوا ) - بفتح العين مشددة الدال ومعنى الكل : لا يتعدوا في السبت ( ^ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) . < < النساء : ( 155 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فبما نقضهم ميثاقهم ) وما للصلة ، وإنما تدخل في الكلام ؛ لتفخيمه ، وتجزيله ( ^ وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ) قد ذكرنا كل هذا ( ^ بل طبع الله عليها بكفرهم ) الطبع : الختم ، وقال
____________________

( ^ اقليلا ( 155 ) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ( 156 ) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ( 157 ) بل رفعه الله إليه ) * * * * لزجاج : جعل قلوبهم ، كالمطبوع لا يفلح ، ولا يصلح أبدا ، ولا يدخلها خير ؛ فلا يؤمنون إلا قليلا < < النساء : ( 156 ) وبكفرهم وقولهم على . . . . . > > ( ^ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) أراد به : نسبتهم مريم إلى الزنا . < < النساء : ( 157 - 158 ) وقولهم إنا قتلنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) .
قيل : إن الله - تعالى - ألقى شبه عيسى على الذي دلهم عليه ؛ فقتلوه وقيل : إنهم كانوا حبسوا عيسى في بيت ، وجعلوا عليه رقيبا ، فألقى الله تعالى شبه عيسى على الرقيب ؛ فقتلوه ، وقيل : إنهم ما كانوا يعرفون عيسى بعينه ، وكانوا يعرفونه باسمه ، وكانوا يطلبونه ؛ فقال لهم يهوذا - وهو واحد من أصحاب عيسى - : أعطوني شيئا ، أدلكم على عيسى ؛ فأعطوه ثلاثين درهما ؛ فدلهم على غيره ، فقتلوا ذلك الغير ؛ فهذا قوله : ( ^ ولكن شبه لهم ) ، ( ^ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ) وذلك أن الرجل الذي قتلوه على ظن أنه عيسى ، كان يشبهه بوجهه ، ولا يشبهه بجسده ، فوقع فيهم الاختلاف ، فقال بعضهم : الذي قتلناه كان عيسى ، وقال بعضهم : لم يكن عيسى . وقيل : هو الاختلاف بين علمائهم ، وأغتامهم ؛ فإن علماءهم كانوا يعلمون أنهم لم يصلبوا عيسى وكان عند جهالهم وأغتامهم أنهم قتلوا عيسى ، ( ^ وما لهم به من علم ) يعنى : من حقيقة علم ( ^ إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ) قال ابن الأنباري : قوله : ( ^ وما قتلوه ) كلام تام ، وقوله : ( ^ يقينا ) راجع إلى ما بعد ، وتقديره : ' بل رفعه الله إليه يقينا ، قال الفراء : معناه : وما قتلوا
____________________

( ^ وكان الله عزيزا حكيما ( 158 ) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ( 159 ) فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( 160 ) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس ) * * * * الذي ظنوا أنه عيسى يقينا أنه عيسى ، وقيل : الهاء كناية عن عيسى ، أي : وما قتلوا عيسى يقينا ( ^ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) . < < النساء : ( 159 ) وإن من أهل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) معناه : وأن من أهل الكتاب أحدا إلا ليؤمن به ، وهو مثل قوله : ( ^ وإن منكم إلا واردها ) أي : وأن منكم أحد .
واختلفوا في قوله : ( ^ قبل موته ) قال الحسن - وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس - : إنه كناية عن الكتابي ، وقال : ما من كتابي من اليهود ، إلا وهو يؤمن بعيسى قبل موته في وقت اليأس ، حين لا ينفعه ، حتى قيل لابن عباس : وإن مات حرقا أو غرقا أو هدما ؟ قال : نعم .
وقال قتادة - وهو رواية أخرى عن ابن عباس - : إن ' الهاء ' كناية عن عيسى ، يعنى : ما من كتابي إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك حين ينزل من السماء ، وقال عكرمة : هذا في محمد ما من كتابي إلا ويؤمن به قبل الموت ، وهذا قول ضعيف ؛ لأنه لم يجر ذكر محمد في الآية ( ^ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) يعنى : عيسى . < < النساء : ( 160 ) فبظلم من الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فبظلم من الذين هادوا ) يعنى : ما ذكر من إجرامهم ( ^ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) هو ما ذكرنا في سورة الأنعام ( ^ وعلى الذين هادوا حرمنا
____________________

( ^ بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ( 161 ) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ( 163 ) إنا أوحينا ) * * * * كل ذي ظفر . . . ) الآية على ما سيأتي ( ^ وبصدهم عن سبيل الله كثيرا < < النساء : ( 161 ) وأخذهم الربا وقد . . . . . > > وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ) يعنى : الرشا ( ^ اعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ) . < < النساء : ( 162 ) لكن الراسخون في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولكن الراسخون في العلم منهم ) لكن للإضراب عن كلام ، والدخول في كلام آخر ، ( ^ والراسخون ) : المبالغون في العلم أولوا البصائر فيه ، وأراد به : الذين أسلموا من علماء اليهود : مثل عبد الله بن سلام ، ويمين بن يمين ، وأسد وأسيد ابني كعب ، وجماعة ( ^ والمؤمنون ) أراد به : المهاجرين ، والأنصار ( ^ يؤمنون بما أنزل إليك ) يعنى : القرآن ( ^ وما أنزل من قبلك ) يعنى : سائر الكتب المنزلة ( ^ والمقيمين الصلاة ) في هذا إشكال من حيث النحو ، قيل : إن هذا ذكر لعائشة ، وأبان بن عثمان ، فادعيا الغلط على الكاتب ، وقالا : ينبغي أن يكتب : ' والمقيمون الصلاة ' وليس هكذا ؛ بل هو صحيح في النحو ، وهو نصب على المدح ، وتقديره : واذكروا المقيمين الصلاة ، أو أعنى : المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة ، ومثله قول الشاعر :
( النازلين بكل معترك ** والطيبون [ معاقد ] الأزر )
أي : أعنى النازلين بكل معترك ، وهم الطيبون معاقد الأزر ؛ فيكون نصبا على المدح ، وقيل تقديره : وما أنزل على المقيمين الصلاة ، قوله : ( ^ والمؤتون الزكاة ) رجوع إلى نسق الأول ( ^ والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .
____________________

( ^ إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا ( 163 ) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى ) * * * * < < النساء : ( 163 ) إنا أوحينا إليك . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) هذا بناء على ما [ سبق ] من قوله ( ^ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) يقول الله - تعالى - : قد جعلناك رسولا بالطريق الذي [ قد ] جعلنا سائر الأنبياء رسلا ، وهو الوحي ، ( ^ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ) ذكر عدة من الرسل الذين أوحى إليهم .
فإن قال قائل : لم قدم ذكر عيسى ، وهو متأخر ؟ قيل : ' الواو ' لا توجب الترتيب ، وإنما هي للجمع ، وقيل : ذكره اهتماما بأمره ، وكان أمر عيسى أهم ( ^ وآتينا داود زبورا ) قرأ حمزة : ' زبورا ' - بضم الزاي - فالزبور : فعول بمعنى المفعول ، وهو الكتاب الذي أنزل الله - تعالى - على داود ، فيه التحميد ، والتمجيد ، وثناء الله - تعالى - ، والزبور : الكتابة ، والزبرة قطعة الحديد ، ويقال : ما له زبر أي : ما له عقل ، وأما الزبور : جمع الزبر . < < النساء : ( 164 ) ورسلا قد قصصناهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ) وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ( ^ ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) إنما كلمه بنفسه من غير واسطة ، ولا وحي ، وفيه دليل على من قال : إن الله خلق كلاما في الشجرة ؛ فسمعه موسى ؛ وذلك لأنه قال : ( ^ وكلم الله موسى تكليما )
____________________

( ^ تكليما ( 164 ) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ( 165 ) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ) * * * *
قال الفراء ، وثعلب : إن العرب تسمى ما توصل إلى الإنسان : كلاما ، بأي طريق وصل إليه ، ولكن لا تحققه بالمصدر ، فإذا حقق الكلام بالمصدر ، لم تكن إلا حقيقة الكلام ، وهذا كالإرادة ، يقال : أراد فلان إرادة ، فيكون حقيقة الإرادة ، ولا يقال : أراد الجدار أن يسقط إرادة ، وإنما يقال : أراد الجدار ، من غير ذكر المصدر ؛ لأنه مجاز ، فلما حقق الله كلامه موسى بالتكليم ، عرف أنه حقيقة الكلام من غير واسطة ، قال ثعلب : وهذا دليل من قول الفراء أنه ما كان يقول بخلق القرآن .
فإن قال قائل : بأي شئ عرف موسى أنه كلام الله ؟ قيل : بتعريف الله - تعالى - إياه ، وإنزال آية عرف موسى بتلك الآية أنه كلام الله - تعالى - ، وهذا مذهب أهل السنة أنه سمع كلام الله حقيقة ، بلا كيف ، وقال وائل بن داود : معنى قوله : ( ^ وكلم الله موسى تكليما ) أي : مرارا ، كلاما بعد كلام . < < النساء : ( 165 ) رسلا مبشرين ومنذرين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ رسلا مبشرين ومنذرين ) أي : أرسلنا رسلا ( ^ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وهذا دليل على أن الله - تعالى - لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل ، وهذا معنى قوله : ( ^ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وقال - تعالى - ( ^ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) .
( ^ وكان الله عزيزا ) أي : مقتدرا على معاونة الخلق ( حكيما ) ببعث الرسل . وفي حديث أبي الدرداء أنه قال : ' سألت رسول الله عن عدد الأنبياء فقال : مائة وأربعة وعشرون ألفا ، فقلت : كم الرسل منهم ؟ قال : ثلثمائة وخمسة عشر [ جما غفيرا ] ' .
____________________

( ^ وكفى بالله شهيدا ( 166 ) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ( 167 ) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ( 168 ) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ( 169 ) يا أيها الناس قد جاءكم ) * * * * < < النساء : ( 166 ) لكن الله يشهد . . . . . > >
قوله - تعالى - ( ^ لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) سبب نزول الآية : أن قوما من علماء اليهود حضروا عند النبي ، فقال لهم : ' أنتم تعلمون أنى رسول الله ؟ فقالوا : لا نعلم ذلك ؛ فنزل قوله : ( ^ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ) ' أي : مع علمه ، كما يقال : جاءني فلان بسيفه ، أي : مع سيفه ، وفيه دليل على أن لله علما ، هو صفته ، خلاف قول المعتزلة خذلهم الله .
( ^ والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) فإن قيل : إذا شهد الله له بالرسالة ، فأي حاجة إلى شهادة الملائكة ؟ قيل : لأن الذين حضروا عند النبي ، كان عندهم أنهم علماء الأرض ؛ فقالوا : نحن علماء الأرض ، ونحن ننكر رسالتك ، فقال الله تعالى : إن أنكره علماء الأرض ، يشهد به علماء السماء ، وهم الملائكة ، على مقابلة زعمهم وظنهم ؛ لا للحاجة إلى شهادتهم ؛ فإنه قال : ( ^ وكفى بالله شهيدا ) . < < النساء : ( 167 ) إن الذين كفروا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) صدهم عن سبيل الله كان بكتمان نعت محمد ( ^ قد ضلوا ضلالا بعيدا ) أي : هلكوا ، والضلال : الهلاك . < < النساء : ( 168 ) إن الذين كفروا . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين كفروا وظلموا ) فإن قال قائل : أي معنى لقوله : ( ^ وظلموا ) وقد قال : ( ^ كفروا ) وظلمهم كفرهم ؟ قيل : معناه : كفروا بالله ، وظلموا محمدا بكتمان نعته .
وقيل : ذكره تأكيدا ( ^ لم يكن الله ليغفر لهم ) في هذا إشارة إلى أن الله - تعالى - لو غفر للكافرين أجمع ، كان يسع ذلك رحمته ، لكنه قطع القول بأن لا يغفر لهم ،
____________________

( ^ الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 170 ) يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا ) * * * *
( ^ ولا ليهديهم طريقا ) يعنى : الإسلام < < النساء : ( 169 ) إلا طريق جهنم . . . . . > > ( ^ إلا طريق جهنم ) يعنى : اليهودية ( ^ خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ) . < < النساء : ( 170 ) يا أيها الناس . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم ) تقديره : يكن الإيمان خيرا لكم ( ^ وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ) . < < النساء : ( 171 ) يا أهل الكتاب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) الغلو : مجاوزة الحد ، والآية في النصارى ، قال الحسن : يجوز أن تكون في اليهود والنصارى ؛ فإنهم غلوا في أمر عيسى ، أما اليهود بالتقصير في حقه ، وأما النصارى بمجاوزة الحد فيه .
الغلو غير محمود في الدين ، روى ابن عباس عن النبي أنه قال : ' إياكم والغلو في الدين ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو ' .
( ^ ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ) وقد بينا أقوال العلماء في كونه ' كلمة ' وجملته ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه بكلمته ، وهي قوله : كن ، فكان ، والثاني : أنه يهتدي به ، كما يهتدي بكلمة الله ، الثالث : كلمته : بشارته التي بشر بها في الكتب ' يكون عيسى ' فهذا معنى قوله : ( ! ( وكلمته ) ! ألقاها إلى مريم وروح منه ) وفي تسميته ' روحا ' ثلاثة أقاويل :
____________________

( ^ بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 171 ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ) * * * * أحدها : أنه كان له روح كسائر الأرواح ، إلا أن الله - تعالى - أضافه إلى نفسه تشريفا .
والثاني : أنه تحيا به القلوب ، كما تحيا الأبدان بالروح .
الثالث : أن الروح : هو النفخ الذي نفخ في مريم جبريل بإذن الله ؛ فسمى ذلك النفخ روحا .
( فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ) وكانت النصارى يقولون بالثلاثة ، كانوا يقولون : ابن ، وآب ، وروح القدس ، وهذا معنى قوله - تعالى - : ( ^ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) وقوله : ( ^ انتهوا خيرا لكم ) تقديره : يكن الانتهاء خيرا لكم .
( ^ إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ) واعلم أن الله - تعالى - كما لا يجوز له أن يتخذ ولدا ، لا يجوز عليه التبني ؛ فإن التبني إنما يكون حيث يكون به الولد ، فإذا لم يتصور لله ولد ولم يجز عليه التبني ( ^ له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) . < < النساء : ( 172 ) لن يستنكف المسيح . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ) الاستنكاف : التكبر مع الأنفة ، ومعناه : لن يأنف المسيح أن يكون عبدا ( ^ ولا الملائكة المقربون ) واستدل بهذه الآية من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر ؛ لأن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ، وليس في الآية مستدل ، وإنما قال : ( ولا الملائكة المقربون ) [ لا ] لامتناع مكانهم ومقامهم على مقام البشر ، وإنما قال ذلك على ما عند النصارى ،
____________________

( ^ فسيحشرهم إليه جميعا ( 172 ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( 173 ) يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ( 174 ) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ( 175 ) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ) * * * * ولعله كان عندهم أن الملائكة أفضل من البشر ، فقال ذلك على ما في زعمهم .
وقوله : ( ^ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) الفرق بين الاستنكاف والاستكبار : أن الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة ، والاستكبار : هو الغلو ، والتكبر من غير أنفة . < < النساء : ( 173 ) فأما الذين آمنوا . . . . . > >
( ^ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) قيل : زيادة فضله : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقيل : هو الشفاعة ، وفي الحديث : ' يشفع الصالحون يوم القيامة لمن يعرفون ' .
( ^ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . < < النساء : ( 174 ) يا أيها الناس . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) قيل : هو محمد ، على هذا أكثر المفسرين . وقيل : هو القرآن .
والبرهان في اللغة : هو الحجة ( ^ وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) هو القرآن . < < النساء : ( 175 ) فأما الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ) يعنى الجنة ( ^ ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) . < < النساء : ( 176 ) يستفتونك قل الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) روى عن البراء بن عازب أنه قال : آخر سورة أنزلت كاملة : سورة براءة ، وآخر آية أنزلت هذه الآية .
____________________

( ^ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وأن كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ ) * * * *
وسبب نزول الآية ما روى : ' أن النبي دخل على جابر وهو مريض ، وكان قد أغمى عليه ، فدعا بماء وتوضأ ، ثم رشه عليه ، فأفاق ، فقال جابر : يا رسول الله ، ماذا أصنع في مالي ، وإنما ترثني كلالة ؟ فنزلت الآية ' ، وقد سبق الكلام في الكلالة .
وتلك الآية في توريث الاخوة والأخوات من الأم ، وهذه الآية في توريث الاخوة والأخوات من الأب والأم ، ومن الأب ( ^ إن امرؤ هلك ليس له ولد ) تقديره : ليس له ولد ، ولا والد ، وعلى هذا أكثر العلماء ، أن الكلالة : هذا ، وأن الأخوة والأخوات لا يرثون مع الأب ، إلا ما يحكى عن عمر - رضى الله عنه - : أنه ورثهم مع الأب ، وقد سبق .
قوله - تعالى - : ( ^ ليس له ولد ) أراد به : الذكر ، وعلى هذا أكثر العلماء : أن الاخوة والأخوات إنما لا يرثون مع الابن ، ويرثون مع البنت ، وحكى عن ابن عباس ، وبه قال داود وأهل الظاهر - : أن الإخوة والأخوات لا يرثون مع البنت ، تمسكا بظاهر الآية ، وقد بينا أن المراد به : الابن ، والآية في نفي الفرض مع الولد وعندنا : إنما يرثون بالتعصيب ، فإن الأخوات مع البنات عصبة .
قوله - تعالى - : ( ^ وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا ) .
قال الفراء : معناه : يبين الله لكم أن لا تضلوا ، وهو قول أبي عبيده ، قال أبو عبيده : وذكر الكسائي حديثا في معناه ؛ فأعجبه ذلك ، وذلك ما روى عن النبي أنه قال : ' لا يدعون أحدكم على ابنه أن يوافق قدرا ' أي : أن لا يوافق قدرا .
____________________

( ^ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيئا عليم ( 176 ) ) * * * *
وقال البصريون : معناه : يبين الله لكم كراهية أن تضلوا ( ^ والله بكل شئ عليم ) .
والله أعلم ، صدق الله وصدق رسول الله وعلى آله أجمعين .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير ) * * * * <
> تفسير سورة المائدة <
>
القول في تفسير سورة المائدة قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه - سورة المائدة مدنية كلها إلا قوله تعالى : ( ^ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فإنه نزل بعرفات على ما سنبين ، وقال الحسن البصري : كلها محكمة لم ينسخ منها شيء . وقال الشعبي : لم ننسخ منها شيء . إلا قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) على ما سنبين .
وروى عن أبي ميسرة أنه قال : أنزل الله - تعالى - في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في سائر القرآن . < < المائدة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) قد ذكرنا أن كل ما في القرآن من قوله : ( ^ يا أيها الذين آمنوا ) فإنما نزل بالمدينة ، وكل ما نزل من قوله : ( ^ يا أيها الناس ) فإنما أنزل بمكة ، وعن ابن مسعود أنه قال : إذا سمعت الله - تعالى - يقول : ( ^ يا أيها الذين آمنوا ) فارعه سمعك ، فإنه خير تؤمر به أو سوء تنهى عنه .
وقوله : ( ^ أوفوا بالعقود ) يقال : ' أوفى ' و ' وفى ' بمعنى واحد ، وأما العقود : قال علي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس أنه قال : أراد بالعقود : ما أحل الله وحرم ، وفرض وحد .
وقال مجاهد : أراد بالعقود : العهود ، وقيل الفرق بين العقد والعهد : أن العهد : هو الأمر بالشيء ، ويقال : عهدت إلى فلان كذا ، أي : أمرته به ، والعقد : هو الأمر مع الإستيثاق ، ويدخل في العقود النذور ، وسائر العقود اللازمة يجب الوفاء بكل إلا
____________________

( ^ محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ( 1 ) يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا ) * * * * اليمين على شيء مباح ، لا يجب الوفاء به ؛ للسنة ، وهي ما روى عن رسوله الله أنه قال : ' من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ؛ فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير ' .
قوله - تعالى - : ( ^ أحلت لكم بهيمة الأنعام ) قال الحسن : أراد به الإبل ، والبقر والغنم ، وحكى قطرب عن يونس : هي الإبل ، والبقر ، والغنم ، والخيل والبراذين ، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : بهيمة الأنعام وهي : بقر الوحش ، وحمر الوحش ، وظباء الوحش ، - وسميت البهيمة بهيمة لاستبهام فيها ، حيث لا نطق لها يفهم ، وبذلك سميت عجماء أيضا .
والمراد : ببهيمة الأنعام : هي الأنعام ، لكن أضافه إلى نفسه ، كما يقال : نفس الإنسان ، وحق اليقين ، ونحو ذلك ، وروى قابوس بن أبي ظبيان عن ابن عباس أنه قال : بهيمة الأنعام : هي الأجنة : ( ^ إلا ما يتلى عليكم ) يعني ما ذكر في قوله : ( ^ حرمت عليكم الميتة ) ( ^ غير محلى الصيد ) قيل هو نصب على الاستثناء ، وقيل على الحال ويعنى ' لا محلي الصيد ' كما قال - تعالى - : ( ^ غير ناظرين إناه ) أي : لا ناظرين إناه ، ( ^ وأنتم حرم ) فيه تحريم الصيد في حال الإحرام ( ^ إن الله يحكم ما يريد ) . < < المائدة : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) قال أبو عبيدة : الشعائر الهدايا المشعرة ، وهي المعلمة بالإشعار ، وكانوا ( ينخسون ) شيئا في سنام البعير حتى يتطلخ بالدم ، فذلك إشعار الهدى ، وهو سنة ، وقال مجاهد : أراد بالشعائر
____________________

( ^ شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون ) * * * * مشاعر الحرم من الصفا والمروة وغيرهما ، والمراد به النهي عن القتل في الحرم .
( ^ ولا الشهر الحرام ) قال عكرمة : أراد به : ذا القعدة ، وقال غيره : رجب ، وقيل : هو عبارة عن جميع الأشهر الحرم ، وقوله : ( ^ ولا الهدي ولا القلائد ) فالهدي : جمع الهدية ، والمراد به : إبل الهدي ، وأما القلائد : هي الإبل المقلدة ، وكانوا يقلدون إبل الهدي ، وقال عطاء : أراد به : أصحاب القلائد ، وكانت عادة أهل الحرم أن يقلدوا أنفسهم ، وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم إذا أرادوا الخروج ؛ لكيلا يتعرض لهم ؛ فنهى الشرع عن التعرض لهذه الأشياء .
( ^ ولا آمين البيت الحرام ) أي : ولا تتعرضوا للقاصدين إلى البيت الحرام ، وسبب نزول هذا : ما روي : ' أن الحطم بن ضبيعة جاء في نفر إلى رسول الله بالمدينة ، فعرض عليهم الإسلام ، فلم يقبلوا وتعللوا وانصرفوا ؛ حتى قال - عليه السلام - فيه : لقد أقبل بوجه كافر وأدبر بقفا غادر .
فذهب واستاق سرح المدينة ؛ فتبعوه فلم يدركوه وهو يستاق الإبل ، ويرتجز ويقول :
( قد لفها الليل بسواق حطم ** ليس براعي إبل ولا غنم )
( ولا بجزار على ظهر وضم ** )
فلما كان بعد فتح مكة ، لقيه المسلمون في الموسم حاجا ، ومعه إبل معشره وقلائد ؛ فقصدوه ، ولقيه النبي فأشار إلى أصحابه ، وقال : دونكم الرجل ؛ ليأخذوه ؛ فنزلت الآية ' منعا للتعرض له ولشعائره وقلائده ، قال الشعبي : كان هذا
____________________

( ^ فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا ) * * * * كذلك ، ثم نسخ بقوله : ( اقتلوا المشركين ) .
وقوله : ( ^ يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) قال ابن عمر : أراد به فضل التجارة ، وقيل : هو الأجر ( ^ وإذا حللتم فاصطادوا ) وهذا أمر إباحة ؛ أباح للحال الاصطياد .
( ^ ولا يجرمنكم شنآن قوم ) قال أبو عبيدة : جرم أي : كسب ويقال : فلان جارم أهله ، أي : كاسب أهله ، و ( أنشد )
( ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا )
أي : كسبت ، وقرأ الأعمش : ( ^ ولا يجرمنكم ) بضم الياء ، وهو صحيح في العربية ، يقال : جرم وأجرم ، بمعنى واحد ، وقيل : معناه : ولا يحملنكم شنآن قوم ، أي : عداوة قوم .
( ^ أن صدوكم ) أي : لأن صدوكم ، وقرأ أبو عمرو : ' إن صدوكم ' على الشرط ومعنى الآية : لا يحملنكم عداوة قوم صدوكم ( ^ عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) عليهم .
( وتعاونوا على البر والتقوى ) البر : الصدق ، وقيل البر : الاجتناب عن كل منهي . وفيه قول آخر : أن البر الإسلام ، والتقوى : السنة .
( ^ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) الإثم : الكفر ، والعدوان : البدعة ، وقيل : الإثم الكفر ، والعدوان : الظلم ( ^ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . < < المائدة : ( 3 ) حرمت عليكم الميتة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ حرمت عليكم الميتة والدم ) فالميتة : هي الحيوان الميت ، والدم : دم الحيوان يراق ويسفح فهو حرام ، وكان أهل الجاهلية يجعلون الدم في
____________________

( ^ على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ( 2 ) حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا ) * * * * المباعر ، ويسوونها ثم يأكلون ؛ فجاء الشرع بتحريمه ، وسئل ابن عباس عن الطحال ، فقال : كلوه ، فقيل : أليس بدم ؟ قال : إن الله - تعالى - إنما حرم الدم المسفوح .
( ^ ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) يعني : سمى على ذبحه غير الله ، وقيل : هو ما يذبح على الأصنام ؛ فهذه الأربعة حرام ، وقيل : إنها ما أبيحت في شرع ما ، حتى قيل : إن آدم - صلوات الله عليه - نزل إلى الأرض ومعه تحريم هذه الأربعة .
( ^ والمنخنقة ) هي الشاة التي تخنق بحبل فتموت ( ^ والموقوذة ) هي التي كانت يضربونها عند الصنم ، حتى إذا ماتت أكلوها ( والمتردية ) التي تتردى من موضع عال فتموت .
( ^ والنطيحة ) هي التي تنطحها أخرى فتموت ( ^ وما أكل السبع ) ويقرأ بجزم الباء على التخفيف ، ومعناه وما بقى مما أكل السبع ( ^ إلا ما ذكيتم ) حرم هذه الأنواع ، واستثنى المذكاة ، وأصل التذكية : الإتمام ، يقال : ذكيت النار ، إذا أتممت إيقادها ، ويقال : فلان ذكى ، إذا كان تام الفهم ، والزكاة في الشرع معروفة .
( ^ وما ذبح على النصب ) يعني : على الأصنام ، والنصب : نوع من الأصنام ، والفرق بينها وبين الأصنام : أن الأصنام : هي المصورة المنقوشة ، والنصب : لا تكون منقوشة ، ولا مصورة ، وقيل : كانت لهم أحجار منصوبة حول الكعبة ، كانوا يعبدونها ، ويتقربون إليها بالذبائح ، ويلطخونها بالدماء ؛ فحرمه الشرع .
( ^ وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ) الاستقسام : طلب النصيب والأزلام : الأقداح واحدها : ' زلم ' وقيل : ' زلم ' أيضا وهي سهام كانت عند سدنة الكعبة ، وكان مكتوبا على واحد اخرج ، وعلى آخر : لا تخرج ، وعلى واحد : أمرني ربي وعلى آخر : نهاني ربي ، وكان فيها واحد غفل ، ويسمى منتحا ، ليس عليه شيء مكتوب ،
____________________

( ^ بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن ) * * * * وكان الرجل منهم إذا أراد سفرا يأتي سادن البيت حتى يجيل الأقداح ؛ فإن خرج الغفل يجيله ثانيا ، حتى يخرج آخر ، فإن خرج الذي عليه : ' اخرج ' خرج إلى السفر ، وإن خرج : ' لا تخرج ' لم يخرج ؛ فنهى الشرع عنه ، ومن ذلك الحكم بالنجوم وضرب الحصا والطيرة والكهانة ، وكل ذلك منهي عنه ، قال : ' من تطير أو تكهن أو تعرف ؛ لم ينظر إلى الجنة يوم القيامة ' وقال الشعبي ، وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم .
وقوله : ( ^ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم ، حتى فتحت مكة ، وأظهر الله الإسلام ؛ أيسوا من ذلك ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) أن يذهب ، وتراجعوا إلى دينهم .
قوله - تعالى - : ( ^ اليوم أكملت لكم دينكم ) نزل هذا بعرفات ، ورسول الله على ناقته العضباء ؛ فبركت من ثقل الوحي ، وروى ' أن رجلا من اليهود قال لعمر رضي الله عنه : إنكم تقرءون آية لو علينا أنزلت ، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، يعني اليوم الذي أنزلت فيه ، فقال عمر : أنا أعلم أنها أي يوم أنزلت ، أنزلت يوم الجمعة عشية عرفة ، وأشار إلى أن ذلك اليوم لنا عيد ' .
____________________


ومعنى قوله : ( ^ اليوم أكملت لكم دينكم ) أي : في الشرائع والأحكام ؛ لأنها نزلت بعد استقرار الشرائع والأحكام ، وقيل : لم ينزل بعد هذه الآية شيء من الأحكام حتى قيل : إن قوله : ( ^ يستفتونك ) في آية الكلالة ، إنما نزل قبل هذه الآية ، وقيل : بعدها .
واعلم أن الشرائع لم تنزل جملة ، وإنما نزلت شيئا فشيئا ، فإن في الابتداء حين كان بمكة كان الواجب الإتيان بالشهادتين ، والإيمان بالبعث ، والجنة والنار ، وركعتين غدوة ، وركعتين عشية ، وأن يكفوا أيديهم عن القتال ، ويصبروا على أذى المشركين ، فلما كان ليلة المعراج - وهي قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا - فرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة ، ثم ردت إلى خمس صلوات ، كما عرف في القصة ، ثم لما هاجر إلى المدينة ، فرض الله عليه الجهاد ، والزكاة ، ثم الصوم سنة الثالث من الهجرة ، وفرض الحج سنة السابع من الهجرة ، ثم فتح مكة ، فلما حجة الوداع ؛ أنزلت هذه الآية سنة عشر من الهجرة ، ولم ينزل بعدها شيء من الأحكام كما بينا ، وعاش بعد ذلك رسول الله إحدى وثمانين ليلة ، وتوفي في اليوم الثاني من ربيع الأول ، وقيل : توفي في الثاني عشر من ربيع الأول ، وهذا أصح .
وكانت هجرته في الثاني عشر من ربيع الأول أيضا ، واستكمل عشر سنين ، وخرج من الدنيا .
وفيه قول آخر : أن معنى قوله : ( ^ اليوم أكملت لكم دينكم ) أي : أمنتكم من العدو ، وأظهرت دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا ، روت عائشة عن النبي أنه قال : ' يقول الله - تعالى - : إني نظرت في الأديان فارتضيت لكم الإسلام دينا ؛ فأكرموه بالسخاء ، وحسن الخلق ما صحبتموه ، فإن
____________________

( ^ اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ( 3 ) يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما ) * * * * البخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة ، قريب من النار ' .
( ^ فمن اضطر في مخمصة ) : المخمصة : خلاء الجوف عن الغذاء ، وفي المثل : ' البطنة بعدها الخمصة ' ( ^ غير متجانف لإثم ) أي : غير مائل إلى إثم ، وهو مجاوزة الشبع في أكل الميتة ، أو يأكلها تلذذا ( ^ فإن الله غفور رحيم ) . < < المائدة : ( 4 ) يسألونك ماذا أحل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يسألونك ماذا أحل لهم ) سبب نزول الآية : أن زيد بن الخيل الطائي ، وعدي بن حاتم الطائي سألا رسول الله وقالا : إنا نصطاد بالكلاب ، فماذا يحل ( منه ) وما يحرم منه ؟ فنزلت الآية ، وقيل : سبب نزول الآية : أن النبي
____________________

( ^ علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله ) * * * * لما أمر بقتل الكلاب ، وقالوا يا رسول الله : ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت الآية ، والأول أصح .
( ^ قل أحل لكم الطيبات ) فالطيبات : كل ما تستطيبه العرب ، وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه كتاب أو سنة ( ^ وما علمتم من الجوارح ) أي : الكواسب ، يقال : جرح ، واجترح ، إذا كسب ، ومنه سميت اليد جارحة ؛ لأنها كاسبة ، قال الشاعر :
( ذات حل حسن ميسمها ** يذكر الجارح وما كان جرح )
أي : ما كان كسب ( ^ مكلبين ) وقرئ في الشواذ ' مكلبين ' يقال : كلبه فهو مكلب ، وأكلب فهو مكلب : إذا كثر كلابه ، وهو مثل قولهم : أمشى إذا كثرت ماشيته ، قال الشاعر :
( وكل فتى وإن أمشى وأثرى ** [ سيخلجه ] عن الدنيا المنون ) قال الأزهري : ومعنى الكلام : وأحل لكم ما علتم من الجوارح في حال تكليبكم وتضريتكم إياها على الصيد ، واعلم أن حل الصيد لا يختص بصيد الكلب على قول جمهور العلماء .
وقال طاووس : يختص به ؛ تمسكا بقوله : ( ^ مكلبين ) وهذا خلاف شاذ ، ومعنى قوله : ( ^ مكلبين ) أي : محرشين ، ومغرين على الصيد ، ويستوي في ذلك كل الجوارح ( ^ تعلمونهن مما علمكم الله ) تؤدبونهن مما أدبكم الله .
____________________

( ^ سريع الحساب ( 4 ) اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا ) * * * *
( ^ فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) أباح صيد الجوارح إذا أمسكن على المالك ، ولا خلاف فيه ، فأما إذا أكل من الصيد ، هل يكون ممسكا على المالك ، وهو يحل ؟ فيه اختلاف بين الصحابة ، قال سعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي : إنه يحل ، حتى قال سعد : كل ما أخذ كلبك ، وإن بقيت منه جدية أي : قطعة ، وهذا أحد قولي الشافعي - رضي الله عنه - وقال ابن عباس ، وعدي بن حاتم : إنه لا يحل ، وهو القول الثاني للشافعي ، وبه قال أكثر المفسرين ، وأما الكلام في التسمية سيأتي في الأنعام ( ^ واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) . < < المائدة : ( 5 ) اليوم أحل لكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ اليوم أحل لكم الطيبات ) ذكر اليوم هاهنا صلة ، وقد بينا معنى الطيبات ، وفيه قول آخر : أن الطيبات عن طاهرات ، وكل طاهر حلال .
( ^ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) قال مجاهد ، وإبراهيم النخعي : أراد به : ذبائح أهل الكتاب ( ^ وطعامكم حل لهم ) فإن قال قائل : كيف أحل لهم طعامنا وشرع لهم ذلك وهم كفار ، وليسوا من أهل الشرع ؟ أجاب الزجاج فقال : معناه : حلال لكم أن تطعموهم ؛ فيكون خطاب الحل مع المسلمين ، قال غيره : وإنما قال ذلك لأنه ذكر عقيبه ( حكم ) النساء ، ولم يذكر حل المسلمات لهم فكأنه قال : حلال لكم أن تطعموهم ، حرام لكم أن تزوجوهم .
( ^ والمحصنات من المؤمنات ) هذا راجع إلى النسق الأول ، ومنقطع عن قوله : ( ^ وطعامكم حل لهم ) ( ^ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) قال الحسن : أراد به : العفائف ، وقال مجاهد : أراد به : الحرائر ، ومنه إباحة الحرة الكتابية للمسلم وقضية تحريم الأمة الكتابية ، وعليه أكثر العلماء ، وهو قول علماء الكوفة مثل الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير وجماعة . وهذا في الكتابية الذمية ؛ فأما الحرة الكتابية
____________________

( ^ الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ( 5 ) يا ) * * * * الحربية ، فعلى قول أكثر العلماء تحل للمسلم ، وقال ابن عباس : لا تحل ، وقرئ ( ^ المحصنات ) بكسر الصاد ، وإحصان الكتابية أن تستعفف عن الزنا ، وتغتسل [ من ] الجنابة ( ^ إذا آتيتموهن أجورهن ) أي : مهورهن : ( ^ محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان ) .
( ^ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) قال مجاهد : أراد به : من يكفر بالله الذي يؤمن به ، وقال الكلبي : أراد به : ومن يكفر بكلمة الشهادة ، وقال الربيع بن أنس : أراد به : ومن يكفر بالقرآن ، قال الزجاج : معنى قوله : ( ^ ومن يكفر بالإيمان ) يعني : بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، أي : ومن يستحل الحرام ، أو يحرم الحلال ( ^ فقد حبط عمله ) وهذا أقرب إلى نظم الآية في الإباحات ، وتحليل المحرمات ، وقوله ( ^ فقد حبط عمله ) أي : بطل عمله ( ^ وهو في الآخرة من الخاسرين ) . < < المائدة : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) يعني : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وذلك مثل قوله : ( ^ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) أي : فإذا أردت القراءة . تقول : إذا اتجرت فاتجر إلى البر ، وإذا جالست ، فجالس فلانا ، أي : إذا أردت المجالسة .
وظاهر الآية يقتضي أنه يجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة ، ولكن بالسنة عرفنا جواز الجمع بين الصلوات بوضوء واحد ، فإن رسول الله جمع بين أربع صلوات يوم الخندق بوضوء واحد وجمع بين خمس صلوات يوم فتح مكة
____________________

( ^ أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) * * * * بوضوء واحد ، وحكى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : الوضوء لكل صلاة مكتوبة . وقيل : هو على الاستحباب . وقال زيد بن أسلم : تقدير الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع - يعني : من النوم - فيكون إيجاب الوضوء بالحدث ؛ لأن النوم حدث .
( ^ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) يعني : مع المرافق ، قال المبرد : إذا مد الشيء إلى جنسه تدخل فيه الغاية ، وإذا مد إلى خلاف جنسه ، لا تدخل فيه الغاية ، فقوله : ( ^ إلى المرافق ) مد إلى جنسه ، فتدخل فيه الغاية .
وأما قوله : ( ^ ثم أتموا الصيام إلى الليل ) مد إلى خلاف جنسه ، فلا تدخل فيه الغاية . والمرفق سمى بذلك ؛ لارتفاق الإنسان به بالاتكاء عليه .
( ^ وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص : بالنصب ؛ فيكون تقديره : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم ، وقرأ الباقون ( ^ وأرجلكم ) بالكسر .
واختلف العلماء في وجوب غسل الرجل ، فأكثر العلماء - وعليه الإجماع اليوم - أن غسل الرجل واجب ، ويحكى عن علي أنه قال : يجوز المسح على الرجل ، وهو الواجب ، وحكى خلاف عنه ، قال الشعبي : نزل القرآن بغسلين ومسحين ، وقال محمد بن جرير الطبري : يتخير بين المسح والغسل ؛ لاختلاف القراءة .
والأصح أنه يجب الغسل ، وقد دلت السنة عليه ، فروى عن النبي أنه قال :
____________________

( ^ وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم ) * * * * ' ويل للأعقاب من النار ' وروي مرفوعا : ' لا يقبل الله - تعالى - صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه ؛ فيغسل وجهه ، ثم يديه ، ثم يمسح برأسه ، ثم يغسل رجليه ' .
وقال : ' ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه إلا ( خرجت ) خطاياه التي نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر من الماء - إلى أن قال - : وإذا غسل رجليه ، خرجت خطاياه التي مشت بها قدمه مع الماء ، أو مع آخر قطرة من الماء ' ، وروى : ' أنه رأى رجلا توضأ ، وبقي من رجله قدر ظفره لم يصبه الماء ؛ فقال : ارجع فأحسن الوضوء ' وأمره بالرجوع دليل وجوب .
فأما قوله : ( ^ وأرجلكم إلى الكعبين ) من قرأ بالنصب فهو ظاهر في وجوب الغسل ، وأما من قرأ بالخفض فتقديره : فامسحوا برءوسكم ، واغسلوا أرجلكم . ويجوز أن يعطف الشيء على الشيء وإن كان يخالفه في الفعل ، قال الشاعر :
( ورأيت زوجك في الوغى ** متقلدا سيفا ورمحا )
أي : متقلدا سيفا ، ومتنكبا رمحا ، وقال آخر :
( علفتها تبنا وماء باردا ** )
____________________

( ^ مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( 6 ) ) * * * *
أي : وسقيتها ماءا باردا ؛ فكذلك قوله - تعالى - : ( ^ وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ) أي : واغسلوا أرجلكم ؛ إلا أنه خفض على الاتباع والمجاورة كما قالت العرب : ' جحر ضب خرب ' ، ونحو ذلك .
وقال أبو زيد الأنصاري - وهو إمام اللغة - العرب قد تسمي الغسل الخفيف : مسحا ، تقول العرب : تمسح يا هذا ، يريدون به : اغتسل ، فعطفه على المسح لا ينفي الغسل ؛ فيجوز أن يكون المراد بهذا المسح في الرأس حقيقة المسح ، وفي الرجل الغسل ؛ ولأن غسل الرجل على الأغلب لا يخلو عن مسح ؛ [ ولذلك ] فساغ أن يسمى غسلها : مسحا ، وقوله : ( ^ إلى الكعبين ) يعني : مع الكعبين ، كما بينا في المرافق ، والكعبان : هما العظمان الناتئان على جانبي القدم .
( ^ وإن كنتم جنبا فاطهروا ) أي : فاغتسلوا ( ^ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) وقد بينا الكلام فيه . ( ^ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) وقوله : منه . دليل على أن الصعيد هو التراب ؛ لتحقق المسح منه ( ^ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي : ضيق ( ^ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) قال محمد ابن كعب القرظي : أراد بإتمام النعمة : تكفير الخطايا بالوضوء على ما روينا ، وهذا مثل قوله : ( ^ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ) يعني : بغفران الذنب ، وفي الوضوء تكفير الخطايا التي ارتكبها في الدنيا ، ونور يوم القيامة قال : ' أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة ؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ' .
____________________

( ^ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ( 7 ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا ) * * * * < < المائدة : ( 7 ) واذكروا نعمة الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ) قال مجاهد : أراد به : الميثاق الذي أخذه الله - تعالى على ذرية آدم قبل كون الخلق . وقال ابن عباس : أراد به الميثاق الذي أخذه رسول الله على كل من أسلم بالسمع والطاعة في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ( ^ إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ) أي : [ بما ] في الصدور . < < المائدة : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) أي : كونوا قوامين بالعدل ، قوالين ، للصدق ( ^ ولا يجرمنكم ) أي : ولا يحملنكم ( ^ شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) . < < المائدة : ( 9 - 10 ) وعد الله الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ) قيل هذا في موضع النصب ، وفعل الوعد واقع عليه ، ومثله قول الشاعر :
( رأيت الصالحين لهم جزاء ** وجنات وعينا سلسبيلا )
ومنهم من قال : ( ^ لهم مغفرة ) : ابتداء كلام ، أي : لهم مغفرة موعودة ، وموضع الرفع ( ! ( لهم مغفرة وأجر عظيم ) ! والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . < < المائدة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) الهم : حديث النفس بالفعل ، ويقال : أهم بالشيء واهتم به ، إذا عنى به .
وفي سبب نزول الآية قولان : قال جابر : سببه ' أن رسول الله كان في بعض الأسفار ، فتفرق أصحابه في العضاة في منزل ؛ فنزل رسول الله تحت شجرة
____________________

( ^ الله إن الله خبير بما تعملون ( 8 ) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ( 9 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 10 ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 11 ) ولقد ) * * * * منها ، وعلق سيفه بها ، فجاء أعرابي ، وسل سيفه ، وقام على رأسه ، وقال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله تعالى ؛ فسقط سيفه وذهب ، فنزلت الآية ' .
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وجماعة : نزلت الآية على سبب آخر ، وذلك : ' أن النبي كان بينه وبين بني قريظة عهد على أن يستعينوا به ، وهو يستعين بهم على المشركين ؛ فجاء يوما إليهم ليستعين بهم في دية العامريين ( ونزل ) تحت حائط ؛ فهموا أن يفتكوا به ، فقال واحد منهم - يقال له عمرو بن حجاش - : أنا ألقي عليه حجرا ؛ لتستريحوا منه ؛ فنزل جبريل وأخبره بذلك ' فهذا معنى قوله : ( ^ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . < < المائدة : ( 12 ) ولقد أخذ الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا ) النقيب للقوم مثل الرئيس ، وقال أبو عبيدة : النقيب : الكفيل ، وقال غيره : هو الأمين ، والنقيب فوق العريف ، والمنكب عون العريف ، وسمى نقيبا ؛ للبحث والاستخراج الذي يكون منه .
____________________

( ^ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ) * * * *
والقصة في ذلك : أن موسى - صلوات الله عليه - جعل على قومه اثنى عشر نقيبا على كل سبط نقيبا ، فروى أنه بعثهم إلى مدينة الجبارين ليتعرفوا ويستخبروا عن حالهم ، فلما رجعوا ، خوفوا بني إسرائيل من قتالهم ، وقالوا : أنتم لا تقاومونهم ، وخالفوا أمر موسى إلا ( رجلان ) منهم ، أحدهما : يوشع بن نون ، والآخر : كالب بن يوقنا ، وستأتي قصتهم مشروحة .
( ^ وقال الله ) تعالى ( ^ إني معكم ) يعني : بالنصر ( ^ لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم ) قال أبو عبيدة : معناه : عظمتموهم ، وقال غيره : نصرتموهم ، والتعزير : التأديب في اللغة ، وأصل التعزير : المنع ؛ ولذلك سمى التأديب . تعزيرا ؛ لأنه يمنع المؤدب عن فعل ما أدب عليه وعن سعد بن أبي وقاص : أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام . أي : تؤدبني .
( ^ وأقرضتم الله قرضا حسنا ) وهو إخراج الزكاة ، وقال زيد بن أسلم : معناه النفقة على الأهل ، وعن بعض السلف أنه سمع رجلا يقول : ( ^ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) فقال : سبحان الله ، والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
( ^ لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك [ منكم ] فقد ضل سواء السبيل ) أي : أخطأ طريق الحق . < < المائدة : ( 13 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فبما نقضهم ) ' ما ' صلة ، أي : فبنقضهم ( ^ ميثاقهم لعناهم ) أبعدناهم عن الرحمة ( ^ وجعلنا قلوبهم قاسية ) أي : جافة غير لينة لا تدخلها الرحمة ، وتقرأ : ' قسية ' قيل : معناه : قاسية ، فعيل بمعنى فاعل ، وقيل : معناه : أن قلوبهم ليست بخالصة الإيمان ؛ عاشوا بها بين الكفر والنفاق ، ومنه ' الدراهم القسية ' وهي المغشوشة ، قال الشاعر :
____________________

