Translate

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

ج3.تفسير القرآن أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ

 

3 تفسير القرآن
أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني
سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ

الأرض تلك السنة نباتا كثيرا وأخصبت ، فقالوا : هذا كان خيرا لنا ، فلم يؤمنوا وكفروا به ؛ فأرسل الله عليهم الجراد ؛ فأكل زرعهم ونباتهم إلا قليلا ؛ فاستغاثوا بموسى حتى يدعو الله - تعالى - فيدفع عنهم ذلك .
وفي أخبار عمر - رضي الله عنه - : أنه قل الجراد في زمانه سنة ، فبعث راكبا قبل اليمن وراكبا قبل الشام وراكبا قبل العراق ؛ ليطلبوا الجراد ؛ فجاء راكب اليمن بكف من جراد ، فقال عمر - رضي الله عنه - الله أكبر ، إن لله - تعالى - ألف أمة : ستمائة في البر ، وأربعمائة في البحر ، وأول أمة تهلك الجراد ، ثم تتبعهم سائر الأمم الباقيين ' .
وفي الأخبار : أن مريم سألت [ ربها ] ، وقالت : يا رب أطعمني لحما بلا دم ؛ فأطعمها الجراد . وفي الخبر ' مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم ' .
رجعنا إلى القصة ، فلما رفع عنهم الجراد لم يؤمنوا أيضا ؛ فأرسل الله عليهم القمل ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : القمل صغار الجراد ، وهي : الدبي التي ليست لها أجنحة ، وعن ابن عباس - في رواية أخرى - أن القمل : سوس الحنطة . وقال أبو عبيدة : هو كبار القراد ، وسمى القراد الكبير : حمنان أيضا ، وقيل : القمل هو القمل ، وقيل : هو الرعاف . فاستغاثوا بموسى ، فدعا الله فرفع عنهم فلم يؤمنوا ؛ فسلط عليهم الضفادع .
وفي القصة : أن موسى جاء إلى شط البحر وأشار بعصاه إلى أدنى البحر وأقصاه ، فخرجت الضفادع حتى امتلأت بيوتهم - وكانت قوافز - وكان الرجل منهم إذا فتح فاه ليتكلم تثب في فيه ، وكل من نام منهم فإذا انتبه من النوم يرى على بدنه منها قدر ذراع ، وكان إذا تكلم الرجل تقفز في فمه ، ثم رفع عنهم فلم يؤمنوا ؛ فجعل الله نيل مصر عليهم دما - وكان كل ذلك للقبط خاصة - وكان القبطي يأخذ من النيل الدم ، وبنو إسرائيل يأخذون الماء ، حتى كان الكوز الواحد يشرب القبطي منه دما عبيطا ،
____________________

( ^ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( 133 ) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ( 134 ) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ( 135 ) فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ( 136 ) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما ) * * * * والإسرائيلي ماء ؛ فذلك معنى قوله : ( ^ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ) وتفصيلها أن كل عذاب منها يمتد أسبوعا ، وكان بين كل عذابين شهر ( ^ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) . < < الأعراف : ( 134 ) ولما وقع عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما وقع عليهم الرجز ) قيل : أراد به ما سبق من العذاب ، وقيل : هو عذاب الطاعون ، قال سعيد بن جبير : مات منهم بالطاعون سبعون ألفا في يوم واحد ، والرجز الرجس : العذاب .
( ^ قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ) يعني : من إجابة دعوتك ( ^ لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) فإنه أراد أن يخرج بهم إلى الشام < < الأعراف : ( 135 ) فلما كشفنا عنهم . . . . . > > ( ^ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه ) وذلك الغرق في اليم ( ^ إذا هم ينكثون ) أي : ينقضون العهد < < الأعراف : ( 136 ) فانتقمنا منهم فأغرقناهم . . . . . > > ( ^ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) وللغرق قصة ستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى < < الأعراف : ( 137 ) وأورثنا القوم الذين . . . . . > > ( ^ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) قيل أراد بها أرض مصر والشام ، وقيل : أراد بها الشام وحده ، وقيل : أراد به الأردن وفلسطين ، وقوله ( ^ باركنا فيها ) أي : بالخصب والسعة .
( ^ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) وتلك الكلمة : وعده الذي وعدهم ، وذلك في قوله : ( ^ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) فلما أورثهم تلك الأراضي وانجزهم ذلك
____________________