( ^ ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ( 12 ) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) * * * *
( لها صواهل في صم الخيل ** كما صاح القسية في كف الصارف )
شبه صواهل الخيل في صم الحجارة بصوت الدراهم في كف الصيرفي ( ^ يحرفون الكلم عن مواضعه ) تحريفهم الكلم : هو تبديلهم نعت الرسول ، وقيل المراد به : تحريفهم بسوء التأويل ( ^ ونسوا حظا ما ذكروا به ) أي : ونسوا نصيبا مما ذكروا به ، والحظ : النصيب .
( ^ ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) قيل الخائنة : الخيانة ، فاعل بمعنى المصدر ، مثل القائلة بمعنى القيلولة ، هذا قول قتادة ، وقال مجاهد : معناه : فرقة خائنة ؛ لأن الآية في اليهود ؛ فيستقيم هذا التقدير ( ^ ولا تزال تطلع ) على قوله : ( ^ خائنة منهم ) ( ^ إلا قليلا منهم ) يعني : الذين أسلموا مثل : عبد الله بن سلام ، وجماعة .
( ^ فاعف عنهم واصفح ) أي : أعرض عنهم ، ولا تتعرض لهم ، وقيل : صار هذا منسوخا أيضا بقوله : ( ^ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) في سورة التوبة ( ^ إن الله يحب المحسنين ) . < < المائدة : ( 14 ) ومن الذين قالوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن الذين قالوا إنا نصارى ) ومن اليهود ، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة ؛ لأنه قد تقدم ذكر اليهود ، وقال الحسن البصري - رحمه الله - : في هذا دليل على أنهم نصارى بتسميتهم ؛ لا بتسمية الله - تعالى - ( ^ أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ) هو كما بينا في اليهود ( ^ فأغرينا ) أي : أوقعنا ( ^ بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) والإغراء : أصله الإلصاق ، ومنه الغراء ،
____________________

( ( 13 ) ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغيرنا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( 14 ) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 ) يهدي به ) * * * * ومعناه : ألصقنا بهم العداوة حتى صاروا فرقا ، وأحزابا ، منهم اليعقوبية والملكائية ، والنسطورية . ( ^ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) . < < المائدة : ( 15 ) يا أهل الكتاب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أهل الكتاب ) والمراد به : أهل الكتابين : التوراة ، والإنجيل ، لكن ذكر الكتاب ، وهو اسم الجنس ، فينصرف إلى الفريقين ( ^ قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما ( كنتم ) تخفون من الكتاب ) يعني : اللذين أخفوا من نعت محمد وآية الرجم ، ونحو ذلك ( ^ ويعفو عن كثير ) يعني : يعرض عن كثير مما أخفوا ، فلا يتعرض له .
( ^ قد جاءكم من الله نور ) قيل : هو الإسلام ، ( وسمي نور لأنه يهتدى به كما يهتدي بالنور ، وقيل محمد ) وسمي نورا لأنه يتبين به الأشياء ، كما يتبين بالنور . ( ^ وكتاب مبين ) هو القرآن . < < المائدة : ( 16 ) يهدي به الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) أي : يهدي به الله سبل السلام من اتبع رضوانه ، قال السدي : السلام هو الله - تعالى - وسبل السلام : طريق الله - تعالى - وقال : السلام : هو السلامة ، كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد ، والمراد به : طرق السلامة .
( ^ ويخرجهم من الظلمات إلى النور ) يعني : من الكفر إلى ( الإسلام ) ، وسمي الكفر ظلمة ؛ لأنه يتحير في الظلمة ، [ وسمي ] الإسلام نورا لما بينا ( ^ ويهديهم إلى صراط مستقيم ) قيل : هو الإسلام ، وقيل : [ هو ] القرآن . < < المائدة : ( 17 ) لقد كفر الذين . . . . . > >
وقوله - تعالى - : ( ^ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) قيل : هذا قول اليعقوبية من النصارى ، قالوا : إن المسيح إله ، وقيل : إنهم لما قالوا : المسيح ابن
____________________

( ^ الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( 16 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء ) * * * * الله ، ابن كل أحد يكون من جنسه ، فكأنهم قالوا : المسيح هو الله .
( ^ قل فمن يملك من الله شيئا ) أي : فمن يقدر أن يدفع أمر الله ( ! ( إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) ! ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ) فيه إشارة إلى أن المستحق للألوهية من له ملك السموات ، ومن له هذه القدرة فإياه فاعبدوا . < < المائدة : ( 18 ) وقالت اليهود والنصارى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ) يعني : أن الله كالأب لنا في الحنو ، والعطف ، ونحن كالأبناء في القرب ، والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي - في اليهود - : إنهم وجدوا في التوراة : ' يا أبناء أحبارى ' فبدلوا ، وقرءوا : ' يا أبناء أبكارى ' ؛ فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله . وأحباؤه ، وأما في النصارى فإنهم حكوا عن عيسى انه قال : ' أذهب إلى أبي وأبيكم ' ؛ فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله .
( ^ قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) يعني : أن الأب لا يعذب ابنه ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، أي : فلم يعذبكم الله بذنوبكم ، وهو على زعمكم أبوكم وحبيبكم ، ثم قال : ( ^ بل أنتم بشر ممن خلق ) أي : آدميون من جملة الخلق ( ^ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) . < < المائدة : ( 19 ) يا أهل الكتاب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ) أي : على انقطاع من الرسل ، واختلفوا في زمان الفترة ، قال أبو عثمان النهدي : زمان الفترة : بين عيسى ومحمد ، وكان ستمائة سنة ، وقيل خمسمائة سنة ، وإنما سماه زمان الفترة ، لأن الرسل كانوا بعد موسى تترى من غير انقطاع ، ولم يكن بعد عيسى رسول سوى محمد ( ^ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ) قال الكوفيون : معناه : أن لا تقولوا : وقال البصريون معناه : كراهة أن تقولوا ، وهو
____________________

( ^ قدير ( 17 ) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( 18 ) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ( 19 ) وإذ قال موسى لقومه يا قوم ) * * * * كالقولين في قوله : ( ^ يبين الله لكم أن تضلوا ) ، ( ^ فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ) . < < المائدة : ( 20 ) وإذ قال موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء ) أي : منكم أنبياء ( ^ وجعلكم ملوكا ) قال ابن عباس : يعني أصحاب خدم وحشم ، قال قتادة : لم يكن لمن قبلهم خدم وحشم ، فلما كان لهم خدم كانوا ملوكا ، قال مجاهد : معناه : لا يدخل عليكم إلا بإذنكم ، ومن لا يدخل عليه إلا بإذنه فهو ملك ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي أنه قال : ' من كان له في بني إسرائيل خادم ، وامرأة ، ودابة ، كان ملكا ' وروى أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : أنا من فقراء المهاجرين ، فقال : ألك مسكن تأوي إليه ؟ قال : نعم ، فقال : ألك امرأة تسكن إليها ؟ قال : نعم ، فقال : أنت من الأغنياء . قال الرجل : ولي خادم يخدمني ، فقال : أنت من الملوك .
وقال السدي - في المتقدمين - معناه : وجعلكم ملوكا تملكون أمر أنفسكم ، وخلصكم من استعباد فرعون . وقال المؤرج : أراد به : وجعلكم أخيارا ، والملوك : الأخيار بلغة هذيل وكنانة .
( ^ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) يعني : من المن والسلوى ، وانفجار الحجر وتظليل الغمام ، ونحو ذلك .
____________________

( ^ اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( 20 ) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ( 21 ) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) * * * * < < المائدة : ( 21 ) يا قوم ادخلوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) قيل : هي دمشق ، وفلسطين وبعض الأردن ، وقال قتادة : هي جميع الشام ، وقيل : هي بيت المقدس ، وأرض الطور .
وقوله ( ^ كتب الله لكم ) أي : وهب الله لكم ، وقيل : فرض الله لكم أن تدخلوها ( ^ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) < < المائدة : ( 22 ) قالوا يا موسى . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) الجبار : هو كل عات يجبر الناس على مراده ، والله - تعالى - جبار ، يجبر الخلق على مراده ، وذلك منه حق وله مدح ، وأما الجبروت للخلق ذم ، وأصل الجبار : المتعظم الممتنع عن الذل والقهر ، ومنه يقال : نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة على وصول الأيدي إليها ، وسمى أولئك القوم جبارين ؛ لطولهم ، وامتناعهم بقوة أجسادهم ، والقصة في ذلك : أن هؤلاء كانوا في مدينة ' أريحا ' بالشام ، وكان فيها ألف قرية في كل قرية ، ألف بستان ، وكان فيها العمالقة ، وبقية من قوم عاد وهي مدينة الجبارين .
روى عكرمة عن ابن عباس : أن موسى صلوات الله عليه كان قد بعث أولئك النقباء ، وهم اثنا عشر نقيبا إلى تلك المدينة ؛ ليتعرفوا أحوالهم ، فلما وصلوا إليها لقيهم رجل منهم ، فأخذهم جملة في كمه وأتى بهم إلى الملك ، ونثرهم بين يديه ، وقال هؤلاء الذين جاءوا ليقاتلونا ؛ فقال الملك : ارجعوا وأخبروهم بما لقيتم ، فرجعوا .
وفي بعض التفاسير : أنهم أخذوا عنقودا من العنب ، وجعلوه على عمود بين رجلين حتى قدروا على حمله ، وأخذوا رمانتين ، وحملوهما على دابة كادت تعجز عن حملهما فلما رجعوا إلى بني إسرائيل خوفوهم ، وقالوا : إنكم لا تقاومونهم إلا رجلين منهم : يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ، وذكرهما في الآية الأخرى ، وأما الباقون من بني إسرائيل خالفوا وامتنعوا من قتالهم ، وقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ( ^ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) .
____________________

( ^ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ( 22 ) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) * * * * < < المائدة : ( 23 ) قال رجلان من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) هما يوشع وكالب ( قالا ) : ( ^ ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) وذلك باب كانوا عرفوا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب غلبوا ، ( ويقرأ ) في الشواذ : ' قال رجلان من الذين يخافون ' - ضم الياء - فيكون معناه : رجلان من أولئك العمالقة ، قيل : أسلم رجلان منهم ، وقالا هذه المقالة ( ^ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . < < المائدة : ( 24 ) قالوا يا موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - ( ^ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ) وهذا معلوم ( ^ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) قال الحسن : كفروا بهذه المقالة ، وقال غيره : بل فسقوا بمخالفة أمره ، وتقدير قوله : ( ^ فاذهب أنت وربك فقاتلا ) أي : فاذهب أنت ، وليعنك ربك على القتال ، وفيه قول آخر : أن معنى قوله : ( ^ فاذهب أنت وربك ) أي : وكبيرك ، وأرادوا أخاه الأكبر هارون ، والعرب تسمي الكبير ربا ، قال الله - تعالى - في قصة يوسف : ( ^ إنه ربي أحسن مثواي ) أي : كبيري وأراد به ' عزيز مصر ' ويحتمل أنهم قالوا ذلك لموسى ؛ جهلا وغباوة ، ففسقوا به ، وروى ابن مسعود عن النبي ' أنه لما خرج يوم بدر ، قال له المقداد بن عمرو : لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول : سر أنت حيث شئت [ فإنا ] معك سائرون ' وروى : ' أن الأنصار قالوا يا رسول الله : لو ضربت بأكبادها إلى برك الغماد سرنا معك ' يعني : بأكباد الإبل إلى برك الغماد ، وهو موضع . < < المائدة : ( 25 ) قال رب إني . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ) معناه : لا أملك إلا
____________________

( ^ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ( 23 ) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( 24 ) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( 25 ) ) * * * * نفسي ، وأخي لا يملك إلا نفسه ، وقيل معناه : لا تطيعني إلا نفسي ، ولا يطيعني إلا أخي ( ^ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ) أي : فافصل بيننا ، و ( قيل ) معناه : فاقض بيننا وبين القوم الفاسقين . < < المائدة : ( 26 ) قال فإنها محرمة . . . . . > >
قوله - تعالى - ( ^ قال فإنها محرمة عليهم ) قيل ها هنا تم الكلام ، ومعناه : أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أبدا ، ولم يرد به : تحريم تعبد ، وإنما أراد به : تحريم منع ، فإنهم منعوا عنها ، فلم يدخلوها أبدا ، وإنما دخلها أولادهم ، وقيل الآية متصلة بعضها بالبعض .
وإنما حرمت عليهم أربعين سنة كما قال : ( ^ فإنها محرمة عليهم أربعين سنة )
( يتيهون في الأرض ) وقد أوقفهم الله - تعالى - في التيه ؛ عقوبة لهم على ما خالفوا ، وقيل : إن أرض التيه التي تاه فيها بنو إسرائيل كانت : ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخا ، وكان عدد التائهين فيها : ستمائة ألف ، قاموا فيها ، وكانوا كلما أمسوا من موضع للمسير ، فإذا أصبحوا ( أصبحوا ) على ذلك الموضع ، وكلما أصبحوا من موضع للمسير ، فإذا أمسوا أمسوا على ذلك الموضع ، وهكذا كل يوم إلى أن ماتوا فيها ، وقيل : كان موسى وهارون فيهم ، وإنما توفيا في التيه ، وقيل : لم يكونا فيهم ، وإنما كان ذلك عقوبة عليهم ، فلما ماتوا في التيه ونشأ أولادهم ، أقبل يوشع بن نون بأولادهم إلى الأرض المقدسة ، وحارب العمالقة ونصره الله تعالى عليهم حتى فتح تلك المدينة ، وكان يوم الجمعة وضاق النهار بهم فحبس الله - تعالى - الشمس ساعة حتى فتح المدينة ثم غربت الشمس من ليلة السبت ، إذ ما كان يجوز لهم عمل في السبت ؛ ففزع الله قلوبهم يوم الجمعة ؛ فهذا جملة الكلام في قوله : ( ! ( أربعين سنة يتيهون في الأرض ) ! فلا تأس ) أي فلا تحزن ( ^ على القوم الفاسقين ) .
____________________

( ^ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ( 26 ) واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من ) * * * * < < المائدة : ( 27 ) واتل عليهم نبأ . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا ) قال ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد : أراد به ابنى آدم من صلبه هابيل ، وقابيل ، وقال الحسن : أراد به رجلين من بني إسرائيل ، والأصح هو الأول .
والقصة في ذلك : قيل : إن حواء كانت تلد كل بطن غلاما وجارية ، فولدت بطنا هابيل وأخته ، وولدت بطنا قابيل وأخته ، فأمر الله - تعالى - آدم أن يزوج أخت هابيل من قابيل ، وأخت قابيل من هابيل ، ولم يرض قابيل ، ( وقال ) : أنا أحق بأختي ، وكانت أحسن من أخت هابيل ، وفي بعض التفاسير : أن قابيل قال : أنا أحق بأختي ؛ لأني من نسل الجنة ، وهابيل من نسل الأرض ، وقيل : إن حواء علقت به في الجنة ؛ فمن ذلك قال : إني من نسل الجنة ، فأمرهما آدم أن يقربا قربانا ، فكل من يقبل قربانه فهو أولى بتلك الأخت .
وكان هابيل صاحب غنم ، وقابيل صاحب زرع ، فعمد هابيل إلى كبش من أحسن غنمه ، وعمد قابيل إلى أخبث زرعه ، ووضعاه موضعا ، فجاءت النار ، وأكلت قربان هابيل ، وكان ذلك علامة القبول يومئذ ، ولم تأكل قربان قابيل ؛ ( فهذا ) معنى قوله : ( ^ إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ) يعني هابيل ( ^ ولم يتقبل من الآخر ) يعني : قابيل ( ^ قال لأقتلنك ) حسده قابيل ، وقصده ليقتله ؛ فأجاب هابيل ، وقال : ( ^ إنما يتقبل الله من المتقين ) عن المعاصي ، وعن أبي الدرداء أنه [ قال ] : ' لأن أعلم [ أن ] الله - تعالى - قبل صلاة من صلاتي أحب إلي من الدنيا وما فيها ؛ لأن الله - تعالى - يقول : ( ^ إنما يتقبل الله من المتقين ) قال قتادة : المتقون : أهل لا إله إلا الله .
____________________

( ^ الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ( 27 ) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ( 28 ) إني أريد أن تبوء بإثمي ) * * * * < < المائدة : ( 28 ) لئن بسطت إلي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) قال الحسن ، ومجاهد : كان [ من شرع آدم أن ] : من قصد بالقتل ؛ فواجب عليه الكف عن الدفع ، والصبر على الأذى ، وكذا كان في شرع نبينا في الابتداء ، فأما قوله : ( ^ ما أنا بباسط يدي إليك ) يعني : بالدفع . وقيل : لم يكن ذلك شرعا ، وإنما قال ذلك ؛ استسلاما للقتل ؛ وطلبا للأجر ، وهذا جائز لكل من يقصد قتله ، أن يستسلم وينقاد ، وكذا فعل عثمان رضي الله عنه - وهو أحد قولي الشافعي ، وفيه قول ثالث : أن المراد به : لئن ابتدأت بقتلي ما أنا بمبتدئ بقتلك ، والصحيح [ آخر ] القولين . < < المائدة : ( 29 ) إني أريد أن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ) قال ابن عباس ، وابن مسعود : معناه : أن ترجع بإثم قتلي وإثم معاصيك التي سبقت ، فإن قابيل كان رجل سوء ، وقيل : كان كافرا ، وقيل : هو أحد اللذين ذكرهما الله - تعالى - في ' حم السجدة ' : ( ^ وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس ) فالذي من الجن إبليس ، والذي من الإنس قابيل ، وقال مجاهد : معنى قوله : ( ^ أن تبوء بإثمي وإثمك ) : أن ترجع بإثم قتلي ، وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك إياي ، وهذا اختيار الزجاج ، وقال ابن كيسان : إنما قال ذلك ؛ على طريق التمثيل ، يعني : لو قتلت أنا كان عليّ الإثم ، ولو قتلت أنت كان عليك الإثم ، فأنا لا أقتل حتى تقتل أنت ؛ فتبوء بالإثمين ، فيكون كلا الإثمين عليك ، فإن قال قائل : كيف قال : أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز ؟ أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قالوا : ليس ذلك بحقيقة إرادة ، ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ، ووطن نفسه على الاستسلام ؛ طلبا للثواب ،
____________________

( ^ وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( 29 ) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ( 30 ) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف ) * * * * فكأنه مريد لقتله مجازا وإن لم يكن مريدا حقيقة ، وقيل معناه : إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي ، وعقاب قتلك ؛ فتكون إرادة على موافقة حكم الله - تعالى - فيه ، ولا تكون إرادة للقتل بل لموجب القتل من الإثم والعقاب ، وفيه قول ثالث : أن معناه : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ؛ فكأنه كان يمنعه عن القتل ، وأراد ترك القتل ؛ كيلا يبوء بالإثم . < < المائدة : ( 30 ) فطوعت له نفسه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فطوعت له نفسه قتل أخيه ) قال مجاهد : فشجعت له نفسه ، وقال قتادة : زينت له نفسه ، وقيل : سهلت ، وانقادت له نفسه ، ومنه يقال : ظبية أطاعت لها أصول الشجرة ، أي : انقادت لأكلها .
( فقتله فأصبح من الخاسرين ) أي : خسر بقتله الدنيا والآخرة ، أما الدنيا : لأنه أسخط والديه ، وبقي بلا أخ ، وأما الآخرة : لأنه أسخط ربه ، واستوجب النار .
والقصة في قتله إياه : أنه لما أراد قتله لم يعرف كيف يقتله ، فجاء إبليس بحجر ، وقال : اشدخ به رأسه ، ففي رواية أنه رماه بذلك الحجر ، وهو مستسلم له ؛ فشدخ رأسه ، وفي رواية أخرى : اغتاله في النوم ، وشدخ رأسه ؛ فقتله ، وشربت الأرض دمه فلما جاء إلى آدم ، قال له : أين هابيل ؟ فقال : أجعلتني رقيبا عليه ، ما أدري ! قال له آدم : إن الأرض تصرخ بدمه إلي ، ثم لعن الأرض التي شربت دمه ، فلا تشرب الأرض بعد ذلك دما إلى يوم القيامة ، وبكى آدم عليه كثيرا ، وأنشأ يقول :
( تغيرت البلاد ومن عليها ** ووجه الأرض مغبر قبيح )
( تغير كل ذي لون وطعم ** وقل بشاشة الوجه المليح )
وهذا أول قتل جرى في بني آدم ، وفي الخبر ' ما من رجل يقتل إلى يوم القيامة ؛ إلا وعلى ابن آدم كفل منه ؛ فإنه أول من سن القتل ' .
____________________

( ^ يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ( 31 ) من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير ) * * * * < < المائدة : ( 31 ) فبعث الله غرابا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ) في القصص : أن قابيل لما ( قتله رجع إليه ) ، وأخذه ، وجعله في جراب وحمله على عاتقه أربعين يوما ، وقال ابن عباس ، سنة كاملة ، قال مجاهد : مائة سنة حتى أنتن على عاتقه ، وما كان يعرف مواراته : فبعث الله غرابين فاقتتلا ، [ فقتل ] أحدهما الآخر ، ثم إن القاتل منهما بحث في الأرض ليواري الثاني ، وقيل : كان ملكا على صورة غراب ( ^ يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) أي : جيفة أخيه ، وقيل : عورة أخيه ؛ لأنه كان قد سلبه ثيابه .
( ^ قال يا ويلتي ) وهذه كلمة دعاء الهلاك ( ^ أعجزت أن أكون ) أضعفت أن أكون ( ^ مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ) فإن قال قائل : هل كان ندمه على القتل توبة منه ؟
قيل : لم يكن ندم على القتل ، وإنما معناه : أنه أصبح من النادمين على حمله على عاتقه ، ( والتطواف ) به ؛ لما ( لحقه ) من التعب فيه ، وقيل : إنما ندم لقلة النفع بقتله ؛ فإنه أسخط والديه ، وما نفع بقتله شيئاً ؛ فندم على ذلك ، لا أنه ندم على القتل ، وفي القصة أنه لما قتله استوحش من الناس ، وكان كلما لقي إنسانا ظن أنه يأتي ليقتله فهرب منه ، وكان هكذا أبدا حتى قتله بعض أولاده . < < المائدة : ( 32 ) من أجل ذلك . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ من أجل ذلك ) أي : من خيانة ذلك ( ^ كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ) قرأ الحسن : ' أو فساد في الأرض ' تقديره بغير نفس ، وبغير أن عمل فسادا في الأرض ، والمعروف : أو فساد في الأرض ، وتقديره : بغير نفس ، وبغير فساد في الأرض : من كفر ، أو زنا ، ونحوه ،
____________________

( ^ نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( 32 ) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو ) * * * * يوجب إباحة قتله على ما قاله : ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ' .
( ^ فكأنما قتل الناس جميعا ) قال ابن عباس : معناه : من قتل نفسا بغير نفس فقد أوبق نفسه كما إذا قتل الناس جميعا ؛ ( فقد أوبق نفسه ) ( ^ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) أي : ومن امتنع عن قتل واحد من الناس ؛ فيكون كأنه أحيا الناس جميعا ، وقال قتادة : معناه من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا من الإثم ، ومن أحياها ، أي : تعفف وامتنع عن قتلها ، فكأنما أحيا الناس جميعا في الثواب ، وقيل : معناه : من قتل نفسا ، فكأنما قتل الناس جميعا على معنى أن جميع الناس خصماؤه فيه ، ومن أحياها ، فكأنما أحيا الناس جميعا ، على معنى أنهم يشكرونه ، ويحمدونه على العفو ، أو ترك القتل .
( ^ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) . < < المائدة : ( 33 ) إنما جزاء الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) .
قال ابن عباس : الآية في قوم من المشركين ، كان بينهم وبين النبي عهد ، فنقضوا العهد ، وسعوا في الأرض بالفساد ، وقال أنس : ' الآية في رهط من عرينة ، أتوا النبي ووجوههم مصفرة ، وبطونهم منتفخة ؛ فبعثهم رسول الله إلى إبل الصدقة ؛ ليشربوا من أبوالها ، وألبانها ، ففعلوا فلما صحوا ، قتلوا الراعي ، واستاقوا الذود ؛ فبعث سول الله في طلبهم ، فأدركوهم ، فأتي بهم إلى النبي ، فقتل بعضهم ( وقطع ) بعضهم من خلاف وسمل أعين بعضهم ، وتركهم في الحرة حتى
____________________

( ^ تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 33 ) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله ) * * * * ماتوا ' وفيهم نزلت الآية ( ^ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) .
قيل : معناه يحاربون أولياء الله ، وقيل : هو صحيح في العربية ، فإن من عصى غيره فقد حاربه ، فهؤلاء إذا عصوا الله ورسوله ، فكأنهم حاربوا الله ورسوله ، ويدخل في جملتهم كل العاصين ، وقطاع الطريق ، وغيرهم .
وقوله : ( ^ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم ) اختلفوا فيه ، أنه على الترتيب ، أم على التخيير ؟ قال ابن عباس - في رواية ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، ومجاهد - : إنها على التخيير ، فيخير الإمام في فعل هذه الأشياء .
القول الثاني : - وهو الرواية الثانية عن ابن عباس ، وبه قال أبو مجلز لاحق بن حميد - : إنه على الترتيب ، فإن قتلوا : قتلوا وصلبوا ، وإن أخذوا المال : قطعوا من خلاف ، وإن جمعوا بين الأخذ والقتل : قطعوا ، وقتلوا ، إن أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال ولم يقتلوا : ينفوا من الأرض .
ثم اختلفوا في النفي ، قال الزهري : إن الإمام يطلبه في كل بلد يؤخذ ، وينفى عنه ، وهكذا في كل بلد يذكر به ، يطلب ؛ فينفى عنه ، وهذا قول الشافعي .
وقال عمر بن عبد العزيز : إنه ينفى من جميع بلاد الإسلام ، وقال أهل الكوفة : النفي من الأرض هو الحبس ، والحبس نفي من الأرض ، قال الشاعر يصف قوما محبوسين :
( خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى )
( إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا )
( ^ ذلك لهم خزي في الدنيا ) أي : فضيحة : ونكال ( ! ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) { < المائدة : ( 34 ) إلا الذين تابوا . . . . . > > إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) قال ابن عباس : معناه : إلا
____________________

( ^ غفور رحيم ( 34 ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ( 35 ) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا ) * * * * الذين أسلموا ؛ لأنه حمل الآية الأولى على المشركين ، وقيل : هو على حقيقة التوبة ، فإذا تاب قطاع الطريق قبل الظفر بهم ؛ أمنهم الإمام ، وهذا محكي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإنه أمن [ حارثة ] بن بدر لما قطع الطريق ، ثم تاب قبل قدرته عليه ، وقيل : إنما تنفعه التوبة من حقوق الله - تعالى - فأما حق الآدمي : من القود ، والمال فلا يسقط بالتوبة ، وهذا قول الشافعي .
وقوله ( ^ من قبل أن تقدروا عليهم ) خطاب للأئمة ، أي : من قبل الظفر بهم ( ^ فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . < < المائدة : ( 35 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) الوسيلة : القربة ، وقيل : هو معنى ما ورد في الخبر ' الوسيلة : درجة في الجنة ليس فوقها درجة ' وقال زيد بن أسلم : أراد به تحببوا إلى الله - تعالى - فالوسيلة بمعنى المحبة . ( ^ وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ) . < < المائدة : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به ) أي : لو كانوا مفتدين به من عذاب يوم القيامة ( ^ ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ) وفي الخبر : ' يقول الله - تعالى - للكافر يوم القيامة : لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به اليوم ؟ فيقول بلى يا رب ، فيقول الله - تعالى - سئلت أهون من هذا ' .
____________________

( ^ به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ( 36 ) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ( 37 ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ( 38 ) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ) * * * * < < المائدة : ( 37 ) يريدون أن يخرجوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) فإن قيل : إذا لم يكونوا خارجين منها ، كيف يريدون الخروج ؟ قيل : يريدون ذلك جهلا ؛ ظنا أنهم يخرجون .
وقيل : يتمنون ذلك ، فهي إرادة بمعنى التمني ، وليس بحقيقة الإرادة . < < المائدة : ( 38 ) والسارق والسارقة فاقطعوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وفي مصحف ابن مسعود : فاقطعوا أيمانهما ، وهو معنى القراءة المعروفة ، فإن قال قائل : كيف قال ( ^ أيديهما ) والمذكور اثنان ، ولم يقل : يديهما ؟ قيل : لم يرد به سارقا واحدا ، أو سارقة واحدة ، وإنما ذكر الجنس ؛ فلذلك ذكر الأيدي . قال الفراء ، والزجاج : كل ما يوحد في الإنسان ، فإذا ذكر منه اثنان يجمع ؛ يقول الله - تعالى - ( ^ فقد صغت قلوبكما ) وتقول العرب : ملأت ظهورهما وبطونهما ضربا ، ولكل واحد ظهر وبطن واحد ، فكذلك اليمين للإنسان واحدة ؛ فيجمع عند التثنية ، فإن قيل : قد أمر هنا بقطع آلة السرقة ، ولم يأمر في الزنا بقطع آلة الزنا ، فما الحكمة فيه ؟ قيل : كلاهما ثبت شرعا ، غير معقول المعنى . وقيل : الحكمة فيه : أن من قطع الذكر قطع النسل ، وليس ذلك في قطع اليد ؛ أو لأن اليد إذا قطعت ، وانزجر عن السرقة ، تبقى له اليسار ؛ عوضا عن اليمين ، وأما الذكر إذا قطع ، وحصل الانزجار ، لا يبقى له عوض عن الذكر [ فلذلك ] افترقا ( ^ جزاء بما كسبا نكالا من الله ) النكال : كل عقوبة تمنع الإنسان عن فعل ما عوقب عليه ( ^ والله عزيز حكيم ) ومعناه : مقتدر على معاقبة الخلق ، ( ^ حكيم ) فيما أوجب من العقوبة ، وحكى عن الأصمعي أنه [ قال ] : قد كنت أقرأ هذه الآية وبجنبي أعرابي ، فقرأت : نكالا من الله والله غفور رحيم ؛ فقال الأعرابي : هذا كلام من ؟ فقلت : كلام الله ، فقال الأعرابي : ليس هذا من كلام الله .
____________________

( ^ فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ( 39 ) ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ( 40 ) يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن ) * * * * فتنبهت وقرأت ( ^ نكالا من الله والله عزيز حكيم ) فقال الأعرابي : هذا كلام الله ، ثم سألته عن ذلك ، فقال : إن الله لا يذكر العقوبة على العبد ثم يقول : ' والله غفور رحيم ' ، وإنما يليق بذكر العقوبة : العزيز الحكيم . < < المائدة : ( 39 ) فمن تاب من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) قال مجاهد : قطع السارق توبته ، فإذا قطع ، فقد حصلت التوبة ، والصحيح : أن القطع للجزاء على الجناية ، كما قال : ( ^ جزاء بما كسبا ) فلا بد من التوبة بعده ، وتوبته : الندم على ما مضى ، والعزم على تركه في المستقبل . < < المائدة : ( 40 ) ألم تعلم أن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ) الخطاب مع الرسول ، والمراد به الجميع ، وقيل ( معناه ) : ألم تعلم أيها الإنسان ؛ فيكون خطابا لكل واحد من الناس . ( ^ يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ) قال ابن عباس : يعذب من يشاء على الصغيرة ، ويغفر لمن يشاء الكبيرة ، وقال غيره : يعذب من يشاء : من مات مصرا ، ويغفر لمن يشاء : من مات تائبا ( ^ والله على كل شيء قدير ) . < < المائدة : ( 41 ) يا أيها الرسول . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) أي : لا يحزنك مسارعتهم في الكفر ؛ فإن قيل : كيف لا يحزنه كفرهم ، والإنسان يحزن على كفر الغير ومعصيته ؛ شفقة على الدين ؟ قيل : معناه : لا يحزنك فعل الذين يسارعون في الكفر ، على ( معنى : أن ) فعلهم لا يضرك .
( ^ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) يعني : المنافقين .
( ^ ومن الذين هادوا سماعون للكذب ) يعني : اليهود ( ^ سماعون للكذب ) أي : وهم سماعون للكذب ، أي : قائلون للكذب ، كقول المصلي : سمع الله لمن حمده . أي : قبل الله لمن حمده . وقال الزجاج : معناه : سماعون لأجل الكذب ؛ فإنهم كانوا
____________________

( ^ قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد ) * * * * يسمعون من الرسول ، ويخرجون ، ويكذبون ( ^ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) أي : جواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ، وهم أهل خيبر ، يصف المنافقين واليهود ، وأما المنافقون : كانوا جواسيس اليهود ، وأما اليهود كانوا جواسيس لأهل خيبر ، وسئل سفيان : هل في القرآن للجاسوس ذكر ؟
فقال : ( بلى ) وقرأ هذه الآية .
( ^ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ) أي : من بعد ما وضعه الله مواضعه ، وتحريفهم الكلم : هو كتمان آية الرجم .
( ^ ويقولون إن أويتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) .
سبب نزول الآية [ هذه ] : أن يهوديين زنيا من أشراف اليهود ، فكرهوا رجمهما ؛ فقالوا : نبعث إلى محمد نسأله ، فإن أفتى بالجلد وتحميم الوجه ، نأخذ به ، وإن أفتى بغيره ، لا نأخذ به ، فهذا معنى قوله : ( ^ إن أوتيتم هذا ) يعني : ما توافقوا عليه من الجلد والتحميم ( ^ فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) أي : إن أفتى بالرجم فلا تأخذوا به ، وقيل : ' إن هذا كان في يهود خيبر ، فبعثوا إلى يهود المدينة حتى يسألوه ، فسألوا رسول الله ، فأفتى بالرجم ' وتمام القصة : ' أنه - عليه السلام - دعا ابن صوريا الأعور ، وقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما حد الزنا في كتابكم ؟ فقال : أما إنك إذا أنشدتني بالله ، فحد الزنا في كتابنا : الرجم ، لكن كثر الزنا في أشرافنا ؛ فكنا إذا زنى الشريف منا تركناه ، وإذا زنا الوضيع رجمناه ، ثم اتفقنا على أمر يستوي فيه الشريف والوضيع ، وهو الجلد والتحميم ، فقال : أنا أحق بإحياء سنة أماتوها ، ودعا باليهوديين اللذين زنيا وأمر برجمهما ' والحديث في
____________________

( ^ الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 41 ) سماعون للكذب أكالون للسحت ) * * * * صحيح مسلم .
وفي الآية قول آخر : أنها في القتل ، والقصة في ذلك : أن بني النضير كان لهم قتل على بني قريظة ، وكان القرظي إذا قتل يسأل محمدا ؛ فإن أفتى بالدية يأخذ به ، وإن أفتى بغيرها يحذره ، فسألوه . فأفتى بالقود . فهذا معنى قوله : ( ^ إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) والأول أصح ( ^ ومن يرد الله فتنته ) قال السدي : ضلالته ، وقال الحسن : عذابه ، وقال الزجاج : فضيحته ( ^ فلن تملك له من الله شيئا ) أي : فلن تقدر على دفع أمر الله فيه .
( ^ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) وفيه دليل على من ينكر القدر ( ^ لهم في الدنيا خزي ) ويرجع هذا إلى المنافقين ، واليهود ، أما خزي المنافقين : أنه أظهر نفاقهم في الدنيا ، وأما خزي اليهود : أنه بين تحريفهم ( ^ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . < < المائدة : ( 42 ) سماعون للكذب أكالون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ سماعون للكذب ) ( ذكره ) ثانيا مبالغة وتأكيدا ( ^ أكالون للسحت ) قال ابن مسعود : هو الرشوة ، والسحت : الحرام ، قال : ( كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ' وأصل السحت : الاستئصال ؛ فالحرام سحت ؛ لأنه يستأصل البركة ، قال الشاعر :
____________________

( ^ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ( 42 ) وكيف يحكّمونك وعندهم التوارة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 43 ) إنّا ) * * * *
( وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحت أو مجلف )
يعني : إلا مال لا بركة فيه ، وأشياء قلائل ( ^ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) قال ابن عباس : هو منسوخ بقوله : ( ^ وان احكم بينهم بما أنزل الله ) وبه قال مجاهد ، وعكرمة . وقال الشعبي : والنخعي - وهو قول الحسن - إنها ليست بمنسوخة . قال الحسن : ليس في المائدة آية منسوخة ، وقالوا : معنى قوله : ( ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) يعني إن حكمت واخترت الحكم ، وليس بأمر حتم هذا التخيير بين الحكم والإعراض فيما إذا تحاكم ذميان ، فأما إذا تحاكم مسلم وذمي يجب الحكم .
وقيل : هذا التخيير في الحكم بحقوق الله - تعالى - وأما في حقوق الآدميين فلا بد من الحكم .
( ^ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) أي : بالعدل ( ^ إن الله يحب المقسطين ) . < < المائدة : ( 43 ) وكيف يحكمونك وعندهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ) هذا تعجيب للرسول ، يعني : كيف يتحاكمون إليك ، وفي زعمهم أن عندهم التوراة وهي الحق ، وأنك كاذب ؟
( ^ ثم يتولون من بعد ذلك ) أي : لا يرضون بحكمك ( ^ وما أولئك بالمؤمنين ) أي : بمصدقين لك . < < المائدة : ( 44 ) إنا أنزلنا التوراة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) أي : أسلموا لأمر الله ، كما قال لإبراهيم : ( ^ أسلم قال أسلمت لرب
____________________

( ^ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ) * * * * العالمين ) أي : سلمت لأمر رب العالمين ، وأراد به : النبيين الذين بعثوا بعد موسى ؛ ليحكموا على حكم التوراة ، وقوله : ( ^ للذين هادوا ) فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : فيها هدى ، ونور للذين هادوا ، ثم قال : ( ^ يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون ) وقيل : هو على موضعه ، ومعناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، وهو مثل قوله : ( ^ أولئك لهم اللعنة ) أي : عليهم اللعنة ، وقال لعائشة : ' اشترطي لهم الولاء ' أي : عليهم الولاء كذا قال النحاس ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا على الذين هادوا ؛ فحذف أحدهما ؛ اختصارا ( ^ والربانيون ) قال أبو رزين : هم العلماء الحكماء ، وأصل الرباني : رب العلم ، فزيد فيه الألف والنون ؛ للمبالغة ، وقيل : الربانيون من النصارى ، والأحبار من اليهود ، وقيل : كلاهما من اليهود ، والربانيون فوق الأبار . قال المبرد : والأحبار : مأخوذ من التحبير ، وهو التحسين ، ومنه الحديث : ' يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ' أي حسنه وجماله ، وقيل : هو من التحبير بمعنى التأثير ، ومنه الحبر ، فسمى العالم : حبرا ؛ لتأثير علمه فيه وفي غيره ، كأنه العالم العامل ، والحبر والحبر واحد ، وجمعه الأحبار ، قال الفراء : وأكثر ما سمعت : الحبر - بكسر الحاء - وجمعه أحبار .
( ^ ما استحفظوا ) أي : بما استودعوا ( ^ من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) .
____________________

( ^ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( 44 ) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ( 45 ) ) * * * *
( ^ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال البراء بن عازب - وهو قول الحسن - : الآية في المشركين . قال ابن عباس : الآية في المسلمين ، وأراد به كفر دون كفر ، واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ، ويقولون : من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ، وأهل السنة قالوا : لا يكفر بترك الحكم ، وللآية تأويلان : أحدهما معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا وجحدا فأولئك هم الكافرون . والثاني معناه : ومن لم يحكم بكل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، والكافر هو الذي يترك الحكم بكل ما أنزل الله دون المسلم . < < المائدة : ( 45 ) وكتبنا عليهم فيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) ويقرأ بقراءتين من قوله : ( ^ والعين بالعين ) فيقرأ بالنصب إلى آخره ، ويقرأ بالرفع .
شرع القصاص في النفس والأطراف في هذه الآية ، وأشار إلى أنه كان حكم التوراة ( ^ فمن تصدق به ) يعني : بالعفو عن القصاص ( ^ فهو كفارة له ) اختلفوا في أن كناية الهاء راجعة إلى من ؟ قال ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص : هو راجع إلى المجروح ، يعني : العفو ، وقال ابن عباس : هو راجع إلى الجارح ، كأنه جعل العفو كالاستيفاء منه ؛ فيكون كفارة له كما لو اقتص منه ( ^ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . < < المائدة : ( 46 ) وقفينا على آثارهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقفينا على آثارهم ) يعني : أتبعنا على آثارهم ، وأراد به : النبيين الذين أسلموا ( ^ بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوارة ) يعني : عيسى مصدقا بالتوراة .
____________________

( ^ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( 46 ) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ( 47 ) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم ) * * * *
( ^ وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا ) يعني : الإنجيل ( ^ لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ) . < < المائدة : ( 47 ) وليحكم أهل الإنجيل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وليحكم أهل الإنجيل ) يعني : وقلنا : وليحكم أهل الإنجيل ( ^ ما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) . < < المائدة : ( 48 ) وأنزلنا إليك الكتاب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ) يعني : القرآن ( ^ مصدقا لما بين يديه من الكتاب ) يعني : سائر الكتب المنزلة قبله ( ^ ومهيمنا عليه ) قال ابن عباس : أي : أمينا عليه . قال ( المبرد ) : أصله : مؤيمنا ، فقلبت الهمزة هاء ، كما يقال : أرقت الماء وهرقته . ومعناه : الأمين ، وقيل : معناه : شاهدا عليه ، وقال أبو عبيدة : أي : رقيبا حافظا ، والمعاني متقاربة ، ومعنى الكل أن كل [ كتاب ] يصدقه القرآن ، ويشهد بصدقه ، فهو كتاب الله ، وما لا فلا . وقرأ مجاهد ' ومهيمنا ' بفتح الميم ، يعني : محمد مؤيمنا عليه ، وفي الأثر أن عمر - رضي الله عنه - قال : إذا دعوت الله فهيمنوا أي أمنوا ' قال الشاعر :
( ألا إن خير الناس بعد محمد ** مهيمنه تاليه في العرف والنكر )
أراد أبا بكر أمينة وحافظه ، يتلوه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ^ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) أي : لا تعرض عما جاءك وتتبع أهواءهم .
( ^ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) فالشرعة : الطريق الواضح ، وكذلك المنهاج . قال المبرد : الشرعة : ابتداء الطريق ، والمنهاج : الطريق المستمر . واعلم أن الشرائع مختلفة ، ولكل قوم شريعة ، فلأهل التوراة شريعة ، ولأهل الإنجيل شريعة ، ولأهل الإسلام شريعة ، وأما الدين في الكل واحد ، وهو التوحيد .
____________________

( ^ بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( 48 ) وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما ) * * * *
( ^ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم ) أي : ليختبركم . ( ^ فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات ) فبادروا إلى الخيرات ( ^ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم في تختلفون ) . < < المائدة : ( 49 ) وأن احكم بينهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) قيل : سبب نزول الآية : ' أن قوما من رؤساء اليهود جاءوا إلى النبي وقالوا : يا محمد ، لو آمنا بك آمن بك غيرنا ، ولنا خصومات بين الناس ؛ فاقض لنا عليهم ؛ نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا ' ، ولم يكن قصدهم الإيمان به ، وإنما قصدوا التلبيس ، ودعوته إلى الحكم بالميل ؛ فنزلت الآية .
( ^ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا ) فإن أعرضوا ( ^ فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) وقيل : معناه : بكل ذنوبهم ، فعبر بالبعض عن الكل ، وقيل : معناه : يصيبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا ( ^ وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) . < < المائدة : ( 50 ) أفحكم الجاهلية يبغون . . . . . > >
وقوله : ( ^ أفحكم الجاهلية يبغون ) يقرأ بالياء والتاء ومعناهما واحد يعني أنهم إذا لم يرضوا بحكم الله ، وأرادوا خلاف حكم الله ، فقد طلبوا حكم الجاهلية ، وقرأ الحسن ، وقتادة والأعمش ، والأعرج : أفحكم الجاهلية بمعنى : الحاكم . يبغون : يطلبون ( ^ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) < < المائدة : ( 51 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) قيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي سلول
____________________

( ^ يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون ( 49 ) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ( 50 ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن ) * * * * اختصما فقال عبادة : أنا أتبرأ من اليهود ولا أتولاهم ، وقال عبد الله بن أبي : أنا أتولاهم ولا أتبرأ منهم ؛ فإني أخشى الدوائر ، فنزلت الآية وقيل : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر بعثه النبي إلى بني قريظة حين حاصرهم ، فاستشاروا في النزول ، وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا ؟ فأشار إليهم بالقتل ، وجعل أصبعه على حلقه يعني : يقتلكم ؛ متنصحا لهم ، وقيل : نزلت في يوم أحد ، فإنه لما انقضى حرب أحد ، وأصاب المسلمين ما أصابهم ، قال بعض أهل المدينة : نحن نتولى اليهود ، وقال بعضهم : نتولى النصارى ؛ فإنا نخشى أن لا يتم أمر محمد ، وأن يدور الأمر علينا ؛ فنزلت الآية : ( ^ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . < < المائدة : ( 52 ) فترى الذين في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فترى الذين في قلوبهم مرض ) أي : نفاق ( ^ يسارعون فيهم ) يعني : في معونتهم وموالاتهم ، وفيه حذف ، كما قال الله - تعالى - : ( ^ واسأل القرية ) أي : أهل القرية ( ^ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) قال ابن عباس : معناه : نخشى أن لا يتم أمر محمد ؛ فيدور الأمر علينا ، وقال غيره : معناه : نخشى أن يكون قحط ؛ فلا يتفضلوا علينا بالثمار ؛ [ إذ ] كانت اليهود أصحاب النخيل والثمار ، والأول أصح .
( ^ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ) قيل : أراد به فتح مكة . وقيل ( هو فتح ) قرى اليهود مثل خيبر ، وفدك ، وتيما ووادي القرى . ( ^ أو أمر من عنده ) قيل : هو إتمام أمر محمد ، وقيل : هو إجلاء بني النضير ، وقيل : قتل بني قريظة ، وقيل :
____________________

( ^ الله لا يهدي القوم الظالمين ( 51 ) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعس الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ( 52 ) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد ) * * * * هو الإخبار بأسماء المنافقين ؛ ليفتضحوا . ( ^ فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين < < المائدة : ( 53 ) ويقول الذين آمنوا . . . . . > > ويقول الذين آمنوا ) يعني : [ لليهود ] حين انكشف حال المنافقين : ( ^ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ) . < < المائدة : ( 54 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ) وقرأ أهل المدينة والشام : ' من يرتدد ' والمعنى واحد ( ^ فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) قال علي ، والحسن : نزل هذا في أبي بكر وأصحابه . وكان الحسن يحلف على هذا ، أنه نزل في أبي بكر وأصحابه ، وذلك أن النبي لما خرج إلى رحمة الله ارتدت العرب ، ولم يبق الإسلام إلا في ثلاثة مساجد : مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، ومسجد البحرين ؛ فهم أبو بكر بالقتال ، وكره الصحابة ذلك ، وقالوا : إن بعضهم منع الزكاة ، ولم يتركوا الصلاة ، وقال أبو بكر : والله ( لأقاتلن من ) فرق بين الصلاة والزكاة ، وقيل : إنه سل سيفه ، وخرج وحده ، وقال : أقاتل وحدي ، ثم وافقه الصحابة ، قال ابن مسعود : كرهنا ذلك لك في الابتداء ، ثم حمدناه عليه في الانتهاء ، قال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد مولود بعد النبيين أفضل من أبي بكر ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء ، يعني : في قتال أهل الردة ، وردهم إلى الإسلام .
وروى عياض الأشعري : ' أن النبي قرأ هذه الآية ( ^ فسوف يأتي الله بقوم ) وأشار إلى أبي موسى الأشعري ، وقال : هذا وأصحابه ' وكانوا من أهل اليمن ،
____________________

( ^ أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ( 53 ) يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على ) * * * * ولأهل اليمن أمر عظيم في الفتوح التي وقعت في الإسلام ، وقد صح عن النبي أنه قال : ' الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ' وقيل : أراد بالآية : قوما كان أكثرهم من أهل اليمن ؛ فتحوا القادسية في زمان عمر . والأول أصح ( ^ أذلة على المؤمنين ) ليس من الذل ، وإنما هو من الذلة ، وهي اللين .
وقوله : ( ^ أعزة على الكافرين ) ليس من العز وإنما هو من العزة ؛ وهي : الشدة ، يعني : أن جانبهم لين على المؤمنين ، شديد على الكافرين ، وقرأ ابن مسعود : ' أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين ' وهي معنى القراءة المعروفة .
( ^ يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ) يعني : لا يخافون في الله لوم الناس ، وروى ابن مسعود عن النبي أنه قال : ' من أراد الجنة لا شك ، فلا يخاف في الله لومة لائم ' ( ^ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) .
قوله - تعالى - : ( ^ إنما وليكم الله ورسوله ) هذا راجع إلى قوله : ( ^ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) لما منعهم من موالاة اليهود والنصارى ، دعاهم إلى موالاة الله ورسوله .
( ^ والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) يعني : مصلون ؛ إلا أنه خص الركوع تشريفا ، وقيل : معناه : خاضعون ، وقال السدي : - وهو رواية عن مجاهد - إن هذا أنزل في علي بن أبي طالب ، كان في الركوع ، ومسكين
____________________

( ^ الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 54 ) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( 55 ) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله ) * * * * يطوف في المسجد فنزع خاتمه ، ودفع إليه ، فهذا معنى قوله : ( ^ ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) وعن أبي جعفر محمد بن علي الباقر أنه قال : نزلت الآية في المؤمنين ، فقيل له : إن قوما يقولون : إن الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، فقال أبو جعفر : علي من المؤمنين . < < المائدة : ( 55 ) إنما وليكم الله . . . . . > >
وقوله : ( ^ إنما وليكم الله ورسوله ) أراد به : الولاية في الدين ، لا ولاية الإمارة والسلطنة ، وهم فوق كل ولاية ، قال أبو عبيدة : وكذلك معنى قوله : ' من كنت مولاه فعلي مولاه ' يعني : من كنت وليا له ، أعينه وأنصره ، فعلي يعينه وينصره في الدين . < < المائدة : ( 56 ) ومن يتول الله . . . . . > >
قوله : ( ^ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) أي : جند الله هم الغالبون ، < < المائدة : ( 57 ) يا أيها الذين . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هذوا ولعبا ) هذا في اليهود ، كانوا إذا سمعوا المؤذن ضحكوا ، وتغامزوا بينهم ( ^ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) يعني : اليهود ( ^ والكفار ) : سائر الكفرة ( ^ أولياء ) أي : لا تتخذوا هؤلاء أولياء . وقرأ الكسائي ، وأبو عمرو : ' والكفار ' بكسر الراء ، يعني : ومن الكفار ، وكذا في حرف أبي بن كعب ' ومن الكفار أولياء ' ( ! ( واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) { < المائدة : ( 58 ) وإذا ناديتم إلى . . . . . > > وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ) هذا بيان لاتخاذهم الدين هزوا في الآية الأولى ( ^ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) .
____________________

( ^ هم الغالبون ( 56 ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( 57 ) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( 85 ) قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم ) * * * *
و ( في ) الحكايات : أن واحدا من المنافقين يقال له : ضمرة ، سمع المؤذن يؤذن ، فقال : حرق الله الكاذب ؛ فجاءه خادمه بسراج في بعض تلك الليالي ، فوقعت شرارة من السراج ، ولم ( يشعر ) به ، فاحترق هو وما في البيت . < < المائدة : ( 59 ) قل يا أهل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا ) أي : هل تكرهون منا ( ^ إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ) أي : هل تنقمون منا إلا بإيماننا وفسقكم ، قال الشاعر :
( ما نقموا من بني أمية إلا ** أنهم ( يحملون ) إن غضبوا )
( وأنهم سادة الملوك ** ولا يصلح إلا عليهم العرب )
أي : كرهوا من بني أمية . < < المائدة : ( 60 ) قل هل أنبئكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) أي : قل : [ هل ] أخبركم بشر من ذلك ثوابا وعاقبة عند الله ؟ ( ^ من لعنه الله وغضب عليه ) يعني : اليهود ( ^ وجعل منهم القردة والخنازير ) قيل : جعل القردة القردة من اليهود ، والخنازير من النصارى ، فالذين جعلهم قردة من اليهود : أصحاب السبت ، والذين جعلهم خنازير من النصارى : أصحاب المائدة ، وقيل : كلاهما من اليهود ، فجعل شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ( ^ وعبد الطاغوت ) أي : ومن عبد الطاغوت ، يعني من لعنه الله ومن عبد الطاغوت وقرأ حمزة : ' وعبد الطاغوت ' بضم الباء في عبد ، وكسر التاء في الطاغوت ، والمعنى واحد ، قل الشاعر :
( أبني لبينى إن أمكم ** أمة وإن وإني أباكم عبد )
____________________

فاسقون ( 59 ) قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 ) وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون ( 61 ) وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( 62 ) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ( 63 ) وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ) * * * * أي : كأعبد ، وقيل : هذا خطأ من حمزة ، والأول أصح ، ويقرأ في الشواذ : ' وعباد الطاغوت ' ويقرأ : ' وعبدة الطاغوت ' وتقديره : وجعل منهم عباد الطاغوت ، والكل في المعنى سواء .
( ^ أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) أي : عن طريق الحق . < < المائدة : ( 61 ) وإذا جاؤوكم قالوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا جاءوكم قالوا آمنا ) قيل : نزلت الآية في قوم من اليهود ، دخلوا على النبي ، وقالوا : إنا آمنا بك ، وصدقناك فيما قلت ، وهم يسرون الكفر ؛ فنزلت الآية ( ^ وإذا جاؤكم ) يعني : أولئك قالوا : آمنا ( ^ وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) يعني : دخلوا كافرين ، وخرجوا كافرين ( ^ والله أعلم بما كانوا يكتمون ) . < < المائدة : ( 62 ) وترى كثيرا منهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ) قيل : الإثم : المعاصي ، والعدوان : الظلم ، وقيل : الإثم : كتمان أمر محمد وما كتموا من التوراة ، والعدوان ما زادوا في التوارة . ( ^ وأكلهم السحت ) قد بينا معنى السحت ، والسحت لغتان ، وقيل : أراد به أكلهم الربا ( ^ لبئس ما كانوا يعملون ) . < < المائدة : ( 63 ) لولا ينهاهم الربانيون . . . . . > >
قوله : ( ^ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ) يعني : هلا ينهاهم الربانيون ، وقد ذكرنا معنى الربانيين ، وقيل : هو منسوب إلى الرب ، كالبحراني منسوب إلى البحرين ، والنجراني منسوب إلى نجران ( ^ لبئس ما كانوا يصنعون ) وفي حرف ابن مسعود : ' يعملون ' وكلاهما واحد . < < المائدة : ( 64 ) وقالت اليهود يد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالت اليهود يد الله مغلولة ) سبب هذا : أن اليهود كانوا في خصب وسعة رزق قبل هجرة النبي ، فلما هاجر إلى المدينة ، ضيق الله الرزق عليهم فقالت اليهود : يد الله مغلولة : أي ممسكة لا ينفق ، كأنهم نسبوه إلى البخل ،
____________________

( ^ ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ( 64 ) ولو أن ) * * * * وقال الحسن : أرادوا به : يد الله مغلولة لا يعذبنا [ بها ] ( ^ غلت أيديهم ) يجيبهم الله تعالى ؛ فيقول : أنا الجواد ، وهم البخلاء ، وأيديهم هي المغلولة الممسكة ، قاله الزجاج ، وقيل : معناه : أنهم يعذبون يوم القيامة .
( ^ ولعنوا بما قالوا ) فمن عنهم أنهم : مسخوا قردة وخنازير ، ومن لعنهم : أنهم ضربت عليهم الذلة والجزية .
( ^ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) يعني : [ يدا ] الله مبسوطتان ، يرزق وينفق على مشيئته كيف يشاء ، قال أهل العلم : ليس في هذا رد على اليهود في إثباتهم اليد لله - تعالى - وإنما الرد عليهم في نسبته إلى البخل ، وأما اليد : صفة لله - تعالى - بلا كيف ، وله يدان ، وقد صح عن النبي أنه قال : ' كلتا يديه يمين ' . والله أعلم بكيفية المراد .
( ^ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) على معنى أنه كلما نزلت آية كفروا بها ، وازدادوا طغيانا وكفرا ( ^ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) قيل : بين فرق اليهود ، وقيل ( بين ) اليهود والنصارى ، وقوله : ( ^ إلى يوم القيامة ) دليل على أن اليهودية والنصرانية تبقى إلى قريب من قيام الساعة ( ^ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) معنى هذا : كلما اجتمعوا ليفسدوا أمر محمد ، شتت الله
____________________

( ^ أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( 65 ) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 ) يا أيها الرسول بلغ ما ) * * * * جمعهم ، وبدد شملهم . ( ^ ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) . < < المائدة : ( 65 ) ولو أن أهل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو أن أهل الكتاب آمنوا ) بمحمد ( ^ واتقوا ) يعني : عن المعاصي ( ^ لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) . < < المائدة : ( 66 ) ولو أنهم أقاموا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ، وما أنزل إليهم من ربهم ) يعني : ولو أنهم قاموا وعملوا ما في التوراة ، وما في الإنجيل وما في القرآن ( ^ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) قيل : من فوقهم من مطر السماء ، ومن تحت أرجلهم من نبات الأرض . وقيل : من فوقهم ومن تحت أرجلهم معناه : أنه يوسع عليهم الرزق ، قال الزجاج ، وهو نظير قول القائل : فلان في الخير من الفرق إلى القدم ، أي : وسع عليه الخير ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد بقوله ( ^ من فوقهم ) من الأشجار ( ^ ومن تحت أرجلهم ) من النبات ، ويحتمل أن يكون المراد به ( ^ من فوقهم ) من كسب آبائهم ( ^ ومن تحت أرجلهم ) من كسب أبنائهم ، وهذا نظير قوله - تعالى - : ( ^ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) ونظير قوله تعالى : ( ^ ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) ( ^ منهم أمة مقتصدة ) أي : عادلة ( ^ وكثير منهم ساء ما يعملون ) . < < المائدة : ( 67 ) يا أيها الرسول . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) قالت عائشة : ' من قال : إن محمدا كتم شيئا من الوحي ؛ فقد أعظم الفرية ، ومن قال : إن محمدا رأى ربه ليلة المعراج ؛ فقد أعظم الفرية ؛ فإن الله - تعالى - يقول : ( ^ لا تدركه الأبصار ) ' والخبر في الصحيح .
____________________

( ^ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 67 ) قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين ( 68 ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) * * * *
( ^ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) فيه معنيان : أحدهما : معناه : إن لم تبلغ الجميع ، وتركت واحدا ، فما بلغت شيئا ، يعني : جرمك في ترك التبليغ في واحد كجرمك في ترك الكل ، وقيل : معناه : بلغ ما أنزل إليك أي : أظهر تبليغه ، وهذا مثل قوله - تعالى - : ( ! ( فاصدع بما تؤمر ) ! وإن لم تفعل ) يعني : وإن لم تظهر تبليغه ( ! ( فما بلغت رسالته ) ! والله يعصمك من الناس ) . قالت عائشة - رضي الله عنها - : ' كان النبي قبل نزول هذه الآية يأتيه قوم فيحرسونه ؛ فلما نزلت هذه الآية ؛ أخرج رأسه ، وقال : انصرفوا ، فإن الله يعصمني ' . قال محمد بن كعب القرظي : نزلت الآية في كافر سل سيفه ، وهم ( بقتل النبي ) ، فسقط السيف من يده ، وجعل يضرب رأسه على شجرة حتى [ انتثر ] دماغه ( ^ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) . < < المائدة : ( 68 ) قل يا أهل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) أي : تعملوا بالكل ( ^ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) هو ما ذكرنا ( ^ فلا تأس ) أي فلا تحزن ( ^ على القوم الكافرين ) . < < المائدة : ( 69 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ) قال
____________________

( ^ والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 69 ) لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ( 70 ) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ( 71 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي ) * * * * الكسائي ، ونحاة الكوفة : تقديره : هم والصابئون . وقال سيبويه : في الآية تقديم وتأخير وتقديره : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون كذلك .
وقوله : ( ^ من آمن بالله ) يعني : الذين آمنوا باللسان ، من آمن منهم بالقلب ، وقيل : إن الذين آمنوا على حقيقة الإيمان .
وقوله : ( ^ من آمن بالله ) أي : من ثبت على الإيمان بالله ، وأما في حق اليهود والنصارى والصابئين ، فهو محمول على حقيقة الإيمان . < < المائدة : ( 70 ) لقد أخذنا ميثاق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) قد ذكرنا الميثاق ( ^ وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا ) يعني : عيسى ومحمد ( ^ وفريقا يقتلون ) يعني : زكريا ويحيى ، < < المائدة : ( 71 ) وحسبوا ألا تكون . . . . . > > وقوله : ( ^ وحسبوا ألا تكون فتنة ) أي : عذاب ( ^ فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ) يعني : عموا وصموا بعد موسى ، ثم تاب الله عليهم ؛ ببعث عيسى ، ( ^ ثم عموا وصموا كثيرا منهم ) بالكفر بمحمد ( ^ والله بصير بما يعملون ) . < < المائدة : ( 72 ) لقد كفر الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) قد ذكرنا معنى المسيح ، قال النخعي : سمي مسيحا ؛ لأنه كان يمسح الأرض ، ( وأما ) الدجال : يسمى مسيحا ، وقد ورد الخبر بكونه مسيحا مطلقا ؛ فإنه - عليه الصلاة السلام - قال : ' [ يقبل ] المسيح من قبل المشرق وهمه المدينة ' . وورد في الخبر : المسيح الدجال . وقال - عليه الصلاة والسلام - : ' لا يدخل رعب المسيح الدجال المدينة أبدا ' .
____________________

( ^ وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( 72 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 73 ) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ( 74 ) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله ) * * * *
( ^ وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) روى أبو سفيان طلحة بن نافع عن جابر : ' أن النبي سئل ما الموجبتان ؟ فقال : من وحد الله ؛ لا يشرك به شيئا ؛ وجبت له الجنة ، ومن أشرك بالله ؛ وجبت له النار ' ( ^ وما للظاليمن من أنصار ) . < < المائدة : ( 73 ) لقد كفر الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) فيه حذف ، أي : ثالث ثلاثة آلهة ، ولا بد من هذا التقدير ؛ لأنه يجوز أن يقال : هو ثالث ثلاثة ، كما قال : ( ^ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) ، وقوله : ( ^ ثالث ثلاثة ) هو قولهم : أب ، وابن وروح القدس ، وهذا قول اليعقوبية منهم ، وقالوا : روح القدس لا هو ولا غيره ، وكذلك الابن ، والله مجموع الكل ( ^ وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا ) أي : ليصيبن الذين ( ^ كفروا منهم عذاب أليم ) . < < المائدة : ( 74 ) أفلا يتوبون إلى . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ) أرشدهم إلى التوبة والإسلام ( ^ والله غفور رحيم ) . < < المائدة : ( 75 ) ما المسيح ابن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله ) أي : مضت ، وسميت الأيام الماضية خالية ؛ لخلوها ، ومعنى هذا : أنا أرسلنا عيسى كما أرسلنا غيره [ وأعطيناه ] من المعجزات ما أعطينا غيره من الرسل ( ^ وأمه صديقة ) والصديق : كثير الصدق ، وهو للمبالغة ، ومنه سمى أبو بكر [ الصديق ] - رضي الله عنه - : صديقا ، وقيل : سمي صديقا ؛ لأنه قيل له : إن صاحبك يقول : أسرى بي إلى السماء فقال : إن ( هو قال ) ذلك فقد صدق .
____________________

( ^ الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( 75 ) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ( 76 ) قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ( 77 ) لعن الذين كفروا ) * * * *
( ^ كانا يأكلان الطعام ) أي : يتغذيان بالطعام ، ومعناه : أن من يتغذى بالطعام لا يكون إلها يعبد ، وقال ابن قتيبة : هو كناية عن الحدث ، يعني : أنهما يأكلان ، ويشربان ، ويبولان ، ويتغوطان ، ومثل هذا لا يكون إلها يعبد ( ^ انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ) قال ابن قتيبة : وهذا من ألطف البيان ، وقوله : ( ^ يؤفكون ) أي : يصرفون ، ومنه سمي الكذب : إفكا ؛ لأنه مصروف عن الحق . < < المائدة : ( 76 ) قل أتعبدون من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) يعني : عيسى ومثله . ( ^ والله هو السميع العليم ) . < < المائدة : ( 77 ) قل يا أهل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) الغلو : مجاوزة الحد ، وهو مذموم ، وكذلك التقصير ، ودين الله بين الغلو ، والتقصير ( ^ ولا تتبعوا أهواء قوم ) الأهواء : جمع الهوى ، وهو مقصور ، وأما الهواء الممدود : فهو الجو ، والهوى : كل ما تدعو إليه شهوة النفس ، لا الحجة ( ^ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) . فإن قيل : ما معنى هذا التكرير ، قال الزجاج : معنى قوله : ( ^ ضلوا عن سواء السبيل ) يعني : بالإضلال ، والأول من الضلالة ، وقيل : ضلوا من قبل الإضلال ، وضلوا بعد الإضلال ؛ فكأنهم ضلوا مرتين . < < المائدة : ( 78 ) لعن الذين كفروا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) فالذين لعنوا على لسان داود : هم أصحاب السبت ، والذين لعنوا على لسان عيسى : أصحاب المائدة ، وأولئك الذين جعلهم الله قردة ، وهؤلاء الذين جعلهم الله خنازير ( ^ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . < < المائدة : ( 79 ) كانوا لا يتناهون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) التناهي : تفاعل من النهي ، والمنكر : كل ما أنكره الشرع ، وفي الخبر قال : أول ما
____________________

( ^ من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 78 ) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( 79 ) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ( 80 ) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ( 81 ) لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين ) * * * * دخل النقص في بني إسرائيل : أن الرجل منهم كان إذا نهى صاحبه عن منكر ، كان لا يمنعه بعد ذلك أن يكون جليسه ، وأكيله ، وشريبه ، فضرب الله - تعالى - قلب بعضهم بالبعض ، وعمهم بالعقاب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه على الحق أطرا ' أي : تعطفوه . < < المائدة : ( 80 ) ترى كثيرا منهم . . . . . > >
قوله : ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ) أي : يوالونهم ( ^ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون < < المائدة : ( 81 ) ولو كانوا يؤمنون . . . . . > > ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) يعني : الكفار ( ^ ولكن كثيرا منهم فاسقون ) فإن قيل : لم سماهم فاسقين وهم كافرون ؟ قيل : معناه : ( خارجون ) عن أمر الرب ، والكفار خارجون عن كل أمره ، وقيل : معناه : متمردون ، أي : هم مع كفرهم متمردون . < < المائدة : ( 82 ) لتجدن أشد الناس . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) يعني : مشركي مكة ، ( ^ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) قيل : إن الآية في قوم من النصارى ، ( أربعين ) نفرا : اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من رهبان الشام ، جاءوا إلى النبي ، وأسلموا ، وفيهم نزلت الآية لا في النصارى الكفرة ؛ لأنهم في عداوة المسلمين مثل اليهود ، وقيل : إن الذين أسلموا من الحبشة كان فيهم النجاشي ؛ فقدم جعفر الطيار الحبشة ، فدعاه النجاشي ، فقرأ عليه
____________________

أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى ) * * * * سورة مريم ، وعنده الأساقفة والرهبان ؛ فبكوا حتى أخضلوا لحاهم ، وأخذ النجاشي قذاة بيده ، وقال : لم يعد عيسى ما قلت ، ولا قدر هذا ، وأسلموا .
وقيل : نزلت الآية في قوم من النصارى كانوا متمسكين بدين عيسى ، لم يحرفوا ، فآمنوا بمحمد .
وقيل : هو في كل النصارى ، ومعناه : أنهم ألين عداوة من اليهود .
( ^ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) قال قطرب : القسيس العابد بلغة الروم ، وهو التمام في اللغة ، قال الشاعر :
( يمسين من قس ( الحديث ) غوافلا ** إلا جعبر يات ولا [ طهاملا ] )
والرهبان جمع الراهب ، وروى سلمان : ' أن النبي قرأ : ' ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا ' وهذا في الغرائب . < < المائدة : ( 83 ) وإذا سمعوا ما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ) يعني : القرآن ، فإن النبي كان قد قرأ عليهم القرآن ؛ فبكوا وأسلموا ، فذلك معنى قوله : ( ^ ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) يعني : من أمة محمد ؛ فإنهم الشاهدون على سائر الأمم . < < المائدة : ( 84 ) وما لنا لا . . . . . > >
قوله - تعالى - ( ^ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ) وذلك أن اليهود قالوا : لو لم آمنتم ؟ فأجابوا : وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ( ^ ونطمع أن يدخلنا
____________________

( ^ أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( 84 ) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( 85 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 86 ) يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب ) * * * * ربنا مع القوم الصالحين ) الطمع : هو تعلق النفس بالشيء مع قوة . < < المائدة : ( 85 - 86 ) فأثابهم الله بما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فأثابهم الله بما قالوا جنات ) أي : أعطاهم الله بما قالوا جنات ( ^ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) .
فإن قيل : هذا أول قوله - تعالى - : ( ^ فأثابهم الله بما قالوا ) على أن الإيمان قول فرد .
قيل : قد ذكر في الآية الأولى ( ^ مما عرفوا من الحق ) فذكر المعرفة في تلك الآية ، والقول في هذه الآية ، ومجموعهما إيمان ( ^ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . < < المائدة : ( 87 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال ( ابن عباس ) ، وعطاء [ وسعد ] ، وسعيد بن جبير ، والسدي : سبب نزول الآية : ' أن عليا ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون ، تشاوروا في أن يترهبوا ، ويلبسوا المسوح ، ويقطعوا المذاكير ، ويصوموا الدهر ؛ فبلغ ذلك رسول الله فقال : أما إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وآكل وأشرب ، وأنكح ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ونزلت الآية ( ^ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وروي : أن عثمان بن مظعون قال : ' يا رسول الله ، ائذن لي في الرهبانية . فقال : رهبانية أمتي الجلوس في المساجد . فقال : ائذن لي في السياحة في الأرض . فقال سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله . فقال : ائذن لي في الإخصاء . فقال : إخصاء أمتي الصوم ' . وقيل : سبب نزول الآية : ' أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أصيب اللحم ؛ فأنتشر واشتهي النساء فحرمت اللحم على نفسي ' فنزل قوله [ تعالى ] : ( ^ لا تحرموا طبيات ما أحل الله
____________________

( ^ المعتدين ( 87 ) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 88 ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ) * * * * لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) رواه عكرمة عن ابن عباس ، والاعتداء : هو مجاوزة ماله إلى ما ليس له < < المائدة : ( 88 ) وكلوا مما رزقكم . . . . . > > ( ^ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) أكد ذلك النهي بهذا الأمر . < < المائدة : ( 89 ) لا يؤاخذكم الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) إنما عقب تلك الآية بهذه ؛ لأن القوم الذين تشاوروا أن يترهبوا كانوا قد حلفوا ؛ فبين حكم الإيمان ، واللغو : هو المطرح الذي لا يعبأ به ، وعن عائشة : أن لغو اليمين : قول الإنسان : لا والله ، وبلى والله ، واختاره الشافعي ، وقال ابن عباس ، وأبو هريرة : لغو اليمين : هو أن يحلف على شيء على ظن أنه كذلك فإذا هو على خلافه ، واختلف العلماء في وجوب الكفارة في يمين اللغو ، قال إبراهيم النخعي : تجب فيها الكفارة ، وقوله : ( ^ لا يؤاخذكم ) يعني : في القيامة . وسائر العلماء على أن لا كفارة في يمين اللغو ؛ لظاهر القرآن ( ^ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) فيه ثلاث قراءات : ( ^ عقدتم ) بالتخفيف قراءة الكسائي وحمزة وأبو بكر . و ( ^ عقدتم ) بالتشديد قرأه أبو عمرو ومن بقي ، غير ابن ذكوان ، و ( ^ عاقدتم ) قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان .
قال الكسائي : عقدتم ، أي : أوجبتم ، وقال أبو عمرو : عقدتم ، أي : وكدتم ، واختلفوا في هذا التوكيد ، قال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله : ( ^ عقدتم ) أنه ماذا ؟ فقال : هو قول القائل : والله الذي لا إله إلا هو ؛ كأنه فسر التوكيد به ، وروى نافع عن ابن عمر : أن توكيد اليمين بالتكرار ، قال نافع : وكان ابن عمر إذا وكد اليمين أعتق رقبة ، وإذا لم يوكد : أطعم المساكين في كفارته . ( ^ فكفارته إطعام عشرة مساكين ) على قول النخعي يرجع هذا إلى يمين اللغو ، وعلى قول الباقين يرجع إلى اليمين المعقودة ، وهي المقصودة ، وعقد اليمين : هو القصد بالقلب ، والذكر باللسان . ( ^ من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال ابن عمر : الأوسط هو الخبز والزيت ، أو الخبز
____________________

( ^ إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم ) * * * * والتمر ، وقال عبيدة السلماني : هو الخبز والسمن ، وقال أبو رزين : ( هو الخبز والخل وأما الأعلى ) : هو الخبز واللحم ، والأدنى : هو الخبز البحت ، والكل مجزئ ، والأوسط في القدر ، قال زيد بن ثابت ، وعائشة ، وابن عمر - رضي الله عنهم - هو المد ، وبه قال الشافعي - رضي الله عنه - وذلك رطل وثلث ، وقال عمر ، وعلي - وهو رواية ابن عباس - أنه مدان ، نصف صاع ، وبه قال العراقيون .
( ^ أو كسوتهم ) قال عطاء ، وطاووس : لكل مسكين ثوب ، وقال مجاهد : ما ينطلق عليه اسم الكسوة ، وقال إبراهيم : لكل مسكين ثوب جامع يصلح [ لليل ] والنهار مثل الكساء ، الملحفة ونحوهما . وقال ابن عمر : ثلاثة أثواب . وقيل : ثوبان ، وهو قول الحسن ، وابن سيرين ، مثل إزار ورداء ، أو إزار وعمامة . وقيل : ما يستر العورة ، وتجزئ به الصلاة .
والصحيح : أن الواجب لكل مسكين ما يصلح به الكسوة في العرف ( ^ أو تحرير رقبة ) هو عتق الرقبة ، وفيه كلام في الفقه .
( ^ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) ظاهرة : أنه يجوز متفرقا ، وهو الأصح ، وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب : ' ثلاثة أيام متتابعات ' فعلى هذا يجب التتابع فيه ، وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وهو أحد قولي الشافعي ( ^ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) قيل : الحنث مضمر فيه ، يعني : إذا حلفتم وحنثتم ، ولا تجب الكفارة إلا بعد الحنث ، وأما جواز التكفير قبل الحنث عرفنا بالسنة ( ^ واحفظوا أيمانكم ) ظاهره للنهي عن الحنث ، وقيل : أراد به حفظ اليمين لا أن يحلف ، والأول أصح ( ^ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . < < المائدة : ( 90 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ) أما الخمر فقد سبق الكلام فيه ، وكذلك الميسر ، قال الأصمعي : كان ميسرهم على الجزور ، فكانوا يشترون جزورا وينحرونه ، ويجعلونه على ثمانية وعشرين سهما ، وقيل : على عشرة
____________________

( ^ يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ( 89 ) يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب ) * * * * أسهم ، ثم يقامرون عليه ، فكل من خرج عليه قدر نصيبه مجانا ، ويكون الثمن على الباقين ، وهكذا يقامرون على كل سهم منه ، إلى أن يبقى واحد ، فيكون كل الثمن عليه ، ويفوز الآخرون بسهامهم مجانا . وسئل القاسم بن محمد عن النرد والشطرنج : أهو من الميسر ؟ قال : كل ما صد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، فهو من الميسر ، وقوله : ( ^ والأنصاب والأزلام رجس ) أما الأنصاب والأزلام فقد بينا ، وقوله : ( ^ رجس ) أي : خبيث مستقذر ، وفي الخبر : ' أعوذ بالله من الرجس النجس ' ( ^ من عمل الشيطان ) أي : من تزيين الشيطان ( ^ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) . < < المائدة : ( 91 ) إنما يريد الشيطان . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) أما وقوع العداوة في الخمر : أن [ شاربيه ] إذا سكروا عربدوا ، وتشاجروا ، ( وتشاحجوا ) .
وأما العداوة في الميسر : قال قتادة : هو أنهم كانوا يقامرون على الأهل والمال ، ثم إذا لم يبق له شيء ، يجلس زينا ، مسلوبا ، مغتاظا على قرنائه ( ^ ويصدكم عن ذكر الله
____________________

( ^ والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ( 90 ) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله عن الصلاة ) * * * * وعن الصلاة ) يعني : الشيطان يمنعكم بهما عن ذكر الله ( وعن الصلاة ) ( ^ فهل أنتم منتهون ) معناه : انتهوا ، قال الفراء : سمعت بعض الأعراب يقول لغيره : هل أنت ساكت ؟ ( هل أنت ساكت ) ؟ يريد به : اسكت ، وهذا كلام العرب العاربة .
وسبب نزول الآية : ' أن عمر - رضي الله عنه - قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزل ( قوله ) في سورة البقرة : ( ^ يسألونك عن الخمر والميسر ) فدعا عمر ، وقرأ عليه ، فقال ثانيا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزل قوله في سورة النساء : ( ^ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فقرأ عليه ؛ فدعا ثالثا ، وقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت هذه الآية ، فدعا وقرأ عليه ؛ فلما بلغ قوله : ( ^ فهل أنتم منتهون ) قال : انتهينا يا رب ' ، وقيل : سبب نزول الآية : ' أن قدامة بن مظعون اتخذ دعوة ، وشوى رأس بعير ، ودعا سعد بن أبي وقاص ، وجماعة ، فأكلوا ، وشربوا ، فلما سكروا تفاخروا ، فقام رجل من الأنصار إلى لحى البعير ، وضرب به وجه سعد ،
____________________

( ^ فهل أنتم منتهون ( 91 ) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما ) * * * * فضرب أنفه ، فذكر ذلك لرسول الله ؛ فنزلت هذه الآية ' [ وقيل : نزلت ] في قبيلتين من الأنصار تخاصمتا في حال السكر ، وقد ورد في الخمر أخبار منها : قوله : ' مدمن الخمر كعابد الوثن ' وقال : ' الخمر أم الخبائث ، من شربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما ، من مات وفي بطنه شيء من الخمر ؛ حرم الله عليه الجنة ' . < < المائدة : ( 92 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ) لما حرم الخمر ، وأمر بالاجتناب عنها ؛ ندبهم إلى طاعة الله والرسول ، والتوقي ( ^ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) . < < المائدة : ( 93 ) ليس على الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) سبب نزول الآية هذه أن الصحابة قالوا لما ورد تحريم الخمر : يا رسول الله كيف حال من مات منا وهو يشرب الخمر ؟ فنزلت الآية : وقيل : إنهم قالوا : إن حمزة بن عبد المطلب ،
____________________

( ^ على رسولنا البلاغ المبين ( 92 ) ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله ) * * * * ومصعب بن عمير استشهدوا يوم أحد ، وكانا يشربان الخمر ، فكيف حالهما ؟ فنزلت الآية وبين الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما طعموا في حال الإباحة ( ^ إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ) ( في هذا مقدم معنى مؤخر أقوال ) : أحدها : أن معنى الأول : إذا ما اتقوا الشرك وآمنوا ، أي : صدقوا ، وعملوا الصالحات ( ^ ثم اتقوا ) أي : داموا على ذلك التقوى ( ^ وآمنوا ) أي ازدادوا إيمانا ( ^ ثم اتقوا وأحسنوا ) أي : اتقوا بالإحسان في كل محسن ، وكل مطيع متق .
والقول الثاني : أن التقوى الأول : اجتناب الشرك ، والتقوى الثاني : اجتناب الكبائر والتقوى الثالث : اجتناب الصغائر ، وهذان قولان معروفان في الآية ، وفي الآية قول ثالث : أنه أراد به : إذا ما اتقوا قبل تحريم الخمر ، ثم اتقوا بعد تحريم الخمر ، وقيل هذا لا يصح ؛ لأن قوله : ( ^ إذا ما اتقوا ) إنما يصلح للمستقبل لا للماضي ؛ فإن حرف ' إذا ' للمستقبل .
( ^ والله يحب المحسنين ) ، روى أن قدامة بن مظعون شرب الخمر ؛ فدعاه عمر ليحده ، فقال : أليس يقول الله - تعالى - : ( ^ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) فقال : أخطأت التأويل ، لقد قال : ( ^ إذا ما اتقوا وآمنوا ) وأنت لم تتق النهي .
وروى : ' أن النبي قرأ هذه الآية ، ثم قال ابن مسعود : وأينا من هؤلاء ؟ ! ' < < المائدة : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ) أي : ليختبرنكم الله بشيء من الصيد ، وفائدة البلوى والاختبار : إظهار المطيع من العاصي ، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى ، وسبب هذا : أن رسول الله لما نزل بالحديبية مع
____________________

( ^ يحب المحسنين ( 93 ) يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( 94 ) يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من ) * * * * أصحابه ، وكانوا محرمين ، كان يدنوا منهم الصيود والوحوش ؛ فهموا بالأخذ ؛ فنزلت الآية .
( ^ تناله أيديكم ) يعني : في صغار الصيود ( ^ ورماحكم ) يعني : من كبار الوحوش ، قال مجاهد ( ^ تناله أيديكم ) يعني : الفرخ والبيض ( ^ ورماحكم ) يعني : الصيود الكبار .
( ^ ليعلم الله من يخافه بالغيب ) قيل : معناه : ليعلم الله من يخافه بالغيب ، فيعامله معاملة من يطلب العلم للعمل ؛ إظهار للعدل ، وقيل : معناه : ليرى من يخافه بالغيب ، وقوله : ( ^ من يخافه بالغيب ) هو أن يخاف الله وهو لا يراه ( ^ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) . < < المائدة : ( 95 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) سبب هذا أن رجلا يقال له : أبو اليسر ، شد على حمار وحش ؛ فقتله وهو محرم ؛ فنزلت الآية ( ^ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ، والحرم : يكون من الإحرام ، ويكون من دخول الحرم ، يقال : أحرم ، إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم ، ويقال أيضا لمن أدرك الشهر الحرام : محرم .
( ^ ومن قتله منكم متعمدا ) ذكر حالة العمد لبيان الكفارة ، فاختلف العلماء ، قال سعيد بن جبير : لا تجب كفارة الصيد في قتل الخطأ ، بل تختص بالعمد ، وبه قال داود .
وسائر العلماء على أنها تجب في الحالين ، قال الزهري : على المتعمد بالكتاب ، وعلى المخطئ بالسنة .
( ^ فجزاء مثل ما قتل من النعم ) قرأ الأعمش ' فجزاؤه مثل ما قتل من النعم ' ، والمعروف فيه قراءتان ' فجزاء مثل ' على الإضافة ، وقرأ بعضهم ' فجزاء مثل ' بتنوين
____________________

( ^ النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك ) * * * * الجزاء ، ورفع اللام من المثل ، ومعنى الكل واحد ، والمثلية معتبرة في الجزاء ؛ فيجب فيما قتل مثله من النعم شبها ؛ فيجب في النعامة : بدنة ، وفي الأروى : بقرة ، وفي الطير والضبع والحمامة : شاة ، وفي الأرنب : عناق ، وفي اليربوع : جفرة ، وكل هذا مروي عن الصحابة .
( ^ يحكم به ذوا عدل منكم ) وفيه دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام ( ^ هديا بالغ الكعبة ) نصب على التمييز ، قوله : ( ^ بالغ الكعبة ) يقتضي أن يكون إعطاء الهدي في الحرم ، يفرق على مساكين الحرم ، وهو الواجب ( ^ أو كفارة طعام مساكين ) وذلك أن يقوم ( المثل ) من النعم بالدراهم ، ويشتري بالدراهم طعام مساكين ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة يقوم بالصيد المقتول أبدا ( ^ أو عدل ذلك صياما ) قرأ عاصم الجحدري ، وطلحة بن ، مصرف : ( ^ أو عدل ذلك ) بكسر العين ، ثم قال بعضهم : لا فرق بينهما ، ومعناه : المثل ، وفرق الفراء بينهما ، فقال : العدل - بالكسر - : المثل من جنسه ، والعدل : المثل من غير جنسه ، وقد قيل : العدل - بالفتح - : هو المثل ، والعدل بالكسر - : الحمل ، والأول أصح ، وصوم العدل : أن يصوم بدل كل & مد يوما ، وقيل : يومان ، ثم هذا على التخيير أم على الترتيب ؟
قال الشعبي ، والنخعي - وهو رواية عن مجاهد - : إنه على الترتيب ، وقال غيرهم - وبه قال ابن عباس - : إنه على التخيير ؛ لأنه قال : ( ^ أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) وكلمة ' أو ' للتخيير ( ^ ليذوق وبال أمره ) أي : شدة أمره ( ^ عفا الله عما سلف ) يعني : في الجاهلية ( ^ ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ) .
واختلف العلماء في العامد إلى قتل الصيد ثانيا ، هل تجب عليه الكفارة ثانيا ، أم
____________________

( ^ صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ( 95 ) أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ( 96 ) جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما ) * * * * لا ؟ قال ابن عباس : لا تجب ، ويقال له . أسأت ، وينتقم الله منك . وعامة العلماء على أنه تجب الكفارة ثانيا ، وقوله : ( ^ فينتقم الله منه ) يعني : في الآخرة . < < المائدة : ( 96 ) أحل لكم صيد . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أحل لكم صيد البحر وطعامه ) قال عمر ، وعلى : صيد البحر ما صيد منه ، وطعامه ما قذف ، وهو رواية عن ابن عباس . وعنه رواية أخرى : أن طعامه ما نضب عنه الماء . وقال مجاهد : صيده : الطري وطعامه : المالح ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . ( ^ متاعا لكم ) أي : منفعة لكم ( ^ وللسيارة ) قال ابن عباس : متاعا لكم : خطاب مع أهل القرى ، والسيارة أهل الأمصار ، وقال مجاهد : السيارة : المسافرون .
( ^ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) حرم الاصطياد على المحرم ، وقد ذكرنا ( ^ واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) واختلف العلماء في صيد الحلال : هل يحل للمحرم ، وأن يأكل منه ؟ قال عمر ، وعثمان : يحل . وبه أخذ اكثر الفقهاء ، وقال علي ، وابن عباس : إنه لا يحل ، وبه قال جماعة من التابعين . < < المائدة : ( 97 ) جعل الله الكعبة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ جعل الله الكعبة البيت الحرام ) قال ثعلب أبو العباس أحمد ابن يحيى : إنما سميت كعبة ؛ لتربيعها ( ^ البيت الحرام ) وهو الكعبة ، وفي الخبر : ' إن الله - تعالى - حرم مكة منذ خلق السموات والأرض ' ( ^ قياما للناس ) القيام والقوام واحد ، قال الله - تعالى - : ( ^ أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) أي : قواما لمعايشكم ، وقال الشاعر : يمدح النبي .
( ونشهد أنك عبد المليك ** أتيت بشرع ودين قيم )
____________________

( ^ للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما ) * * * *
وأراد به : أن البيت الحرام قوام للناس لدينهم ومعايشهم ، أما في الدين ؛ لأن به تقوم المناسك والحج ، وأما في المعايش ؛ فلأن ( أهل الحرم ) كانوا يأمنون أهل ( الغارة ) ، حتى كان يغير بعضهم على بعض ، ثم لا يتعرضون لأهل الحرم ، ويقولون : هم أهل الله .
( ^ والشهر الحرام ) أراد به : جنس الأشهر الحرم ، وهي أربعة أشهر : ثلاثة سرد ، وواحد فرد كما سبق ، والمراد به : أنه جعل الشهر الحرام قواما للناس ؛ يأمنون فيه القتال ؛ فإنهم كانوا يكفون عن القتل والقتال في الأشهر الحرم .
( ^ والهدي والقلائد ) وقد بينا كيف يكون الهدي والقلائد ، وكونه قواما للناس : أنهم كانوا يأمنون بتقليد الهدي ، وكان أهل الحرم يتعيشون بالهدي والقلائد .
( ^ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات والأرض وأن الله بكل شيء عليم ) فإن قال قائل : أي اتصال لهذا بما سبق من الكلام في الآية ؟ قال المبرد أبو العباس محمد بن يزيد : معناه : أن ألهمتهم ذلك الاحترام ، وأن لا يتعرضوا لأهل الحرم ؛ فكأنه بين في الآية صنعة مع أهل الحرم ، قال : ذلك لتعلموا أن كل ذلك بعلمي ، وإلهامي إياهم .
وقال الزجاج : [ قد سبق ] في هذه السورة من الله - تعالى - الإخبار عن الغيوب ، والكشف عن الأسرار ، مثل قوله : ( ^ سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ، ونحو ذلك ؛ فقوله : ( ^ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ) راجع إليه .
____________________

( ^ في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ( 97 ) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ( 98 ) ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( 99 ) قل لا ) * * * * < < المائدة : ( 98 ) اعلموا أن الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) وفي الخبر : ' لو يعلم المؤمن ما عند الله من العذاب لم يطمع في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم يقنط من جنته أحد ' . < < المائدة : ( 99 ) ما على الرسول . . . . . > >
وقوله : ( ^ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) معلوم المعنى . < < المائدة : ( 100 ) قل لا يستوي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل لا يستوي الخبيث والطيب ) قال السدي : يعني الكافر والمؤمن . وقال غيره : الخبيث : الحرام ، والطيب : الحلال ، وفي الخبر : ' حلوان الكاهن خبيث ومهر البغي خبيث ' أي : حرام ( ^ ولو أعجبك ) معناه : ولو سرك ( ^ كثرة الخبيث ) .
( ^ فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) وفي المثل : حرام يأتي جزفا ( والحلال ) يأتي قوتا . وعن أبي هريرة أنه قال : ' درهم من الحلال خير من مائة ألف [ درهم ] وقر من الحرام ' . < < المائدة : ( 101 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) سبب نزول الآية : أن الصحابة أكثروا السؤال على النبي حتى غضب ، وقام
____________________

( ^ يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ( 100 ) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا ) * * * * خطيبا ، وقال : ' إنكم لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا إلا أنبأتكم به ، فقال رجل : يا رسول الله ، من أبى ؟ - وكان السائل عبد الله بن حذافة السهمي ، وكان يقال في نسبه شيء ، فلما قال : من أبى ؟ - قال - عليه الصلاة والسلام - : أبوك حذافة ، فقام آخر ، وقال : من أبى ؟ فنسبه إلى غير أبيه - كأنه كان من حرام - وسأله رجل ، فقال : أين أكون غدا ؟ فقال : في النار ، فقام آخر ، وقال أين أكون غدا ؟ فقال : في الجنة ؛ فبكوا ، وقال عمر : استر علينا يا رسول الله ؛ فإنا حديث عهد بالجاهلية ، وجثا على ركبتيه ، وقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ؛ ونزلت الآية ' .
وروى أبو البختري عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : ' ( لما ) نزل قوله : ( ^ ولله على الناس حج البيت ) قام رجل ، وقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبت ، ولم تطيقوه ، ثم قال : ذروني ما تركتم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه ، فانتهوا ، ونزلت الآية ' .
( ^ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) معناه : وإن صبرتم حتى ينزل القرآن ؛ وجدتم فيه بيان ما تحتاجون إليه ( ^ عفا الله عنها والله غفور حليم ) .
< < المائدة : ( 102 ) قد سألها قوم . . . . . > > ( ^ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) قال بعضهم : أراد به أصحاب
____________________

( ^ عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ( 101 ) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( 102 ) ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا ) * * * * المائدة ، وسألوا المائدة ثم كفروا ، وقال بعضهم : أراد به : قوم صالح ، سألوا الناقة ، ثم كفروا بها ، وقال بعضهم : أراد به الكفار في الجاهلية ، سألوا رسول الله أن يجعل الصفا ذهبا . < < المائدة : ( 103 ) ما جعل الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام )
قال سعيد بن جبير : كان سؤالهم الذي تقدم عن هذه الأوضاع ، وهذه الآية لبيان ما سألوا ردا عليهم ، وقال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع الأربعة ، قال :
أما البحيرة : هي الناقة كانت إذا ولدت خمسة أبطن شقوا أنها ، وتركوها ولم يحملوا عليها ، ولم يمنعوها الكلأ ؛ وبذلك سميت بحيرة من البحر ، وهو الشق ، ثم نظروا إلى خامس ولدها ، فإن كان ذكرا نحروه ، وأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أثنى تركوها كالأم ، وإن كان ميتا ، أكله الرجال والنساء ؛ فهذا معنى البحيرة .
وأما السائبة : كان الرجل من أهل الجاهلية إذا مرض له مريض ، أو غاب له قريب ، يقول : إن رد الله غائبي ، أو إن شفى الله مريضي ؛ فناقتي هذه سائبة ، ثم يسيبها ، تذهب حيث تشاء ، ( أو ) يقول : إن كان كذا ؛ فعبدي عتيق سائبة . يعني : من غير ولاء ، ولا ميراث ؛ فهذا معنى السائبة .
وأما الوصيلة : فكانت في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ، نظروا إلى البطن السابع ، فإن كان ذكرا ذبحوه وأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركوها ، وإن كان ميتا أكله الرجال والنساء ، وإن كان ذكرا وأنثى في بطن واحد تركوهما ، وقالوا : وصلت أخاها ، فهذه هي الوصيلة .
وأما الحام : كان بعضهم إذا ولدت ناقته عشرة أبطن ؛ تركوها ولم يركبوها ، وقالوا : حمى ظهرها ، وكذلك إذا ركب ولد ولدها ؛ يقولون : حمى ظهرها وتركوها ، وربما تركوها لآلهتهم على ما سيأتي في سورة الأنعام ؛ فهذا هو الحام ، وهذه أوضاع وضعها أهل الجاهلية على آرائهم ، فجاء الشرع برفعها ، وقد ثبت عن النبي أنه قال :
____________________

( ^ حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ( 103 ) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ( 104 ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا ) * * * * ' رأيت النار ؛ فرأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبة في النار ' أي : أمعاءه ، وكان أول من سيب السوائب ( ^ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) < < المائدة : ( 104 ) وإذا قيل لهم . . . . . > > ( ^ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ) يعني : إذا دعوا إلى الكتاب والسنة ( ^ قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) يعني : كفانا دين آبائنا ( ^ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) . < < المائدة : ( 105 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله : ( ^ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ) يعني : تخليصها من النار ( ^ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فإن قال قائل : كيف يقول : ' عليكم أنفسكم ' وقد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قيل : قال مجاهد ، وسعيد بن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني : عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل من اليهود والنصارى إذا اهتديم ؛ فخذوا منهم الجزية ، ولا تتعرضوا لهم ، واتركوهم وما يزعمون ؛ فإنه لا يضركم .
( وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : ' أنه خطب وقال : إنكم تقرءون هذه الآية ( ^ عليكم أنفسكم لا يضركم ) من ضل إذا اهتديتم ) ، وإني سمعت رسول الله يقول : إذا رأيتم الظالم فخذوا على يديه ، أو يوشك أن [ يعمكم ] الله ( بعقاب ) ' وعن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية : ' مروا بالمعروف ، وانهوا عن
____________________