( ^ صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ( 137 ) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ( 138 ) إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ( 139 ) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ( 140 ) وإذ أنجيناكم من آل ) * * * * الوعد ؛ قال : تمت كلمة ربك ، أي : تم وعده لهم ، وإنما سماها : حسنى لأنها كانت على وفق ما يحبون ( ^ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ) أي : أهلكنا ذلك عليهم ( ^ وما كانوا يعرشون ) ( أي يبنون ويسقفون تجبرا وتكبرا . < < الأعراف : ( 138 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ) أي : يلازمون عبادة تلك الأصنام ، وهم قوم من العمالقة رآهم بنو إسرائيل عاكفين على أصنام لهم ( ^ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) ولم يكن ذلك من بني إسرائيل شكا في وحدانية الله - تعالى - وإنما معناه : اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله - تعالى - وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة ، وكان ذلك من شدة جهلهم .
( ^ قال إنكم قوم تجهلون < < الأعراف : ( 139 ) إن هؤلاء متبر . . . . . > > إن هؤلاء متبر ما هم فيه ) أي : مدمر ما هم فيه ( ! ( وباطل ما كانوا يعملون ) { < الأعراف : ( 140 ) قال أغير الله . . . . . > > قال ) يعني : موسى ( ^ أغير الله أبغيكم إلها ) أي : أطلب لكم إلها تعظمونه غير الله ( ^ وهو فضلكم على العالمين ) وفي الخبر المعروف : ' أن رسول الله لما رجع من حنين مر على شجرة يقال لها : ذات أنواط ، وقد عكف حولها قوم من الأعراب يعظمونها ، وقد علقوا عليها أسلحتهم ، فقال أصحابه : يا رسول الله ، لو جعلت لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : عليه - الصلاة والسلام - الله أكبر ، هذا مثل ما قال قوم موسى لموسى : ( ^ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) .
____________________

( ^ فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( 141 ) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) * * * * < < الأعراف : ( 141 ) وإذ أنجيناكم من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ) أي : يذيقونكم شر العذاب ، وقد ذكرنا معنى هذا في سورة البقرة .
( ^ يقتلون أبناءكم ) يعني : صغار أبناءكم ( ^ ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) قيل معناه : في تعذيبهم إياكم بلاء من ربكم عظيم ، وقيل : في إنجائنا إياكم ( ^ بلاء من ربكم عظيم ) أي : نعمة . < < الأعراف : ( 142 ) وواعدنا موسى ثلاثين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتتمناها بعشر ) قال المفسرون : هي أيام ذي القعدة وعشر من ذي الحجة ( ^ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) فإن قيل : ذكر الثلاثين والعشر يغني عن ذكر الأربعين ، فما معنى هذا التكرار ؟ قيل : كرره تأكيداً ، وقيل : فائدة قوله : ( ^ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) قطع الأوهام عن الزيادة ؛ لأنه لما وقت الثلاثين أولا ، ثم زاد عليه عشرا ، ربما يقع في الأوهام زيادة أخرى ، فذكره لقطع الأوهام عن الزيادة ، وذكر الثلاثين في الابتداء والعشر مفصلا : ليعلم أن الميقات كان كذلك مفصلا ثلاثين ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة .
وفي القصة : أن الله تعالى أمر موسى أن يصوم ثلاثين يوما ثم يأتي الطور يكلمه ؛ فصام ثلاثين يوما ليلا ونهارا .
وفي بعض التفاسير : صام ثلاثين يوما فتغيرت رائحة فمه ، فأخذ ورق الخرنوب وتناوله ؛ لتزول رائحة فمه ، فأمره الله تعالى أن يصوم عشرا أخر ؛ لتعود الرائحة ، وتمام القصة في الآية الثانية .
( ^ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ) استخلفه على قومه ( ^ وأصلح ) أي : ارفق ( ^ ولا تتبع سبيل المفسدين ) أي : لا تتبع آراءهم وأهواءهم .
____________________