( ^ يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ( 105 ) يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) * * * * المنكر ؛ فإن قيل منكم ؛ فذاك وإن رد عليكم أنفسكم ' ، [ ويرد ] هذا ما روى عن أبي أمية الشيباني أنه قال : ' سألت أبا ثعلبة الخشني ، فقلت : إن الله - تعالى - يقول : ( ^ عليكم أنفسكم ) وقد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : لقد سألت عنها خبيرا ، سمعت رسول الله - وقد سئل عن هذه الآية - يقول : مروا بالمعروف وانهو عن المنكر ؛ فإذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك ، ودع أمر العامة ' ( ^ إلى الله مرجعكم ميعا فينبئكم بما كنتم تعلمون ) . < < المائدة : ( 106 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) سبب نزول الآية : ' أن تميم الداري وعدي ( بن بداء ) ؟ خرجا إلى التجارة ، وكانا نصرانيين ، ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما ؛ فمرض ، وكتب ما معه من المتاع في صحيفة ، وألقها بين المتاع ، ثم أوصى إلى هذين النصرانيين أن يردا متاعه إلى مولاه إن مات هو ، وكان بين المتاع جام [ مخوص ] بالذهب منقوش به ؛ فخانا في ذلك الجام ، وأديا سائر المتاع إلى أهله ، فوجدوا تلك الصحيفة بين المتاع ؛ فطلبوا الجام ، فافتقدوه ؛ فسألوا عديا ، وتميما عن ذلك فأنكرا ، وقالا : لا ندري ، وحلفا عليه ، ثم إن ذلك الجام وجد عند رجل بالمدينة ، فسئل الرجل عنه ؛ فقال : إنما أعطانيه عدي وتميم ؛ فاختصموا إلى النبي ؛ فأصر على الإنكار ، وحلفا عليه ؛ فحلف عمرو بن العاص والمطلب بن أبي
____________________

( ^ إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان ) * * * * وداعة على أنهما قد خانا في الجام ، فأخذ الجام ثم إن تميما أسلم بعد ذلك ؛ وأقر بتلك الخيانة ' فهذه قصة الآية وعليها نزلت الآية .
فقوله : ( ^ شهادة بينكم ) يقرأ في الشواذ ' شهادة بينكم ' وقرأ الأعرج ' شهادة بينكم ' بالرفع والتنوين ، والمعروف ' شهادة بينكم ' ( ^ إذا حضر أحدكم الموت ) أي : أسباب الموت ( ^ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ) ذكر اثنان على الرفع ؛ لأنه خبر الابتداء ، ومعنى هذا الكلام : أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت : اثنان ذوا عدل منكم .
( ^ أو آخران من غيركم ) قال أبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، وهو قول شريح ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، وجماعة - : أن معناه من غير أهل ملتكم ، يعني : من أهل الذمة ، وقال الحسن ، والزهري : معناه : من غير قبيلتكم .
( ^ إن أنتم ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم ( ^ فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة ) أكثر العلماء على أنه أراد به : صلاة العصر ، ( وقال الحسن : بعد صلاة الظهر ، والأول أصح ؛ وإنما خص به صلاة العصر ؛ لأن وقت العصر ) معظم محترم عند ( جميع ) أهل الأديان ، وكأن الناس بعد العصر يكون أجمع في الأسواق والمساجد . والمراد به : حبس الحالفين بعد العصر .
____________________

( ^ بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ( 106 ) فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا ) * * * *
( ^ فيقسمان بالله إن ارتبتم ) يعني : إن وقعت لكم ريبة في قول الحالفين أو الشاهدين يحلفان أنا ( ^ لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ) أي : لا نقول إلا الصدق ولو كان على القريب ( ^ ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) وإنما قال : شهادة الله ؛ لأن الشهادة تكون بأمر الله < < المائدة : ( 107 ) فإن عثر على . . . . . > > ( ^ فإن عثر على أنهما استحقا إثماً ) يعني : فإن اطلع ، وأظهر خيانتهما ( ^ فآخران يقومان مقامهما من الذين لستحق عليهم الأوليان ) يقرأ هذا على ثلاثة أوجه : أحدها : ' من الذين استحق عليهم الأوليان ' . وقرأ ( حفص عن عاصم ) ' من الذين استحق ' بنصب التاء والحاء ( ^ عليهم الأوليان ) وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة : ' من الذين استحق ' - بضم التاء وكسر الحاء - عليهم الأولين .
فأما معنى القراءة الأولى فقوله : ( ^ استحق عليهم ) يعني : استحق فيهم ، أو استحق منهم كقوله : ( ^ ولأصلبنكم في جذوع النخل ) أي : على جذوع النخل ، يعني : الذين وقعت الخيانة في حقهم ، وهم أولياء الميت ، و ( ^ الأوليان ) تثنية : الأولى ، والأولى : هو الأقرب ، ومعناه : إن عثر على خيانة الحالفين ؛ يقوم الأوليان من أولياء الميت ؛ فيحلفان ، وأما قوله : ( ^ من الذين استحق عليهم ) أي حق ووجب فيهم ، ومعناه ومعنى القراءة الأولى سواء .
وأما القراءة الثالثة : ( ^ من الذين استحق عليهم الأولين ) فهو بدل عن قوله : ( ^ من الذين ) أو عن الاسم المضمر تحت قوله : ( ^ عليهم ) ؛ فيكون المراد به أيضا أولياء الميت ويكون المعنى ما بينا .
____________________

( ^ لمن الظالمين ( 107 ) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 108 ) يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ( 109 ) إذ قال الله يا ) * * * *
ثم بين كيفية قسهما ؛ فقال : ( ^ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ) < < المائدة : ( 108 ) ذلك أدنى أن . . . . . > > ( ^ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) يعني : ذلك أقرب وأحرى أن تؤدوا الشهادة على وجهها ( ^ أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) يعني : وإن يخافوا رد اليمين بعد يمينهم على المدعين ؛ فلا يحلفوا على الكذب ؛ خوفا من أن يرد اليمين عليهم ، ويكون يمينهم أولى .
( ^ واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ) قال النخعي ، وشريح : الآية منسوخة ، وقوله : ( ^ أو آخران من غيركم ) لقد كانت شهادة أهل الذمة مقبولة على الوصية ثم نسخ ، وقد جوز بعضهم شهادة أهل الذمة في الوصية ؛ خاصة من لا يرى نسخ الآية منهم ، وقال الحسن : الآية محكمة ، وقد حمل قوله : ' أو آخران من غيركم ' على غير قبيلتكم كما بينا . < < المائدة : ( 109 ) يوم يجمع الله . . . . . > >
قوله : ( ^ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا ) فإن قال قائل : كيف يقولون : لا علم لنا ، وقد علموا ما أجابوا ؟ قيل : إن جهنم تزفر زفرة تذهل ( بها ) عقولهم ؛ فيقولون من شدة الفزع : لا علم لنا ؛ ثم يرد الله - تعالى - عليهم عقولهم ، فيخبرون بالجواب ، وقيل : معناه : لا علم لنا إلا العلم الذي أنت أعلم به منا ، أو إلا ما علمتنا ، وقيل : معناه : لا علم لنا بوجه الحكمة في سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا ، وقيل : معناه : لا علم بعاقبة أمرهم ، وبما أحدثوا من بعد ، وأن أمرهم على ماذا ختم ، وعلى هذا دل شيئان : أحدهما : من الآية قوله ( ^ إنك أنت علام الغيوب ) ، والثاني : ما روى صحيحا عن رسول الله أنه قال : ' يسلك بطائفة من أصحابي ذات الشمال - يعني يوم القيامة - فأقول : يا رب ، أصحابي أصحابي ، فيقول الله - تبارك وتعالى - : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . فأقول ما قال العبد الصالح : ( ^ وكنت عليهم شهيدا ما دمت
____________________

( ^ عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( 110 ) وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي ) * * * * فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ) ' . < < المائدة : ( 110 ) إذ قال الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ) أمره بشكر النعمة ، ثم عد عليه نعمة ؛ فقال : ( ^ إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) وقد ذكرنا الكلام فيه .
( ^ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ) وقد بينا فيما سبق كيفيته . ( ^ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ) . < < المائدة : ( 111 ) وإذ أوحيت إلى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ) هذا الوحي بمعنى الإلهام ، أو بمعنى الأمر ، أي : ألهمتهم وأمرتهم ، قال العجاج :
( الحمد لله الذي استقلت به السماء فاطمأنت ( أوحى ) لها القرار فاستقرت )
أي : أمرها بالقرار .
( ^ قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) وقد ذكرنا معنى الحواريين .
____________________

( ^ وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ( 111 ) إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( 112 ) ) * * * * < < المائدة : ( 112 ) إذ قال الحواريون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل تستطيع ربك ) وقرأ الكسائي : ' هل يستطيع ' - بالتاء - ' ربك ' بفتح الباء ، وهذه قراءة علي ، ومعاذ وعائشة ، وكانت عائشة تحلف أن الحواريين أعرف بالله من أن يقولوا : هل يستطيع ربك .
ولقراءتهم معنيان : أحدهما : أن المراد به هل تسأل ربك ، والثاني : هل تستدعي طاعة ربك بإجابته سؤالك إياه ؟ وأما القراءة المعروفة ففي معناها أقوال :
أحدها معناه : هل يفعل ربك . وقال الفراء : يقول الرجل لغيره : هل تستطيع أن تفعل كذا ، يريد به : هل تفعل كذا ؟ .
والثاني معناه : هل يطيع ربك استطاع بمعنى أطاع ، كقولهم : استجاب ، يعني : أجاب ، فيكون معناه : هل يطيعك ربك ؛ بإجابة سؤالك ، وفي الآثار : ' من أطاع الله أطاعه الله ' أي : يجيب دعاءه .
وقيل : إن الحواريين قالوا ذلك قبل استحكام المعرفة ، وأراد به : القدرة ، ولو استحكمت معرفتهم لم يقولوا ذلك ، والصحيح أحد القولين الأولين ، وهذا لأن الاستطاعة لا تنسب إلى الله غالبا ؛ وإنما يوصف بالقدرة ، وأما الاستطاعة تكون للعبد .
وقوله : ( ^ أن ينزل علينا مائدة من السماء ) اعلم أن المائدة : اسم لما يكون عليه طعام ؛ فإذا لم يكن عليه طعام لا يسمى مائدة ، واختلفوا في اشتقاق المائدة : منهم من قال : هي من الميد ، بمعنى الإعطاء ، ومنه : قالوا لأمير المؤمنين : الممتاد ، يعني : الذي يطلب عطاؤه ؛ فعلى هذا سميت مائدة ؛ لأنها تعطي من عليها الطعام .
وقيل : هو من [ الميد ] بمعنى الحركة ؛ فعلى هذا سميت مائدة ؛ لأنها تتحرك بما
____________________

( ^ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ( 113 ) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ( 114 ) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ( 115 ) وإذ قال الله يا ) * * * * عليها من الطعام .
( ^ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) نهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان ، وقيل : أراد به أي : اكتفوا بطعام الأرض عن طعام السماء . < < المائدة : ( 113 ) قالوا نريد أن . . . . . > >
قوله - تعالى : ( ^ قالوا نريد أن نأكل منها ) يعني : أكل تبرك لا أكل حاجة ( ^ وتطمئن قلوبنا ) أي : يزداد إيمانها ، وهو مثل قوله : ( ! ( ولكن ليطمئن قلبي ) ! ونعلم أن قد صدقتنا ) أي : نزداد إيمانا بصدقك ، وفي بعض التفاسير : أن عيسى - صلوات الله عليه - كان قد أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما لما سألوه أن يسأل المائدة ، قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ؛ فإذا أفطرتم لا تسألون الله شيئا إلا أعطاكم ، ففعلوا ذلك ، فلما أعطوا المائدة ، عرفوا صدقه ؛ فذلك معنى قوله : ( ^ ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ) . < < المائدة : ( 114 ) قال عيسى ابن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) قيل : إنه لما أراد سؤال المائدة اغتسل ، وصلى ركعتين ، فطأطأ رأسه ، وغض بصره ، وبكى ، ثم قال : ' اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ' والعيد : المراد به : يوم السرور لهم ( ^ وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ) . < < المائدة : ( 115 ) قال الله إني . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) أي : جنس عذاب لم أعذب به أحدا ، وقيل : إن ذلك العذاب ( أنه ) مسخهم خنازير على ما سنبين في القصة .
ثم اختلفوا ، قال الحسن ، ومجاهد : إن المائدة لم تنزل أصلا ، فإن الله - تعالى -
____________________

لما أوعد على كفرهم بعد نزول المائدة ؛ خافوا أن يكفر بعضهم ؛ فاستعفوا عن إنزال المائدة ؛ فعلى هذا تقدير قوله : ( ^ إني منزلها عليكم ) يعني : إن سألتم ، إلا أنهم استعفوا فلم ينزل ، والصحيح - والذي عليه الأكثرون - أنها منزلة ؛ لأن الله تعالى لا يعد شيئا ثم يخلف ، وقد قال : ( ^ إني منزلها عليكم ) .
والقصة في ذلك : أن عيسى لما سأل المائدة ؛ نزلت من السماء سفرة حمراء بين غمامتين كانوا يرونها ، بسطت بين أيديهم ، وكانت مغطاة ، فقام عيسى إليها ، ورفع عنها الغطاء ، فإذا عليها سبعة أرغفة ، وسبعة أحوات ، وفي رواية : كان عليها خمسة أرغفة ، وسمكة مشوية ليس فيها فلوس ولا شوك كما يكون في سمك الأرض ، وكان حولها من كل بقل إلا الكرات ، وكان عند رأسها الملح وعند ذنبها الخل ، وكان عليها خمس رمانات وتميرات ، وقيل : كانت الأرغفة من خبز الأرز ، وقال عطية : كانت عليها سمكة لها طعم جميع الأرض ، وقيل : كان عليها ثمر من ثمار الجنة . وفي بعض الروايات أن عيسى سئل : أهذا من طعام الجنة ؟ فقال : لا من طعام الجنة ، ولا من طعام الأرض ، إنما هو طعام خلقه الله - تعالى - لكم . وفي القصة : أن هذا المائدة لما نزلت ؛ دعا عيسى لها الفقراء ، والزمني ، والمساكين ، حتى يأكلوا ، وكانت تنزل عليهم أربعين يوما ، يأكل منها كل يوم أربعة آلاف ، أو خمسة آلاف نفر ، فكانوا يأكلون ، ولا ينقص منها شيء ، ثم تصعد ، ثم تنزل ، هكذا كل يوم حتى خانوا فيها ، فمسخوا قردة وخنازير ، ورفعت المائدة . ثم اختلفوا في تلك الخيانة ، فروى عمار بن ياسر عن النبي أنه قال : ' أنزلت عليهم المائدة ، وعليها الخبز واللحم ، وأمروا أن لا يدخروا منها للغد ، فادخروا وخانوا ؛ فأصبحوا قردة وخنازير ' وفي رواية : ' أصبحوا خنازير ' . وقيل : كانت خيانتهم أن اليهود قالوا لهم : إن عيسى سحركم بالمائدة ، ولم يكن ثم مائدة ؛ فشكوا فيه ؛ فمسخوا خنازير ، وقيل : كانت خيانتهم أن في الابتداء كان يأكل منها الأغنياء والفقراء ؛ فأمرهم الله - تعالى - أن يدعو لها الفقراء دون
____________________

( ^ عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ) * * * * الأغنياء ؛ ابتلاهم ؛ فأكل الأغنياء وخالفوا ، فأصبحوا خنازير . < < المائدة : ( 116 ) وإذ قال الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ) اختلفوا في أن هذا القول متى يكون ؟ قال السدي : إنما قال الله - تعالى - ذلك حين رفعه إلى السماء ؛ لأن قوله : ' إذ للماضي ، والصحيح أنه يكون في القيامة ، والقيامة وإن لم تكن بعد ، ولكنها في علم الله ، فلما كانت كائنة لا محالة فهي كالكائنة ؛ فصح قوله : ( ^ وإذ قال الله ) وقيل : إذا بمعنى إذ ويجوز مثل ذلك قال الشاعر :
( لم يجزه به الإله إذ جزا ** جنات عدن في السموات العلا )
يعني : إذا جزى ( ^ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) قيل : هذا سؤال توبيخ والمراد به : قومه ، وكانت الحكمة في سؤاله عنه ؛ حتى يسمع قومه إنكاره ؛ لأنهم كانوا يدعون أن عيسى أمرهم ( باتخاذه إلها ) ؛ فإن قال قائل : هم لم يتخذوا أمه إليها ؛ فما معنى قوله : ( ^ اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ قيل : إنه - جل وعز - لما أراد ذكر عيسى مع أمه ، قال : إلهين ، وهذا كما يقال عند ذكر أبي بكر وعمر معا : عمران ، وقالوا : هذا سنة عمرين ، ويقال للشمس والقمر : قمران ، قال الفرزدق :
( لنا قمراها والنجوم طوالع ** )
يعني : الشمس والقمر ، وقيل : إن عيسى كان بعضا لمريم ، فلما اتخذوه إلها ؛ فكأنهم اتخذوا أمه إلها ؛ فقال : ( ^ إلهين من دون الله ) ( ^ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ) اشتغل أولا بالثناء عليه والتنزيه ، ونسبه إلى القدس والطهارة ( ^ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) قال
____________________

( ^ ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( 116 ) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ( 117 ) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت ) * * * * الزجاج : نفس النبي : جملته وحقيقته ، فمعناه : تعلم حقيقة أمري ، ولا أعلم حقيقة أمرك ، وقيل : معناه : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وعليه دل قوله : ( ^ إنك أنت علام الغيوب ) وهو معنى الأول ، < < المائدة : ( 117 ) ما قلت لهم . . . . . > > ( ^ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله بي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني ) أي : رفعتني ( ^ كنت أنت الرقيب عليهم ) وقد بينا معنى التوفي فيما سبق ( ^ وأنت على كل شيء شهيد ) . < < المائدة : ( 118 ) إن تعذبهم فإنهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فإن قال قائل : كيف طلب المغفرة لهم ، وهم كفار ؟ ! وكيف قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وهذا لا يليق بسؤال المغفرة ؟ ! قيل : أما الأول فمعنى قوله : وإن تغفر لهم ، يعني : بعد الإيمان ، وهذا إنما يستقيم على قول السدي ؛ لأن الإيمان لا ينفع في القيامة ، والصحيح آخر القولين ، قال بعضهم : هذا في فريقين منهم فقوله : ( ^ إن تعذبهم فإنهم عبادك ) يعني : من كفر منهم ( ^ وإن تغفر لهم ) يعني : من آمن منهم . وقال أهل المعاني من أرباب النحو : ليس هذا على وجه طلب المغفرة ، وإنما هذا على تسليم الأمر إليه ، وتفويضه إلى مراده ؛ ألا تراه يقول : ' فإنك أنت العزيز الحكيم ' ولو كان على وجه طلب المغفرة لقال : ' فإنك أنت الغفور الرحيم ' .
وأما السؤال الثاني : اعلم أن في مصحف ابن مسعود : ' وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ' وكان ابن شنبوذ يقرأ كذلك زمانا ببغداد ؛ فمنع عنه ، وفيه قصة ، ( وقيل ) : فيه تقديم وتأخير ، وتقدير الآية : إن تغفر لهم فإنهم عبادك ، وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم . وقيل : معناه : إن تغفر لهم لا ينقص من ( عزك )
____________________

( ^ العزيز الحكيم ( 118 ) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ( 119 ) لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ( 120 ) ) * * * * شيء ولا يخرج من حكمتك . ويدخل في حكمة الله - تعالى - وسعة رحمته أن يغفر للكفار ، ولكنه أخبر أن لا يغفر ، وهو لا يخلف خبره ومن قال : إنه على تسليم الأمر لا على وجه طلب المغفرة ، استقام النظم على قوله ، كما بينا . < < المائدة : ( 119 - 120 ) قال الله هذا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) يقرأ : ' يوم ' بالرفع على الإبتداء ، ويقرأ : ' يوم ' على بالنصب ، كأنه أراد في يوم ؛ فحذف في ونصب يوم .
فإن قال قائل : كيف ينفع الصادقين صدقهم بالقيامة ، وليست بدار النفع ؟ قيل : معناه : ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا لا صدقهم في القيامة ، وقيل : نفعهم بالصدق في القيامة : أنهم لو كذبوا ؛ نطقت جوارحهم فافتضحوا ، فإذا صدقوا لم يفتضحوا ( ! ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) ! لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ) والله أعلم بالصواب .
____________________

<
> تفسير سورة الأنعام <
>
قال - رضي الله عنه - : اعلم أن سورة الأنعام مكية ، روى يوسف بن مهران عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : سورة الأنعام نزلت جملة بمكة ليلا ، معها سبعون ألف ملك يحدونها بالتسبيح . وقد روى هذا مرفوعا إلى النبي ، وفي تمام الخبر عن النبي أنه قال : ' من قرأها في ليلة استغفر له السبعون ألف ملك أولئك ليله ونهاره إلى أن يصبح ' ، وفي بعض الروايات : ' أن تلك الملائكة كان لهم زجل بالتسبيح ، وكانت الأرض ترتج ، والنبي يقول : سبحان ربي العظيم حتى نزلت ' وفي رواية الكلبي عن [ أبي ] صالح عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة الأنعام جملة بمكة إلا آيتين : قوله - تعالى - : ( ^ قل تعالوا . . . ) الآية . وقوله : ( ^ ما قدروا الله حق قدره . . . ) الآية وفي بعض الروايات : ' إلا ثلاث آيات : من قوله : ( ^ قل تعالوا ) إلى آخر الآيات الثلاث ، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : سورة الأنعام من نجائب القرآن ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضا ربه .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا ) * * * *
قوله - تعالى - : ( ^ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) حكي عن كعب الأحبار أنه قال : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة : < < الأنعام : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) الآية .
فقوله : ( ^ الحمد لله ) معناه : احمدوا الله ، ذكر الخبر بمعنى الأمر ، وفائدته : الأمر بالحمد وتعليم الحمد ؛ فإنه لو قال : احمدوا الله ؛ دعت الحاجة إلى بيان كيفية الحمد ، وقوله : ( ^ الذي خلق السموات والأرض ) إنما خصهما بالذكر ؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ؛ ولأن فيهما العبر والمنافع للعباد .
( ^ وجعل الظلمات والنور ) والجعل : بمعنى الخلق ، ثم اختلفوا ، قال بعضهم : الظلمات : الليل ، والنور : النهار ، وقال بعضهم : أراد بالظلمات : الكفر ، وبالنور : الإيمان ، ويدخل في الظلمات جميع الظلمات ، حتى ظلمة القلب ، وظلمة الشك ، ونحو ذلك .
ويدخل في النور جميع الأنوار ، حتى نور القلب ، ونور اليقين ، ونحو ذلك ، وقيل : أراد بالظلمات : الجهل ، وبالنور : العلم ، وقيل : أراد بالظلمات : المعصية ، وبالنور : الطاعة .
وروى عن قتادة أنه قال : إن الله - تعالى - خلق السماء قبل الأرض ، والليل قبل النهار ، والجنة قبل النار ، وقد قال غيره : خلق الأرض قبل السماء ، وسيأتي .
( ^ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) قال الكسائي : عدل الشيء بالشيء : إذا ساواه به ، ومنه العدل . ومعناه : يعدلون بالله غير الله ، وقال مجاهد : معناه : ثم الذين كفروا بربهم يشركون ، والمعنيان متقاربان ؛ لأن من ساوى غير الله بالله ؛ فقد أشرك . وقيل : قوله : ( ^ ثم الذين كفروا ) معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليك كذا ، وتفضلت عليك بكذا ثم لا تشكرني ، ثم تكفر بنعمتي .
____________________

( ^ بربهم يعدلون ( 1 ) هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ( 2 ) وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ( 3 ) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ( 4 ) فقد ) * * * * < < الأنعام : ( 2 ) هو الذي خلقكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ هو الذي خلقكم من طين ) هو ما بينا أن الله - تعالى - أمر ملك الموت حتى قبض قبضة من تراب ؛ فخلق منها آدم - صلوات الله عليه - فهذا معنى قوله : ( ! ( هو الذي خلقكم من طين ) ! ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) قال ابن عباس : الأجل الأول : من الولادة إلى الموت ، والأجل الثاني : من الموت إلى البعث وقال أيضا : لكل أحد أجلان : أجل إلى الموت ، وأجل من الموت إلى البعث ، فإن كان برا وصولا للرحم ؛ زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان غير ذلك ، نقص من أجل العمر ، وزيد ذلك في أجل البعث .
وقيل : الأجل الأول : أجل الدنيا كما بينا ، والأجل الثاني من ابتداء الآخرة ، وذلك مسمى عند الله لا يعلمه غيره ( ^ ثم أنتم تمترون ) تشكون . < < الأنعام : ( 3 ) وهو الله في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم ) قال ابن الأنباري : معناه : وهو الله المعبود في السموات وفي الأض ، وقال غيره : تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض ، وهو قول الزجاج ( ^ ويعلم ما تكسبون ) الكسب : كل عمل يعمله الإنسان بكده ؛ لجلب نفع ، أو دفع ضر ، ولذلك لا يوصف فعل الله بالكسب ؛ لأنه فعله برئ عن جلب المنافع ودفع المضار . < < الأنعام : ( 4 ) وما تأتيهم من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) أراد بهذه الآية : انشقاق القمر ؛ فإن الكفار سألوا رسول الله أن يأتيهم بآية ؛ فقال عليه [ الصلاة و ] السلام - ماذا تريدون ؟ فاقترحوا انشقاق القمر ، فأتاهم به ، فكفروا وأعرضوا . < < الأنعام : ( 5 ) فقد كذبوا بالحق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ) يعني : ما ذكرنا ( ^ فسوف
____________________

( ^ كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ( 5 ) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ، ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم ) * * * * يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ) معناه : فسوف يؤول إليه وبال ما كانوا به يستهزءون . < < الأنعام : ( 6 ) ألم يروا كم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) قيل : ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، والقرن عند حفاظ الحديث : مائة سنة ؛ فإنه روى عن النبي أنه قال لعبد [ الله ] بن ( بسر ) المازني : ' إنك تعيش قرنا ' ، فعاش مائة سنة ، فاستدلوا به على أن القرن مائة سنة ، وفي الأخبار : كان بين آدم ونوح : عشرة قرون ، وبين نوح وإبراهيم : عشرة قرون ، والقرن في الحقيقة : هو أهل كل زمان ، سواء بعث فيهم نبي أو لم يبعث ؛ وعليه دل قوله : ' خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين بلونهم ' يعني : ثم القرن الذين يلونهم .
____________________

( ^ مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( 6 ) ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ) * * * *
وقوله : ( ^ مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي : أعطيناهم ما لم نعطكم .
( ^ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) أي : متتابعا ، قال الشاعر :
( وسقاك من نوء الثريا ** مزقة عن الحلب وابلا مدرارا )
أي : متتابعا ، قال ابن عباس : معناه : وأرسلنا السماء عليهم مدرارا : أي : متتابعا في أوقات الحاجات ، ولم يرد به : التوالي على الدوم ( ^ وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) . < < الأنعام : ( 7 ) ولو نزلنا عليك . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) سبب هذا : أن عبد الله بن أبي أمية المخزومي أخا أم سلمة ، قال لرسول الله : لن نؤمن بك حتى تنزل علينا صحيفة من السماء جملة فنزل قوله : ( ^ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) . والقرطاس : ما يكون مكتوبا ، فإذا لم يكن مكتوبا سمي : طرسا ( ^ فلمسوه بأيديهم ) فإن قال قائل : لم لم يقل : فرأوه بأعينهم ؟ قيل : لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من الرؤية ؛ لأن السحر يجري على المرئي ، ولا يجري على الملموس ؛ لأن الملموس يصير مرئيا ، والمرئي لا يصير ملموسا ؛ فذكر اللمس ليكون أبلغ .
( ^ لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) ومعناه : أنه لا ينفع معهم شيء فإنا وإن أنزلنا عليهم ما اقترحوا قالوا إن هذا إلا سحر مبين . < < الأنعام : ( 8 ) وقالوا لولا أنزل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) وهذا قول عبد الله بن أبي أمية المخزومي ( اقترح ) إنزال ملك ( ^ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) قال مجاهد : معناه : لقامت القيامة ، وقيل : معناه : لاستؤصلوا بالعذاب ، وهذه سنة الله في الكفار ؛ أنهم
____________________

( ^ ينظرون ( 8 ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( 9 ) ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ( 10 ) قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 11 ) قل لمن ما في السموات ) * * * * متى اقترحوا آية ، فإذا أعطاهم الله لك ؛ فكفروا بها ، استأصلهم بالعذاب ، كدأب قوم نوح ، وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وأمثالهم ( ^ [ ثم ] لا ينظرون ) أي : ثم لا يمهلون . < < الأنعام : ( 9 ) ولو جعلناه ملكا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) أي : في صورة رجل ؛ لأن الرجل أأنس بالرجل ، وأفهم منه ، وقد جاء جبريل إلى النبي في صورة دحية الكلبي وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين ( ^ وللبسنا عليهم ما يلبسون ) قال ابن عباس ، والضحاك ، وجماعة : معناه : خلطنا عليهم ما يخلطون ، وفي معناه قولان : أحدهما : أنهم شبهوا على ضعفائهم فتشبه عليهم كما شبهوا ، وينزل الملك في صورة رجل ( حي ) يشتبه عليهم ؛ فيقول بعضهم : هو ملك ، ويقول بعضهم : ليس بملك ، والقول الثاني : أن معناه : أضللناهم بإنزال الملك في صورة رجل ، كما ضلوا من قبل ، أي : لو حسبوا أن يهتدوا بإنزال الملك ، فإنزال الملك لا يعجزنا من إضلالهم به . < < الأنعام : ( 10 ) ولقد استهزئ برسل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد استهزئ برسل من قبلك ) سبب هذا : ' أن رسول الله مر على الوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبي جهل ، فضحكوا هزوا به ؛ فنزلت الآية تسلية له ' ( ^ فحاق بالذين ) أي : فنزل بالذين ( ^ سخروا منهم ما كانوا ) أي : وبال ما كانوا ( ^ به يستهزءون ) . < < الأنعام : ( 11 ) قل سيروا في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل سيروا في الأرض ) يحتمل هذا السير بالفكرة والعقول ، ويحتمل السير بالأقدام ( ^ ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) يعني : ممن سبق من الأمم .
____________________

( ^ والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( 12 ) وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ( 13 ) قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني ) * * * * < < الأنعام : ( 12 ) قل لمن ما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ) أمر بالجواب عقيب السؤال ؛ ليكون أبلغ في التأثير ، وآكد في الحجة ؛ لأن من سأل غيره عن شيء ثم عقبه بالجواب كان ذلك أبلغ تأثيرا ( ^ كتب على نفسه الرحمة ) أي : ( قضى ) ، وقد صح برواية أبي هريرة : أن رسول الله قال : ' إن الله كتب كتابا قبل خلق السموات والأرض ، فهو عنده فوق عرشه : سبقت رحمتي غضبي ' .
( ^ ليجمعنكم ) اللام لام القسم أي : والله ليجمعنكم . ( ^ إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) أي : لا شك فيه ( ^ الذين خسروا أنفسهم ) غبنوا أنفسهم ( ^ فهم لا يؤمنون ) . < < الأنعام : ( 13 ) وله ما سكن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وله ما سكن في الليل والنهار ) وقيل : فيه حذف ، وتقديره : وله ما سكن وما تحرك ، وقيل : هو السكون خاصة ، وإنما خص السكون ؛ لأن النعمة في السكون أكثر منها في الحركة ( ^ وهو السميع العليم ) . < < الأنعام : ( 14 ) قل أغير الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض ) الفاطر : الخالق ، المنشئ للخلق ، قال الأصمعي : ما كنت أعرف معنى الفاطر ، حتى أختصم إلى أعربيان في بئر ؛ فقال أحدهما : أنا فطرته ، وقال الآخر : أنا فطرته ؛ فعرفت أنه [ إنشاء ] الخلق ( ^ وهو يطعم ولا يطعم ) قرأ الأعمش : ' وهو يطعم ولا يطعم ' بفتح الياء ، أي : يؤكل ولا يأكل ، وأما القراءة المعروفة ، فمعناه : وهو يرزق ولا يرزق .
( ^ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) يعني : من هذه الأمة ، والإسلام يعني الاستسلام لأمر الله - تعالى - ( ^ ولا تكونن من المشركين ) وهو وإن كان معصوما
____________________

( ^ أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ( 14 ) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 15 ) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ( 16 ) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على ) * * * * عن الشرك ، لكن الأمر ( بالثبات ) على الإيمان ، وترك الإشراك يجوز أن يكون متوجها عليه ، وقيل : الخطاب معه ، والمراد به : الأمة . < < الأنعام : ( 15 ) قل إني أخاف . . . . . > >
( ^ قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) أي : عذاب القيامة < < الأنعام : ( 16 ) من يصرف عنه . . . . . > > ( ^ من يصرف عنه ) يعني : العذاب ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : بفتح الياء ، يعني : من يصرف الله عنه العذاب ( ^ يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ) . < < الأنعام : ( 17 ) وإن يمسسك الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) الضر : خلاف النفع ومعناه : إن يصبك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ( ^ وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) وروى عن ابن عباس أنه قال : ' كنت رديف النبي ، فقال : ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن في الدنيا والآخرة ؟ قلت : ( نعم ) ؛ ( فقال ) : احفظ الله يحفظك . . . ' الخبر إلى أن قال : ' فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، ولو اجتمعوا على أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه . . . ' - الخبر .
____________________

( ^ كل شيء قدير ( 17 ) وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ( 18 ) قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ( 19 ) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا ) * * * * < < الأنعام : ( 18 ) وهو القاهر فوق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو القاهر فوق عباده ) القاهر : الغالب الذي لا يغلب ، وقيل : هو المنفرد بالتدبير ، يجبر الخلق على مراده ، وقوله : ( ^ فوق عباده ) هو صفة الاستعلاء الذي لله - تعالى - الذي يعرفه أهل السنة ( ^ وهو الحكيم الخبير ) . < < الأنعام : ( 19 ) قل أي شيء . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أي شيء أكبر شهادة ) سبب هذا : أن الكفار قالوا : يا محمد ، من يشهد لك بالصدق ؟ فنزلت الآية : ( ^ قل أي شيء أكبر شهادة ) يعني : من الله ، واستدلوا بهذا على أن الله شيء . ( ^ قل الله شهيد بيني وبينكم ) أي : يشهد لي بالحق ، وعليكم بالباطل .
( ^ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) أي : ومن بلغه القرآن إلى قيام الساعة ، وفي الخبر عن النبي : ' نضر الله وجه امرئ سمع مني مقالة ، فوعاها ، ثم بلغها ؛ فرب مبلغ أوعى من سامع ' وقيل : معناه : لأنذركم به ، يعني : العرب ، ومن بلغ ، يعني : العجم .
( ^ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ) أمره بالجواب عقيب السؤال لما بينا .
< < الأنعام : ( 20 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . . > > ( ^ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) قيل : أراد به : محمدا ، وقيل : أراد به : القرآن يعرفونه ( ^ كما يعرفون أبناءهم ) .
____________________

( ^ أنفسهم فهم لا يؤمنون ( 20 ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ( 21 ) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( 22 ) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) * * * *
( ^ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) أي : غبنوا أنفسهم ، وغبنهم : أنهم خسروا رأس المال ، وفي الخبر : أن الله - تعالى - خلق لكل آدمي منازل في الجنة ، فإن كفر خسر تلك المنازل ، وجعلها الله - تعالى - لمؤمن . < < الأنعام : ( 21 ) ومن أظلم ممن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) أي : قال عليه ما لم يقله ( ^ أو كذب بآياته ) يعني : آيات القرآن ( ^ إنه لا يفلح الظالمون ) . < < الأنعام : ( 22 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ويوم نحشرهم جميعا ) أراد به : حشر القيامة ( ^ ثم [ نقول ] للذين أشركوا أين شركاءكم الذين كنتم تزعمون ) يعني أين الشركاء الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء الله ، والزعم قول الكذب ، قال ابن عباس : الزعم الكذب في كل موضع ، وفي الآثار : ' زعموا مطية الكذب ' . < < الأنعام : ( 23 ) ثم لم تكن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) قال قتادة : معناه : ثم لم تكن معذرتهم - وقال غيره : ثم لم يكن كلامهم - إلا أن قالوا .
قال الزجاج : في قوله : ( ^ ثم لم تكن فتنتهم ) معنى لطيف ، وذلك مثل الرجل يفتن ( بمحبوب ) ثم تصيبه في ذلك محنة ؛ فيتبرأ من محبوبه ؛ فيقال : لم تكن فتنته إلا هذا ، كذلك الكفار لما فتنوا بمحبة الأصنام ، ثم إذا رأوا العذاب يتبرءون منها .
يقول الله - تعالى - : ( ^ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين
____________________

( ( 23 ) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 24 ) ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) * * * * < < الأنعام : ( 24 ) انظر كيف كذبوا . . . . . > > انظر كيف كذبوا على أنفسهم ) كذبهم عل أنفسهم : تبرئهم من الشرك ( ^ وضل ) أي : ذهب ( ^ عنهم ما كانوا يفترون ) . < < الأنعام : ( 25 ) ومنهم من يستمع . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة ) هذا في رؤساء المشركين ، مثل : أبي سفيان بن حرب - حين كان مشركا - وأبي جهل بن هشام ، وعتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وغيرهم ، كانوا يستمعون القرآن ؛ فقالوا : لأبي سفيان : ما هذا ؟ فقال : أرى فيه حقا وباطلا . فقال أبو جهل : حتى تفاخرنا واستوينا في المجد ، واستوت بنا الركب ، تزعمون أن منكم نبيا يا بني عبد مناف ، والله لا نقر بهذا ، وفي رواية : [ للموت ] أهون علينا من هذا .
( ^ وجعلنا على قلوبهم أكنة ) هي جمع ' الكنان ' كالأعنة جمع العنان وهي الأغطية ( ^ أن يفقهوه ) قال بعضهم : كراهة أن يفقهوه ، وقال آخرون : أن لا يفقهوه ( ^ وفي آذانهم وقرا ) أي : وجعلنا في آذانهم صمما ، قال ابن عباس : والوقر : أصله الثقل ؛ ومن ثقل الأذن جاء الصمم .
( ^ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ) هذا في معجزات النبي ، وما أراهم من الآيات .
يقول الله - تعالى - : وإن يروا جميع تلك الآيات لا يؤمنوا بها ، وقيل : إنهم اقترحوا آية ؛ فنزل قوله : ( ^ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ) وهذا في قوم مخصوصين ، علم الله أنهم لا يؤمنون .
( ^ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) مجادلتهم : أنهم قالوا للنضر بن الحارث بن كلدة ، وكان قد نظر في الكتب المنزلة ،
____________________

( ( 25 ) وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 26 ) ولو ) * * * * وكان ممن يستمع القرآن ؛ فقالوا له : ما تقول في هذا ؟ قال : إن هذا إلا أساطير الأولين ، مثل أقاصيص رستم واسفنديار ، وصحف الأولين ، قال ثعلب : الأساطير : جمع الأسطورة ، وهي المكتوبة . < < الأنعام : ( 26 ) وهم ينهون عنه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهم ينهون عنه وينئون عنه ) أي : ينهون الناس عن اتباع محمد ، وتباعدون عنه بأنفسهم ، وقيل : معنى قوله ( ^ ينهون عنه ) أي : يذبون عنه ، ويمنعون الناس عن أذاه ( ^ وينئون عنه ) أي : يتباعدون عن الإيمان به ، وذلك مثل أبي طالب ، كان يذب عنه حال حياته ، قال ابن عباس : هو في أبي طالب . حتى روى أنه اجتمع عليه رؤساء قريش ، وقالوا له : اختر شابا من أصحابنا وجيها ، واتخذه ابنا لك ، وادفع إلينا محمدا ؛ فقال أبو طالب : ما أنصفتموني ، أدفع إليكم ولدي ليقتل ، وأربي ولدكم ؟ !
وروى أنه قال لرسول الله : ' لولا أن قريشا تعيرني لأقررت عينك بالإيمان ' ، وكان يذب عنه إلى أن توفي ، وروى : ' أنه قرأ عليه قوله - تعالى - : ( ^ وهم ينهون عنه وينئون عنه ) فقال أبو طالب : أما أن أدخل في دينك فلا أدخل أبدا ، ولكني أذب عنك ما حييت ' ، وله فيه أبيات :
( والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا )
( فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وأبشر بذاك وقر منك عيونا )
( ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ** وصدقتني ولكنت ثم أمينا )
____________________

( ^ ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( 27 ) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم ) * * * *
( ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينا )
( لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحا بذاك مبينا )
( ^ وإن يهلكون إلا أنفسهم ) أي : لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم ( ^ وما يشعرون ) . < < الأنعام : ( 27 ) ولو ترى إذ . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ ولو ترى إذ وقفوا على النار ) أي : دخلوا النار ، ( وقيل : عرضوا على النار ) ، والوقوف : الاطلاع على حقيقة الشيء ( ^ فقالوا يا ليتنا نرد ) إلى الدنيا ( ^ ولا نكذب بآيات ربنا ) قال سيبويه : هو ابتداء كلام ، يعني : لا نكذب أبدا ، رددنا أو لم نرد ، وقال غيره : هو على نسقه ، أي : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ، أي : لا نكفر بعد الرد إلى الدنيا ( ^ ونكون من المؤمنين ) ويقرأ ' ونكون ' بنصب النون ، وتقديره : ولنكون من المؤمنين . < < الأنعام : ( 28 ) بل بدا لهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ بل بدا لهم ) قوله : ' بل ' بحتة ، رد لما قالوا ، وقوله : ( ^ بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ) أي : ظهر لهم ما أخفوا من قبل من تبرئهم عن الشرك بقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين ؛ وذلك أنهم إذا قالوا ذلك ؛ يختم الله على أفواههم ، وتنطق جوارحهم بشركهم ؛ فيبدو لهم ما كانوا يخفون من قبل .
( ^ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) أي : ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر ، والشرك بالله ( ^ وإنهم لكاذبون ) يعني : في قولهم ( ^ يا ليتنا نرد لا نكذب بآيات ربنا ) وفي الأخبار : ' أن الله تعالى يعتذر إلى آدم يوم القيامة بثلاث معاذير ، أحدها هذا بقوله : إني لا أدخل من ذريتك النار إلا من أعلم أني لو رددته إلى الدنيا سبعين
____________________

( ^ لكاذبون ( 28 ) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ( 29 ) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 30 ) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا ) * * * * مرة لكفر ( بي ) ' . < < الأنعام : ( 29 ) وقالوا إن هي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) هذا في إنكارهم البعث والقيامة ، < < الأنعام : ( 30 ) ولو ترى إذ . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) أي : عرضوا على ربهم ، ( ^ قال أليس هذا بالحق ) وذلك حين تكشف [ لهم ] الغيوب والسرائر .
( ^ قالوا بلى وربنا ) فيقرون بها ، قال ابن عباس : هذا في موقف ، وقوله : ( ^ والله ربنا ما كنا مشركين ) في موقف آخر ، وفي القيامة مواقف ، ففي موقف ينكرون ، وفي موقف يقرون ، ( ^ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . < < الأنعام : ( 31 ) قد خسر الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) أي : خسروا أنفسهم بتكذيبهم بالمصير إلى الله ؛ فاللقاء ها هنا بمعنى المصير إليه ( ^ حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ) أي : فجأة ( ^ قالوا يا حسرتنا ) هذا على المبالغة ، كقولهم : يا عجبا ، وقول القائل : يا عجبا ، أبلغ من قوله : أنا متعجب ؛ فكذلك قوله : ( ^ يا حسرتنا ) أبلغ من قوله : أنا متحسر ، قال سيبويه : هذا على وجه النداء ، كأنه يقول : أيتها الحسرة هذا أوانك وأيها العجب جاء أوانك .
( ^ على ما فرطنا فيها ) أي : قصرنا فيها ، أي : في أمر القيامة ( ^ وهم يحملون
____________________

( ^ حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ( 31 ) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 32 ) قد ) * * * * أوزارهم على ظهورهم ) الأوزار : الأثقال ، واحدها : وزر ، ومنه الوزر ، وهو الحبل في قوله - تعالى - : ( ^ كلا لا وزر ) أي : لا حبل ولا ملاذ ، وحملهم الأوزار بيانه في الخبر ، وهو ما روى عن النبي أنه قال : ' يحشر الناس يوم القيامة ، فمن كان منهم برا تلقاه صورة حسنة طيبة الريح ، فتقول : أما تعرفني ؟ أنا عملك الصالح ، فاركبني فقد طال ما ركبتك ، ومن كان فاجرا تلقاه صورة قبيحة منتنة الريح ، فتقول : أما تعرفني ؟ أنا عملك الخبيث ، وقد طال ما ركبتني فأنا اليوم أركبك ' . فهذا معنى قوله : ( ! ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ) { < الأنعام : ( 32 ) وما الحياة الدنيا . . . . . > > وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) وصف كلا الدارين في هذه الآية . < < الأنعام : ( 33 ) قد نعلم إنه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) سبب هذا : ' أن رسول الله مر على أبي جهل ، فقال : يا محمد ، أنت صادق عندنا ، وإنما نكذب بما جئت به ' فهذا معنى الآية . وقيل : إنما نزل هذا تسلية للرسول ، يقول الله - تعالى - : لا تحزن ؛ فإنهم لا يكذبونك ، ويقرأ : ' فإنهم لا يكذبونك ' مخففا ، والفرق بين التكذيب والإكذاب : أن التكذيب : هو أن يقول له : كذبت ، والإكذاب : هو أن يجده كاذبا . < < الأنعام : ( 34 ) ولقد كذبت رسل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا ) فيه
____________________

( ^ نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 ) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ( 34 ) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله ) * * * * حذف ، وتقديره : ولقد كذبت رسل من قبلك وأوذيت ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا ( ^ حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) أي : لعلم الله وأحكامه ( ^ ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) أي : أخبار المرسلين . < < الأنعام : ( 35 ) وإن كان كبر . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ) النفق : السرب في الأرض ، ومنه : ' النافقاء ' وهو جحر اليربوع ؛ ومنه : النفاق ، لأن المنافق يدخل نفقين ( ^ أو سلما في السماء [ فتأتيهم بآية ] ) أي : درجا في السماء فتأتيهم بآية ، سبب هذا : أن الكفار كانوا يقترحون الآيات ؛ وود النبي أن ( يعطيهم ) الله ما اقترحوا من الآيات ( طمعا ) في أن يروا الآيات ؛ فيسلموا فنزل قوله : ( ^ فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) وتقديره : إن استطعت ذلك فافعل ، وفيه حذف .
( ^ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) أي : بأن يريهم آية ؛ يضطرون إلى الإيمان بها ، والصحيح : أن المراد به : ولو شاء الله لطبعهم وخلقهم على الإيمان ؛ فهذا أقرب إلى قول أهل السنة ؛ لأن إيمان الضرورة لا ينفع ، وإنما ينفع الإيمان بالغيب اختيارا ( ^ فلا تكونن من الجاهلين ) أي : بهذا الحرف ، وذلك قوله : ( ^ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) . < < الأنعام : ( 36 ) إنما يستجيب الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إنما يستجيب الذين يسمعون ) هاهنا الوقف ، ومعناه : إنما يستجيب الذين يسمعون سماع القبول ( ^ والموتى يبعثهم الله ) يعني : الكفار ( ^ ثم
____________________

( ^ لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ( 35 ) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ( 36 ) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 37 ) وما من دابة في الأرض ولا طائر * * * * إليه يرجعون ) . < < الأنعام : ( 37 ) وقالوا لولا نزل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ) يعني : أنه قادر على إنزال الآيات ، وقد أنزل كثيرا من الآيات والمعجزات ، ولكن لا ينزل الآيات على اقتراح الكفار ( ^ ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . < < الأنعام : ( 38 ) وما من دابة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) إنما قيد الطيران بالجناح تأكيدا ( ^ إلا أمم أمثالكم ) أي : أصناف أمثالكم ، وفي الخبر : ' لولا أن الكلاب أمة ؛ لأمرتكم بقتلها ؛ فاقتلوا منها كل أسود بهيم ، فإنه شيطان ' ، ومعنى الآية : أنها أمثالكم في الخلق ، والموت ، والبعث ، يعني : يخلقها كما يخلقكم ، ويميتها كما يميتكم ويبعثها كما يبعثكم ، وقيل : معنى قوله : ( ^ أمم أمثالكم ) يعني : في العلم بالضار والنافع ، والتوقي عن الهلاك ، ومعرفة العدو .
( ^ ما فرطنا في الكتاب من شيء ) فإن قال قائل : نرى كثيرا من الأحكام ليست في الكتاب ، فما معنى قوله : ( ^ ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ؟ قيل : ما من شيء إلا وأصله في الكتاب ، وقيل : ما قاله الرسول ، فإنما قاله من الكتاب ؛ لأنه قد قال في خبر معروف : ' أوتيت القرآن ومثله ' وقد قال الله - تعالى - ( ^ وما ينطق عن
____________________

( ^ يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ( 38 ) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( 39 ) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله ) * * * * لهوى إن هو إلا وحي يوحى ) فكل ما ثبت بالسنة ؛ فكأنه ثابت في الكتاب ، وقيل : [ معناه ] : ما فرطنا في الكتاب من شيء تقع الحاجة إليه .
( ^ ثم إلى ربهم يحشرون ) ولا شك في حشر البهائم والحيوانات يوم القيامة ، حتى روى : أن الله - تعالى - يحشرها ويقتص للجماء من القرناء ، وروى أبو ذر : ' أن النبي رأى شاتين تنتطحان ؛ فقال : يا أبا ذر ، أتدري فيما نتطحان ؟ فقلت : لا . فقال لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما وأمثال هذا كثير ' ، وسبيل الناس أن يؤمنوا به ، ويكلوا علمه إلى الله - تعالى - فإنه شيء لا تهتدي إليه العقول ، وعلى هذه الآية حكاية : حكي أن بهلول المجنون رأى أبا يوسف القاضي في الطريق ؛ فسأله وقال : إن الله - تعالى - يقول : ( ^ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ثم يقول : ( ^ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) فما نذير الكلاب ؟ فتحير أبو يوسف عن الجواب ، فأخذ بهلول حجرا من الأرض ، وقال : هذا نذير الكلاب . < < الأنعام : ( 39 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ) أي : صم عن سماع الحق ، وبكم عن قول الحق ( ^ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) . < < الأنعام : ( 40 ) قل أرأيتكم إن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله ) قيل : عذاب الله : هو
____________________

( ^ تدعون إن كنتم صادقين ( 40 ) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ( 41 ) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( 42 ) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم ) * * * * الموت ( ^ أو أتتكم الساعة ) يعني : القيامة ( ^ أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ) هذا استفهام بمعنى التقرير ، يعني : لا تدعون إلا الله ، وأراد به في أحوال الضرورات ؛ فإن الكفار في حال الضرورات يدعون الله - تعالى - كما قال : ( ^ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) . < < الأنعام : ( 41 ) بل إياه تدعون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ بل إياه تدعون ) هذا تقرير لما استفهم منه في الآية الأولى ، يعني : بل تدعون الله ، ولا تدعون غيره ( ^ فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) قيد إجابة الدعوة بالمشيئة ها هنا ، وأطلقها في قوله : ( ^ ادعوني أستجب لكم ) .
قال أهل العلم : وذلك مقيد بالمشيئة أيضا ، بدليل هذه الآية .
( ^ وتنسون ما تشركون ) وذلك أنهم لما تركوا الأصنام في حال الضرورات إلى دعاء الله ؛ فكأنهم نسوا ما يشركون ، وفي الآية مجاز ، وتقدير قوله : ( ^ فيكشف ما تدعون إليه ) أي : فيكشف ضر ما تدعون إليه . < < الأنعام : ( 42 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . . > >
وقوله - تعالى - : ( ^ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء ) البأساء : الجوع ، والفقر ، والضراء : المرض ، والبلوى في النفس والمال .
( ^ لعلهم يتضرعون ) التضرع : السؤال بالتذلل ، وحكى أبو عبيد عن الفراء : فلان يتضرع ، ويتصدى [ أي ] أنه سأل متذللا وبتضرع . < < الأنعام : ( 43 ) فلولا إذ جاءهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) أي : فهلا تضرعوا ( ! ( إذ جاءهم بأسنا ) ! ولكن قست قلوبهم ) قال الزجاج معناه : بلغت قلوبهم في
____________________

( ^ الشيطان ما كانوا يعملون ( 43 ) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( 44 ) فقطع دابر القوم الذين ) * * * * القساوة أنا أرسلنا إليهم الرسل ، وأريناهم الآيات ، وأخذناهم بالبأساء والضراء ، فلم يتضرعوا ، ولم يعودوا عما كانوا عليه ( ^ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) يعني : حتى مضوا على عملهم وكفرهم . < < الأنعام : ( 44 ) فلما نسوا ما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) هذا فتح استدراج ومكر ، وفي الآثار : ' من فتح عليه باب نعمة ، فلم ير أنه مكر به فلا رأي له ، ومن أصابته شدة فلم ير أنه نظر له ، فلا رأي له ' يعني : في الدين .
( ^ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ) هذا فرح بطر ، وهو منهي عنه ، وذلك مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا حتى قال له قومه : ' لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ' .
( ^ أخذناهم بغتة ) أي : فجأة ( ^ فإذا هم مبلسون ) قال ابن عباس : آيسون من حمل خير ، وقال أبو عبيدة : المبلس : النادم الحزين ، وقال الفراء : هو الساكت المنقطع عن الحجة ، وأنشدوا :
( يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ** قال نعم أعرفه وأبلسا )
وقال آخر :
( ملك إذا طاف الغفاة ببابه ** غبطوا وأنجي منهم المتبلس ) < < الأنعام : ( 45 ) فقطع دابر القوم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) الدابر : الأصل ها هنا ؛ فيكون الدابر بمعنى : الآخر ؛ ومنه قوله : ' من أشراط الساعة كذا وكذا ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ' ، أي : آخرا ( ^ والحمد لله رب العالمين ) حمد الله نفسه على إهلاكهم واستئصالهم ، وفيه تعليمنا الحمد لله على هلاك الكفار . < < الأنعام : ( 46 ) قل أرأيتم إن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم
____________________

( ^ ظلموا والحمد لله رب العالمين ( 45 ) قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ( 46 ) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ( 47 ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا ) * * * * من إله غير الله يأتيكم به ) ذكر أشياء ، ثم قال : ( ^ يأتيكم به ) فاختلفوا ؛ فقال ( بعضهم ) معناه : يأتيكم بما ( أخذ . و ) قال آخرون : قوله : ( ^ يأتيكم به ) يرجع إلى السمع خاصة ، واندرج فيه الأبصار والقلوب . ومن هذا ذهب بعض العلماء إلى أن السمع أفضل من سائر الحواس ؛ حيث خصه بالكناية ، وقالوا : هو مثل قوله - تعالى - : ( ^ والله ورسوله أحق أن يرضوه ) و ' الهاء ' راجعة إلى الله - تعالى - واندرج فيه الرسول ( ^ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ) أي : يعرضون . < < الأنعام : ( 47 ) قل أرأيتكم إن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله ) حكى الفراء عن العرب أنهم يقولون : أرأيتك بمعنى أخبرني ، [ وأرأيتكما ] بمعنى أخبراني ، وأرأيتكم يعني : أخبروني وأرأيتك بمعنى : للمرأة بمعنى : أخبريني ، هكذا ( ^ بغتة أو جهرة ) معناه : ليلا أو نهارا وقيل : معناه : فجأة أو عيانا ( ^ هل يهلك إلا القوم الظالمون ) . < < الأنعام : ( 48 ) وما نرسل المرسلين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ) وقد بينا هذا ( ^ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) يعني : يوم القيامة . < < الأنعام : ( 49 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > >
( ^ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب ) أي : يصيبهم عذاب النار ( ^ بما كانوا يفسقون ) . < < الأنعام : ( 50 ) قل لا أقول . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) أنزل هذا حين اقترحوا الآيات ، وكانوا يقولون : لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء ، وسائر ما
____________________

( ^ هم يحزنون ( 48 ) والذين كذبوا بآياتنا مسهم العذاب بما كانوا يفسقون ( 49 ) قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ( 50 ) وأنذر به الذين يخافون ) * * * * اقترحوا من الآيات ؛ فنزل قوله : ( ^ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) فأعطيكم ما تريدون ( ولا أعلم الغيب ) . والغيب . كل ما غاب عنك ويكون ماضيا ، ويكون في المستقبل ، والماضي منه يجوز أن يعلمه الإنسان بخبر مخبر ونحوه . فأما المستقبل فلا يعلمه إلا الله ، ورسول ارتضاه ، كما قال في سورة الجن ، وقوله : ( ^ ولا أعلم الغيب ) فيه إضمار ، أي : ولا أعلم الغيب إلا ما أعلمنيه الله ( ^ ولا أقول لكم إني ملك ) إنما أمره بذلك ؛ لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ، وقيل : لأن الملك يشاهد ما لا يشاهد الآدمي ، واستدل بهذا من فضل الملائكة على الآدميين ، وليس فيه مستدل ، ومعناه : ما بينا .
( ^ إن اتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير ) قال قتادة : الكافر والمؤمن ، وقال مجاهد : الضال والمهتدي ، وقيل : الجاهل والعالم ( ^ أفلا تتفكرون ) . < < الأنعام : ( 51 ) وأنذر به الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وانذر به ) أي : خوف به ( ^ الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) قيل : هم المسلمون ، وقيل : كل من يؤمن بالبعث من المسلمين وأهل الكتاب .
( ^ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) فإن قيل : أليس يشفع الأنبياء والأولياء يوم القيامة ، فما معنى قوله : ( ^ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) ؟ قلنا : معناه : لا شفاعة إلا بإذنه ، وهم إنما يشفعون [ بإذنه ، أو هذا رد لما زعموا أن الملائكة والأصنام يشفعون ] لنا . < < الأنعام : ( 52 ) ولا تطرد الذين . . . . . > >
قوله : ( ^ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) سبب نزول الآية : ' أن المشركين بمكة أتوا رسول الله ، وقالوا : إنك تجالس الفقراء ، وأرادوا به : بلالا ،
____________________

( ^ أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ( 51 ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما ) * * * * وصهيبا ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وخباب بن الأرت ، ومهجع ، ونحوهم من فقراء أهل الصفة ، وقالوا : لو طردتهم آمنا بك ؛ كأنهم استنكفوا الجلوس معهم فهم النبي بذلك طمعا في إيمانهم ؛ فنزلت الآية ' . قال سعد بن أبي وقاص : ' في نزلت الآية وابن مسعود . . . ' وعد جماعة ، وقال مجاهد : نزلت الآية في بلال وجماعة ، وفيه قول آخر : أن الآية نزلت بالمدينة ، وروى : ' أن الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري أتيا رسول الله ، كانا من أكابر الكفار ؛ فقالا : إنا نستنكف من الجلوس مع هؤلاء ، فلو اتخذت لنا مجلسنا منك ؛ آمنا بك ؛ فهم بذلك ، طمعا في إيمانهم ؛ فنزلت الآية ' فعلى هذا تكون الآية من الآيات المبينة التي نزلت بالمدينة .
قوله : ( ^ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ) اختلفوا في هذه الدعوة ، قال ابن عباس : معناه : يصلون الصلوات الخمس ، وقال إبراهيم النخعي : هو ذك الله ، وقال الضحاك : كل الطاعات .
____________________

( ^ من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( 52 ) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( 53 ) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل ) * * * *
وقوله : ( ^ يريدون وجهه ) قال ابن عباس : أي : يريدون إياه بالطاعة ، ويريدون خالص وجهه ، والوجه صفة لله - تعالى - بلا كيف ؛ وجه لا كالوجوه .
( ^ فتطردهم فتكون من الظالمين ) يعني : إن طردتهم ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، وتقديره : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فتكون من الظالمين ، ( ثم قال ) : ( ^ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ) < < الأنعام : ( 53 ) وكذلك فتنا بعضهم . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك فتنا بعضهم بعض ) هو فتنة الأغنياء بالفقراء ، [ والله - تعالى - يفتن الأغنياء بالفقراء ] ، ويفتن الفقراء بالأغنياء ، والمراد هاهنا : فتنة أكابرهم بفقرائهم ؛ حيث امتنعوا عن الإيمان بسببهم ؛ وذلك كان فتنة لهم .
( ^ وليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) يقول الأغنياء : أهؤلاء الفقراء سبقونا بالإيمان ، ثم يقول الله - تعالى - : ( ^ أليس الله بأعلم بالشاكرين ) يعني : أليس الله بأعلم من هو أهل للإسلام ؛ فيدخل في الإسلام ؟ ! . < < الأنعام : ( 54 ) وإذا جاءك الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ) هم الفقراء الذين ذكرنا ( ^ فقل سلام عليكم ) أمر رسوله ببدائتهم بالسلام ، وقد ذكرنا معنى السلام فيما سبق ، وقيل : معناه : [ سلمكم ] الله في دينكم ، وقيل : معناه السلامة لكم .
( ^ كتب ربكم على نفسه الرحمة ) أي قضى بالرحمة لكم ( ^ أنه من عمل منكم سواء بجهالة ) أي خطيئه ، وقد بينا أن كل عاص جاهل ( ^ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) يقرأ : أنه ، وفأنه ، كلاهما بنصب الألف ؛ فيكون بدلا عن قوله :
____________________

( ^ منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( 54 ) وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ( 55 ) قل إني نهيت أن اعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ( 56 ) قل إني على بينة من ) * * * * ( ^ كتب ربكم على نفسه الرحمة ) ويقرأ : كلاهما بكسر الألف على الابتداء ، ويقرأ : الأول بالفتح والثاني بالكسر . < < الأنعام : ( 55 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) يقرأ بثلاثة أوجه ولتستبين - بالتاء ، سبيل : بنصب اللام . ومعناه : ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين ؛ فإن قيل : ألم يكن مستبينا له ؟ قيل : معناه : لتزداد بيانا ، وقال الزجاج : الخطاب مع الرسول ، والمراد بالآية : الأمة .
ويقرأ وليستبين : بالياء والتاء سبيل : برفع اللام ، وقالوا : لأن السبيل يذكر ويؤنث ؛ قال الله - تعالى - : ( ^ قل هذه سبيلي ) ومعناه : وليظهر سبيل المجرمين ؛ ( فإن قيل : لم خص سبيل المجرمين ؟ ) قيل : تقديره : ولتستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين ؛ فحذف أحدهما اختصارا ، والأصح أن تقديره : ولتستبين سبيل المجرمين عن سبيل المؤمنين . < < الأنعام : ( 56 ) قل إني نهيت . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) هو النهي عن الشرك ( ^ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ) يعني : إن اتبعت أهواءكم ، < < الأنعام : ( 57 ) قل إني على . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ قل إني على بينة من ربي ) على بيان من ربي ( ^ وكذبتم به ) أي : بما [ جئت ] به ( ^ ما عندي ما تستعجلون به ) قيل : أراد به استعجالهم الآيات والمعجزات ، وقيل : أراد به استعجالهم القيامة ، قال الله - تعالى - ( ^ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) وقيل : أراد به استعجال العذاب ، قال الله -
____________________

( ^ ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ( 57 ) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين ( 58 ) وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما ) * * * * تعالى - : ' ويستعجلونك بالعذاب ' وكانوا يقولون : ( ^ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) .
( ^ إن الحكم إلا لله يقضي الحق وهو خير الفاصلين ) ويقرأ : يقص بالصاد ، واستدل بالكتابة في المصاحف ؛ فإن هذه الكلمة تكتب بغير الياء . < < الأنعام : ( 58 ) قل لو أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ) معناه : لقامت القيامة ، وقيل : هو في العذاب ، ومعناه : لو كان العذاب بيدي لعجلته ؛ حتى أتخلص منكم ( ^ والله أعلم بالظالمين ) . < < الأنعام : ( 59 ) وعنده مفاتح الغيب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ) روى ابن عمر عن النبي أنه قال : ' مفاتح الغيب خمسة ' وذكر ( الخمس ) المذكورة في قوله - تعالى - : ( ^ إن الله عنده علم الساعة ) ثم قرأ الآية . ( ^ ويعلم ما في البر والبحر ) قال مجاهد : البحر : القرى والأمصار هاهنا ، ( والبر : المفاوز ) ، يقال : هذا المصر بحر ، وهذه القرية بحر ؛ لاجتماعها وكثرة أهلها ، وقيل : هو البر والبحر المعروف .
( ^ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) فإن قال قائل : لم خص [ الورق ] الساقط
____________________

( ^ تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( 59 ) وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم عليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ( 60 ) وهو القاهر فوق عباده ) * * * * وهو يعلم الساقط والثابت ؟ قيل : هذا معناه : أي : وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ساقطة وثابتة ، قال جعفر بن محمد الصادق : أراد بالورقة الساقطة : السقط .
( ^ ولا حبة في ظلمات الأرض ) هو الحب المعروف ، وقال جعفر الصادق : هو الولد ( ^ ولا رطب ولا يابس ) قيل : معناه : ولا حي ولا موات ، وقيل : هو عبارة عن كل شيء ( ^ إلا في كتاب مبين ) يعني : أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ ، وهو مثل قوله - تعالى - : ( ^ وكل صغير وكبير مستطر ) . < < الأنعام : ( 60 ) وهو الذي يتوفاكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي : يقبض أرواحكم بالليل إذا نمتم ، وهذا نظير قوله : ( ^ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) . فإن قال قائل : أليس من نام فروحه معه ؛ فما معنى هذا القبض ؟ قيل : هو قبض النفس المميزة المتصرفة ( ^ ويعلم ما جرحتم بالنهار ) أي : كسبتم بالنهار ( ^ ثم يبعثكم فيه ) قال قتادة : البعث اليقظة هاهنا ، أي : ثم يوقظكم في النهار ( ^ ليقضي أجل مسمى ) القضاء : هو فصل الحكم على التمام ، ومعناه هاهنا : استيفاء أجل العمر على التمام .
( ثم إليه مرجعكم ثم ينئكم بما كنتم تعملون ) . < < الأنعام : ( 61 ) وهو القاهر فوق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) أما معنى القاهر ، وصفة الفوق ، فقد ذكرنا ؛ وأما إرسال الحفظة : هو إرسال الملائكة الحفاظ ، وهو ما قال في آية أخرى ( ^ وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) وقال : ( ^ له معقبات
____________________

( ^ ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ( 61 ) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ( 62 ) قل من ينجيكم ) * * * * من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) وحفظهم : أن [ يحفظوا ] على العباد العمل والأجل والرزق ( ^ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ) ويقرأ : ' توفيه ' بالياء ( ^ وهم لا يفرطون ) أي : لا يؤخرون .
فإن قيل : قد قال في آية أخرى : ( ^ قل يتوفاكم ملك الموت ) وقال هاهنا : ( ^ توفته رسلنا ) فكيف وجه الجمع ؟ قيل : قال إبراهيم النخعي : لملك الموت أعوان من الملائكة ، يتوفون عن أمره ؛ فهو معنى قوله : ( ^ توفته رسلنا ) ويكون ملك الموت هو المتوفى في الحقيقة ؛ لأنهم يصدرون عن أمره ، ولذلك نسب الفعل إليه في تلك الآية ، وقيل : معناه : ذكر الواحد بلفظ الجمع ، والمراد به : ملك الموت ، وفي القصص أن الله - تعالى - جعل الدنيا بين يديه كالمائدة الصغيرة ؛ فيقبض من هاهنا ومن هاهنا ؛ فإذا كثرت الأرواح يدعو الأرواح فتجيب له . < < الأنعام : ( 62 ) ثم ردوا إلى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) فإن قال قائل : الآية في المؤمنين والكفار ، فكيف قال : ( ^ مولاهم الحق ) وقد قال في آية أخرى : ( ^ وأن الكافرين لا مولى لهم ) ؟ قيل : المولى في تلك الآية بمعنى : الناصر ، ولا ناصر للكفار ، والمولى هاهنا بمعنى : المالك ، والله مالك الكل ، وقيل : أراد به رد المؤمنين إليه ، ويدخل الكفار فيه تبعا .
( ^ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) أي : يحاسب الكل في لحظة . < < الأنعام : ( 63 ) قل من ينجيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ) يعني : من شدائد البحر والبر ، تقول العرب : يوم مظلم . إذا كان يوم شدة ، ويسمونه أيضا : يوما ذا كوكب . كأنهم جعلوه كالليل لشدته ، قال الشاعر :
____________________

( ^ من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ( 63 ) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ( 64 ) قل هو القادر على ) * * * *
( بني أسد هل تعلمون ( بلاءنا ) إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا )
وقال آخر :
( فدا لبني ذهل بن شيبان ناقتي ** إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا )
( ^ تدعونه تضرعا وخفية ) أي : علانية وسرا ، وقيل : معناه : أن يكون السر مع الجهر في الدعاء بحيث يدعو باللسان وسره معه ، ويقرأ ' وخفية ' بكسر الخاء ومعناهما واحد ( ^ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) والشكر : [ هو ] معرفة النعمة مع القيام [ بحقها ] ، ولا بد من هذين حتى يتحقق الشكر . < < الأنعام : ( 64 ) قل الله ينجيكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) الكرب : غاية الهم . < < الأنعام : ( 65 ) قل هو القادر . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم ) قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وجماعة : نزلت الآية في أهل الإيمان وأهل الصلاة . وقال غيرهم : نزلت في المشركين ، وقوله : ( ^ عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم ) قال مجاهد ، وسعيد بن جبير : عذابا من فوقكم : هو الرمي بالحجارة ، كما كان في قوم لوط . أو من تحت أرجلكم هو الخسف والرجفة .
وحكي عن ابن عباس أنه قال : عذابا من فوقكم : تسليط أئمة السوء ، ومن تحت أرجلكم : تسليط الخدم السوء ، وقيل : عذابا من فوقكم : الطوفان والغرق ، ومن تحت
____________________

( ^ أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( 65 ) وكذب به قومك وهو ) * * * * أرجلكم : الريح ، كما كان في قوم عاد ( ^ أو يلبسكم شيعا ) قال الزجاج : معناه : يخلطكم خلط اضطراب لا خلط اتفاق ، وحقيقة المعنى : أن يبث فيكم الأهواء المتفرقة ؛ فتصيرون فرقا وأحزابا .
( ويذيق بعضكم بأس بعض ) هو وقوع القتل بينهم ؛ وقد صح عن النبي أنه لما نزلت هذه الآية ، وسمع الأولين ؛ قال : ' أعوذ بوجهك ؛ فلما سمع الآخرين ؛ قال : هاتان أيسر ' وفي الخبر المعروف : ' أنه لما نزلت هذه الآية ؛ دعا لأمته وناجى طويلا ؛ حتى نزل جبريل أن الله رفع الأولين ، وأجاب دعوتك فيهما ، ولم يجب في الآخرين ' . فبثت الأهواء والقتال في هذه الأمة ، وقد سل السيف من زمان عثمان ، فلا يغمد إلى قيام الساعة ، وقد روى أن الدعاء المعروف الذي كان يدعو به رسول الله ، دعا به حيث نزلت هذه الآية ، وقال : ' اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك ' أي : بقضاءك من قضاءك ( ^ انظر كيف نصرف الآيات ) يعني : مرة هكذا ، ومرة هكذا ( ^ لعلهم يفقهون ) .
____________________

( ^ الحق قل لست عليكم بوكيل ( 66 ) لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ( 67 ) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ( 68 ) وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ( 69 ) وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ) * * * * < < الأنعام : ( 66 ) وكذب به قومك . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذب به قومك وهو الحق ) يعني : القرآن ( ^ قل لست عليكم بوكيل ) أي : بمسلط ؛ فألزمكم الإسلام شئتم أو أبيتم ، قال ابن جريج : كان هذا في الابتداء ثم نسخ بقوله : ( ^ فاقتلوا المشركين ) . < < الأنعام : ( 67 ) لكل نبإ مستقر . . . . . > >
( ^ لكل نبأ مستقر ) قال مجاهد : معناه : لكل خبر من أخبار القرآن حقيقة إما في الدنيا ، وإما في الآخرة ( ^ وسوف تعلمون ) . < < الأنعام : ( 68 ) وإذا رأيت الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ) أراد به : يخوضون فيها بالرد والاستهزاء ، قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : ويدخل في هذا : الخوض في كل الآيات لا على وفق الكتاب والسنة .
( ^ فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) يعني : قوله : ( ^ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ) قالت الصحابة : إذا كيف تقعد في المسجد الحرام وكيف نطوف بالبيت ، وهم يخوضون أبدا ؟ فنزلت هذه الآية : < < الأنعام : ( 69 ) وما على الذين . . . . . > > ( ^ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ) يعني : إذا لقوهم ، ولم يخوضوا فيما يخوضون ( ^ ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) أمر [ بتذكيرهم ] ومنعهم عن ذلك ، وقيل : معناه : في حال الذكر ، وليس عليهم شيء في حال ما يذكرونهم إذا لم يرضوا بما خاضوا فيه . < < الأنعام : ( 70 ) وذر الذين اتخذوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ) .
قال الفراء في كتابه : عيد [ أهل كل ملة ] يوم لهو ولعب إلا عيد المسلمين ؛
____________________

( ^ ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( 70 ) قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في ) * * * * فإنه ( يوم ) الصلاة وفعل الخير والتكبير .
( ^ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ) قال مجاهد : أن تسلم للهلاك ، وقال قتادة : أن تحبس ، وقال الفراء : أن ترتهن ، وقال الكسائي ، والأخفش : أن تجزي . والصحيح هو الأول ، يقال : فلان مستبسل إذا استسلم للهلاك ، قال الشاعر :
( وإبسالي بني بغير جرم ** [ بعوه ولا بغير دم مراق ] )
وحقيقة المعنى : وذكر به ، لأن لا تسلم نفس للهلاك بعملها ( ^ ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ) وقد ذكرنا ( ^ وإن تعدل كل عدل ) هو الفدية ( ^ لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ) هو ما ذكرنا ( ^ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) . < < الأنعام : ( 71 ) قل أندعو من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ) فإن قيل : كيف لا يضرهم وفي الأصنام ضرهم ؟ قيل : معناه : لا يجلب نفعا ، ولا يدفع ضرا ، قيل : معناه : ليس بيدهم شيء .
( ^ ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ) أي : مرتدين على أعقابنا بعد الهداية به والإسلام ( ^ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ) أضلته الشياطين وغلبته حتى هوى ، والحيران : المتردد بين شيئين لا يدري كيف يفعل .
____________________

( ^ الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ( 71 ) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ( 72 ) وهو الذي حلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ( 73 ) وإذ قال إبراهيم ) * * * *
( ^ له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) ضرب مثلا للذي يرتد عن الإسلام برجل يكون في الطريق مع رفقة ؛ فيضل به الغول ، ويدعوه أصحابه من أهل الرفقة إلى الطريق ، فيبقى حيران ، لا يدري أين يذهب . ( ! ( قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) { < الأنعام : ( 72 ) وأن أقيموا الصلاة . . . . . > > وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) أي : وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى ( ! ( وهو الذي إليه تحشرون ) { < الأنعام : ( 73 ) وهو الذي خلق . . . . . > > وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ) أي : لإظهار الحق ؛ لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته ( ^ ويوم يقول كن فيكون ) قيل : هو راجع إلى قوله : ( ^ خلق السموات ) يعني : وخلق يوم يقول ، فإن قيل : كيف يصح هذا التقدير ، والقيامة غير مخلوقة بعد ؟ قيل : هي كائنة في علم الله - تعالى - [ فتكون ] كالمخلوقة ؛ إذ الحلق بمعنى : القضاء والتقدير ، وهي مقضية مقدرة ، وقيل : تقديره : واذكر يوم يقول : كن فيكون ( ! ( قوله الحق ) ! وله الملك يوم ينفخ في الصور ) قرئ في الشواذ : ' يوم ينفخ في الصور ' وهي جمع الصورة ، قال أبو عبيدة : الصور : هو الصور في كل موضع ، وقال ابن مسعود في تفسير الآية : الصور : قرن ينفخ فيه ، وهو معروف في الأخبار . ( ^ عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ) . < < الأنعام : ( 74 ) وإذ قال إبراهيم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) يقرأ ' آزر ' برفع الراء ، وهو في الشواذ ، ومعناه : يا آزر ، وكذلك في حرف أبي بن كعب : يا آزر ، والمعروف ' آزر ' بنصب
____________________

( ^ لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( 74 ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ( 75 ) فلما جن عليه الليل ) * * * * الراء ، وهو اسم أعجمي غير منصرف ؛ فينصب في موضع الخفض .
قال الفراء ، والزجاج : اسم أبيه : تارخ ، أجمع عليه النسابون ، وآزر لقب له ، قال الفراء : واللقب قد غلب على الاسم ، وقيل : كان له اسمان : آزر ، وتارخ ، قال الحسن : اسمه : آزر لا غير ، كما نص عليه في الكتاب ، وقال مجاهد : آزر : اسم صنم ، وتقدير الآية : وإذ قال إبراهيم لأبيه : ( ^ أتتخذ ) آزر إلها ( ^ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . < < الأنعام : ( 75 ) وكذلك نري إبراهيم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ) الملكوت والملك واحد ، وإنما أدخل التاء فيه للمبالغة ، مثل : رهبوت ورحموت ، واختلفوا في معناه ، منهم من قال : أراه أبواب السموات والأرض ، ومنهم من قال : فرج له السموات حتى رآها كلها وما فيها ، وخرق له الأرضين حتى رآها كلها ، وقيل : رفعه إلى السماء حتى رأى السموات والأرض .
وفي الخبر : ' أنه لما رفعه إلى السماء رأى في الأرض رجلا على المعصية ، فدعا الله حتى أهلكه ، ثم رأى آخر ، فدعا الله حتى أهلكه ، ثم رأى ثالثا كذلك ؛ فدعا الله حتى أهلكه فقال الله - تعالى - : أهبطوه ، ثم أوحى الله - تعالى - : إليه : مهلا يا إبراهيم ؛ فإن عبادي مني على ثلاث خصال : إما أن يتوبوا فأغفر لهم ، وإما أن يتركوا ولدا يدعو لهم فأغفر لهم ، وإن لم يكن [ لهم ] فجهنم من ورائهم ' ( ^ وليكون من الموقنين ) . < < الأنعام : ( 76 ) فلما جن عليه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ) .
____________________

( ^ رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 ) فلما رأى القمر بازغا قال ) * * * *
وفي القصة : أن واحدا من الكهنة ، قال لنمروذ : إن ملكك يهلك على ( يدي ) ولد في زمانك ، فكان يقتل البنين ممن يولد في زمانه ؛ فلما أتت أم إبراهيم بإبراهيم ، جاء به أبوه إلى سرب الأرض شبه مغار ، ووضعه في موضع يقال له : كوثاء ؛ فقيل : إنه كان فيه سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وقيل سبع عشرة سنة ، ثم إنه لما شب ، قال لأمه : من ربي ؟ فقالت له : اسكت ، ثم جاءت وأخبرت أباه ما قال ؛ فجاء أبوه ؛ فقال له إبراهيم : من ربي ؟ فقال : أمك ، قال : ومن رب أمي ، ؟ قال : أنا ، قال : ومن ربك ؟ قال : اسكت ، وتركوه ، ثم لما جن عليه الليل خرج من السرب ، ولم يكن رأى شيئا قط ، فرأى كوكبا ، قيل : هو المشتري .
قال السدي : كان الكوكب : زهرة ، وهي أضوأ كوكب في السماء . ( ^ قال هذا ربي ) قيل : إنه قال ذلك في صغره حين لا يعبأ بقوله ، وقيل : إنما كان مستدلا به ؛ فقال ذلك في حال الاستدلال ؛ فلم يضره هذا القول ، وهذان القولان ضعيفان ، وفيه ثلاثة أقوال معروفة : أحدها : قال قطرب : قوله : هذا ربي . على وجه الاستفهام ، وتقديره أهذا ربي ؟ ومثله قول الشاعر :
( رفوني وقالوا يا خويلد ( لم ترع ) فقلت وأنكرت الوجوه هم هم )
وإنما قال : هم على طريق الاستفهام ، وتقديره : أهم هم ؟ وأما الزجاج وغيره لم يرضوا منه هذا ، وقالوا : ليس في كلام العرب ' هذا ' بمعنى الاستفهام .
وذكر الزجاج قولين آخرين فيه : أحدهما : قال : ' هذا ربي ' على زعم قومه ، فإن قيل : هم كانوا يعبدون الكواكب ، فكيف قاله على زعمهم ؟ قيل : كان منهم أهل نجوم ، وكانوا يرون أنه إلى الكواكب الأمور ؛ وكأنهم يعبدون الكواكب .
والقول الثاني : أن القول مضمر فيه ، وتقديره : يقولون : هذا ربي .
____________________

( ^ هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( 78 ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 ) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن ) * * * * < < الأنعام : ( 77 ) فلما رأى القمر . . . . . > >
( ^ فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) .
قوله - تعالى - : ( ^ فلما رأى القمر بازغا ) أي : طالعا : ( ^ قال هذا ربي ) وكان ذلك في ليلة قد تأخر طلوع القمر فيها قليلا ( ^ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) والأفول : الغروب . < < الأنعام : ( 78 ) فلما رأى الشمس . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ) أي : أضوأ وأنور فإن قال قائل : لم قال : هذا ربي ، والشمس مؤنثة ، ولم يقل هذه ؟ قيل : لأن ما ليس عليه علامة التأنيث يجوز أن يذكر ، كما قال الشاعر :
( فلا مزنة وقد دقت ** ودقها ولا أرض ذا بقل أبقالها )
ولم يقل [ أبقلت ] ، وإن كانت الأرض مؤنثة ؛ إذ لم يكن عليها علامة التأنيث ، وقيل : إن قوله : هذا ربي ، يرجع إلى المعنى ، وهو الضياء والنور ( ^ فلما أفلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون ) . < < الأنعام : ( 79 ) إني وجهت وجهي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) الحنيف : الثابت على الدين ، المائل إليه بالكلية . < < الأنعام : ( 80 ) وحاجه قومه قال . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وحاجه قومه قال أتحاجوني ) ( أي ) : جادله قومه ؛ قال : أتجادلوني ( ^ في الله وقد هدان ) .
____________________

( ^ يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تذكرون ( 80 ) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( 81 ) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم ) * * * *
( ^ ولا أخاف ما تشركون به ) لأنهم كانوا يخوفونه بالأصنام ، وكانوا يقولون : احذر الأصنام ؛ فإنا نخاف عليك الخبل والجنون ؛ فقال : ( ^ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ) قوله : إلا أن يشاء ربي شيئا . ليس باستثناء عن الأول ؛ إذ لا يجوز أن يشأ الله أن يصيبه شيء من الأصنام ، وما يشركون به ، وإنما هذا استثناء منقطع ، ومعناه : لكن إن شاء ربي أن يأخذني بشيء ، أو يعذبني بجرمي ؛ فله ذلك .
( ^ وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ) . < < الأنعام : ( 81 ) وكيف أخاف ما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) الإشراك : هو الجمع بين الشيئين في معنى ؛ فالإشراك بالله : هو أن يجمع مع الله غير الله فيما لا يجوز إلا لله ، ومعنى الآية : وكيف أخاف الأصنام وما أشركتم ، وأنتم أحق بالخوف مني حيث أشركتم بالله ، ولا تخافون الله بشرككم أو فعلكم الذي لم ينزل به الله حجة وسلطانا ؟ ( ^ فأي الفريقين أحق بالأمن ) يعني الموحد أو المشرك ( ^ إن كنتم تعلمون ) . < < الأنعام : ( 82 ) الذين آمنوا ولم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) اختلفوا فيه ، قال بعضهم : هذا من قول الله - تعالى - ، وقيل : هو من قول إبراهيم ، ومعناه : الذين آمنوا ، ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ، هذا هو قول أبي بكر ، وعلي ، وحذيفة ، وسلمان أن المراد بالظلم الشرك ، وقد صح برواية ابن مسعود : ' أنه لي نزلت هذه الآية ؛ شق ذلك على الصحابة ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ ! فقال : ليس الأمر كما تظنون ، إنما الظلم هاهنا بمعنى الشرك ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) ' . ومعنى الآية : الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به ( ^ أولئك لهم الأمن
____________________

( ^ مهتدون ( 82 ) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ( 83 ) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( 84 ) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( 85 ) وإسماعيل واليسع ) * * * * هم مهتدون ) . < < الأنعام : ( 83 ) وتلك حجتنا آتيناها . . . . . > >
قوله - تعالى : ( ^ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) اختلفوا فيه ، قال بعضهم : هي احتجاجه عليهم بقوله : ( ^ فأي الفريقين أحق بالأمن ) ، وحجته في ذلك أن الذي يعبد الله لا يشرك به شيئا أحق بالأمن من الذي يعبد الله ويشرك به . وقيل : أراد به الحجاج الذي حاج به نمروذ ، على ما سبق في سورة البقرة .
( ^ نرفع درجات من نشاء ) يعني : ( بالحجاج ) ، والاستدلال ، ويقرأ : ' نرفع درجات ' منونا ، وتقديره : نرفع من نشاء درجات ( ^ إن ربك حكيم عليم ) . < < الأنعام : ( 84 ) ووهبنا له إسحاق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته ) اختلفوا فيه ، قال بعضهم : أراد به : ذرية إبراهيم ، والصحيح أنه أراد به : ومن ذرية نوح ؛ لأنه عد في الجملة يونس ولوطا ، وهما من ذرية نوح لا من ذرية إبراهيم ( ^ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ) وليس هذا على ترتيب الأزمان ؛ إذ كان هؤلاء على أزمان مختلفة ، بعضهم سابق على البعض ، ( فالواو لا ) تقتضي الترتيب وإنما هي للجمع . < < الأنعام : ( 85 ) وزكريا ويحيى وعيسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وزكريا ويحيى وعيس ) هذا دليل على أن عيسى من ذرية آدم ، وإن كان انتماؤه إلى الأم ؛ لأنه عده من ذرية نوح ؛ فيكون آدم أباه من قبل الأم ( ^ وإلياس كل من الصالحين ) قال ابن مسعود : إلياس هو إدريس ، والصحيح أنه رجل آخر .
____________________

( ^ ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ( 86 ) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ( 87 ) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ( 88 ) أولئك الذين آتيناهم الكتاب ) * * * * < < الأنعام : ( 86 ) وإسماعيل واليسع ويونس . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإسماعيل واليسع ) ويقرأ : ' والليسع ' وهو اسم أعجمي مثل : زيد ، ويزيد ، ونحوه ، وإنما وصل فيه الألف واللام نادرا ، ومثله قول الشاعر :
( وجدنا ( الوليد بن اليزيد ) مباركا ** شديدا ( بأعباء ) الخلافة كاهله )
( ^ ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ) . < < الأنعام : ( 87 ) ومن آبائهم وذرياتهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن آبائهم ) ' من ' فيه للتبعيض ؛ لأن آباء بعضهم كانوا مسلمين ومهتدين ( ^ وذرياتهم ) أي : ومن ذرياتهم ، وأراد به : ذرية بعضهم أيضا ؛ لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ذرية ، وكان في ذرية بعضهم من كان كافرا ( ^ وإخوانهم واجتبيناهم ) أي : اصطفيناهم ( ^ وهديناهم ) أرشدناهم ( ^ إلى صراط مستقيم ) . < < الأنعام : ( 88 ) ذلك هدى الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) أي : يرشد به من يشاء من عباده ( ^ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) أي : لبطل عنهم ، والحبوط : البطول وهذا مثل قوله - تعالى - : ( ! ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) { < الأنعام : ( 89 ) أولئك الذين آتيناهم . . . . . > > أولئك الذين أتيناهم الكتاب ) الكتاب : اسم الجنس ، وأراد به : الكتب المنزلة عليهم ( ^ والحكم ) يعني : العلم والفقه ( ^ والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) يعني : أهل المدينة ، ومن كان بها من المهاجرين والأنصار ، وقال قتادة : فإن يكفر بها هؤلاء يعني : الكفار ، فقد وكلنا بها قوما [ يعني ]
____________________

( ^ والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ( 89 ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ( 90 ) وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من ) * * * * الأنبياء الذين سبق ذكرهم ، وقال أبو رجاء العطاردي : معناه : فإن يكفر بها أهل الأرض ، فقد وكلنا بها أهل السماء ، وهم الملائكة ( ^ ليسوا بها بكافرين ) . < < الأنعام : ( 90 ) أولئك الذين هدى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أولئك الذين هدى الله ) أي : هداهم الله ( ^ فبهداهم اقتده ) وهذه هاء الوقف ، كما في قوله : ( ^ ماليه ) و ( ^ سلطانيه ) ، ونحو ذلك ، ويقرأ : ' فبهديهم اقتده ' بكسر الهاء ، وتقديره : فبهديهم اقتد اقتداء ، هكذا قيل : إن المصدر مقدس فيه ( ^ قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكر للعالمين ) أي : تذكره . < < الأنعام : ( 91 ) وما قدروا الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما قدروا الله حق قدره ) قال ابن عباس : ما عظموا الله حق عظمته ، وقال أبو عبيدة : ما عرفوا الله حق معرفته ، وقال الخليل بن أحمد : ما وصفوا الله حق وصفته ، يقال : قدرت الشيء ، وقدرته ؛ إذا عرفت حقيقته .
( ^ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) قيل : هذا قول مالك بن الصيف ، كان حبر اليهود ، فحاج النبي ، فجرى على لسانه في المحاجة : ما أنزل الله على بشر من شيء ، وكان ذلك بمكة ؛ فنزلت الآية .
( ^ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ) أي : أجبه يا محمد ، وقل : من أنزل التوراة على موسى وأنتم تؤمنون به ؟ .
وفي القصة : أن اليهود سمعوا منه تلك المقالة ؛ فعتبوا عليه ، وقالوا : أليس أن الله قد أنزل التوراة على موسى ؟ فلم قلت ما أنزل الله على بشر من شيء ؟ ! فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد ؛ فقلت ما قلت ؛ فقالوا : وأنت إذا غضبت تقول على الله
____________________

( ^ أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( 91 ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين ) * * * * غير الحق ؛ فنزعوه عن الحبرية ، وأجلسوا مكانه كعب بن الأشرف .
( ^ تجعلونه قراطيس تبدونها ) أي : تكبون منها كتبا تبدونها ( ^ وتخفون كثيرا ) أي : تخفون ما فيه نعت محمد ، وتبدون منها ما ليس فيه نعت محمد ( ^ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ( آباؤكم ) ) قيل : هو راجع إلى اليهود ، وقيل : هو خطاب للصحابة .
قال الله - تعالى - : ( يعني : قل من أنزله ) وهو راجع إلى ما تقدم ( ^ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) وكل من خاض فيما لا ينفح به فهو لاعب . < < الأنعام : ( 92 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) يصف القرآن بالبركة : وأصل البركة الثبوت ، ومنه بروك البعير إذا ثبت واستقر ، ومنه قوله : ( ^ تبارك الذي بيده الملك ) أي : ثبت له ما يستحقه من التعظيم والجلال فيما لم يزل ولا يزال .
( ^ مصدق الذي بين يديه ) يعني : من الكتب المنزلة قبله ( ^ ولتنذر أم القرى ) يعني : أهل أم القرى ( ^ ومن حولها ) وأم القرى مكة : وسميت أم القرى ؛ لأن سائر القرى [ يقصدونها ويأتونها ] ، وقيل : لأن الأرض دحيت من تحتها ، ( وقيل : لأنها ) معظمة تقصد بالتعظيم ، ومنه سميت الأم أما ؛ لأنها تعظم ، وقد قال : ' إن المدينة قرية تأكل سائر القرى ' يعني : أن أهل المدينة يقتحمون سائر القرى
____________________

( ^ يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ( 92 ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) * * * * بالسيف .
( ^ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ) .
فإن قيل : اليهود والنصارى يؤمنون بالآخرة ، ولا يؤمنون به ، فما معنى قوله ' والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ' ؟ قيل : أراد به المؤمنين ؛ لأنهم الذين يؤمنون بالآخرة حقيقة ، فأما الذين يؤمنون بالآخرة ، ولا يصدقون محمدا ، وما جاء به ؛ فكأنهم لم يؤمنوا بالآخرة على الحقيقة . < < الأنعام : ( 93 ) ومن أظلم ممن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ) قال ابن عباس : ' [ نزل ] هذا في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان قد أسلم ؛ فجعله النبي كتابا للوحي ، وكان يملي عليه الوحي ؛ فيكتب ، فقيل : إنه كان يملي عليه : ' إن الله سميع عليم ' ، فيكتب : ' إن الله غفور رحيم ' ويملي عليه : إن الله غفور رحيم ' فيكتب : ' إن الله عليم حكيم ' هكذا كان يبدل ؛ فروى أنه لما نزل قوله - تعالى - : ( ^ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . . . ) الآية فأملى النبي ذلك ؛ فلما رأى تفضيل خلق الله تعجب ، وقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال له النبي : هكذا أنزل ( ^ فتبارك الله أحسن الخالقين ) فشك الرجل في الوحي ، وقال : أوحي إلي كما يوحى إليه ، وارتد عن الإسلام ' فقوله : ( ^ أو قال أوحي إلي ) هو هذا .
وقيل : نزلت الآية في مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، خرجا باليمن ، وادعيا
____________________

( ^ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ( 93 ) ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ) * * * * النبوة والوحي إليهما ، وقد روى عن النبي أنه قال : ' رأيت في المنام سوارين من ذهب في يدي ، فنفخت فيهما ، فطارا ، فأولتهما عل كذابين يخرجان بعدي ' مسيلمة الكذاب كان باليمامة ، والأسود العنسي كان بصنعاء اليمن .
( ^ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) هذا في النضر بن الحارث بن كلدة ، ادعى معارضة القرآن ، فروى أنه قال في معارضة القرآن : والطاحنات طحنا ، فالعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا فاللاقمات لقما .
( ^ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) يعني : في شدائد الموت ، قال الشاعر :
( الغمرات ثم تنجلينا ** ثمة تذهبن فلا تجينا )
( ^ والملائكة باسطوا أيديهم ) قيل : للعذاب ، وقيل : لقبض الأرواح ( ^ أخرجوا أنفسكم ) أي : أرواحكم ، فإن قال قائل : الروح إنما تخرج كرها ؛ فما معنى قوله : أخرجوا أنفسكم ؟ قيل : إنما قال ذلك تغليظا عليهم ، كمن يخرج من الدار كرها ، ويقال له : اخرج .
( ^ اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) الهون : من الهوان ، والهون : من اللين والرفق ، كما في قوله : ( ^ يمشون على الأرض هونا ) . < < الأنعام : ( 94 ) ولقد جئتمونا فرادى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد جئتمونا فرادى ) أي وحدانا فردا فردا ( ^ كما خلقناكم أول مرة ) بلا أهل ولا مال ( ^ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) أي : ملكناكم ، والخول : المماليك . ( ^ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء )
____________________