( ( 142 ) ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر ) * * * * < < الأعراف : ( 143 ) ولما جاء موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولما جاء موسى لميقاتنا ) يعني الوقت الذي وقت له على ما بينا ( ^ كلمه ربه ) وفي القصة : أن الله - تعالى - لما استحضره بجانب الطور [ و ] أنزل ظلمة على سبعة فراسخ ، وطرد عنه الشيطان ، ونحى عنه الملكين ، وكلمه حتى أسمعه وأفهمه . وفي القصة : كان جبريل معه فلم يسمع ما كلمه ربه .
( ^ قال رب أرني أنظر إليك ) قال الزجاج : فيه حذف ، وتقديره أرني نفسك أنظر إليك . فإن قال قائل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله عز وجل لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق ؛ فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظنا منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا .
( ^ قال لن تراني ) يستدل من ينفي الرؤية بهذه الكلمة ، وليس لهم فيها مستدل ؛ وذلك لأنه لم يقل : إني لا أرى ؛ متى يكون حجة لهم ؛ ولأنه لم ينسبه إلى الجهل في سؤال الرؤية ، كما نسب إليه قومه بقولهم : ' اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ' لما لم يجز ذلك ، وأما معنى قوله ( ^ لن تراني ) يعني : في الحال أو في الدنيا .
( ^ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) معناه : اجعل الجبل بيني وبينك ؛ فإنه أقوى منك ، فإن استقر مكانه فسوف تراني ؛ وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يرى ؛ لأنه لم يعلق الرؤية بما يستحيل وجوده ؛ لأن استقرار الجبل مع تجليه له غير مستحيل ، بأن يجعل له قوة الاستقرار مع التجلي .
( ^ فلما تجلى ربه للجبل ) أن ظهر للجبل : قيل : إنه جعل للجبل بصرا وخلق فيه حياة ، ثم تجلى له فتذكرك على نفسه . وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن النبي أنه قال : ' إن الله - تعالى - تجلى للجبل بقدر أنملة الخنصر ، ثم وضع ثابت إبهامه على أنملة خنصره ، فقيل له : أتقول بهذا ؟ فقال : يقول به أنس ورسول الله ، ولا
____________________

( ^ موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ( 143 ) قال يا موسى ) * * * * أقول به أنا ! : وضرب في صدر القائل ' وفي بعض الروايات ' أنه تجلى للجبل بقدر جناح بعوضة أو أقل ' .
( ^ جعله دكا ) قال ابن عباس : صار ترابا . وقال الحسن وسفيان : ساخ في الأرض ، وفي بعض التفاسير : أنه صار ستة أجبل : ثلاثة بمكة : وذلك ثور وثبير وحراء ، وثلاثة بالمدينة : رضوى وأحد وورقان ، وقيل : انقلع الجبل من أصله ، ووقع في البحر ، فهو يذهب فيه إلى يوم القيامة .
وأما من حيث اللغة : قال الزجاج : معنى قوله : ( ^ جعله دكا ) أي : مدكوكا مدقوقا ، وقرأ حمزة والكسائي : ' جعله دكاء ' ممدودا ، يقال : أرض دكاء إذا كان فيها ناتئ ومواضع مرتفعة كالقلال ، والدكاوات : الرواسي من الأرض ، ومعناه : أنه جعله كالأرض المرتفعة ، وخرج من كونه جبلا .
وقوله : ( ^ وخر موسى صعقا ) قال قتادة : أي ميتا ، وكان قد مات تلك الساعة . وقال الحسن وابن عباس : خر مغشيا عليه . وهذا أليق بالنظم ؛ لأنه قال ( ^ فلما أفاق قال سبحانك ) وهذا التنزيه . ( ^ تبت إليك ) يعني : من سؤال الرؤية قبل الإذن ( ^ وأنا أول المؤمنين ) يعني أنا أول المؤمنين بأن من يراك متجليا في الدنيا لا يستقر مكانه ، وقيل معناه : أنا أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا .
____________________