( ^ ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ( 94 ) إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ( 95 ) فالق الإصباح وجعل الليل ) * * * * أراد به : ما زعموا من أن الأصنام والملائكة شفعاؤنا عند الله ( ^ لقد تقطع بينكم ) أي : وصلكم ، وهو مثل قوله : ( ^ وتقطعت بهم الأسباب ) أي : الموصلات ، ويقرأ : ' لقد تقطع بينكم ' - بفتح النون - ومعناه : تقطع الأمر بينكم ( ^ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . < < الأنعام : ( 95 ) إن الله فالق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الله فالق الحب والنوى ) الفلق : الشق ، ومعناه : أنه يشق الحبة ؛ فيستخرج السنبلة من الحبة ، ويشق النواة ؛ فيستخرج النخلة من النواة ، [ ويدخل ] في قوله : ( ^ فالق الحب ) جميع البذور والحبوب ، ويدخل في قوله : ( ^ والنوى ) نواة جميع الأشجار ؛ مثل نواة المشمش ، ونواة الخوخ ، ونواة الغبيراء ، ونحو ذلك ، وقيل : فالق الحب والنوى بمعنى : خالق الحب والنوى .
( ^ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) وقد ذكرنا هذا واختلاف القراءة فيه ، والفرق بين الميت والميت ( ^ ذلكم الله فأنى تؤفكون ) أي تصرفون . < < الأنعام : ( 96 ) فالق الإصباح وجعل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فالق الإصباح ) معناه : أنه يستخرج الصبح من الليل ، والإصباح : مصدر ، وهو بمعنى : الصبح هاهنا ، أي : فالق الصبح ، وقرأ إبراهيم النخعي : ' فلق الإصباح ' وقرأ الحسن : ' فالق الإصباح ' - بنصب القاف - وهما في الشواذ .
( ^ وجعل الليل سكنا ) أي : يسكن فيه ، ويقرأ : ' وجعل الليل سكنا ' ، أي : جعل الله الليل سكنا ( ^ والشمس والقمر حسبانا ) أي : بحساب علوم ، والحسبان : هو الحساب هاهنا بمعنى أنهما يدوران بحساب معلوم مقدر . وحكى منصور بن
____________________

( ^ سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ( 96 ) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ( 97 ) وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ( 98 ) * * * * المعتمر - وهو الثقة من رواة النخعي - عن إبراهيم النخعي أنه قال : يجوز أن يتعلم الإنسان من النجوم بقدر ما يعرف منازل القمر ، وسير الكواكب لمعرف القبلة وأوقات الصلاة ( ^ ذلك تقدير العزيز العليم ) . < < الأنعام : ( 97 ) وهو الذي جعل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) هذه إحدى فوائد النجوم ، والله - تعالى - خلق النجوم لفوائد : منها تزيين السماء ، كما قال - عز وعلا - : ( ^ وزينا السماء دينا بمصابيح ) ومنها رمى الشياطين بها كما قال : ( ^ وجعلناهم رجوما للشياطين ) ومنها الاهتداء في ظلمات البر والبحر كما قال هاهنا .
وحكى أبو الحسين بن فارس عن بعض التابعين أنه أراد بالنجوم هاهنا : الصحابة ، يهتدي بهم في ظلمات الشرك ، وهذا مثل قوله : ' أصحابي [ كالنجوم ] بأيهم اقتديتم اهتديتم ' ، ( ^ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) . < < الأنعام : ( 98 ) وهو الذي أنشأكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ) يعني : آدم - صلوات الله عليه - ( ^ فمستقر ومستودع ) قال عطاء ، ومجاهد : أراد بالمستقر : أرحام الأمهات ، وبالمستودع : أصلاب الآباء ، وحكى ذلك عن ابن عباس أيضا ، ويروى عن ابن عباس أنه قال - على عكسه - : المستقر : أصلاب الآباء ، والمستودع : أرحام
____________________

( ^ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان ) * * * * الأمهات ، وعن ابن مسعود أنه قال : المستقر : أرحام الأمهات ، والمستودع : القبور ، وفيه قول ثالث : أن المراد بالمستقر الدنيا والمستودع : الآخرة ، ويقرأ : ' فمستقر ' بكسر القاف ، وتقديره : فمنكم مستقر ، ومنه مستودع ( ^ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . < < الأنعام : ( 99 ) وهو الذي أنزل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ، فأخرجنا منه خضرا ) هو الغصن الطري ( ^ نخرج منه حبا متراكبا ) أي : متراكما بعضه على بعض ( ^ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ) الطلع : ما يخرج من شجر النخل ، والقنوان : العذوق ، واحدها : قنو ، والعذق : أصل الشجرة ، والعذق : الكباسة ، والعذق والقنو واحد ، وقال الشاعر :
( أثيث كقنو النخلة المتعثكل ** )
وقال أيضا :
( فأثت أعاليه ( ودقت ) أصوله ( يميل به قنو ) من البسر أحمرا )
وأما ' الدانية ' قال البراء بن عازب : ( ^ قنوان دانية ) أي : قريبة المتناول ، وفيه حذف وتقديره : قنوان دانية وغير دانية أي : قريبة ، المتناول وبعيدة المتناول ، فحذف أحدهما اختصارا ؛ لسبقه إلى الأفهام ، ومثله قوله : ( ^ سرابيل تقيكم الحر ) وتقديره : تقيكم الحر والبرد ، قوله : ( ^ وجنات من أعناب ) يقرأ بكسر التاء ، ورفعها ( ^ والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ) أي : مشتبها يشبه بعضه بعضا في الورق ، وغير متشابه في الثمر والطعم ، وهكذا يكون الزيتون مع الرمان ، فإن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ، وقيل : تكون أوراقه إلى أصل الشجرة كأوراق الرمان ، ثم يخالف
____________________

( ^ مشتبها وغير تشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ( 99 ) وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ( 100 ) بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ( 101 ) ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق ) * * * * الرمان في الطعم ، فهذا معنى قوله : ( ^ مشتبها وغير متشابه ) ، ( ^ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) أي : في نضجه ، ومنه قول الحجاج حيث خطب ، وقال : إني أرى رءوسا قد أينعت ، وآن قطافها ، وأنا والله صاحبها ، ورأى دماء ترقرق بين اللحى والعمائم ( ^ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) . < < الأنعام : ( 100 ) وجعلوا لله شركاء . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وجعلوا لله شركاء الجن ) وذلك أنهم كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله من سروات الجن ( ^ وخلقهم ) قيل : إن الآية راجعة إلى الجن ، وقيل : راجعة إلى الكفار يعني : أنهم يقولون ذلك ( ^ وخلقهم ) وقرأ يحيى بن يعمر : ' وخلقهم ' بجزم اللام ، وهو في الشواذ .
( ^ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) يقرأ مخففا ومشددا والخرق : الاختلاق ، والتخريق : التكثير منه ، يعني : واختلقوا له بنين وبنات ، وذلك مثل قول اليهود : عزير ابن الله ، ومثل قول النصارى : المسيح ابن الله ، ومثل قول بعضهم : الملائكة بنات الله ( ^ سبحانه وتعالى عما يصفون ) . < < الأنعام : ( 101 ) بديع السماوات والأرض . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ بديع السموات والأرض ) أي : مبدع السموات والأرض ، وهو الخالق لا على مثال سبق ، ومنه المبتدعة ، ولا يكون الولد إلا من الصاحبة ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ أنى يكون له ولد ولم يكن له صاحبة وخلق كل شيء ) وفيه أيضا دليل على أن لا ولد له ؛ لأنه إذا كان خلق كل شيء ؛ لم يصلح شيء أن يكون ولد له ؛ إذ المخلوق لا يصلح ولدا للخالق ؛ فإن ولد كل أحد يكون من جنسه ( ^ وهو بكل شيء عليم ) . < < الأنعام : ( 102 ) ذلكم الله ربكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ) أكد ما سبق
____________________

( ^ كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ( 102 ) لا تدركه الأبصار وهو يدرك ) * * * * ذكره من نعت الوحدانية ( ^ فاعبدوه ) أي : فأطيعوه ( ^ وهو على كل شيء وكيل ) قيل : هو الكفيل بالأرزاق ، وقيل : الوكيل هاهنا بمعنى : القائم بخلق كل شيء وتدبيره . < < الأنعام : ( 103 ) لا تدركه الأبصار . . . . . > >
قوله - تعالى 0 : ( ^ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) واستدل بهذه الآية من يعتقد نفي الرؤية ، قالوا : لما ( تمدح ) بأنه لا تدركه الأبصار ؛ فمدحه يكون على الأبد في الدنيا والآخرة . واعلم أن الرؤية حق على مذهب أهل السنة ، وقد ورد به القرآن والسنة .
قال الله - تعالى - : ( ^ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وقال : ( ^ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) .
وقال : ( ^ فمن كان يرجو لقاء ربه ) ونحو هذا ، وروى جرير بن عبد الله البجلي ، وغيره بروايات صحيحة عن النبي أنه قال : ' إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، لا تضامون في رؤيته ' ويروون : ' لا تضارون في رؤيته ' .
فأما قوله - تعالى - : ( ^ لا تدركه الأبصار ) فالإدراك غير الرؤية ؛ لأن الإدراك : هو الوقوف على كنه الشيء وحقيقته ، والرؤية : هي المعاينة ، وقد تكون الرؤية بلا إدراك ، قال الله - تعالى - في قصة موسى : ( ^ فلما ترآء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا ) فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية ، وإذا كان الإدراك غير الرؤية ، فالله - تعالى - يجوز أن يرى ، ولكن لا يدرك كنهه ؛ إذ لا كنه له حتى يدرك ؛ وهذا
____________________

( ^ الأبصار وهو اللطيف الخبير ( 103 ) قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ( 104 ) وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ) * * * * كما انه يعلم ويعرف ولا يحاط به ، كما قال : ( ^ ولا يحيطون به علما ) فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم ، وقال ابن عباس - حكاه مقاتل عنه ، والأول قول الزجاج - : معنى قوله : ( ^ لا تدركه الأبصار ) يعني : في الدنيا ، هو يرى الخلق ، ولا يراه الخلق في الدنيا بدليل قوله - تعالى - : ( ^ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فكما أثبتت الرؤية بتلك الآية في الآخرة ؛ دل أن المراد بهذه الآية الإدراك في الدنيا ؛ ليكون جمعا بين الآيتين ( ^ وهو اللطيف الخبير ) اللطيف : موصل الشيء باللين والرفق ، ويقال في الدعاء : ' رب الطف بي ' أي : أوصل إلي الرفق ، وقيل : معناه : وهو اللطيف بأوليائه وعباده الخبير بهم . < < الأنعام : ( 104 ) قد جاءكم بصائر . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قد جاءكم بصائر من ربكم ) البصائر : البينات ( ^ فمن أبصر فلنفسه ) يعني : نفع بصره له ( ^ ومن عمي فعليها ) أي : وبال العمى عليها ( ^ وما أنا عليكم بحفيظ ) أي : ما أمرت أن ألازمكم حتى تسلموا لا محالة ، قيل : هذا كان في الابتداء ، ثم صار منسوخا بآية السيف . < < الأنعام : ( 105 ) وكذلك نصرف الآيات . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك نصرف الآيات ) أي : نفصل الآيات ، مرة هكذا ، ومرة هكذا ( ^ وليقولوا درست ) قيل : هذه ' لام العاقبة ' أي : عاقبة أمرهم أن يقولوا : درست ، وهذا مثل قوله - تعالى - : ( ^ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا ) ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لهذا ، ولكن أراد أن عاقبة أمره معهم أن كان عدوا لهم ؛ فيسمون ذلك لام العاقبة ، كذلك ها هنا ، وقوله : ( ^ درست ) يقرأ على وجوه : ' درست ' أي : تعلمت من غيرك ، وكانوا يقولون : إنه تعلم أخبار القرون الماضية من جبر ، ويسار ، وكان عبدين سبيا من الروم ، ويقرأ ' دارست ' أي تاليت وقاربت ، وهو
____________________

( ^ ولنبينه لقوم يعلمون ( 105 ) اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ( 106 ) ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ( 107 ) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك ) * * * * من المدارسة بين اثنين يدرس أحدهما على الآخر ، وقرأ ابن عامر ' درست ' أي : تلك أخبار قد درست ومحيت ، ويقرأ في الشواذ ' وليقولوا درست ' بمعنى : محيت ، قرأه قتادة ، وفي حرف أبي بن كعب وابن مسعود ' وليقولوا درس ' يعني : درس محمد ، وهو بمعنى : تعلم ، كما بينا ( ^ ولنبينه لقوم يعلمون ) . < < الأنعام : ( 106 ) اتبع ما أوحي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ اتبع ما أوحي إليك من ربك ) يعني : القرآن ( ^ لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ) . < < الأنعام : ( 107 ) ولو شاء الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو شاء الله ما أشركوا ) وهذا دليل على القدرية ( ^ وما جعلناك عليهم حفيظا ) قد بينا معناه ( ^ وما أنت عليهم بوكيل ) . < < الأنعام : ( 108 ) ولا تسبوا الذين . . . . . > >
قوله : ( ^ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) ويقرأ : ' عدوا بغير علم ' ومعناهما واحد أي : اعتداء بغير علم ، وسبب نزول الآية : أن الكفار كانوا يقولون لرسول الله : ذرنا وآلهتنا ؛ حتى نذرك وإلهك - وكان يذكر آلهتهم بالسوء - فنزلت الآية وروى : ' أن قوما من كفار قريش من رؤسائهم جاءوا إلى أبي طالب ، وقالوا : مر ابن أخيك يذرنا وآلهتنا حتى نذره وإلهه ، فدعا رسول الله ، وقال : إن قومك جاءوا يطلبون منك النصفة ، فقال : وماذا يريدون ؟ فقال أبو طالب : يقولون : ذرنا وآلهتنا ، ونذرك وآلهك ؛ فقال رسول الله : هل أنتم معطي كلمة إن أنتم قلتموها دانت لكم العرب ، وأدت إليكم العجم الجزية ؟ فقالوا : وما [ هي ] ؟ قال : كلمة لا إله إلا الله . فنفروا ، وقالوا : ( ^ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء
____________________

( ^ زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ( 108 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها ) * * * * عجاب ) ' فقوله : ( ^ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) وإن كان ظاهره للنهي عن سب الأصنام ، ولكن معناه : النهي عن سب الله - تعالى - حتى لا تسب اللهتهم ، فيسبوا الله . وهذا مثل قوله : ' لا يسب أحدكم والديه ؟ قيل : يا رسول الله ، ومن يسب والديه ؛ قال : يسب والدي غيره ؛ فيسب والداه ' ( ^ كذلك زينا لكل أمة عملهم ) للمؤمنين إيمانهم وللكافرين كفرهم ( ^ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) . < < الأنعام : ( 109 ) وأقسموا بالله جهد . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) كانوا يطلبون الآيات ، ويحلفون أنها لو جاءت آمنوا بها .
( ^ قل إنما الآيات عند الله ) أي : الآيات ( بيدي ) الله ، والله قادر على إنزالها .
( ^ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) فقوله : ' أنها ' يقرأ على وجهين : بكسر الهمزة ، وفتحها ؛ فمن قرأ : ' إنها ' فعلى الإبتداء ، واختلفوا في معنى قوله : ( ^ وما يشعركم ) أنه خطاب لمن ؟ قال بعضهم : هو خطاب للكفار ، ومعناه : وما يشعركم أيها الكفار أنها لو جاءت آمنتم ؟ ثم ابتدأ ، فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون .
وقيل : إنه خطاب للمؤمنين ، ومعناه : وما يدريكم أنها لو جاءت آمنوا بها ، إذ كان
____________________

( ^ إذا جاءت لا يؤمنون ( 109 ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونزرهم في طغيانهم يعمهون ( 110 ) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ) * * * * المؤمنون يسألون رسول الله أن يدعو الله - تعالى - حتى يريهم آية ؛ كي يؤمنوا ، فقال : وما يشعركم أنها لو جاءت آمنوا بها ؟ ثم ابتدأ ، وقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون ، وهذا في قوم مخصوصون علم الله أنهم لا يؤمنون .
وأما من قرأ ' أنها ' بفتح الهمزة ؛ فاختلفوا في معناه ، قال الكسئي : لا صلة هاهنا وتقديره : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون ، وقيل : ' أنها ' بمعنى : ' لعلها ' كما قال الشاعر :
( أريني جوادا مات هزلا ( فإنني ) أرى ما [ ترين ] أو بخيلا مخلدا )
ومعناه : لعلي أرى ما تريني ، كذلك هذا ، ومعناه : وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، وقيل : فيه حذف ، وتقديره : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون . < < الأنعام : ( 110 ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) أي : تقلب أفئدتهم كيلا يدركوا ، وأبصارهم ؛ كيلا يبصوا ؛ فلا يؤمنون ( ^ كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) . < < الأنعام : ( 111 ) ولو أننا نزلنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ) نزلت الآية على ما اقترحوا من الآيات ، فكانوا قد اقترحوا هذا كله ، قالوا لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتابا من السماء يحمله أربعون من الملائكة ، وسألوا إحياء الموتى ، وقالوا : ادع الله حتى يحشر قصيا - يعنون قصي بن كلاب - فإنه شيخ مبارك ؛ حتى نشهد لك بالنبوة ، فنزلت الآية ( ^ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) قال مجاهد : القبل . جمع القبيل ، ومعناه : فوجا فوجا ، وقال غيره : قبلا
____________________

( ^ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ( 111 ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( 112 ) ولتصغى إليه ) * * * * أي : مقابلة ، ويقرأ : ' قبلا ' بكسر القاف وفتح الباء أي : عيانا ( ^ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ) وفي الآية دليل واضح على أهل القدر . < < الأنعام : ( 112 ) وكذلك جعلنا لكل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ) أي : أعداء ، والعدو : اسم للواحد والجمع ( ^ شياطين الإنس والجن ) وقرأ الأعمش : ' شياطين الجن والإنس ' والشيطان كل عات متمرد ، سواء كان من الإنس أو من الجن ، وروى أن النبي قال لأبي ذر : ' تعوذ بالله من شياطين الإنس . قال أبو ذر : قلت : ومن الإنس شياطين ؟ فقال - عليه السلام - نعم ، وتلا هذه الآية ' .
وحكى عن مالك بن دينار أنه قال : خوفي من شيطان الإنس أكبر من خوفي من شيطان الجن ؛ لأن الجني يذهب إذا ذكرت الله ، ( والإنسي ) يجرني إلى المعاصي .
( ^ يوحي بعضهم إلى بعض ) أي : يلقي بعضهم إلى بعض .
( ^ زخرف القول غرورا ) زخرف القول : هو قول مزين لا معنى تحته ، والغرور : القول الباطل ( ^ ولو شاء ربك ما فعلوه ) أي : ما ألقت الشياطين الوسوسة في القلوب . ( ^ فذرهم وما يفترون ) . < < الأنعام : ( 113 ) ولتصغى إليه أفئدة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) وهذا يرجع إلى ما سبق من قوله : ( ^ زينا لكل أمة عملهم ) ( ^ لتصغى إليه ) والهاء كناية عن زخرف القول ؛ يعني : لتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون الآخرة ، وقيل : اللام فيه لام العاقبة ، كما بينا .
____________________

( ^ أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( 113 ) أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ( 114 ) وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ( 115 ) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن ) * * * *
( ^ وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) قال الزجاج : أي : ليعلموا من الذنوب ما كانوا عاملين . < < الأنعام : ( 114 ) أفغير الله أبتغي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أفغير الله أبتغي حكما ) لأنهم كانوا يقولون للنبي أجل بيننا وبينك حكما ؛ وأجابهم بقوله : أفغير الله ابتغي حكما ؟ ! .
( ^ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) يعني : خمسا خمسا ، وعشرا عشرا ، وهذا مثل قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) أي : فصلناه ؛ لنثبت به فؤادك .
( ^ والذين آتيناهم الكتاب ) يعني : اليهود والنصارى ( ^ يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) يعني : القرآن ( ^ فلا تكونن من الممترين ) < < الأنعام : ( 115 ) وتمت كلمة ربك . . . . . > > ( ^ وتمت كلمة ربك ) يعني بالكلمة : أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، والأحكام والآيات . ( ^ صدقا وعدلا ) صدقا في الوعد والوعيد ، وعدلا في الأمر والنهي .
قال قتادة : صدقا فيما وعد ، وعدلا فيما حكم ( ^ لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) . < < الأنعام : ( 116 ) وإن تطع أكثر . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا في الضلالة ، وقيل : أراد به : إن تطعهم فيما يجادلون من تحليل الميتة وأكلها ( ^ يضلوك عن سبيل الله ) على ما سيأتي .
( ^ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يرخصون ) أي : يكذبون . < < الأنعام : ( 117 ) إن ربك هو . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ) قيل : هذا في عمرو
____________________

( ^ سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ( 116 ) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 117 ) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( 118 ) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) * * * * ابن لحي ، وهو أول من غير دين إبراهيم ( ^ وهو أعلم بالمهتدين ) . < < الأنعام : ( 118 ) فكلوا مما ذكر . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ) أي : كلوا ما ذبح على اسم الله < < الأنعام : ( 119 ) وما لكم ألا . . . . . > > ( ^ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) وذلك أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين ، ويقولون : إنكم تأكلون مما تقتلون ، ولا تأكلون مما قتله الله ، وكانوا يدعونهم إلى أكل الميتة واستحلالها ؛ فنزلت هذه الآيات ' .
( ^ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) هو تفصيل ما عد من المحرمات : من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، ونحوه في القرآن ، وقرأ عطية : ' وقد فصل لكم ' مخففا ؛ أي : ظهر لكم ، وهو مثل ما يقرأ في قوله : ( ^ أحكمت آياته ثم فصلت ) مخففا ( ^ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) . < < الأنعام : ( 120 ) وذروا ظاهر الإثم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) قيل : ظاهر الإثم : هو الزنا علنا ، وباطنه هو الزنا سرا ، وكان أشراف العرب يتكرمون من الزنا علانية ويزنون سرا ، ( فالآية ) في النهي عنهما جميعا ، قال قتادة : أراد به : النهي عن كل المعاصي سرا وجهرا ، وفي الآية سوى هذا أقوال ثلاثة :
أحدها : أن ظاهر الإثم هو : نكاح المحارم ، وباطنه : الزنا .
والثاني : أن ظاهر الإثم : كشف العورة ، وباطنه : الزنا .
والثالث : أن ظاهر الإثم : هو الذي تقترفه الجوارح ، وباطنه الذي يعقد القلب
____________________

( ( 119 ) وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ( 120 ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ( 121 ) أو من كان ميتا فأحييناه ) * * * * عليه ، كالمصر على الذنب القاصد له .
( ^ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ) أي : جزاء ما كانوا يقترفون ، والإقتراف : اكتساب الذنب . < < الأنعام : ( 121 ) ولا تأكلوا مما . . . . . > >
قوله ( ^ ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه ) قال ابن عباس : الآية في الميتات ، وما في معناها من المنخنقة وغيرها ، وقال عطاء : الآية في الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام لا على اسم الله - تعالى - .
وفيه قول ثالث : أن الآية : في متروك التسمية كما يقتضيه الظاهر ، ثم اختلف العلماء في متروك التسمية ، قال الشعبي ، وابن سيرين : لا تحل ، سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا ، وقال عطاء ، وسعيد بن جبير : إن ترك التسمية عامدا لا تحل ، وإن تركها ناسيا تحل ، والأول قول مالك ، والصحيح أن الآية في الميتات ؛ لأنه قال : ( ^ وإنه لفسق ) وإنما يفسق أكل الميتة .
وقال : ( ^ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ومجادلتهم كانت في أكل الميتة ؛ فإنهم كانوا يقولون : إنكم تأكلون مما قتلتموه ، ولا تأكلون مما قتله الله - تعالى فنزلت الآية .
( ^ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) يعني : باستحلال الميتة ، قال الزجاج : في هذا دليل على أن استحلال الحرام ، وتحريم الحلال يوجب الكفر ، وفي الآثار : ' أن ابن عباس سئل ، فقيل له : إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه يوحى إليه ، فقال ابن عباس : صدق ؛ فإن الله - تعالى - يقول : ( ^ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .
وفي الخبر أن النبي قال : ' يخرج من ثقيف رجلان : كذاب ، ومبير مهلك '
____________________

( ^ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ( 122 ) كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا ) * * * * فالكذاب : هو المختار ، والمبير : هو الحجاج . < < الأنعام : ( 122 ) أو من كان . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أو من كان ميتا فأحييناه ) قال مجاهد : معناه : من كان ضالا فهديناه ( ^ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) أي : نور الإسلام ، يعيش به بين المسلمين ( ^ كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) المثل صلة هاهنا ، وتقديره : كمن هو في الظلمات ، أي : في ظلمات الشرك لا يخرج منها أبدا ، قال الضحاك : هذا في عمر وأبي جهل ، وقال ابن عباس : في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وقيل : هو في حمزة وأبي جهل .
وفي الآية قول آخر : أن معناه : أو من كان ميتا بالجهل ؛ فأحييناه بالعلم ، وكل جاهل ميت ، وكل عالم حي ، قال الشاعر :
( وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ** وأجسامهم قبل القبور قبور )
( وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت ** وليس له قبل النشور نشور )
( ^ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) . < < الأنعام : ( 123 ) وكذلك جعلنا في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ) تقديره : جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، ومعناه : إنا كما جعلنا مجرمي مكة أكابر ، فكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، وهذه سنة الله في كل قرية ، ومن سننه : أنه جعل ضعفاءهم أتباع الأنبياء ، كما قال في قصة نوح : ( ^ واتبعك الأرذلون ) وروى : ' أن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب - حين قدم عليه - عن حال النبي ، فكان فيما سأله عنه أنه قال : من أتباعه ضعفاؤهم أم العلية ؟ فقال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم ؛ فقال هرقل : هم أتباع الأنبياء ' وفي الخبر قصة ، وهو في الصحيح .
____________________

( ^ فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ( 123 ) وإذ جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ( 124 ) فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ) * * * *
( ^ ليمكروا فيها ) وكان من مكر أهل مكة أنهم جعلوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ؛ حتى يقولوا لكل من يقدم : [ إياك ] وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب ( ^ وما يمكرون إلا بأنفسهم ) أي : وباله يرجع إليهم ( ^ وما يشعرون ) . < < الأنعام : ( 124 ) وإذا جاءتهم آية . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي : لا نؤمن حتى يوحى إلينا كما يوحى إليه ، وينزل علينا جبريل كما ينزل عليه ، حتى روى أن الوليد بن المغيرة قال : إن كان الله يريد أن يبعث نبيا فأنا أولى بالنبوة ؛ لأني أكثر مالا ، وأقدم سنا ، وكذا كان يقول أكابرهم ورؤساؤهم ؛ فنزلت الآية .
قوله - تعالى - : ( ^ الله أعلم حيث يجعل رسالته ) يعني : الله أعلم من أهل النبوة ، وأن محمدا أهل الرسالة ، ولستم بأهل الرسالة .
( ^ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله ) فيه معنيان :
أحدهما : قال الفراء : معناه : صغار من عند الله ، و ' من ' محذوف .
قال البصريون : ' من ' لا تحذف ومعناه : صغار ثابت دائم عند الله ( ^ وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . < < الأنعام : ( 125 ) فمن يرد الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) .
أي : يفتح قلبه حتى يدخل الإسلام ( ^ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) .
ويقرأ : حرجا - بفتح الراء - يعني : ذا حرج ، وأما بالكسر فللمبالغة في الضيق ، وعن عمر أنه قال : سألت أعرابيا : ما الحرجة عندكم ؟ فقال : شجرة ملتفة لا تصل إليها راعية ولا سائمة ، فعلى هذا معنى الآية .
____________________

( ^ للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ( 125 ) وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا ) * * * *
( ^ يجعل صدره ضيقا حرجا ) بحيث لا يصل إليه الإيمان ، ولا يدخله الإسلام ( ^ كأنما يصعد في السماء ) يقرأ على وجوه : ' يصعد ' بتشديدين ، ومعناه يتصعد ، وكذا يقرأ في الشواذ ، وقرئ : ' يصاعد ' بتشديد الصاد بمعنى يتصاعد ، وقرئ : ' يصعد مخففا من الصعود ، ومعنى الكل واحد .
وفي معناه قولان : أحدهما : أن معناه : كأنما يكلف الصعود فلا يستطيعه ، وأصل الصعود : المشقة ، وهو قوله - تعالى - ( ^ سأرهقه صعودا ) أي : عقبة شاقة ، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - : ما تصعدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح ، أي : ما شق علي شيء كما ( شقت ) علي خطبة النكاح .
والقول الثاني : معنى قوله : ( ^ كأنما يصعد في السماء ) نبوة من الحكمة ، وفرارا من القرآن .
( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) الرجس : هو النتن ، والرجز : العذاب ، وفي الخبر : ' أن النبي كان إذا دخل الخلاء يقول : اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم ' وقيل : اللعنة في الدنيا ، والعذاب في الآخرة . < < الأنعام : ( 126 ) وهذا صراط ربك . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهذا صراط ربك مستقيما ) يعني : الإسلام ( ^ قد فصلنا الآيات
____________________

( ^ الآيات لقوم يذكرون ( 126 ) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ( 127 ) ويوم يحشرهم جميعا ما معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين ) * * * * لقوم يذكرون ) . < < الأنعام : ( 127 ) لهم دار السلام . . . . . > >
( ^ لهم دار السلام عند ربهم ) السلام : هو الله - تعالى - ودار السلام الجنة ، قال الزجاج : أراد بالسلام : السلامة ، أي : لهم دار السلامة من الآفات .
( ^ وهو وليهم بما كانوا يعملون ) . < < الأنعام : ( 128 ) ويوم يحشرهم جميعا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ويوم نحشرهم جميعا ) أما حشر الجن والإنس : حق يجب الإيمان به ( ^ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) يعني : استكثرتم من الإنس بالإغواء والإضلال ( ^ وقال أولياؤهم من الإنس ) يعني : الكفار وأولياء الشياطين يقولون يوم القيامة : ( ^ ربنا استمتع بعضنا ببعض ) يعني : استمتع الجن بالإنس ، والإنس بالجن ، قيل : استمتاع الجن بالإنس : تزيينهم لهم ، وتسهيلهم طريق الغواية عليهم .
وأما [ استمتاع ] الإنس بالجن : طاعتهم ، والجملة أن استمتاع الجن : بالأمر واستمتاع الإنس : بالقبول ، وقيل : معناه : أن الرجل من العرب كان إذا نزل بواد يقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، ثم يبيت آمنا من تخبيل الجن ، وهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس : أن ذلك الجني الذي تعوذ به الإنسي يقول لقومه : إن الإنس يتعوذون بنا ؛ ( فنحن سادات الجن والإنس ) ، وهذا مبين في قوله - تعالى - في سورة الجن ( ^ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) أي : نخوة وتكبرا .
( ^ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ) يعني : أجل القيامة .
( ^ قال النار مثواكم ) يعني : يقول الله : النار مثواكم ( ^ خالدين فيها إلا ما شاء
____________________

( ^ فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ( 128 ) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ( 129 ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم ) * * * * الله ) فإن قال قائل : أليس أن الكافرين خالدون في النار بأجمعهم ، فما هذا الاستثناء ؟
الجواب : قال الفراء : هو مثل قوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ) يعني : من الزيادة على مدة دوام السموات والأرض ؛ فهذا هو المراد بهذه الآية أيضا ، وقيل : الاستثناء في العذاب يعني : خالدين في نوع من العذاب إلا ما شاء الله من سائر العذاب .
وقيل : هو استثناء مدة البعث والحساب ، لا يعذبون في وقت البعث والحساب ( ^ إن ربك حكيم عليم ) . < < الأنعام : ( 129 ) وكذلك نولي بعض . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) يعني : يجعل بعضهم على إثر بعض في القيامة إلى النار . وقيل : هذا في الدنيا ، ومعناه : نأخذ من الظالم بالظالم ، وذلك بتسليط بعضهم على البعض ( ^ بما كانوا [ يكسبون ] ) أي : جزاء بما كانوا يعملون . < < الأنعام : ( 130 ) يا معشر الجن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) فإن قال قائل : ومن الجن رسل ، كما يكون من الإنس ؟
الجواب : قال الضحاك : بلى من الثقلين رسل ، كما نطق به الكتاب . وقال مجاهد : الرسل من الإنس ، وأما الجن فمنهم النذر ، كما قال الله - تعالى - : ( ^ ولوا إلى قومهم منذرين ) فعلى هذا للآية معنيان : أحدهما أن قوله : ( ^ رسل منكم ) ينصرف إلى أحد الصنفين ، وهو الإنس ، ومثله قوله - تعالى - : ( ^ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) والمراد : أحد البحرين ، المالح دون العذب .
____________________

( ^ آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ( 130 ) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ( 131 ) ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون ( 132 ) وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ( 133 ) إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ( 134 ) قل يا ) * * * *
والثاني : أن الرسل من الصنفين ، إلا أنه عبر بالرسل عن النذر من الجن بطريق المعنى ؛ لأن النذير في معنى الرسول .
( ^ يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ) وذلك حين تنطق جوارحهم ( ^ وغرتهم الحياة الدنيا ) هذا من قول الله - تعالى - اعترض في - البين - ( ^ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . < < الأنعام : ( 131 ) ذلك أن لم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) يعني : ذلك من إرسال الرسل وإنزال الكتب ؛ إنما كان لأن الله - تعالى - لا يهلك قرية قبل بعث الرسول إليها ، وإنذارها بالوحي ؛ وذلك لأن الله - تعالى - أجرى سنته : أن لا يأخذ أحدا الذنب إلا بعد وجود الذنب ، وإنما يكون مذنبا إذا أمر فلم يأتمر ، ونهى فلم ينته ، ودعي فلم يجب . < < الأنعام : ( 132 ) ولكل درجات مما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولكل درجات مما عملوا ) أي : درجات في الجزاء مما عملوا ( ^ وما ربك بغافل ) - أي : بساه - ( ^ عما يعملون ) . < < الأنعام : ( 133 ) وربك الغني ذو . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) يعني : إن يشأ يهلككم ، ويستخلف [ من ] بعدكم من يشاء ( ^ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) بأن ( أهلكهم ) وأنشأكم من بعدهم < < الأنعام : ( 134 ) إن ما توعدون . . . . . > > ( ^ إن ما توعدون لآت ) أي : كل موعود كائن ( ^ وما أنتم بمعجزين ) أي : فائتين عنه . < < الأنعام : ( 135 ) قل يا قوم . . . . . > >
( قوله تعالى ) : ( ^ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ) يعني : على تمكنكم ،
____________________

( ^ قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ( 135 ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( 136 ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم ) * * * * وقيل : على ما أنتم عليه ، وهذا أمر تهديد ، كقوله : ( ^ اعملوا ما شئتم ) فكذلك قوله ( ! ( اعملوا على مكانتكم إني عامل ) ! فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ) أي : من يكون له الأمر في العاقبة ( ^ إنه لا يفلح الظالمون ) . < < الأنعام : ( 136 ) وجعلوا لله مما . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) وكانوا يقسمون الحرث ، فيجعلون لله نصيبا ، وللأصنام نصيبا ، ويقسمون الأنعام ، فيجعلون لله نصيبا ، وللأصنام نصيبا ، ثم ما جعلوا لله ، صرفوه للفقراء والمساكين ، وما جعلوا للأصنام أنفقوه على الأصنام ، وعلى خدم الأصنام ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) فأما قوله : ( ^ فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) معنى هذا : أنهم كانوا إذا قسموا الحرث والأنعام كما وصفنا ، فإذا سقط مما جعلوا لله من الحرث شيء فيما جعلوه للأصنام تركوه ، وإذا سقط شيء من نصيب الأصنام ، فيما جعلوه لله ردوه إلى نصيب الأصنام ، وكان إذا هلك أو انتقص مما جعلوا لله من الأنعام شيء ؛ لم يبالوا به ، وكان إذا هلك أو انتقص من نصيب الأصنام ، جبروه مما جعلوه لله ، وقالوا : الله غني ، والصنم محتاج ، وكانوا إذا أجدبوا وقحطوا ؛ أكلوا مما جعلوه لله ، ولم يأكلوا من نصيب الأصنام .
وقوله : ( ^ ساء ما يحكمون ) أي : لم يأتهم فيه وحي ، ولا يقتضيه عقل ؛ فإن القياس يقتضي التسوية - على زعمهم - بين الشريكين ، لا ما حكموا به . < < الأنعام : ( 137 ) وكذلك زين لكثير . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ) يعني : كما زين هذا لأولئك القوم ، فقد زين لكثير من المشركين قتل أولادهم
____________________

( ^ شركاؤكم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( 137 ) وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون ( 138 ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ) * * * * شركاؤهم من وأد البنات على ما سنبين ( ^ ليردوهم ) ليهلكوهم . ( ^ وليلبسوا عليهم دينهم ) أي : ليخلطوا عليهم دينهم ؛ إذ كانوا على بقية من ملة إبراهيم فلبسوا عليهم دينهم بما ليس منه ( ^ ولو شاء ( الله ) ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) . < < الأنعام : ( 138 ) وقالوا هذه أنعام . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ) أي : حرام ( ^ لا ( يطعمها ) إلا من نشاء بزعمهم ) ثم بين ( تحريمهم ) ؛ فقال ( ^ لا يطعمها إلا من نشاء ) يعني : من خدم الأصنام ، وقيل : هو تحريم البحيرة والسائبة على الإناث ، ولا يطعمها إلا الذكور .
( ^ وأنعام حرمت ظهورها ) هي الحوامي التي ذكرنا في المائدة ، كانوا يقولون : حمت ظهورها ( ^ وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) قيل : ذبائح كانوا يذبحونها باسم الأصنام لا باسم الله - تعالى - وقيل معناه : أنهم لا يركبون عليها لفعل الخير . قال أبو وائل شقيق بن سلمة : معناه : أنهم لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الحج ، إلا أنه جرت العادة بذكر اسم الله على فعل الخير ، فعبر بذكر اسم الله عن فعل الخير ؛ فقال : ( ^ وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ) يعني : افتراء على الله ( ^ سيجزيهم بما كانوا يفترون ) أي : جزاء ما كانوا ( يكذبون ) . < < الأنعام : ( 139 ) وقالوا ما في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) يعني : الأجنة حلال لذكورنا ، وقرأ الأعمش : ' خالص لذكورنا ' قال الكسائي : خالص وخالصة واحد ، كما يقال : وعظ موعظة ، وله نظائر ( ^ ومحرم على أزواجنا ) أي : على نسائنا أرادوا به ما سبق ذكره من أولاد البحيرة والوصيلة .
( ^ وإن يكن ميتة ) يعني : وإن يكن ما في البطن ميتة ( ^ فهم فيه شركاء ) يعني :
____________________

( ^ ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ( 139 ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ( 140 ) وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه ) * * * * الذكور والإناث ، ويقرأ ' وإن تكن ميتة ' ( ^ فهم فيه شركاء ) ( ^ سيجزيهم وصفهم ) . أي : جزاء كذبهم ( ^ إنه حكيم عليم ) . < < الأنعام : ( 140 ) قد خسر الذين . . . . . > >
( ^ قد خسر الذين قتلوا أولا دهم ) أي : هلك وغبن الذين قتلوا أولادهم وذلك من وأد البنات ، وكانوا في الجاهلية يدفنون البنات حية ، حتى كان الرجل منهم يقتل ولده ، ويربي كلبه . وكان البعض يفعل ذلك دون البعض ، وقيل : كان ذلك في قبيلتين : ربيعة ، ومضر ، كانا يدفنان البنات وهن حيات ، فأما بنو كنانة وسائرهم ما كانوا يفعلون ذلك .
( ^ سفها بغير علم ) أي : جهلا لا عن بصيرة ( ^ وحرموا ما رزقهم الله ) ( وهو ) ما ذكرنا من تحريم أولاد البحيرة ، والوصيلة ونحو ذلك ( من ) الحوامى ، حرموها تدينا ( ^ افتراء على الله ) لأنهم كانوا يدعونه دينا من الله - تعالى - وقد كذبوا في ذلك عليه ( ^ قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) . < < الأنعام : ( 141 ) وهو الذي أنشأ . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي أنشأ جنات ) الجنات : البساتين ( ^ معروشات ) أي : ذات عروش ، والعرش : السقف ، والكروم ذات سقوف ( ^ وغير معروشات ) ومنها ما لا سقف له ، وكذلك سائر الأشجار ( ^ والنخل والزرع مختلفا أكله ) أي : ثمره .
( ^ والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ) أي : متشابها في [ المنظر ] ، يشبه أحدهما الآخر في الورق ، وغير متشابه في الثمر والطعم ، وقد بينا هذا ، وقيل : هو
____________________

( ^ يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( 141 ) ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا ) * * * * راجع إلى ما سبق ذكره من الكرم ، والنخل ، والأشجار ، فإن بعضها يشبه بعضا في الورق والثمر والطعم ، ومنها ما يخالف بعضه بعضا .
( ^ كلوا من ثمره إذا أثمر ) هذا أمر إباحة ( ^ وآتوا حقه يوم حصاده ) والقطاف ، ويقرأ : ' حصاده ' بكسر الحاء ، قيل : الحصاد والحصاد واحد ، كالجزاء والجزاء ، والقطاف والقطاف ، ثم اختلف العلماء في هذا الحق ما هو ؟ قال ابن عمر ، وأبو الدرداء - وهو قول عطاء ومجاهد - : إن هذا الحق كان حقا في المال سوى العشر المفروض ، وأمر بإتيانه .
قال ابن عباس ، وأنس - وهو قول الحسن في إحدى الروايتين عنه - : إنه أراد به إيتاء العشر المفروض ، وعن الحسن - في رواية أخرى وهو قول النخعي ، وسعيد بن جبير - : أن هذا حق كان يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام ، ثم صار منسوخا بإيجاب العشر ، والقول الأول أولى ؛ لأن الآية مكية ، والزكاة فرضت من بعد بالمدينة ، فحمله على حق سوى الزكاة أولى .
( ^ ولا تسرفوا ) أي : لا تنفقوا الأموال في معصية الله ، وكل من أنفق في معصية فهو مسرف ، وقيل : هو إعطاء الكل ، وذلك أن يعمد الرجل إلى جميع زرعه ونخله فيعطي الكل ، ويترك عياله عالة . وروى : ' أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة كانت له ، فأعطى الكل ؛ فنزلت الآية ( ^ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . < < الأنعام : ( 142 ) ومن الأنعام حمولة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ومن الأنعام حمولة وفرشا ) أي : وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا ، قال مجاهد : الحمولة : الإبل الكبار التي يحمل عليها ، والفرش : الصغار ، وقال الضحاك : الحمولة : الإبل والبقر ، والفرش : [ الغنم ] ، قال الشاعر :
____________________

( ^ مما رزقكم الله ولا تبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( 142 ) ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ( 143 ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله ) * * * *
( أورثني حمولة وفرشا ** أمسها في كل يوم مسا )
أي : أمسحها في كل يوم ( ^ كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) أي : آثار الشيطان ، وخطاياه ، وهو تخطية من الحلال إلى الحرام ( ! ( إنه لكم عدو مبين ) { < الأنعام : ( 143 ) ثمانية أزواج من . . . . . > > ثمانية أزواج ) إنما نصب ثمانية ؛ لأن قوله ( ^ ثمانية ) بدل عن قوله : ( ^ حمولة وفرشا ) ، وقوله : ( ! ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ! ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ) .
هذا في الحقيقة أربعة أزواج ، كل زوج اثنان ، لأن العرب تسمي الواحد زوجا إذا كان لا ينفك عن غيره ، قال الله - تعالى - : ( ^ ومن كل شيء خلقنا زوجين ) .
( ^ قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) هذا في تحريمهم الوصيلة والبحيرة ونحوها ، والآية في الاحتجاج عليهم ، ومعنى هذا : أن الذي تدعون على الله من تحريمها إن كان بسبب الذكورة ، فينبغي أن تحرم كل الذكور ، وإن كان التحريم بسبب الأنوثة ؛ فينبغي أن تحرم كل الإناث ، وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم كل ما اشتملت عليه الرحم ، فأما تخصيص التحريم بالولد السابع والخامس فمن أين ؟ ! ( ^ نبؤني بعلم ) أخبروني بعلم ( إن كان لكم به علم ) ( ^ إن كنتم صادقين ) . < < الأنعام : ( 144 ) ومن الإبل اثنين . . . . . > >
( ^ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) هذا في تحريمهم أولاد البحيرة من البطن الخامس ، كما سبق ، ووجه الاحتجاج عليهم ما بينا .
____________________

( ^ بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( 144 ) قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ) * * * *
( ^ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) فمعناه : أنكم قلتم ذلك عن علم لكم ؟ فأخبروني به ! أم نزل [ عليكم ] به وحي ؟ أم أمركم الله به عيانا ؟
( ^ فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ) فبين الله يعني : أنهم كاذبون به ( ^ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) .
وفي الخبر : ' أن عوف بن مالك الأشجعي جاء ، وقال : يا محمد ، أبحت ما حرمنا ! وحرمت ما أبحنا - يعني : الميتة - فقرأ عليه هذه الآيات ؛ فعرف الحجة ، وسكت عنه ' . < < الأنعام : ( 145 ) قل لا أجد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) سبب هذا أنهم قالوا : فما المحرم إذا ؟ فنزل قوله : قل يا محمد : لا أجد فيما أوحي إلي محرما ( ^ على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ) .
واختلف العلماء في هذا ؛ فذهبت عائشة ، وابن عباس إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء ، وبه قال مالك ، وقالوا : قوله : ( ^ إلا ان يكون ميتة ) دخل فيه المنخنقة والموقوذة ، وما عد في سورة المائدة ، ومالك يعد ما سواها مكروها ولا يعده حراما ، وجمهور العلماء على أن التحريم [ يعدو ] هذه الأشياء ؛ إلا أن البعض ثبت بالكتاب ، والبعض بالسنة ، والكل حرام . وقد ثبت : ' أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع و [ عن ] كل ذي مخلب من الطير ' ( ^ فإنه رجس ) أي : نتن ( ^ أو فسقا أهل لغير الله به ) وهو المذبوح على اسم الصنم ، سمى ذلك فسقا ؛
____________________

( ^ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ( 145 ) وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( 146 ) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا ) * * * * للخروج عن أمر الله - تعالى - .
( ^ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) وقد ذكرنا هذا . < < الأنعام : ( 146 ) وعلى الذين هادوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) يعني : حرمنا على اليهود كل ذي ظفر ، قيل : هو البعير والنعامة ، ويدخل فيه الأوز والبط .
( ^ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما ) أما تحريم الشحوم عليهم : كان ذلك عن الثروب وشحم الكليتين ، وقد قال ' لعن الله اليهود حرم عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها ' .
وقوله : ( ^ إلا ما حملت ظهورهما ) أي : شحم ما حملت ظهورهما لم يحرم عليهم ( ^ أو الحوايا ) تقديره : والحوايا ، أي : شحم المباعر ( ^ أو ما اختلط بعظم ) أي : وشحم ما اختلط بعظم ، قيل : هو الإلية ، وقيل : هو شحم الجنب ، ثم اختلفوا ، أن الكل هل يدخل في الاستثناء ؟ قال بعضهم : إنما يدخل في الاستثناء شحم الظهور فحسب ، فأما قوله : ( ^ أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) راجع إلى التحريم ، والصحيح : أن الكل يدخل في الاستثناء ، وهو ظاهر الآية . ( ^ ذلك جزيناهم ببغيهم ) أي : [ بظلمهم ] ( ^ وإنا لصادقون ) . < < الأنعام : ( 147 ) فإن كذبوك فقل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) فإن قيل : ما معنى هذا ، وإنما يليق بتكذيبهم وعيد العذاب لا وعد الرحمة ؟ قال ثعلب : هو الرحمة
____________________

( ^ يرد بأسه عن القوم المجرمين ( 147 ) سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( 148 ) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ( 149 ) قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون ) * * * * بتأخير العذاب عنهم ، لا بترك أصل العذاب ، وهذا حسن ، بدليل قوله : ( ^ ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ) يعني : في القيامة ، إذا [ جاء ] وقته ؛ فسئل ثعلب : أليس أن الله - تعالى - قد عذب الكفار في الدنيا ؟ فقال : هذا في الكفار من قوم نبينا محمد لم يعذبهم الله ؛ ببركته فيهم ، كما قال : ( ! ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) ! وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين ) . < < الأنعام : ( 148 ) سيقول الذين أشركوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ) استدل أهل القدر بهذه الآية ؛ فإنهم لما قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ؛ كذبهم الله - تعالى - ورد قولهم فقال : ( ^ كذلك كذب الذين من قبلهم ) قيل : معنى الآية : أنهم كانوا يقولون الحق إلا أنهم كانوا ( يعدون ) ذلك عذر لهم ، ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان ، فالرد عليهم كان في هذا بدليل < < الأنعام : ( 149 ) قل فلله الحجة . . . . . > > قوله - تعالى - بعده : ( ^ قل فلله الحجة البالغة ) أي : الحجة بالأمر والنهي باقية له عليهم ، وإن شاء أن يشركوا .
( ^ فلو شاء لهداكم أجمعين ) ولو لم يحمل على هذا ؛ لكان هذا مناقضة للأول ، وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن الله أمرنا بالشرك ، كما قال في الأعراف : ( ^ وإذا فعلوا
____________________

( ^ بالآخرة وهم بربهم يعدلون ( 150 ) قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به ) * * * * فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) وكأن قوله : ( ^ لو شاء الله ما أشركنا ) أي : هو الذي أمرنا بالشرك ؛ فالرد في هذا لا في حصول الشرك بمشيئته ، فإنه حق وصدق ، وبه يقول أهل السنة .
( ^ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) أي : من كتاب ، فتخرجوه لنا حتى يظهر ما تدعون على الله ( من أمره بالشرك ) ( ^ إن تتبعون إلا الظن ) يعني : أنكم تقولون ما تقولون ظنا لا عن بصيرة ( ^ وإن أنتم إلا تخرصون ) أي : تكذبون ( ^ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) . < < الأنعام : ( 150 ) قل هلم شهداءكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل هلم شهداءكم ) أي : ائتوا بشهدائكم ( ^ الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم بغير أمر الله ، وادعوا أنه من أمر الله .
( ^ فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) يعني : فإن شهدوا كاذبين ، فلا تشهد معهم ( ^ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ) أي : يشركون . < < الأنعام : ( 151 ) قل تعالوا أتل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) لأنهم سألوه أيش الذي حرم الله - تعالى - ؟ فنزل قوله - تعالى - : ( ^ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) فإن قال قائل : الله - تعالى - ما حرم ترك الشرك بل أمر ربه ، فما معنى قوله : ( ^ ألا تشركوا به شيئا ) ؟ .
فيه جوابان : أحدهما : أن قوله ' لا ' صلة ، وتقديره ' : أن تشركوا ؛ فعلى هذا استقام الكلام .
والثاني : أن قوله : ( ^ [ تعالوا ] أتل ما حرم ربكم ) كلام تام . ( ثم ) قوله :
____________________

( ^ شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( 151 ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) * * * * ( ^ عليكم ألا تشركوا ) ابتداء كلام . وإذا قدر هكذا استقام الكلام أيضا ، ثم قوله ( ^ وبالوالدين إحسانا ) أي : وأحسنوا بالوالدين إحسانا .
( ^ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) قال المؤرج : الإملاق : الجوع بلغة حمير ، والمعروف في اللغة أن الإملاق : الفقر ( ^ نحن نرزقكم وإياهم ) أي : رزق الكل علينا ؛ فلا تقتلوهم خوف الجوع والفقر .
( ^ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) هذا نهي عن أنواع الزنا سرا وعلنا ، وكانت الزواني في الجاهلية على نحوين : كانت لبعضهم رايات على الأبواب ، علما لمن أراد الزنا ؛ كن يزنين علنا ، وأخريات كن يزنين سرا . فهذا المراد بالفواحش ما ظهر منها وما بطن .
( ^ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) نهى عن القتل بالظلم ، وأباح القتل بالحق ، وهو مفسر في قول النبي : ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس ' ( ^ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) . < < الأنعام : ( 152 ) ولا تقربوا مال . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) قد سبق الكلام على قربان مال اليتيم في سورة النساء . ( ^ حتى يبلغ أشده ) قال السدي : أشده ثلاثون سنة . وقال غيره : أوان الحلم . وقيل : هو استكمال القوة ، وسيأتي شرحه في موضع بعده .
( ^ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ) أي : بالعدل ( ^ لا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي :
____________________

( ^ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ( 152 ) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( 153 ) ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ) * * * * طاقتها ( ^ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) أي : فاصدقوا ، ولو كان على القريب ( ^ وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) . < < الأنعام : ( 153 ) وأن هذا صراطي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) يقرأ : وأن - بالتشديد - فيكون راجعا إلى قوله : ( ^ أتل ما حرم ربكم عليكم ) يعني : وأتل عليكم : أن هذا صراطي ، ويقرأ : وأن - بالتخفبف - فيكون صلة ، وتقديره هذا صراطي مستقيما .
( ^ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) بمعنى : سائر الملل سوى ملة الإسلام وقيل : هو الأهواء والبدع ( ^ فتفرق بكم عن سبيله ) أي : فتفرق بكم عن سبيله .
( ^ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) وقد صح برواية ابن مسعود عن النبي : ' انه خط خطا ، وخط حواليه خطوطا ، ثم أشار إلى الخط الأوسط ؛ فقال : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ثم أشار إلى الخطوط حوله ؛ فقال : لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ' . < < الأنعام : ( 154 ) ثم آتينا موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ثم آتينا موسى الكتاب ) فإن قيل : كيف قال : ( ^ ثم آتينا موسى الكتاب ) بعد ذكر محمد ، وموسى أوتي الكتاب قبله ، وكلمه ' ثم '
____________________

( ^ ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ( 154 ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ( 155 ) أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( 156 ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينه من ) * * * * للتعقيب ؟ قيل : معناه : ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب .
( ^ تماما على الذي أحسن ) قيل : أراد بالذي أحسن : موسى ، ومعناه : انه كما أحسن بطاعة ربه واتباع أمره ؛ أتممنا عليه النعمة والإحسان بإعطائه التوراة .
وقال الحسن : معناه تماما على المحسنين من قومه ، وكان منهم محسن ومسيء ، وهذا معنى قراءة ابن مسعود : تماما على الذين أحسنوا ، وقرأ يحيى بن يعمر : ' على الذي أحسن ' أحسن ، برفع النون ، أي : على الذي هو أحسن .
( ^ وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة ) هذا في وصف التوراة ( ^ لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) . < < الأنعام : ( 155 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهذا كتاب ) ثم وصف القرآن ( ^ أنزلناه مبارك فاتبعوه ) وقد بينا معنى المبارك ( ! ( واتقوا لعلكم ترحمون ) { < الأنعام : ( 156 ) أن تقولوا إنما . . . . . > > أن تقولوا ) أي : كراهة أن تقولوا ، على قول الكوفيين ، وأما على قول البصريين : تقديره : أن لا تقولوا : ( ^ إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) يعني : اليهود والنصارى ( ^ وإن كنا ) أي : وقد كنا ( ^ عن دراستهم لغافلين ) ومعنى الآية : أنا إنما أنزلنا عليكم القرآن ؛ لئلا تقولوا : إن الكتاب أنزل على من قبلنا بلغتهم ولسانهم فلم نعرف ما فيه ، وغفلنا عن دراسته ؛ فتمهدون بذلك عذرا لأنفسكم ، وحجة على الله < < الأنعام : ( 157 ) أو تقولوا لو . . . . . > > ( ^ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) .
وقد كان جماعة من الكفار ، قالوا ذلك : لو أنزل علينا ما أنزل على اليهود والنصارى كنا خيرا منهم وأهدى ، يقول الله - تعالى - : ( ^ فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) يعني : قد جاءكم القرآن ؛ فكذبتم به ، ثم قال : ( ^ فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) أي : أعرض عنها ( ^ سنجزي الذين يصدفون )
____________________

( ^ ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ( 157 ) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ) * * * * أي : يعرضون ( ^ عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) قوله - تعالى - : ( ^ [ هل ينظرون ] ) أي : بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن . < < الأنعام : ( 158 ) هل ينظرون إلا . . . . . > > ( ^ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) قيل : بالعذاب ، وقيل : بقبض الأرواح ( أو يأتي ربك ) يعني : في القيامة ، كما قال في سورة البقرة : ( ^ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) وقد بينا هنالك ( ^ أو يأتي بعض آيات ربك ) أجمع المفسرون على أنه أراد به طلوع الشمس من مغربها ، إلا في رواية : شاذة عن معاذ بن جبل أنه : خروج الدجال ، وخروج يأجوج ومأجوج . وقد ثبت برواية ابن مسعود عن النبي أنه قال فيه : ' هي طلوع الشمس من مغربها ' وكذلك رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا بلفظه .
وقال ابن مسعود : إن الشمس والقمر يطلعان يومئذ أسودين ، وروى صفوان بن عسال المرادي عن النبي أنه قال : ' إن للتوبة بابا قبل المغرب ، عرضه سبعون ذراعا ؛ فهو مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها ، ثم يغلق فلا تقبل التوبة بعده ' فهذا معنى قوله تعالى : ( ! ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ! لا ينفع نفسا
____________________

( ^ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ( 158 ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( 159 ) ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى * * * * إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) أي : لا يقبل توبة كافر بالإيمان ، ولا توبة فاسق بالرجوع عن الفسق ( ^ قل انتظروا إنا منتظرون ) . < < الأنعام : ( 159 ) إن الذين فرقوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) .
وروى أبو أمامة الباهلي صدى بن عجلان ، عن النبي قال : ' هم الخوارج ' قال مجاهد : هم أهل الأهواء والبدع ، وقيل : هم أهل سائر الملل من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ونحوهم ، وعن ابن مسعود أنه قال : ' أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ' ويروى هذا مرفوعا ، وقوله : ( ^ لست منهم في شيء ) أي : ليسوا منك ، ولست منهم ( ^ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) . < < الأنعام : ( 160 ) من جاء بالحسنة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) وهذا فضل من الله - تعالى - حيث يجازي الحسنة بعشر
____________________

( ^ إلا مثلها وهم لا يظلمون ( 160 ) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 161 ) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( 162 ) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( 163 ) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( 164 ) وهو الذي جعلكم خلائف ) * * * * أمثالها ، والسيئة بمثلها ، قال ابن عمر : هذا في غير الصدقات من الحسنات ، فأما الصدقات : تضاعف بسبعمائة ضعف ، وقال أبو صالح : الحسنة : قول لا إله إلا الله ، ' وسئل رسول الله عن كلمة لا إله إلا الله أهي من الحسنات ؟ فقال : هي أحسن الحسنات ' . < < الأنعام : ( 161 ) قل إنني هداني . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ) هو دين الإسلام أي : دينا مستقيما ( ^ ملة إبراهيم ) نصب على الإغراء ، أي : اتبع ملة إبراهيم ( ^ حنيفا وما كان من المشركين ) < < الأنعام : ( 162 ) قل إن صلاتي . . . . . > > ( ^ قيل إن صلاتي ونسكي ) أما الصلاة : معلومة ، وأما النسك : العبادة ، وقيل : أراد به : الذبيحة ، وقوله : ( ^ ومحياي ومماتي لله ) أي : طاعتي في حياتي لله ، وجزائي بعد مماتي من الله ( ^ رب العالمين < < الأنعام : ( 163 ) لا شريك له . . . . . > > لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) يعني : من هذه الأمة . < < الأنعام : ( 164 ) قل أغير الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أغير الله أبغي ربا ) لأنهم كانوا يقولون له : ارجع إلى ديننا فإن خفت الله فنحن نكفل لك العذاب ؛ قاله كفار قريش ؛ فنزل : ( ^ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ) ( ^ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي : ليس هذا بأمر تنفع فيه الكفالة ، ( ويقوم ) أحد مقام أحد فيه . ( ^ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) . < < الأنعام : ( 165 ) وهو الذي جعلكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) أي : يخلف بعضكم
____________________

( ^ الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( 165 ) ) * * * * بعضا ( ^ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) يعني : في الدنيا بالفقر والغنى ، والمرض والصحة ، ونحو هذا ( ^ ليبلوكم فيما آتاكم ) أي : ليختبروكم فيما أعطاكم .
( ^ إن ربك سريع العقاب ) وكل ما هو آت فهو سريع ( ^ وإنه لغفور رحيم ) .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ المص ( 1 ) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى ) <
> سورة الأعراف <
>
قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه - : اعلم أن سورة الأعراف مكيه إلا قوله - تعالى - : ( ^ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) إلى قوله - تعالى - : ( ^ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) فإن هذا القدر نزل بالمدينة ، و ( قد ) روى ' أن النبي قرأ في المغرب بطول الطولين ' يعني : سورة الأعراف ، وإنما سميت طول الطولين ؛ لأن أطول السور التي نزلت بمكة سورة الأنعام ، وسورة الأعراف ، والأعراف أطولهما . < < الأعراف : ( 1 ) المص > >
قوله تعالى ( ^ المص ) معناه : أن الله أعلم وأفصل ، وقيل : معناه : أنا الله الملك الصادق ، وقال الشعبي : لكل كتاب سر ، وسر القرآن : حروف التهجي في فواتح السور . < < الأعراف : ( 2 ) كتاب أنزل إليك . . . . . > >
( ^ كتاب أنزل إليك ) قال الفراء : تقديره : هذا كتاب أنزل إليك ( ^ فلا يكن في صدرك حرج منه ) أي : شك ، والخطاب للرسول ، والأمة هم المراد .
والحرج بمكان الشك ، قاله الفراء ، وأنشدوا :
( لولا حرج يعزوني ** جئتك أغزوك ولا تغزوني )
وقيل الحرج : هو الضيق ، ومعناه : لا يضيقن صدرك بالإبلاغ ، وذلك أن النبي
____________________

( ^ للمؤمنين ( 2 ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما ) * * * * لما بعث إلى الكفار ، قال : ' يا رب إني أخاف أن يثلغوا رأسي ، ويجعلوه كالخبزة ؛ فقال الله تعالى : لا يكن في صدرك ضيق من الإبلاغ ؛ فإني حافظك وناصرك ' .
قوله : ( ^ لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) فيه تقديم وتأخير ، وتقدير الآية : كتاب أنزل إليك ؛ لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه . < < الأعراف : ( 3 ) اتبعوا ما أنزل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) يعني : القرآن ، وقيل : القرآن والسنة لأمر الله تعالى لأن الله تعالى يقول : ( ^ وما أتاكم الرسول فخذوه ) فالسنة وإن لم تكن ( منزلة ) ، فهي كالمنزلة بحكم تلك الآية ، قال الحسن في هذه الآية : يا ابن آدم ، أمرت باتباع القرآن ، فما من آية إلا وعليك أن تعلم فيما نزلت ، وماذا أريد بها ، حتى تتبعه ، وتعمل به .
( ^ ولا تتبعوا من دونه أولياء ) يعني : من عاند الحق ، وخالفه ، فلا تتبعوه ، وإنما قال : ( ^ من دونه أولياء ) لأن من اتخذ مذهبا ، فكل من سلك طريقه واتبعه كان من أوليائه ، فهذا معنى قوله : ( ^ ولا تتبعوا من دونه أولياء ) وقال مالك بن دينار : ولا تبتغوا ، يعني : الطلب ، والمعنى : ولا تبتغوا من دونه أولياء . ( ^ قليلا ما تذكرون ) ، وقرأ ابن عامر : ' يتذكرون ' والمراد بهما واحد ، أي : قليلا ما تتعظون . < < الأعراف : ( 4 ) وكم من قرية . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكم من قرية أهلكناها ) ' كم ' للتكثير ، و ' رب ' للتقليل .
قال الشاعر :
( كم عمة لك يا جرير وخالة ** فدعاء قد حلبت على عشارى )
____________________

( ^ تذكرون ( 3 ) وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون ( 4 ) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ( 5 ) فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين ( 6 ) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ( 7 ) والوزن يومئذ ) * * * *
قاله الفرزدق .
( ^ فجاءها بأسنا بياتا ) أي : عذابنا بياتا ( ^ أو هم قائلون ) وتقديره : ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون ، من القيلولة .
قال الزجاج : ' أو هم قائلون ' أو لتصريف العذاب ، يعني : مرة بالليل ، ومرة بالنهار كما بينا ، فإن قال قائل : قد قال : ( ^ وكم من قرية أهلكناها ) فما معنى قوله : ( ^ فجاءها بأسنا ) وكيف يكون مجيء البأس بعد الإهلاك ؟ قيل : معنى قوله : ( ^ أهلكناها ) أي : حكمنا بإهلاكها ؛ فجاءها بأسنا ، وقيل : قوله : ( ^ فجاءها بأسنا ) هو بيان قوله : ( ^ أهلكناها ) ، وقوله : ( ^ أهلكناها ) هو قوله : ( ^ فجاءها بأسنا ) وهذا مثل قول القائل : أعطيتني فأحسنت إلي ، لا فرق بينه وبين قوله : أحسنت إلى ما أعطيتني ، وأحدهما بيان للآخر ، كذلك هذا . < < الأعراف : ( 5 ) فما كان دعواهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فما كان دعواهم ) أي : دعاؤهم ، قال سيبويه : تقول اللهم اجعلني في دعوى المسلمين ، أي : في دعاء المسلمين فقوله : ( ^ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) معناه : لم يقدروا على رد العذاب حين جاءهم العذاب ، وكان حاصل أمرهم أن اعترفوا بالخيانة حين لا ينفع الاعتراف . < < الأعراف : ( 6 ) فلنسألن الذين أرسل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فلنسألن الذين أرسل إليهم ) هذا سؤال توبيخ ، لا سؤال استعلام ، يعني : نسألهم عما عملوا فيما بلغهم ( ^ ولنسألن المرسلين ) عن الإبلاغ < < الأعراف : ( 7 ) فلنقصن عليهم بعلم . . . . . > > ( ^ فلنقصن عليهم بعلم ) أي : نخبرهم بما عملوا عن بصيرة وعلم .
( ^ وما كنا غائبين ) فإنه - جل وعلا - مع كل أحد بالعلم والقدرة . < < الأعراف : ( 8 ) والوزن يومئذ الحق . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ والوزن يومئذ الحق ) قال مجاهد : معناه : القضاء يومئذ بالحق والعدل ، وأكثر المفسرين على أنه أراد به : الوزن بالميزان المعروف ، وهو حق ، وكيف
____________________

( ^ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( 8 ) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ( 9 ) ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم ) * * * * يوزن ؟ اختلفوا ، قال بعضهم : توزن صحائف الأعمال ، وقيل : يوزن الأشخاص ؛ وعليه دل قول عبيد بن عمير أنه قال : ' يؤتى بالرجل العظيم الطويل ، الأكول والشروب ، يوم القيامة ، فيوزن فلا يزن عند الله جناح بعوضة ' وقد روى هذا مرفوعا .
وقيل : توزن الأعمال ، فإن الأعمال الحسنة تأتي على صورة حسنة ، والأعمال السيئة تأتي على صورة قبيحة ؛ فذلك الذي يوزن ، وفي الخبر ' أن ذلك الميزان له كفتان ، كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب ' ، والميزان للكل واحد ، وقيل لكل واحد ميزان . ( ^ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) . < < الأعراف : ( 9 ) ومن خفت موازينه . . . . . > >
( ^ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ) أي : غبنوا أنفسهم ( ^ بما كانوا بآياتنا يظلمون ) قال الحسن : إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه باتباع الحق ، وحق لميزان وضع فيه الحق أن يثقل ، وإنما خف ميزان من خف ميزانه باتباع الباطل ، وحق الميزان لم يوضع فيه إلا الباطل أن يخف .
ويروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : ' كان رسول الله نائما ذات يوم ، ورأسه في حجري ، فبكيت ، فقطرت دموعي على خده ؛ فانتبه رسول الله فقال : مالك ؟ قلت : ذكرت القيامة وأهوالها ، فهل يذكر أحد أحدا يومئذ ؟ فقال : أما في ثلاثة مواطن فلا : عند الميزان حتى يعلم أيثقل ميزانه أم يخف ، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أن صحيفته توضع في يمينه أو [ في ] شماله ، وعلى
____________________

( ^ فيها معايش قليلا ما تشكرون ( 10 ) ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة ) * * * * الصراط ' . < < الأعراف : ( 10 ) ولقد مكناكم في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد مكناكم في الأرض ) التمكين هاهنا بمعنى : التمليك ( ^ وجعلنا لكم فيها معايش ) أي : أسباب تعيشون بها ، وقيل : جعلنا لكم ما تصلون به إلى المعاش ( ^ قليلا ما تشكرون ) . < < الأعراف : ( 11 ) ولقد خلقناكم ثم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) قال ابن عباس : خلقناكم في صلب آدم ، ثم صورناكم في أرحام الأمهات ، وقال مجاهد : خلقناكم في ظهر آدم ، ثم صورناكم يوم الميثاق ، حين أخرجهم كالذر ، وقيل : هذا في حق آدم - صلوات الله عليه - يعني : خلقنا أصلكم آدم ، ثم صورناه ؛ فذكر بلفظ الجمع ، والمراد به الواحد ، وقال الأخفش - وهو أحد قولي قطرب - : إن ثم بمعنى الواو ، أي : وصورناكم .
( ^ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) فإن قال قائل : الأمر بسجود الملائكة كان قبل خلق بني آدم ، فما معنى قوله : ( ^ ثم قلنا للملائكة ) عقيب ذكر الخلق والتصوير ؟
والجواب : أما على قول مجاهد ، وقول من صرفه إلى آدم ، يستقيم الكلام .
وأما على قول ابن عباس ، يرد هذا الإشكال ، والجواب عنه من وجوه :
أحدها : أن المراد به : ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة : اسجدوا [ لآدم ] ، وقيل فيه : تقديم وتأخير ، وتقديره : ولقد خلقناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا ، ثم صورناكم ،
____________________

( ^ اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ( 11 ) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( 12 ) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ( 13 ) قال أنظرني إلى يوم يبعثون ) * * * * وقيل ' ثم ' بمعنى ' الواو ' أي : وقلنا للملائكة : اسجدوا ، والواو لا توجب الترتيب ، وهو قول الأخفش ، وأحد قولي قطرب ، ولم يرضوا منهم ذلك ، فإن كلمة ' ثم ' لا ترد بمعنى الواو ، وهي للتعقيب .
( ^ فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) وقد ذكرنا سجود الملائكة في سورة البقرة ، وأن سجودهم كان لآدم . < < الأعراف : ( 12 ) قال ما منعك . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ' لا ' زائدة ، والمراد : ما منعك أن تسجد ؟ وقد سبق نظائره .
( ^ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) فإن قيل : لم يكن هذا منه جوابا عما سئل عنه ؟ قيل : تقديره قال : لم أسجد لأني خير منه ، وقيل : السؤال مقدر فيه ، كأنه قيل له : أنت خير أم هو ؟ فقال : أنا خير منه .
قال محمد بن جرير الطبري : ظن الخبيث ، ورأى أن النار خير من الطين ، ولم يعلم أن الفضل لما جعل الله له الفضل ، وقد فضل الله الطين على النار ، ولأن في طبع النار طيشا ، وخفة ، وإحراقا ، وفي الطين رزانة ، وحلم ، وتواضع ، وأمانة ، فيجوز أن يكون خيرا من النار ، وقد قال ابن عباس : أول من قاس : إبليس ، كما بينا . < < الأعراف : ( 13 ) قال فاهبط منها . . . . . > >
وقوله - تعالى - : ( ^ قال فاهبط منها ) أي : فاخرج منها ، واختلفوا في هذه الكناية ، قيل : أراد به : فاهبط من الجنة ، وقيل : أراد به : من الدرجة التي جعله الله عليها من قبل ، وقيل : أراد به : من الأرض ؛ فإن الله - تعالى - لما طرده ؛ أخرجه من الأرض إلى جزائر البحر ، وكان من قبل له ملك الأرض ، حتى قيل : إنه لا يدخل الأرض إلا خائفا ، سارقا ، على هيئة شيخ عليه أطمار ( ^ فما يكون لك أن تتكبر فيها ) يعني : بترك السجود ( ^ فاخرج إنك من الصاغرين ) أي : الأذلة .
____________________

( ( 14 ) قال إنك من المنظرين ( 15 ) قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( 16 ) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد ) * * * * < < الأعراف : ( 14 ) قال أنظرني إلى . . . . . > >
( ^ قال أنظرني ) أي : أمهلني ( ^ إلى يوم يبعثون ) سأل المهلة إلى القيامة ، < < الأعراف : ( 15 ) قال إنك من . . . . . > > ( ^ قال إنك من المنظرين ) فأنظره الله - تعالى - وهذا الإنظار إلى النفخة الأولى ، كما قال في موضع آخر مقيدا : ( ^ إلى يوم الوقت المعلوم ) وأراد به : النفخة الأولى ، فإن قيل : وهل يجوز أن يجيب الله دعوة الكافر ؛ حيث أجاب دعوة اللعين ؟ قيل : يجوز على طريق الاستدراج والمكر والإملاء لا على سبيل الكرامة . < < الأعراف : ( 16 ) قال فبما أغويتني . . . . . > >
( ^ قال فبما أغويتني ) قال ابن عباس : بما أضللتني ، وقيل : بما خيبتني ، فالإغواء بمعنى : الخيبة ، قال الشاعر :
( فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما )
أي : ومن يخب لا يعدم على الخيبة لائما ، وقيل : معناه : بما دعوتني إلى ما ضللت به ( ^ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) أي : على صراطك المستقيم ، وهو صراط الدين . < < الأعراف : ( 17 ) ثم لآتينهم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم )
روى سفيان الثوري عن منصور عن الحكم بن عتيبة أنه قال : ( ^ لآتينهم من بين أيديهم ) يعني : من قبل الدنيا بأن أزينها في قلوبهم ، فيغتروا بها ( ^ ومن خلفهم ) أي : من قبل الآخرة ، بأن أقول : لا بعث ، ولا جنة ، ولا نار ( ^ وعن أيمانهم ) من قبل الحسنات ( ^ وعن شمائلهم ) من قبل السيئات ، وقال ابن عباس - في رواية الوالبي عنه - : لآتينهم من بين أيديهم يعني : من قبل الآخرة ، ومن خلفهم ( أي ) من قبل الدنيا ، وعن أيمانهم : أشبه عليهم أمر الدنيا ، وعن شمائلهم : أشهى لهم ارتكاب المعاصي ، قال مجاهد : أراد به لآتينهم من كل الجوانب ، قال قتادة : لم يقل الخبيث : من فوقهم ؛ لأن الرحمة تنزل عليهم من فوقهم .
____________________

( ^ أكثرهم شاكرين ( 17 ) قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ( 18 ) ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( 19 ) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ) * * * *
( ^ ولا تجد أكثرهم شاكرين ) أي : مؤمنين فإن قيل : بأيش علم الخبيث أنه لا يجد أكثرهم شاكرين ؟ قيل : قرأ من اللوح المحفوظ ، وقيل : قال ذلك ظنا ؛ فأجاب كما قال الله - تعالى - : ( ^ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ) . < < الأعراف : ( 18 ) قال اخرج منها . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال اخرج منها مذءوما ) وقرأ الأعمش : ' مذموما ' ، والمعروف . مذءوما من الذأم : وهو العيب ، وقيل : معناه مقيتا من المقت .
( ^ مدحورا ) أي : مطرودا ( ^ لمن تبعك منهم لأملان جهنم منكم أجمعين ) اللام فيه للقسم ، يعني : أقسم لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين . < < الأعراف : ( 19 ) ويا آدم اسكن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) وقد بينا هذا ( ^ فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) وقد بينا على قول ابن عباس : أنها كانت شجرة السنبلة ، وقيل : شجرة التين ، وقال علي بن أبي طالب : كانت شجرة الكافور ، وقيل : كانت شجرة تأكل منها الملائكة تسمى : شجرة الخلد . < < الأعراف : ( 20 ) فوسوس لهما الشيطان . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فوسوس لهما الشيطان ) الوسوسة : حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان ، واختلفوا كيف وسوس لهما وهما في الجنة ، وهو في الأرض ؟
فقيل : وسوس لهما من الأرض ؛ لأن الله - تعالى - أعطاه قوة بذلك حتى وسوس لهما بتلك القوة من الأرض إلى الجنة ، وقيل : حين وسوس لهما كان في السماء ؛ فالتقيا على باب الجنة هو وآدم ، فوسوس ، وقيل : إن الحية خبأته في [ أنيابها ] وأدخلته الجنة ، فوسوس من بين [ أنيابها ] ؛ فمسحت الحية ، وأخرجت من الجنة .
( ^ ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما ) اللام فيه لام العاقبة ؛ فإنه لم
____________________

( ^ ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ( 20 ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ( 21 ) فدلاهما بغرور ) * * * * يوسوس لهذا ، لكن عاقبة أمرهم في وسوسته أنه أبدى لهما ما ستر من عورتيهما .
( ^ وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) وهذه كانت وسوسته ؛ وقرأ يحيى بن أبي كثير والضحاك : ' إلا أن تكونا ملكين ' بكسر اللام ، والمعروف : ' ملكين ' بفتح اللام ، قال أبو عمرو بن العلاء : لم يكن في الجنة ملك لغير الله حتى يقول : ملكين من الملك ، وكان فيها الملائكة ، ومعناه : ما نهاكما الله عن أكل هذه الشجرة إلا أنكما إذا اكلتما صرتما ملكين أو تكونا من الخالدين . < < الأعراف : ( 21 ) وقاسمهما إني لكما . . . . . > >
( ^ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) وسوس لهما ، وحلف عليه ، وهو أول من حلف بالله كاذبا ، فكل من حلف بالله كاذبا ؛ فهو من أتباع إبليس ، وفي الحديث :
' إن المؤمن يخدع بالله ' فلما حلف إبليس على ما وسوسه به ؛ ظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله إلا صادقا ؛ من سلامة قلبه ، فاغتر به .
وفيه قول آخر : أن قوله : ( ^ وقاسمهما ) من القسمة ، كأن إبليس قال لهما : كلا من هذه الشجرة ، فما كان من خير فلكما ، وما كان من شر وسوء فعلي .
وقوله : ( ^ إني لكما لمن الناصحين ) يعني : المرشدين ، المريدين للخير .
فإن قال قائل : قوله : ( ^ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ) دليل على أن الملائكة أفضل من الآدميين ، قيل : معناه - والله أعلم - : أنهما رأيا الملائكة في أحسن صورة ، وأرفع منزلة ، وفي تسبيح دائم من غير تعب ولا شهوة ؛ فتمنيا أن يصلا إلى تلك المنزلة لو أكلا من تلك الشجرة ، ويتخلصا من التعب ، ومن شهوة البشرية ، وليس في هذا دليل على أن الملك أفضل من الآدمي . < < الأعراف : ( 22 ) فدلاهما بغرور فلما . . . . . > >
وقوله : ( ^ فدلاهما بغرور ) أي : حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية ، قال
____________________

( ^ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ( 22 ) قالا ) * * * * الشاعر :
( ويوسف إذ دلاه أولاد علة ** فأصبح في قعر البريكة ثاويا )
وأما الغرور : فهو إظهار النصح مع إبطان الغش .
قوله - تعالى - : ( ^ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما ) في هذا دليل على أنهما لم يمتعا في الأكل ، قال ابن عباس : قيل : إن إزدادا ؛ أخذتهما العقوبة ، وكانت عقوبتهما أن تهافت عنهما لباسهما ، وبدت عورتهما .
( ^ وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) قال ثعلب : جعلا يلصقان بعض الورق بالبعض ، ويستران العورة به ، ويقال : خصف النعل ؛ إذا جعل طبقا على طبق ، واختلفوا في ذلك الورق ، قال ابن عباس - وبه قال أكثر المفسرين - : إنه ورق التين والزيتون ، وقيل : كان ورق الموز .
( ^ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) يعني : عن الأكل منها ( ^ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) أي : بين العداوة ، ويحكى عن أبي بن كعب ، ويذكر عن عطاء أيضا ، أنهما قالا : لما بدت سوتهما في الجنة ، هرب آدم في الجنة ؛ فتعلقت شجرة بشعره ، وناداه الرب : أفرارا مني يا آدم ؟ فقال : لا بل حياء منك يا رب . < < الأعراف : ( 23 ) قالا ربنا ظلمنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) اعترف آدم بالذنب ، وسأل المغفرة ، وهذا هو الفرق بين معصيتة ومعصية إبليس ، أن إبليس عصى وأصر على المعصية ، وآدم عصى وتاب عن المعصية ، وأن إبليس كان متعمدا ، وآدم كان ساهيا ، واختلفوا في أن آدم هل عرف عند الأكل أنه معصية ؟ قال بعضهم : عرف ذلك ، لكن الله غفر له ، وتاب عليه ، وقيل : دخل عليه شبهة من وسوسة إبليس ، ولم يكن متعمدا ؛ إذ كان معصوما نبيا . < < الأعراف : ( 24 ) قال اهبطوا بعضكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) فإن قال قائل : ألم يكن
____________________

( ^ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( 23 ) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( 24 ) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ( 25 ) يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم ) * * * * خاطب إبليس بالهبوط من قبل ، فما معنى هذه الإعادة ؟ قيل : إن هذا الثاني خطاب لآدم وحواء والحية ، قاله أبو صالح ، وإبليس خارج من الخطاب ، وقيل : الخطاب للكل ؛ لأنهم وإن اقترفوا في وقت الإخراج والإنزال ، ( لكن ) لما اجتمعوا في الإنزال جمع بينهم في الخطاب ، والأول خاص لإبليس ، والخطاب الثاني عام للكل .
( ^ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) وفي القصص : أن آدم وقع بأرض الهند ، وحواء بجدة ، والحية بميسان ، وإبليس بأيلة ، وقيل : بمداد ، وقيل : وقع إبليس بأرض البصرة ، ثم خرج إلى أرض مصر وباض وفرخ فيه .
وعن ابن عمر أنه قال : لما أخرج الله - تعالى - إبليس إلى الأرض ، قال : يا رب ، أين مسكني ؟ قال : الحمامات ؛ فقال : أين مجلسي ؟ قال : الأسواق ، فقال : وأيش مطعمي ؟ قال : كل طعام لم يذكر عليه اسمي ، فقال : وماذا شرابي ؟ فقال : كل مسكر . قال : وما حبالتي ؟ فقال : النساء ، فقال : وما كتابتي ؟ قال : الوشم ، فقال : ومن رسلي ؟ قال : الكهنة . < < الأعراف : ( 25 ) قال فيها تحيون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ) يعني : الأرض فيها حياتكم وموتكم ، ومنها بعثكم . < < الأعراف : ( 26 ) يا بني آدم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم ) فإن قال قائل : كيف قال : أنزلنا . ولم ينزل اللباس من السماء ؟ قيل : قد أنزل المطر ، وكل نبات من المطر ؛ فكأنه أنزله ، وقيل : معناه : أن كل ما في الأرض فهو من بركات السماء ؛ فيكون كالمنزل من السماء ، وعلى هذا معنى قوله - تعالى - : ( ^ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) وإنما يستخرج من الأرض ، لكن نسبه إلى السماء ، كذا هذا .
____________________

( ^ وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ( 26 ) يا بني آدم لا ) * * * *
وسبب نزول الآية : أنهم في الجاهلية ، كانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون لا نطوف في ( أثواب ) عصينا الله - تعالى - فيها ، وكان الرجال يطوفون عراة بالنهار ، والنساء بالليل ؛ فنزلت الآية في المنع عن ذلك . قال الزهري : كانت العرب يطوفون كذلك عراة إلا الحمس ، وهم قريش وأحلاف قريش ، كانوا يطوفون في ثيابهم ، وسموا حمسا ؛ بشدتهم في دينهم ، ومنه الحماسة لشدتها ، وقال مجاهد : كانت النساء يطفن وعليهن رهاط ، والرهط : قطعة من صوف لا تستتر تمام العورة ، وربما كانت من سيورة ، وقال قتادة : كانت المرأة منهم تطوف تضع يدها على فرجها تستر بها عورتها ، وتقول :
( اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله )
فقوله : ( ^ قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم ) معناه : قد أنزلنا عليكم ما تسترون به عورتكم ؛ فلا تطوفوا بالبيت عراة ، وقوله : ( ^ وريشا ) وقرئ : ' ورياشا ' منهم من فرق بينهما .
قال مجاهد : الريش : المال ، وقال الكسائي : الريش : اللباس .
وأما الرياش : قيل : هو المعاش ، يقال : تريش فلان إذا وجد ما يعيش به ، وقيل : الرياش : أثاث البيت ، وقال أبو عبيدة : الريش والرياش واحد ، وهو ما يبدو من اللباس ، والشعرة وأنشد سيبويه :
( وريشي منكم وهواي فيكم ** وإن كانت زيارتكم لماما )
أي : قليلا ، وقوله : ( ^ ولباس التقوى ) يقرأ بالنصب ، ( يعني ) : وأنزلنا عليكم لباس التقوى ، ويقرأ : ' ولباس التقوى ' بالرفع ، يعني : هو لباس التقوى .
____________________

( ^ يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ) * * * *
قال القتيبي : يعني : الثياب لباس التقوى ؛ فإن من اتقى الله يطوف لابسا لا عاريا ، وفي الحديث : ' إن لباس التقوى هو الحياء ' لأنه يبعث على التقوى ، وهو قول الحسن ،
قال الشاعر :
( إني كأني أرى من لا حياء له ** ولا أمانة وسط الناس عريانا )
قال عكرمة : الحياء والإيمان في قرن واحد ، فإذا ذهب أحدهما ؛ تبعه الآخر ، وقال قتادة : لباس التقوى : هوالإيمان ، وقال عثمان بن عفان : لباس التقوى : هو السمت الحسن ، وقال عروة : هو خشية الله ، وقيل : لباس التقوى ها هنا : لباس الصوف ، والثوب ( الخشن ) الذي يلبسه أهل الورع ، وقيل : هو العمل الصالح .
( ^ ذلك خير ) قيل : ' ذلك ' حيلة وتقديره : ولباس التقوى خير ، وهكذا قرأه الأعمش ، وقيل : ' ذلك ' في موضعه ، ومعناه : ذلك الذي ذكر من اللباس والريش ، وكل ما ذكر خير ( ^ ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) . < < الأعراف : ( 27 ) يا بني آدم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا بني آدم لا يفتنتكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) أي : لا يضلنكم الشيطان ، كما فتن أبويكم فأخرجهما من الجنة .
( ^ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ) هو ما ذكرنا من تهافت اللباس عند أكلها من الشجرة ، وفيه دليل على أنهما ما كانا يريان عورتهما من قبل ؛ حيث قال : ليريهما سوءاتهما واختلفوا في ذلك اللباس الذي كان عليهما ما هو ؟ قال ابن عباس : لباسهما كان من الظفر ؛ كأن الله - تعالى - ألبسهما من جنس ظفرهما ، وقال وهب بن منبه : كان لباسا من النور .
____________________

( ^ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ( 27 ) وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ( 28 ) قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون ( 29 ) فريقا هدى ) * * * *
( ^ إنه يراكم هو وقبيله ) أي : وجنوده ( ^ من حيث لا ترونهم ) يعني : أن الشيطان وجنوده يرونكم ، وأنتم لا ترونهم ( ^ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) يعني : أن الشياطين يوالون الكفار ، وهذا قوله : ( ^ أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ) . < < الأعراف : ( 28 ) وإذا فعلوا فاحشة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا فعلوا فاحشة ) قيل : الفاحشة ها هنا هي طوافهم عراة ، وقيل : هي الشرك ( ! ( قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ! قل ) يا محمد : ( ^ إن الله لا يأمر بالفحشاء ) وهي كل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح ( ^ أتقولون على الله ما لا تعلمون ) . < < الأعراف : ( 29 ) قل أمر ربي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل أمر ربي بالقسط ) أي : بالعدل والصدق ( ^ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن معناه : أقيموا الصلاة في كل مسجد تدرككم فيه الصلاة ، ولا تقولوا نؤخرها إلى مسجدنا ، والثاني معناه : استقبلوا القبلة بوجوهكم في كل صلاة ، والثالث معناه : أخلصوا صلاتكم وعبادتكم لله - تعالى - .
( ^ وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون ) يعني : تعودون فرادى بلا أهل ولا مال ، كما خلقكم فرادى بلا أهل ولا مال ، وهذا معنى قوله - تعالى - : ( ^ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) قال الزجاج : معناه : إن إعادتكم أحياء كخلقكم ابتداء ، كلاهما علي هين ، والصحيح أن المراد به : انه كما خلقكم أشقياء وسعداء ، ومؤمنين وكافرين ، تعودون كذلك ؛ وعليه دل < < الأعراف : ( 30 ) فريقا هدى وفريقا . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ فريقا
____________________

( ^ وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ( 30 ) يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه ) * * * * هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) أي : فريقا هداهم الله ، وفريقا أضلهم الله [ تعالى ] ؛ فوجبت عليهم الضلالة ، وقد صح الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : ' حدثني الصادق المصدوق - يعني رسول الله - : أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراعا ؛ فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ؛ فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، حتى لا يبقى بينه وبين النار إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ؛ فيدخل الجنة ' .
( ^ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) وفي هذا دليل على أن المستبصر بالكفر الذي يحسب أنه على الحق مثل المعاند سواء . < < الأعراف : ( 31 ) يا بني آدم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) هو في الأمر بالطواف والصلاة لابسا ، وفي شواذ التفاسير : أنه المشط ، ولبس النعل ، وقيل : أراد به : السكينة ، والوقار ، وذلك معنى ما روى عن رسول الله أنه قال : ' إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون ، وعليكم بالسكينة والوقار ' .
( ^ وكلوا واشربوا ) قال الفراء : إنما أمرهم بالأكل والشرب ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يتركون أكل اللحم والدسم في وقت الموسم ، كما يتركون اللباس عند الطواف ويقولون : نترك اللحم والدسم لله - تعالى - .
( ^ ولا تسرفوا ) أي : بتحليل ما حرم الله ، وبتحريم ما أحل الله ، وكل مال أنفق
____________________

( ^ لا يحب المسرفين ( 31 ) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ( 32 ) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( 33 ) ) * * * * في معصية الله ؛ فهو سرف ، وأصل الإسراف : هو مجاوزة الحد بغلو أو تقصير ( ^ إنه لا يحب المسرفين ) . < < الأعراف : ( 32 ) قل من حرم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) يعني : اللباس عند الطواف ( ^ والطيبات من الرزق ) يعني : ما حرموا على أنفسهم من أكل اللحم في أيام الموسم ، مع سائر ما حرموا من البحيرة ، والسائبة ونحوها . ( ^ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) قال أكثر المفسرين - وهو قول الضحاك - : فيه حذف ، وتقديره : هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا ، خالصة للمؤمنين يوم القيامة : وقيل : معناه : خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم ، فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم . ( ^ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) . < < الأعراف : ( 33 ) قل إنما حرم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) قال قتادة : هي الزنا سرا وعلنا ، وقال غيره : ما ظهر منها : نكاح المحارم ، وما بطن : الزنا ( ^ والإثم والبغي يغير الحق ) أما الإثم ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : قال الفراء : كل ما دون الحد ، وقيل : هو كل المعاصي ، وقيل : الإثم الخمر ، وقد ورد ذلك في الشعر :
( شربت ( الإثم ) حتى ضل عقلي ** كذاك الإثم يذهب بالعقول )
وأما البغي ، قيل : هو الاستطالة على الناس ، وقيل هو الفساد ، وقال ثعلب : هو أن يقع في الناس بغير الحق ( ^ وأن تشركوا بالله ) وتقديره : وحرم أن تشركوا بالله ( ^ ما لم ينزل به سلطانا ) أي : حجة ( ^ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) لأنهم كانوا
____________________

( ^ ولكل أمة اجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( 34 ) يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم ) * * * * ينسبون كل ما ارتكبوا من الفواحش والإشراك إلى الله - تعالى - ويقولون : نفعله بأمر الله ؛ فهذا قولهم على الله ما لا يعلمون . < < الأعراف : ( 34 ) ولكل أمة أجل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولكل أمة أجل ) يعني : مدة العمر ( ^ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) فإن قيل : لم خص الساعة ، وهم لا يستأخرون دون الساعة ، ولا يستقدمون ؟ قيل : إنما خصها لأنها أقل الأوقات المعلومة . < < الأعراف : ( 35 ) يا بني آدم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ يا بني آدم إما يأتينكم ) فقوله : ' إما ' كلمتان : ' إن ' و ' ما ' فأدغمت إحداهما في الأخرى ، ومعناه : متى يأتكم ، وإن يأتكم ( ^ رسل منكم ) قيل : أراد به رسولنا خاصة ، وقيل : كل الرسل ( ^ يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح ) أي : اتقى الشرك ، وأصلح ما بينه وبين ربه ( ^ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . < < الأعراف : ( 36 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ) وإنما ذكر الاستكبار ؛ لأن كل مكذب وكل كافر مستكبر ، وإنما كذب وكفر تكبرا ، قال الله - تعالى - ( ^ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ) أي : استكبروا عن الإقرار بالوحدانية ( ^ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . < < الأعراف : ( 37 ) فمن أظلم ممن . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ) وقد بينا هذا الافتراء ( ^ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) فيه خمسة أقوال :
أحدها - وهو قول ابن عباس : ينالهم ما قدر لهم من خير وشر .
والثاني : قول مجاهد : ينالهم ما وعدوا من خير وشر .
والثالث : قول سعيد بن جبير : ينالهم ما قضى لهم من الشقاوة والسعادة .
والرابع : قول محمد بن كعب القرظي : أراد به : الأجل والعمل والرزق .
____________________

( ^ يحزنون ( 35 ) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 36 ) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ( 37 ) قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ) * * * *
وفيه قول خامس معروف : ينالهم نصيبهم من العذاب المذكور في الكتاب ؛ فإنه ذكر في الكتاب عذاب الفرق من الكفار مثل : المنافقين واليهود ، والنصارى ، والمشركين .
( ^ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ) يعني : ملك الموت وأعوانه ( ^ يتوفونهم ) أي : يتوفون عدد آجالهم ( ^ قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ) يعني : الرسل يقولون للكفار : أين الذين كنتم تدعون من دون الله من الأصنام ؟ ( ^ قالوا ضلوا عنا ) أي : ذهبوا وفاتوا عنا ( ^ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . < < الأعراف : ( 38 ) قال ادخلوا في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال ادخلوا في أمم ) يعني : مع أمم ، وهو مثل قول امرئ القيس :
( وهل ينعمن من كان أقرب عهده ** ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال )
أي : مع ثلاثة أحوال : وقيل : معناه : ادخلوا بين أمم ( قد خلت ) أي : مضت ( ^ من قبلكم من الجن والإنس في النار ) وفيه دليل على أن الجن يموتون كالإنس ؛ خلافا لقول الحسن ، حيث قال : لا يموتون .
( ^ كلما دخلت أمة لعنت أختها ) قال الفراء : يعني : أختها في الدين لا في النسب ، يعني : يلعن اليهود اليهود ، والنصارى النصارى .
( ^ حتى إذا اداركوا ) أي : تداركوا وتتابعوا واجتمعوا ( ^ فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ) أراد به : أخرى كل أمة ، وأولى كل أمة ، وقيل : أراد به : آخرهم دخولا ، وأولهم دخولا ، وهم القادة مع الأتباع ؛ فإن القادة يدخلون أولا .
____________________