( ^ إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ( 144 ) وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتصفيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك ) * * * * < < الأعراف : ( 144 ) قال يا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) فإن قال قائل : قد أعطى غيره الرسالات ، فما معنى قوله : ( ^ اصفيتك على الناس برسالاتي ) ؟ قيل : لما لم يكن إعطاء الرسالة على العموم في حق الناس ، استقام قوله : ( ^ اصطفيتك على الناس برسالاتي ) وإن شاركه فيها غيره ، وهذا مثل قول الرجل : خصصتك بمشورتي ، وإن شاور غيره ، لكن لما تكن المشاورة على العموم ؛ استقام الكلام . ( ^ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) لما أنعمت عليك من إعطاء الرسالة والكلام ، وهذه الآية في تسلية موسى - صلوات الله عليه - حيث سأل الرؤية فلم يحظ بها . < < الأعراف : ( 145 ) وكتبنا له في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكتبنا له في الألواح ) وأراد به التوراة ، وفي الخبر : ' أن الله - تعالى - خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ' .
واختلفوا في تلك الألواح ، قال الحسن : كانت الألواح من خشب ، وقال مجاهد : كانت من زبرجد أخضر ، وقال سعيد بن جبير : كانت من ياقوتة حمراء ، وقال أبو العالية : كانت من برد . وقيل : نزلت الألواح والتوراة مكتوبة عليها كنقش الخاتم .
( ^ من كل شي موعظة ) أي : تذكرة ، وحقيقة الموعظة : هي التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته . ( ^ وتفصيلا لكل شيء ) أي : بيانا للحلال والحرام وما أمروا به ، وما نهو عنه ( ^ فخذها بقوة ) أي : بجد واجتهاد ، وقيل معناه : بقوة القلب .
( ^ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) قال قطرب : أي : بحسنها . واعلم أن الأحسن ما
____________________

( ^ يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين ( 145 ) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ( 146 ) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا ) * * * * كان فيه من الفرائض المكتوبة والنوافل المندوب إليها فإنها الأحسن ، وأما الحسن : ما كان مباحا ، وقيل : معنى قوله : ( ^ يأخذوا بأحسنها ) أي : بأحسن الأمرين في كل شيء ، كالعفو أحسن من الاقتصاص ، والصبر أحسن من الانتصار ( ^ سأريكم دار الفاسقين ) وقرأ قسامة بن زهير : ' سأورثكم ' من التوريث ، فعلى هذا معناه : سأورثكم أرض مصر ، وأما القراءة المعروفة ' سأريكم ' قال مجاهد وجماعة : سأريكم جهنم ، وقيل : أراد به مصارع الكفار . قال قتادة : دار الفاسقين أراد بها الشام ؛ على معنى : أريكم فيها ما أهلكت من قرى الكفار قبلكم ؛ لأن موسى خرج بهم إلى الشام . < < الأعراف : ( 146 ) سأصرف عن آياتي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) قال سفيان بن عيينة معناه : سأمنعهم فهم القرآن ، قال الزجاج تقديره : سأصرفهم عن قبول آياتي ، وأما التكبر : هو طلب الفضل من غير استحقاق .
( ^ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ) وقرأ أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ : ' سبيل الرشاد ' المعدوف : ' سبيل الرشد ' ويقرأ أيضا : ' سبيل الرشد ' والرشد والرشد واحد ، وهو الصلاح .
( ^ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ) يعني : سبيل الضلالة ( ^ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) لأنهم لما لم يتدبروا القرآن فكأنهم عنه غافلين < < الأعراف : ( 147 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > > ( ^ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ) أي : بطلت أعمالهم ( ^ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) . < < الأعراف : ( 148 ) واتخذ قوم موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم ) ويقرأ : ' من حليهم '
____________________

( ^ يعملون ( 147 ) ) واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ( 148 ) ولما سقط في يديهم ) * * * * ( ^ عجلا جسدا له خوار ) أي : جسد له خوار ، ويقرأ في الشواذ : ' له جؤار ' وهو بمعنى الخوار ، وفي القصة : أن موسى - صلوات الله عليه - لما أراد الخروج إلى الطور قال لقومه : أرجع إليكم بعد ثلاثين يوما ، فلما لم يرجع إليهم بعد الثلاثين ظنوا أنه مات ، كان السامري في بني إسرائيل مطاعا بينهم ، وكان صائغا ، فقال لهم : اجمعوا لي ما أخذتم من الحلي من آل فرعون أصنع لكم شيئا ، فدفعوا إليه ما أخذوا من الحلي فصاغ منه العجل ، قال الحسن : كان السامري قد رأى جبريل يوم غرق فرعون على فرس ، فأخذ قبضة من أثر قدم فرسه .
قال عكرمة : ألقي في روعه أنه في أي شيء ألقى تلك القبضة من التراب يحيا بها ذلك الشيء ، وذلك أنه رأى مواضع قدم الفرس تحضر في الحال وتنبت ، فلما صاغ العجل ألقي في روعه أن يلقي تلك القبضة في فمه فألقاها في فم العجل فحيي ، فصار لحما ودما من ذهب ، وله خوار فإنه خار ، ثم قال السامري : ( ^ هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) على ما سيأتي في قصته في سورة طه ، وقيل : إنه ما خار إلا مرة ، وقيل كان يخور كثيرا ، كما تخور البقرة ، وكان كلما خار سجدوا له ، وكلما سكت رفعوا رءوسهم .
وقال بعض المفسرين : لم تنبت فيه حياة أصلا ، ولم يكن له خوار حقيقة ، وإنما الذي سمعوا من الخوار كان بحيلة ، والصحيح هو الأول . ثم اختلفوا في عدد الذين عبدوا العجل ، قال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون وحده ، وقيل : - وهو الأصح - : عبده كلهم إلا هارون واثنا عشر ألف رجل منهم .
( ^ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) وهذا دليل على أن الله متكلم لم يزل ولا يزال ؛ لأنه استدل بعدم الكلام من العجل على نفي الإلهية .
____________________

( ^ ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ( 149 ) ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني ) * * * *
( ^ ولا يهديهم سبيلا ) أي : طريقا ( ^ اتخذوه وكانوا ظالمين ) بوضع الإلهية في غير موضعها . < < الأعراف : ( 149 ) ولما سقط في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ) قال الفراء : تقول العرب : سقط فلان في يده إذا بقي نادما متحيرا على ما فاته ، كأنه حصل الندم في يده ( ^ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) . < < الأعراف : ( 150 ) ولما رجع موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) قال أبو الدرداء : الأسف : شديد الغضب ، وقيل : الأسف : أشد الحزن ، وكأن موسى رجع نادما حزينا يقول : ليتني كنت فيهم فلم يقع لهم ما وقع .
( ^ قال بئسما خلفتموني من بعدي ) أي : ( بئسما فعلتم خلفي ) ( ^ أعجلتم أمر ربكم ) معناه : أسبقتم أمرربكم ، يعني : بفعلكم الذي فعلتم من غير أمر ربكم ، وقيل معناه : استعجلتم وعد ربكم .
( ^ وألقى الألواح ) وكان حاملا لها ، فألقاها على الأرض من شدة الغضب ، وفي التفسير : أنه لما ألقاها رجع بعضها إلى السماء وبقي منها لوحان ، فرجع ما كان فيه أخبار الغيب ، وبقي ما كان فيه الموعظة والأحكام من الحلال والحرام ، وقيل : لما ألقى الألواح انكسر بعضها ، فشدها موسى بالذهب ( ^ وأخذ برأس أخيه ) يعني : هارون ، وفيه حذف ، وتقديره : وأخذ بشعر رأس أخيه ( ^ يجره إليه قال ابن أم ) يعني هارون قال لموسى : ابن ام ، ويقرأ بكسر الميم ونصبها ، فأما بكسر الميم معناه يا ابن أمي ، قال الشاعر :
____________________

( ^ وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم لظالمين ( 150 ) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ( 151 ) إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ( 152 ) ) * * * *
( يا ابن امي ويا شقيق نفسي ** أنت خلفتني لأمر كؤود )
واما بنصب الميم ، فوجه النصب فيه أن قوله : ' ابن ام ' كلمتان ، لكنهما ككلمة واحدة ، مثل قولهم : ' حضرموت ' و ' بعلبك ' ركب أحد الاسمين في الآخر ، فبقي على النصب تبيينا .
( ^ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) وفي القصة : أن هارون كان لما مضى ميقات الثلاثين يقوم بينهم خطيبا ، فيخطب كل يوم ويبكي ، ويقول : أنشدكم بالله لا تعبدوا العجل ، فإن موسى راجع غدا - إن شاء الله - فهكذا كان يفعل ثلاثة أيام ، فلما لم يرجع بعد الثلاث قالوا : إنه قد مات ، فخلوه ، وأقبلوا على عبادة العجل ، فهذا معنى قوله : ( ^ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ) والشماتة فعل ما يسر به العدو ( ^ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) أي : لا تجعلني مع الكافرين ومن جملتهم . < < الأعراف : ( 151 ) قال رب اغفر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب اغفر لي ولأخي ) يعني ما فعلت بأخي من أخذ شعره ، وجره ، وكان بريئا ، قوله : ( ^ ولأخي ) يعين : ما وقع له من تقصيره إن قصر ( ^ وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) . < < الأعراف : ( 152 ) إن الذين اتخذوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين اتخذوا العجل ) فيه حذف ، وتقديره : اتخذوا العجل إلها ( ^ سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ) قيل : أراد بالذلة الجزية ، وقيل : أراد قيل بعضهم بعضا مع علمهم أنهم قد ضلوا ( ^ وكذلك نجزي المفترين ) أي : كل مفتر على الله ، ومن القول المعروف في الآية عن سفيان بن عيينة أنه قال : هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة .
____________________

( ^ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 153 ) ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ( 154 ) واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ) * * * * < < الأعراف : ( 153 ) والذين عملوا السيئات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها ) أي : من بعد التوبة ( ^ لغفور رحيم ) . < < الأعراف : ( 154 ) ولما سكت عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما سكت عن موسى الغضب ) وقرأ معاوية بن قرة : ' ولما سكن عن موسى الغضب ' وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب : ' ولما سير عن موسى الغضب ' وفي مصحف حفصة : ' وإنما أسكت عن موسى الغضب ' ومعنى الكل واحد أي : سكن عن موسى الغضب . والسكوت والإسكات معروف ، ويقال : رجل سكيت إذا كان كثير السكوت .
( ^ أخذ الألواح ) وذلك أنه كان ألقاها فأخذها ( ^ وفي نسختها ) اختلفوا فيه ، قال بعضهم : أراد بها الألواح ؛ وذلك أن لها أصل نسخت منه ، وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : إن موسى لما ألقى الألواح انكسرت ، فنسخ منها نسخة أخرى ، فذلك المراد به من قوله : ( ^ وفي نسختها هدى ورحمة ) أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب ( ^ للذين هم لربهم يرهبون ) . < < الأعراف : ( 155 ) واختار موسى قومه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واختار موسى قومه ) فيه حذف ، أي : من قومه ( ^ سبعين رجلا لميقاتنا ) وفي هذا دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل - وهو الأصح - واختلفوا أنه لأي شيء اختارهم ؟ قال بعضهم : إنما اختارهم ليعتذروا إلى الله من عبادة أولئك الذين عبدوا العجل ، وقيل : إنما اختارهم ليسمعوا كلام الله ؛ فإنهم سألوا ذلك موسى ( ^ فلما أخذتهم الرجفة ) قال مجاهد : رجفت بهم الأرض ؛ فماتوا ، وقيل : وقعت رعدة وزلزلة في أعضائهم ، حتى كاد ينفصل بعضها من بعض ، وقيل : إنما أهلكهم عقوبة على ما سألوا من رؤية الله جهرة .
____________________

( ^ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ( 155 ) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من ) * * * *
( قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) وذلك أن موسى ظن أن الله - تعالى - إنما أهلكهم بعبادة أولئك القوم العجل ، وخاف أن بني إسرائيل يتهمونه ، ويقولون : إن موسى قتلهم ؛ قال : ( ^ رب لو شئت أهلكتهم من قبل ) يعني : عندعبادة العجل قبل أن آتي بهم ( ^ وإياي ) بقتل القبطي الذي كان موسى قتله ، وقيل : أراد به المشيئة الأزلية ، كأنه فوض إهلاكهم إلى مشيئته ، أي : لو شئت في الأزل أهلكتهم وإياي ومن في العالم ، فلا اعتراض لأحد عليك .
( ^ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) اختلفوا فيه أنه كيف قال : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، وكان يعلم أن الله - تعالى - لا يهلك أحداً بذنب غيره ؟ فقال بعضهم : هذا استفهام بمعنى الجحد ، وهو قول ابن الأنباري أي : لا تهلكنا بفعل السفهاء ، وهذا مثل قول الرجل لصاحبه : أتجهل علي وأنا أحلم ؟ ! أي : لا أحلم ، ويقال في المثل : أغدة كغدة البعير ؟ وموت في بيت السلولية ؟ أي : لا يكون هذا قط ، وقال الشاعر :
( أتنسى حين تصقل عارضيها ** بعود بشامة سقي البشام )
أي : لا تنسى ، وقيل : هو استفهام بمعنى الإثبات ، والمراد منه السؤال ، كأنه يسأله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ .
( ^ إن هي إلا فتنتك ) أي : بليتك ( ^ تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) . < < الأعراف : ( 156 ) واكتب لنا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واكتب لنا ) أي : أوجب لنا ( ^ في هذه الدنيا حسنة ) وهي
____________________

( ^ أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( 156 ) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في ) * * * * النعمة والعافية ( ^ وفي الآخرة ) أي : وفي الآخرة حسنة ، فحذف .
( ^ إنا هدنا إليك ) أي : تبنا إليك ، وقرأ أبو وجزة السعدي : ' هدنا إليك ' بكسر الهاء ، أي : ملنا إليك ( ^ قال عذابي أصيب به من أشاء ) وهذا على وفق قول أهل السنة ؛ فإن لله - تعالى - أن يصيب بعذابه من يشاء من عباده أذنب أو لم يذنب ، وصحف بعض القدرية ، فقرأ : ' عذابي أصيب به من أساء ' من الإساءة ، وليس بشيء .
( ^ ورحمتي وسعت كل شيء ) قال الحسن وقتادة : وسعت رحمته البر والفاجر في الدنيا ، وهي للمتقين يوم القيامة ، وفي الآثار : الرحمة مسجلة للبر والفاجر في الدنيا .
( ^ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون < < الأعراف : ( 157 ) الذين يتبعون الرسول . . . . . > > الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) وهذه فضيلة عظيمة لهذه الأمة ، وذلك أن موسى - صلوات الله عليه - سأل أن يكتب الرحمة له ولأمته ، فكتبها لأمة محمد وفي الأخبار : ' أن موسى - صلوات الله عليه - قال : يا رب ، إني أجد في التوراة أمة يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله ، فاجعلهم من أمتي ، قال الله - تعالى - : تلك أمة أحمد . فقال : يا رب إني أجد في التوراة أمة صدقاتهم في بطونهم - يعني : يأكلها فقراؤهم ، وكانت صدقات قومه ومن قبلهم تأكلها النار - فاجعلهم من أمتي ، فقال - تعالى - : تلك أمة احمد . فقال : يا رب ، إني أجد في التوراة أمة هم آخر الناس خروجا ، وأول الناس في الجنة دخولا ، فاجعلهم من أمتي . فقال : تلك أمة أحمد . فقال : يا رب ، إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم ، يراعون الشمس والأوقات لذكرك ، فاجعلهم من أمتي . فقال : تلك أمة أحمد . فقال : يا رب ، إني أجد
____________________

( ^ التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ( 157 ) قل يا أيها ) * * * * في التوراة أمة إذا هم أحدهم بحسنة كتبتها له حسنة ، وإن عمل بها كتبتها له عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة لم تكتبها ( عليه ) ، فإن عمل بها كتبتها عليه واحدة ، اجعلهم من أمتي ، فقال : تلك أمة أحمد . فألقى الألواح ، وقال : اللهم اجعلني من أمة محمد ' . وهذا قول آخر ، ذكر في سبب إلقائه الألواح ، والأول أظهر .
قوله تعالى : ( ^ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) هو محمد وقد بينا معنى الأمي فيما سبق .
( ^ الذي يجدونه مكتوبا ) أي : موصوفا ( ^ عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ) يعني : ما حرمه الكفار من السوائب والوصائل والبحائر والحوامي