( ^ فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ( 39 ) إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ( 40 ) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين ) * * * *
( ^ ربنا هؤلاء أضلونا ) يعني : القادة أضلونا ( ^ فآتهم عذابا ضعفا من النار ) أي : ضاعف لهم العذاب ( ^ قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) بالتاء فقوله ( ^ ولكن لا تعلمون ) يعني : أيها الناس لا تعلمون ، أما من قرأ بالياء فمعناه : لا يعلم القادة ما للأتباع ولا الأتباع الأتباع ما للقادة . < < الأعراف : ( 39 ) وقالت أولاهم لأخراهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالت أولاهم ) يعني : القادة ( ^ لأخراهم ) يعني : الأتباع ( ^ فما كان لكم علينا من فضل ) قال السدي : معناه : أنكم كفرتم ، كما كفرنا ، وجحدتم كما جحدنا ، فليس لكم علينا من فضل ، وقيل : معناه : ما كان لكم علينا من فضل في تخفيف العذاب ( ^ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) . < < الأعراف : ( 40 ) إن الذين كذبوا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ إن الذين كفروا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ) اعلم أن أبواب السماء تفتح لثلاثة : للأعمال ، والأدعية ، والأرواح ، وفي الخبر . ' أن الملك يصعد بروح المؤمن ، ولها ريح طيبة ؛ فتفتح لها أبواب السماء ، ويصعد بروح الكافر ، ولها ريح منتنة ؛ فتغلق لها أبواب السماء ، ويؤمر بطرحها في السجين فذلك قوله - تعالى - : ( ! ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) ! كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ) ' ومعنى الآية : أنه لا تفتح أبواب السماء لأعمال الكفار وأدعيتهم وأرواحهم .
____________________

( ( 41 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة ) * * * *
وقيل : معناه : لا تفتح لهم أبواب الجنة ، لكن عبر عنها بأبواب السماء ؛ لأن أبواب الجنة في السماء .
( ^ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) وقرأ ابن عباس : ' يلج الجمل ' برفع الجيم وتشديد الميم ، وقرأ سعيد بن جبير : ' حتى يلج الجمل ' برفع الجيم مخففة الميم ، وقرأ ابن سيرين : ' في سم الخياط ' برفع السين ، والمعروف ( ^ حتى يلج الجمل في سم الخياط ) وهو الجمل المعروف ، وسئل ابن مسعود عن هذا الجمل فقال : هو زوج الناقة ، كأنه استحمق السائل حين سأله عما لا يخفى ، ويحكى عن الحسن أنه قال : هو الأشطر الذي عليه جولقان أسودان ، وأما الجمل الذي قرأه ابن مسعود : فهو قلس السفينة ، وأما الجمل بالتخفيف ، قيل : هو أيضا قلس السفينة ، وقيل : هو حبل السفينة ، وأما السم والسم واحد ، وهو ثقبة المخيط ، والمراد بالآية : تأكيد منع دخولهم الجنة ، وذلك سائر في كلام العرب ، وهو مثل قولهم : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، وقال الشاعر :
( إذا شاب الغراب أتيت أهلي ** وصار القار كاللبن الحليب )
والقار والقير : شيء أسود ، يضرب به المثل ، يقال : شيء كالقير والقار في السواد ( ^ وكذلك نجزي المجرمين ) . < < الأعراف : ( 41 ) لهم من جهنم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لهم من جهنم مهاد ) أي : فرش ( ^ ومن فوقهم غواش ) أي : لحف وهذا مثل قوله : ( ^ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) .
قال سيبويه - رحمه الله - : التنوين في قوله ( ^ غواش ) غير أصلي ، وإنما هو بدل عن الياء وأصله : ' غواشي ' ومثله كثير ( ! ( وكذلك نجزي الظالمين ) { < الأعراف : ( 42 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . . > > والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي : طاقتها ( ^ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) .
____________________

( ^ هم فيها خالدون ( 42 ) ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا ) * * * * < < الأعراف : ( 43 ) ونزعنا ما في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ونزعنا ما في صدروهم من غل تجري من تحتهم الأنهار ) . الغل الغش والحقد ، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله - تعالى - : ( ^ ونزعنا ما في صدروهم من غل ) .
وروى مسلم في الصحيح بإسناده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال : ' إذا خلص المؤمنون عن الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص بعضهم من بعض ، حتى إذا نقوا وهذبوا ، أذن لهم في دخول الجنة ؛ فوالذي نفسي بيده ، لأحدهم أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا ' . وفي بعض الأخبار : ' أن على باب الجنة عينا يشرب منها أهل الجنة ويغتسلون ؛ فيذهب الغل والحقد من قلوبهم ، ثم يدخلون الجنة ' .
( ^ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، وفي هذا دليل على القدرية ( ^ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) تلك تأنيث ذلك ، ومعنى الآية : كأنهم إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا : أن تلكم الجنة ، وقيل : هذا النداء يكون في الجنة ، فينادون : هذه الجنة التي أورثتموها ، وفي الخبر : ' أن لكل واحد منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، ثم يرث المؤمن من الكافر منزله في الجنة ، ويرث الكافر من المؤمن منزله في النار ' .
____________________

( ^ بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون ( 43 ) ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل جدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ( 44 ) الذين يصدون عن سبيل الله ) * * * * < < الأعراف : ( 44 ) ونادى أصحاب الجنة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) وهذا قبل التطبيق على جهنم ( ^ قالوا نعم ) وقد بينا أن جواب الاستفهام الذي فيه جحد : ' بلى ' ، وجواب الاستفهام الذي ليس فيه تجحد : ' نعم ' ( ^ فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) . < < الأعراف : ( 45 ) الذين يصدون عن . . . . . > >
( ^ الذين يصدون عن سبيل الله ) أي : يعرضون عن الدين ( ^ ويبغونها عوجا ) أي : يطلبون الدين بالزيغ ، والعوج بمعنى الزيغ ها هنا ( ! ( وهم بالآخرة كافرون ) { < الأعراف : ( 46 ) وبينهما حجاب وعلى . . . . . > > وبينهما حجاب ) وهو حجاب بين الجنة والنار . ( ^ وعلى الأعراف رجال ) قيل : الأعراف : سور بين الجنة والنار ، وذلك قوله : ( ^ فضرب بينهم بسور ) وقيل : هو مكان مرتفع ، والأول أصح ، وعليه الأكثرون .
وأما الرجال الذين على الأعراف ، اختلفوا فيهم ، قال ابن مسعود ، وحذيفة ، وعطاء : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وقال أبو مجلز لاحق بن حميد ، هم قوم من الملائكة في صورة رجال من الإنس ، وحكى مقاتل بن سليمان في تفسيره عن النبي أنه قال : ' هم قوم غزوا بغير إذن آبائهم ، فاستشهدوا ، فبقوا على الأعراف تمنع شهادتهم دخولهم النار ، ويمنع عصيانهم الآباء دخولهم الجنة ' .
____________________

( ^ ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ( 45 ) وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ( 46 ) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( 47 ) ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ) * * * *
وقال الحسن : هم أهل الفضل من المؤمنين ، جعلوا على الأعراف ؛ فيطلعون على أهل الجنة والنار ، يطالعون أحوال الفريقين ( ^ يعرفون كلا بسيماهم ) أي : يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم ، وأهل النار بسواد وجوههم .
( ^ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ) فإذا رأوا أهل الجنة قالوا : سلام عليكم ( ^ لم يدخلوها ) يعني : أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة ( ^ وهم يطمعون ) يعني : في دخول الجنة ، قال الحسن : الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون . وقال حذيفة - رضي الله عنه : لا يخيب الله أطماعهم . < < الأعراف : ( 47 ) وإذا صرفت أبصارهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) يعني : إذا اطلعوا على أهل النار ، وما هم فيه ؛ استعاذوا بالله من النار . < < الأعراف : ( 48 ) ونادى أصحاب الأعراف . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ) قيل : إنهم يرون الكفار ؛ فيعرفونهم ، مثل : الوليد بن المغيرة ، وأبي جهل ، وأبي لهب ، ونحوهم فينادونهم ( ^ قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ) يعني : ما نفعكم اجتماعكم وتظاهركم في الدنيا ( ^ وما كنتم تستكبرون ) . < < الأعراف : ( 49 ) أهؤلاء الذين أقسمتم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ) وذلك حين قالوا
____________________

( ^ وما كنتم تستكبرون ( 48 ) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ( 49 ) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ( 50 ) الذين ) * * * * للكفار ما قالوا ، ثم ينظرون إلى أهل الجنة ؛ فيرون خبابا ، وعمارا ، وبلالا ، وصهيبا ونحوهم ، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار : ( ^ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ) يعني : أهؤلاء الذين حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة ، وقد دخلوا ، يعني : خبابا ، وعمارا ، ونحوهما .
ثم يقول الله - تعالى - : ( ^ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) وفيه قول آخر : أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأولئك الكفار ما قالوا ؛ يقول الكفار لهم : إن دخلوا أولئك الجنة ونحن في النار فأنتم لم تدخلوا الجنة بعد ، فيعيرونهم على ذلك ، ويحلفون أنهم ( لا يدخلون ) الجنة ؛ فيقول الله - تعالى - لأولئك الكفار : ( ^ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ) يقوله لأصحاب الأعراف ؛ فيدخلهم الجنة ( ^ ولا أنتم تحزنون ) . < < الأعراف : ( 50 ) ونادى أصحاب النار . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) في هذا دليل على أنهم كما يعذبون بالنار ؛ فيكون عليهم عذاب الجوع والعطش مع عذاب النار ؛ حتى يسألوا الطعام والشراب .
وفي الخبر ' أن الرجل من أهل النار يرى أخاه أو قرينه في الجنة ؛ فيقول له من النار : يا أخي أغثني بشربة ماء فقد احترقت . فيقول : إن الله حرمه على الكافرين ؛ فذلك قول الله - تعالى - : ( ^ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ) يعني : الطعام والشراب ، وهذا تحريم منع لا تحريم تعبد ، واعلم أن لسقي الماء أجر عظيم ، وفي الخبر عن النبي أنه قال : ' من سقى مؤمنا شربة ماء ؛ بعده الله من جهنم شوط فرس ' .
____________________

( ^ اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ( 51 ) ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 52 ) هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 53 ) إن ربكم الله الذي خلق ) * * * * < < الأعراف : ( 51 ) الذين اتخذوا دينهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ) معناه : أكلا وشربا ، قاله عبد الله بن الحارث ، وقيل : معناه : الذين كانت همتهم الدنيا ، واشتغالهم بها ؛ فهم الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وغرتهم الحياة الدنيا .
( ^ فاليوم ننساهم ) أي : نتركهم ( ^ كما نسوا لقاء يومهم هذا ) أي : كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا ( ^ وما كانوا بآياتنا يجحدون ) . < < الأعراف : ( 52 ) ولقد جئناهم بكتاب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد جئناهم بكتاب ) أي : أتيناهم بالقرآن ( ^ فصلناه ) أي : بينا ما فيه من الحلال والحرام ( ^ على علم ) أي : على علم بما يصلحهم ، وقيل : معناه : على علم بالثواب والعقاب ( ^ هدى ) أي : هاديا ( ^ ورحمة ) أي : ذو رحمة ( ^ لقوم يؤمنون ) . < < الأعراف : ( 53 ) هل ينظرون إلا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ هل ينظرون ) أي : هل ينتظرون ( ^ إلا تأويله ) قال مجاهد : ( معناه ) إلا جزاءه ، وقال قتادة : إلا عاقبته ، وحقيقة المعنى : أنهم هل ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من مصير أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ( ^ يوم يأتي تأويله ) أي : جزاؤه ، وما يؤول إليه أمرهم .
( ^ يقول الذين نسوه ) أي : تركوه من قبل ( ^ قد جاءت رسل ربنا بالحق ) اعترفوا به حين لا ينفعهم الاعتراف ( ^ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد ) يعني : إلى الدنيا ( ^ فنعمل غير الذي كنا نعمل ) ( ^ قد خسروا أنفسهم ) أي : نقصوا حق أنفسهم ( ^ وضل عنهم ) أي : ذهب وفات عنهم ( ^ ما كانوا يفترون ) .
____________________

( ^ السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) * * * * < < الأعراف : ( 54 ) إن ربكم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ) .
قال مجاهد : هي من يوم الأحد إلى الجمعة ، فإن قيل : كيف قال : في ستة أيام ، ولم تكن أيام حين خلق السموات والأرض ؟ قيل : وما يدرينا أنها لم تكن ، بل كانت ؛ فإن الله - تعالى - أخبر ، وقوله وخبره صدق ، وقيل : يجوز أن يكون المراد به على تقدير ستة أيام ، فإن قيل : وما الحكمة في خلقها في ستة أيام ، وكان قادرا على خلقها في طرفة عين ؟ قيل : لأن خلقها على التأني أدل على الحكمة ، فخلقها على التأني ليكون أدل على حكمته ، ولطف تدبيره ، وفيه أيضا تعليم الناس ، وتنبيه العباد على التأني في الأمور ، وفي الخبر ' التأني من الله ، والعجلة من الشيطان ' .
( ^ ثم استوى على العرش ) أول المعتزلة الاستواء بالاستيلاء ، وأنشدوا فيه :
( قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق )
( وأما أهل السنة فيتبرءون من هذا التأويل ، ويقولون : إن الاستواء على العرش صفة لله - تعالى - بلا كيف ، والإيمان به واجب ، كذلك يحكى عن مالك بن أنس ، وغيره من السلف ، أنهم قالوا في هذه الآية : الإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
( ^ يغشى الليل النهار ) أي : يغطي الليل على النهار ، وفيه حذف ، وتقديره : يغشي الليل النهار ، ويغشي النهار الليل ؛ كما قال في آية أخرى : ( ! ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) ! يطلبه حثيثا ) أي : سريعا ، وذلك أنه لما كان
____________________

( ^ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ( 54 ) ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ( 55 ) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين ( 56 ) وهو ) * * * * يعقب أحدهما الآخر ، ويخلفه على أثره فكأنه في طلبه .
( ^ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) أي : مذللات بما أريد منها ( ^ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) أي : تعالى بالوحدانية . < < الأعراف : ( 55 ) ادعوا ربكم تضرعا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) أي : ضارعين متذللين خاشعين ، وخفية أي : سرا ( ^ إنه لا يحب المعتدين ) قال ابن جريج : الجهر بالدعاء عدوان ، وفي الخبر عن النبي أنه قال : ' سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء ' وروى : ' أنه رأى أقواما يصيحون بالدعاء ، فقال لهم : أربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون [ أصما ] ولا غائبا ، وإنما تدعون سميعا قريبا ، وهو معكم ' بالعلم والقدرة وقيل : من الاعتداء في الدعاء : أن يسأل لنفسه درجة ليس من أهلها ؛ بأن يسأل درجة الأنبياء ، وليس بنبي ، ودرجة الشهداء ، وليس بشهيد . < < الأعراف : ( 56 ) ولا تفسدوا في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) أي : بعد إصلاح الأرض بالدين والشريعة ، وقال الضحاك : من الفساد في الأرض تغوير المياه ، وقطع الأشجار المثمرة ، وكسر الدراهم والدنانير .
( ^ وادعوه خوفا وطمعا ) أي : خوفا من الله وطمعا لثوابه ( ^ إن رحمة الله قريب
____________________

( ^ الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاب اثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) * * * * من المحسنين ) فإن قيل : القريب نعت المذكر ، والرحمة مؤنثة ، والله - تعالى - قال : قريب ، ولم يقل : قريبة ؛ قيل : قال الزجاج : الرحمة هاهنا بمعنى العفو والغفران ، وقال الأخفش : هي بمعنى الإنعام ؛ فيكون النعت راجعا إلى المعنى دون اللفظ ، قال الفراء : إذا كان القرب في النسب ؛ فنعت المؤنث منه يكون على التأنيث ، وأما القرب في غير النسب ؛ فالنعت منه يذكر ويؤنث ، وانشدوا فيه :
( عشية لا عفراء منك قريبة ** فتدنو ولا عفراء منك بعيد )
فذكر النعت مرة على التأنيث ، ومرة على التذكير . < < الأعراف : ( 57 ) وهو الذي يرسل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وهو الذي يرسل الرياح بشرا ) يقرأ : ' بشرا ' من البشارة ، ويقرأ : ' نشرا ' وهو جمع النشور ، كالرسول والرسل ، وذلك ريح طيبة ، ويقرأ : ' نشرا ' بجزم الشين ، وهو جمع النشور أيضا كالرسول والرسل والكتاب والكتب .
( ^ بين يدي رحمته ) يعني : المطر ( ^ حتى إذا أقلت ) أي : حملت : ( ^ سحابا ثقالا ) يعني : بالماء ( ^ سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى ، وفي ذلك دليل بين ، وفي بعض الأخبار : ' أن بين النفختين أربعين عاما فيرسل الله - تعالى - مطرا من السماء كمثل منى الرجال ، فيدخل الأرض ؛ فينبت منه الناس ، ثم يحشرون بالنفخة الثانية ' .
____________________

( ( 57 ) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ( 58 ) لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( 59 ) قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ( 60 ) قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ( 61 ) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ( 62 ) أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ( 63 ) ) * * * * < < الأعراف : ( 58 ) والبلد الطيب يخرج . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ) ( ^ والذي خبث ) يعني : الأرض السبخة ( ^ لا يخرج إلا نكدا ) أي : نزرا قليلا ، قال الشاعر :
( فأعط ما أعطيته طيبا ** لا خير في المنكود والناكد )
وهذا مثل ضربه الله - تعالى - للمؤمنين وللكافرين ؛ فإن المؤمن يخرج ما يخرج من نفسه من الإيمان والخيرات سهلا سمحا ، والكافر يخرج ما يخرج من الخيرات نزرا قليلا ( ^ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ) . < < الأعراف : ( 59 ) لقد أرسلنا نوحا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) ذكر في هذه الآية قصة نوح وقومه ، وسيأتي . < < الأعراف : ( 60 - 61 ) قال الملأ من . . . . . > >
( ^ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ، قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ) علم الله - تعالى - الناس بذكر قوله حسن الجواب ، حيث قال : ' ليس بي ضلالة ' ولم يقل : أنتم الضلال ، كما جرت عادتنا . < < الأعراف : ( 62 ) أبلغكم رسالات ربي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ) النصح : هو أن يريد لغيره من الخير مثل ما يريد لنفسه ، ومعناه : أرشدكم أني أريد لنفسي ما أريد لكم ( ^ وأعلم من الله ما لا تعلمون ) . < < الأعراف : ( 63 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ) العجب : هو تغيير النفس عند رؤية أمر خفي عليه باطنه ( ^ ولتتقوا ولعلكم ترحمون < < الأعراف : ( 64 ) فكذبوه فأنجيناه والذين . . . . . > > فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك ) أي : في السفينة .
____________________

( ^ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ( 64 ) وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( 65 ) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ( 66 ) قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ( 67 ) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ( 68 ) أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا ) * * * *
( ^ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ) وستأتي القصة ( ^ إنهم كانوا قوما عمين ) أي : عن الحق . < < الأعراف : ( 65 ) وإلى عاد أخاهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإلى عاد ) أي : وأرسلنا إلى عاد ( ^ أخاهم هودا ) قال الفراء : كان أخاهم في النسب لا في الدين ، وقيل : أراد به : كان آدميا مثلهم ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ) . < < الأعراف : ( 66 ) قال الملأ الذين . . . . . > >
( ^ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ) أي : في حمق وجهالة ( ^ وإنا لنظنك من الكاذبين < < الأعراف : ( 67 ) قال يا قوم . . . . . > > قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ) وهو أيضا من حسن الجواب < < الأعراف : ( 68 ) أبلغكم رسالات ربي . . . . . > > ( ^ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) وقد بينا معنى النصح . < < الأعراف : ( 69 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء ) يعني : في الأرض ( ^ من بعد قوم نوح ) أي : من بعد إهلاكهم .
( وزادكم في الخلق بسطة ) وأراد به : البسطة في الطول ، قال محمد بن إسحاق ابن يسار والسدي : كانت قامة الطويل من قوم عاد مائة ذراع ، وقامة القصير منهم ستين ذراعا ( ^ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) .
____________________

( ^ آلاء الله لعلكم تفلحون ( 69 ) قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( 70 ) قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( 71 ) فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين ( 72 ) وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ( 73 ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء * * * * < < الأعراف : ( 70 ) قالوا أجئتنا لنعبد . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) يعني : من الأصنام ( ^ فأتنا بما تعدنا ) أي : من العذاب ( ^ إن كنت من الصادقين ) . < < الأعراف : ( 71 ) قال قد وقع . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) الرجس والرجز : هو العذاب ، والغضب : السخط ( ^ آأتجادلونني في أسماء ) أي : لأجل أسماء ( ^ سميتموها أنتم وآباؤكم ) أي الأصنام نحتموها وسميتموها أنتم وآباؤكم ( ^ ما أنزل الله بها من سلطان ) أي : برهان ( ! ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) { < الأعراف : ( 72 ) فأنجيناه والذين معه . . . . . > > فأنجيناه والذين معه ) هودا وقومه ( ^ برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين ) أي : قطعنا أصلهم ، واستأصلناهم بالعذاب . < < الأعراف : ( 73 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . . > >
قوله - تعالى - ( ^ وإلى ثمود أخاهم ) أي : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم ( ^ صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية ) سألوه أن يخرج من الصخرة ناقة ، وأشاروا إلى صخرة صماء ملساء ؛ فدعا صالح - عليه السلام - فتمخضت الصخرة كما تتمخض الحبلى ، وأخرجت الناقة ؛ فخرجت ألفت ' سقبا ' من ساعتها ( ^ فذروها تأكل في أرض الله ) قيل : كان لهم واد يشربون منه فجعلوا يوما للناقة ، ويوما لهم ؛ فتشرب الناقة يومها جميع ماء الوادي ، وتبدلهم بذلك لبنا ( ^ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) .
____________________

( من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 74 ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ( 75 ) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ( 76 ) فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ( 77 ) ) * * * * < < الأعراف : ( 74 ) واذكروا إذ جعلكم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض ) أي : أنزلكم ، قال الشاعر :
( فبوئت في صميم معشرها ** فتم في قومها مبوؤها )
( ^ تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ) كانوا في الصيف يسكنون في بيوت من الطين ، وفي الشتاء يسكنون في بيوت نحتوها في الجبل ، وقيل : إنما كانوا ينحتون البيوت في الجبل ؛ لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم ؛ لطول أعمارهم . ( ^ فاذكروا آلاء الله ) أي نعم الله ( ^ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) العيث : أشد الفساد . < < الأعراف : ( 75 ) قال الملأ الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ) يعني : قال الكفار منهم للمؤمنين ( ^ أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ) وهذا استفهام أريد به الجحد ؛ لأنهم كانوا يجحدون إرساله ( ^ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون < < الأعراف : ( 76 - 78 ) قال الذين استكبروا . . . . . > > قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ) العتو الغلو في الباطل ( ^ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ) أي : من العذاب ( ^ إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة ) الرجفة : زلزلة الأرض وحركتها ، وكانوا قد أهلكوا بالصيحة والرجفة ( ^ فأصبحوا في دارهم جاثمين ) أي : خامدين ميتين ، ومنه الرماد الجاثم ، وقيل : جاثمين أي : خارين على ركبهم ووجوههم ، وقيل : إنهم احترقوا بالصاعقة حتى صاروا كالرماد الجاثم .
____________________

( ^ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ( 78 ) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ( 79 ) ولوطا إذ قال لقومه ) * * * * < < الأعراف : ( 79 ) فتولى عنهم وقال . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) فإن قال قائل : كيف خاطبهم وقد هلكوا ؟ قيل : هو كما خاطب الرسول الكفار القتلى يوم بدر حين ألقاهم في القليب ؛ جاء إلى رأس البئر ، وقال : ' يا عتبة ، يا شيبة ، ويا أبا جهل ، قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؛ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فقال عمر : يا رسول الله ، كيف تخاطب قوما قد جيفوا ؟ فقال : ما أنتم بأسمع منهم ؛ ولكنهم لا يقدرون على الإجابة ' وقيل : إنما خاطبهم به ؛ ليكون عبرة لمن خلفهم ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، وتقديرها : فتولى عنهم ، فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وذلك أن الله - تعالى - ما كان ليعذب قوما ونبيهم بينهم .
وروى أبو الزبير عن جابر : ' أن النبي مر بمنازل ثمود في أراضي تبوك ، فقال لأصحابه : يا أيها الناس ، لا تسألوا الله الآيات ؛ فإن هؤلاء سألوا الناقة ؛ فأخرجها الله لهم ؛ فكانت ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعقروها ؛ فأنزل الله عليهم العذاب فلم ينج منهم أحد إلا رجل كان في الحرم ؛ فلما خرج أصابه ما أصابهم من العذاب وكان ذلك الرجل يكنى أبا رغال ' . < < الأعراف : ( 80 ) ولوطا إذ قال . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولوطا إذ قال لقومه ) أي : وأرسلنا لوطا ، واذكر لوطا إذ قال لقومه ( ^ أتأتون الفاحشة ) الفاحشة : الفعلة القبيحة التي هي في غاية القبح ( ^ ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) قال الضحاك عن ابن عباس : إن تلك الفعلة لم
____________________

( ^ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( 80 ) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ( 81 ) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( 82 ) فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ( 83 ) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ( 84 ) وإلى ) * * * * يفعلها أحد قبلهم < < الأعراف : ( 81 ) إنكم لتأتون الرجال . . . . . > > ( ^ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ) فسر تلك الفاحشة ( ^ بل أنتم قوم مسرفون ) أي : مجاوزون حد الأمر . < < الأعراف : ( 82 ) وما كان جواب . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) معناه : يتنزهون عن أدبار الرجال ، قال قتادة : ذموهم من غير ذم ، وعابوهم من غير عيب . < < الأعراف : ( 83 ) فأنجيناه وأهله إلا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) أي : من الباقين في العذاب ؛ يقال : غبر إذا بقى . وأنشدوا :
( ولست يا معد في الرجال ** أسائل هذا وذا ما الخبر )
( ولكني مدده الأصفر بن قيس ** بما قد مضى وما غبر )
وقيل معناه : من الغابرين عن النجاة . < < الأعراف : ( 84 ) وأمطرنا عليهم مطرا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وأمطرنا عليهم مطرا ) في القصة : أن الله - تعالى - أرسل جبريل - صلوات الله عليه - حتى قلع مدينتهم ، وقيل : كانت مدائن قلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها ؛ وبذلك سموا مؤتفكة ؛ لأنهم قلبوا وأفكوا ، وأما الإمطار بالحجارة ، كان على من شذ منهم في الطرق ، وقيل : بعدما قلبهم أمط عليهم بالحجارة ( ^ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) . < < الأعراف : ( 85 ) وإلى مدين أخاهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإلى مدين ) أي : وأرسلنا إلى مدين ، قيل : هو مدين بن إبراهيم الخليل - صلوات الله عليه - وكان أولئك من نسله ، وقيل : ليس بذاك ، وإنما هو اسم قبيلة .
____________________

( ^ مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله من لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ( 85 ) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) * * * *
وقوله : ( ^ أخاهم شعيبا ) أي : في النسب لا في الدين ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ) فإن قال قائل : ما معنى قوله ( ^ قد جاءتكم بينة من ربكم ) ولم تكن لهم آية ؟ قيل : بل كانت لهم آية ، إلا أنها لم تذكر في القرآن ، وليست كل الآيات مذكورة في القرآن ( ^ فأوفوا الكيل والميزان ) وكانوا يعبدون الأصنام ، ويبخسون في الموازين ( ^ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) أي : لا تنقصوهم من حقوقهم .
( ^ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) يعني : إصلاحها ببعث الرسول والأمر بالعدل ( ^ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) يعني : إن آمنتم فذلك خير لكم ، وقيل : معناه : ما كنتم مؤمنين . < < الأعراف : ( 86 ) ولا تقعدوا بكل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) أي : طريق ، قال الشاعر :
( حشونا قومهم بالخيل حتى ** جعلناهم أذل من الصراط )
يعني : من الطريق .
( ^ توعدون وتصدون عن سبيل الله ) قيل : إنهم كانوا يبعثون إلى الطرق من يهدد الناس ، فكان الرجل إذا أراد الإيمان بشعيب وقصده يهددونه ويقولون : إن آمنت بشعيب نقتلك ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ توعدون ) أي : تهددون . والإيعاد : التهديد ، وأما الوعد فيذكر في الخير والشر ؛ إذا ذكر الخير والشر مقرونا به ، فأما إذا أطلق فلا يذكر إلا في الخير ، أما في الشر عند الإطلاق ، يقال : أوعد .
( ^ وتصدون عن سبيل الله من آمن ) أي : تمنعون عن الدين من قصد الإيمان ( ^ وتبغونها عوجا ) أي : تطلبون الاعوجاج في الدين ، والعدول عن القصد ؛ قاله الزجاج ؛ وذكر الأزهري في التقريب : أنه يقال : في الدين عوج ، وفي العود عوج .
____________________

( ^ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ( 86 ) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ( 87 ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين ( 88 ) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما ) * * * *
( ^ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) أي : في العدد ، وقيل معناه : إذ كنتم قليلا أي : بالمال ؛ فكثركم بالغنى ( ^ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) أي : ممن كان قبلكم . < < الأعراف : ( 87 ) وإن كان طائفة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ) وذلك أن بعضهم آمن ، وبعضهم كفر ( ^ فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) . < < الأعراف : ( 88 ) قال الملأ الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) قاله كفار قومه ( ^ قال أو لو كنا كارهين ) يعني : تفعلون هذا ، وإن كنا كارهين < < الأعراف : ( 89 ) قد افترينا على . . . . . > > ( ^ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ) فإن قيل : كيف يصح لفظ العود من شعيب ، ولم يكن على ملتهم قط ؟ قيل معناه : إن صرنا في ملتكم ، وعاد بمعنى صار وكان ، كما قال الشاعر :
( لئن كانت الأيام أحسن مرة ** [ إلي ] فقد عادت لهن ذنوب )
أي : كانت لهن ذنوب .
وقوله : ( ^ بعد إذ نجانا الله منها ) يعني : من الدخول في ملتهم ابتداء ، وقيل المراد به : قوم شعيب ( ^ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ) فإن قيل : وهل يشاء الله عودهم إلى الكفر ؟ قيل : وما المانع منه ؟ وإنما الآية على وفق قول أهل السنة ، وكل ذلك جائز في المشيئة ، ويدل عليه قوله : ( ^ وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) أي : اقض بالحق ، فإن قيل : كيف طلب
____________________

( ^ على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ( 89 ) وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ( 90 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ( 91 ) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ( 92 ) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ( 93 ) وما أرسلنا في قرية من نبي إلا ) * * * * القضاء من الله بالحق ، وهو لا يقضي إلا بالحق ، وقيل : ليس ذلك على طريق طلب القضاء الحق ، وإنما هو على نعت قضائه بالحق ؛ فإن صفة قضائه الحق ، وهو مثل قوله - تعالى - : ( ^ قال رب احكم بالحق ) في سورة الأنبياء ( ^ وأنت خير الفاتحين ) . < < الأعراف : ( 90 ) وقال الملأ الذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا ) يعني : في دينهم ( ^ إنكم إذا لخاسرون < < الأعراف : ( 91 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . . > > فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) وقد بينا هذا في قصة ثمود . < < الأعراف : ( 92 ) الذين كذبوا شعيبا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها ) أي : كأن لم يقيموا فيها ، يقال : غنيت بموضع كذا ، أي أقمت ، والمغاني : المنازل ؛ قاله ثعلب ، وقال الشاعر ، وهو حاتم الطائي :
( عنينا زمانا بالتصعلك والغنى ** وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر )
( فما زادنا بأوا على ذي قرابة ** غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر )
وقال الأخفش : معنى قوله : ( ^ كأن لم يغنوا فيها ) أي : كأن لم يتنعموا فيها ( ^ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين < < الأعراف : ( 93 ) فتولى عنهم وقال . . . . . > > فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى ) أي : أحزن ( ^ على قوم كافرين ) . < < الأعراف : ( 94 ) وما أرسلنا في . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ) .
قال ابن مسعود : البأساء : الفقر ، والضراء : المرض ، وهذا معنى قول من قال :
____________________

( ^ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ( 94 ) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ( 95 ) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ( 96 ) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ) * * * * البأساء في المال ، والضراء في النفس ، وقيل : البأساء : الجوع ، والضراء : الفقر ، وقيل : أخذنا أهلها بالبأساء يعني : بالحروب ( ^ لعلهم يتضرعون ) أي : لكي ( يتضرعوا ) . < < الأعراف : ( 95 ) ثم بدلنا مكان . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) قال مجاهد : السيئة : الشدة ، والحسنة : الخصب ( ^ حتى عفوا ) أي : حتى كثروا ، ومنه قول النبي : ' قصوا الشوارب واعفوا اللحى ' أي : كثروا اللحى ، وقيل : حتى عفوا : حتى سمنوا .
( ^ وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ) أي : هذا كان عادة الدهر قديما لنا ولآبائنا ؛ فلم ينتبهوا لما أصابهم من الشدة ( ^ فأخذناهم بغتة ) أي : فجأة ( ^ وهم لا يشعرون ) . < < الأعراف : ( 96 ) ولو أن أهل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) يعني : من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، وقيل : بركات السماء : إجابة الدعوات ، وبركات الأرض : تسهيل الحاجات ( ^ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . < < الأعراف : ( 97 - 98 ) أفأمن أهل القرى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ) يعني : أن يأتيهم عذابنا ليلا ونهارا
____________________

( ( 97 ) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ( 98 ) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم لخاسرون ( 99 ) أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ( 100 ) تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ( 101 ) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ( 102 ) ثم بعثنا من بعدهم موسى بآيتنا إلى فرعون وملئه ) * * * * ( ^ وهم يلعبون ) وكل من اشتغل بما لا يجزى عليه ؛ فهو لاعب . < < الأعراف : ( 99 ) أفأمنوا مكر الله . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أفأمنوا مكر الله ) أي : عذاب الله ، ومكر الله أخذه فجأة ( ^ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) . < < الأعراف : ( 100 ) أولم يهد للذين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ أو لم يهد للذين يرثون الأرض ) يعني : أو لم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد هلاك قومها ( ^ أن لو نشاء أصبناهم ) يعني : أنا لو نشاء أخذناهم ( ! ( بذنوبهم ) ! ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) أي : نختم على قلوبهم حتى لا يفقهوا ولا يسمعوا . < < الأعراف : ( 101 ) تلك القرى نقص . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ) هذا في قوم مخصوصين ، علم الله أنهم لا يؤمنون ( ^ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) . < < الأعراف : ( 102 ) وما وجدنا لأكثرهم . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) أي : من وفاء بالعهد ، قل السدي : هو العهد يوم الميثاق ، لم يوفوا به ( ^ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) أي : ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ، قيل : أراد بالفسق ها هنا الخروج عما يقتضيه دينهم من الوفاء بالعهد ، وكان هذا من بعضهم دون بعض . < < الأعراف : ( 103 ) ثم بعثنا من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها ) وقد بينا أن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وظلمهم : وضع الكفر موضع
____________________

( ^ فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( 103 ) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ( 104 ) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ( 105 ) قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ( 106 ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ( 107 ) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( 108 ) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ( 109 ) يريد أن ) * * * * الإيمان ( ^ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) . < < الأعراف : ( 104 - 106 ) وقال موسى يا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول ) أي : حقيق بأن لا أقول ، وهكذا قرأ ابن مسعود ، ومعناه : حريص بأن لا أقول على الله إلا الحق ، وقرئ : ' حقيق علي ' أي : واجب على أن لا أقول على الله إلا الحق .
( ^ قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ) وذلك أنه أراد موسى أن يخرج بهم إلى الشام ( ^ قال ) ي - يعني : فرعون - ( ^ إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ) . < < الأعراف : ( 107 ) فألقى عصاه فإذا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فألقى عصاه ) قيل : إن ملكا أعطاه تلك العصا ، وللعصا قصة ، ستأتي في قصة شعيب في سورة القصص إن شاء الله .
( ^ فإذا هي ثعبان مبين ) الثعبان : الحية الذكر ، وفي القصص : أن موسى - صلوات الله عليه - لما ألقى العصا ، صارت ثعبانا عظيما ، ملأ قصر فرعون ، وقيل : كان بين شدقيه ثمانون ذراعا ، وقيل : إنه أخذ قصر فرعون بين نابيه ؛ فهرب منه فرعون وأخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة . < < الأعراف : ( 108 ) ونزع يده فإذا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) قيل : إنه نزع يده من جيبه ، وقيل : من تحت إبطه ( ^ فإذا هي بيضاء ) لها شعاع كالشمس يتلألأ ، وكان موسى آدم اللون . < < الأعراف : ( 109 ) قال الملأ من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ) يعني : موسى
____________________

( ^ يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ( 110 ) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ( 111 ) يأتوك بكل ساحر عليم ( 112 ) وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ( 113 ) قال نعم وإنكم لمن المقربين ( 114 ) قالوا يا موسى إما أن ) * * * * < < الأعراف : ( 110 ) يريد أن يخرجكم . . . . . > > ( ^ يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) أي : بماذا تشيرون ؟ قاله فرعون لقومه ، وقيل : إن هذا من قول الملأ ، قالوا لفرعون وخاصته : ماذا تأمرون وقيل : إنهم قالوا ذلك لفرعون خاصة ؛ لكن ذكروا بلفظ الجمع تفخيما وتعظيما . < < الأعراف : ( 111 ) قالوا أرجه وأخاه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قالوا أرجه وأخاه ) أي : أرجئه ، والإرجاء : التأخير ، يقال : أرجأت أمر كذا ، أي أخرت ، ومنه المرجئة ، سموا بذلك ؛ لتأخيرهم العمل في الإيمان ، فإنهم زعموا أن العمل ليس من الإيمان ، ويقرأ : ' أرجه ' من غير همز ، قيل معناه : التأخير أيضا ، قال المبرد : معناه : اتركه يرجو ، ومعنى الكل واحد ؛ فإنهم أشاروا عليه بتأخير أمره ، وترك التعرض له ، وذكر النقاش في تفسيره : أنهم أشاروا بتأخيره ؛ لأنه لم يكن فيهم ولد عاهر ، إذ لو كان فيهم ولد عاهر لأشاروا بالقتل .
( ^ وأرسل في المدائن حاشرين ) هي مدائن الصعيد ، وهو فوق مصر < < الأعراف : ( 112 ) يأتوك بكل ساحر . . . . . > > ( ^ يأتوك بكل ساحر عليم ) وفي القصة : أن فرعون أرسل أصحاب الشرط إلى تلك المدائن ليجمعوا السحرة ويأتوا بهم . < < الأعراف : ( 113 - 114 ) وجاء السحرة فرعون . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وجاء السحرة فرعون ) وفيه حذف ، يعني : فأرسل ؛ فجاء السحرة ، واختلفوا في عددهم ، قال ابن عباس : كانوا اثني وسبعين رجلا ، وقال كعب الأحبار : كانوا ( اثني ) عشر ألفا ، وقال محمد بن المنكدر : كانوا ثمانين ألفا . والمعروف أنهم كانوا سبعين ألفا .
( ^ قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم ) لكم الأجر ( ^ وإنكم لمن المقربين ) أي : لكم المنزلة الرفيعة مع الأجر .
____________________

( ^ تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ( 115 ) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ( 116 ) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ( 117 ) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ( 118 ) فغلبوا هنالك ) * * * * < < الأعراف : ( 115 ) قالوا يا موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قالوا يا موسى إما أن تلقى ) يعني : العصا ( ^ وإما أن نكون نحن الملقين ) يعني : عصينا < < الأعراف : ( 116 ) قال ألقوا فلما . . . . . > > ( ^ قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس ) أي : صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقتها ؛ فعلوا من التمويه والتخييل ، وهذا هو السحر .
( ^ واسترهبوهم ) أي : السحرة طلبوا رهبة الناس ؛ فرهبوهم ، وقال المبرد : السين فيه زائدة ، ومعناه : أرهبوهم ( ^ وجاءوا بسحر عظيم ) . < < الأعراف : ( 117 ) وأوحينا إلى موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ) ويقرأ : ' تلقف ما يأفكون ' مخففا ، ويقرأ في الشواذ ' تلقم ' وقرأ سعيد بن جبير : ' تلقم ' مخففا ، ومعنى الكل واحد . والتلقف : الأخذ بسرعة ، ومعناه : تتلقم ما يأفكون أي : ما يكذبون من التخاييل الكاذبة ، وفي القصص : أن السحرة كانوا سبعين ألف ، مع كل واحد منهم عصا ، فألقوا عصيهم ؛ فإذا هي تتحرك كالحيات ، ثم ألقى موسى عصاه ؛ فصارت ثعبانا ، وتلقف كل ذلك ، وقصد الناس الذين حضروا ؛ فوقع الزحام عليهم ؛ فهلك خمسة وعشرون ألفا في الزحام ، ثم أخذه موسى ؛ فصارت عصا كما كانت ؛ فذلك قوله ( ^ فإذا هي تلقف ما يأفكون ) قال الشاعر :
( أنت عصا موسى التي لم تزل ** تلقف ما يأفكه الساحر )
وقال آخر :
( إذا جاء موسى وألقى العصا ** فقد بطل السحر والساحر ) < < الأعراف : ( 118 ) فوقع الحق وبطل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ) قال الحسن ، ومجاهد : معناه : ظهر الحق أي : ظهر عصا موسى على عصيهم ، وقيل معناه : ظهرت نبوة موسى على دعوى فرعون الربوبية < < الأعراف : ( 119 ) فغلبوا هنالك وانقلبوا . . . . . > > ( ^ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) أي : ذليلين .
____________________

( ^ وانقلبوا صاغرين ( 119 ) وألقي السحرة ساجدين ( 120 ) ( ^ قالوا آمنا برب العالمين ( 121 ) رب موسى وهارون ( 122 ) قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ( 123 ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين ( 124 ) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ( 125 ) وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ( 126 ) وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال ) * * * * < < الأعراف : ( 120 ) وألقي السحرة ساجدين > >
قوله - تعالى - : ( ^ وألقي السحرة ساجدين ) واختلفوا في سجودهم ، قال بعضهم : ألهمهم الله - تعالى - أن يسجدوا فسجدوا ، وقيل : إن موسى وهارون سجدا شكرا لله - تعالى - فوافقهم السحرة < < الأعراف : ( 121 ) قالوا آمنا برب . . . . . > > ( ^ قالوا آمنا برب العالمين ) قيل : إن فرعون لما سمع ذلك منهم قال : آمنتم بي ؟ فقالوا : < < الأعراف : ( 122 - 123 ) رب موسى وهارون > > ( ^ رب موسى وهارون ) وقال فرعون : ( ^ آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ) قال السدي : كان موسى قد قال لرئيس السحرة : إن غلبتك غدا لتؤمنن بي ؟ فقال : لآتينك بسحر أغلبك ، وإن غلبتني آمنت بك فهذا معنى قول فرعون : ( ^ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ) أي : تدبير دبرتموه في المدينة ( ^ لتخرجوا منها أهلها ) أي : لتغلبوا أهلها ( ! ( فسوف تعلمون ) { < الأعراف : ( 124 ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم . . . . . > > لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين ) هددهم بهذه العقوبات ، وهي معلومة < < الأعراف : ( 125 ) قالوا إنا إلى . . . . . > > ( ^ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ) فهذا قالوه تسلية لقلوبهم . < < الأعراف : ( 126 ) وما تنقم منا . . . . . > >
( ^ وما تنقم منا ) أي : وما تكره منا ، وقيل معناه : وما تعيب علينا ( ! ( إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) ! ربنا أفرغ ) أي : أنزل ( ^ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) . < < الأعراف : ( 127 ) وقال الملأ من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقال الملأ من قوم فرعون ) وإنما سموا ملأ لمعنيين : أحدهما : أنهم كانوا يملئون صدور الناس هيبة ، وقيل : لأنهم كانوا مليئين بما فوض إليهم . ( ^ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ) أرادوا بهذا الفساد : مخالفة أمر فرعون ( ^ ويذرك وآلهتك ) وقرأ ابن عباس : ' وإلاهتك ' أي : عبادتك ، وقيل : الإلاهة :
____________________

( ^ سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ( 127 ) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( 128 ) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم ) * * * * الشمس ، وكان فرعون يعبد الشمس ، قال الشاعر :
( تروحنا من اللعباء عصرا ** فأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا )
أي : أعجلنا الشمس أن ترجع ، والمعروف ( ^ ويذرك وآلهتك ) .
قال سليمان التيمي : وكان فرعون يعبد البقر ، وقال السدي : كان قد اتخذ أصناما ، وقال لقومه : هذه آلهتكم ، وأنا إله الآلهة ، وقال الحسن : كان قد علق على عنقه صليبا - وكان يعبده - فلذلك قالوا : ' ويذرك وآلهتك ' وهذا كان إغراء منهم لفرعون على موسى ( ^ قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ) وكان من قبل يفعل ذلك ثم تركه ، ثم عاد إليه ثانياً فقال : ( ^ سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ) . < < الأعراف : ( 128 ) قال موسى لقومه . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها ) وفي الشواذ : ' يورثها ' ( ^ من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) أي : في النصر والظفر . < < الأعراف : ( 129 ) قالوا أوذينا من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ) فيه أقوال :
قال الحسن : كان الإيذاء بأخذ الجزية ؛ كان فرعون يأخذ الجزية منهم قبل مجيء موسى وبعده ، وقيل : هو من قتل الأبناء ؛ كان يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم قبل مجيء موسى ؛ ثم عاد إليه ، وذكر جويبر في تفسيره : أن المراد به أن فرعون كان يسخرهم ويستعملهم إلى نصف النهار ، فلما جاء موسى استسخرهم كل النهار بلا أجر ولا شيء ، وذكر الكلبي : أنهم كانوا يضربون له اللبن بتبن فرعون قبل مجيء
____________________

( ^ في الأرض فينظر كيف تعملون ( 129 ) ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ( 130 ) فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 131 ) وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ( 132 ) فأرسلنا عليهم ) * * * * موسى ، فلما جاء موسى أجبرهم على أن يضربوه بتبن من عندهم .
( ^ قال عسى ربكم ) وهي كلمة التطميع ( ^ أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) يعني : حتى يجازيكم على ما يرى واقعا منكم لا على ما علم في الغيب منكم . < < الأعراف : ( 130 ) ولقد أخذنا آل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ) أي : بالقحط والجدب .
تقول العرب جاءتنا سنة أي : سنة جدب ، فأخذهم الله - تعالى - بالسنين ( ^ ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ) أي : يتعظون ، وذلك : أن الشدة ترقق القلوب وترغبها إلى الله - تعالى - . < < الأعراف : ( 131 ) فإذا جاءتهم الحسنة . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ فإذا جاءتهم الحسنة ) أي : الخصب ( ^ قالوا لنا هذه ) أي : هذا كان عادة الدهر بنا ( ^ وإن تصبهم سيئة ) أي : جدب ( ^ يطيروا بموسى ومن معه ) أي : يقولون : هذا من شؤم موسى ومن معه ( ^ ألا إنما طائرهم عند الله ) أي : الشؤم والبركة والخير والشر كله من الله - تعالى - وقيل معناه : الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله - تعالى - في الآخرة ، تقول العرب : طار لفلان سعد ، وطار لفلان شؤم ( ^ ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . < < الأعراف : ( 132 ) وقالوا مهما تأتنا . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وقالوا مهما ) أي : متى ما ( ^ تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين < < الأعراف : ( 133 ) فأرسلنا عليهم الطوفان . . . . . > > فأرسلنا عليهم الطوفان ) قال عطاء : أراد بالطوفان : الموت الذريع ، وقيل : السيل العظيم ، وفي القصة : أنهم مطروا من السبت إلى السبت ، حتى بلغ الماء تراقيهم ، فكان الرجل إذا أراد أن يجلس غرق في الماء ؛ فاستغاثوا بموسى وقالوا : ادع الله حتى يمسك ونؤمن لك ؛ فدعا الله - تعالى - فأمسك عنهم المطر ، فأخرجت
____________________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق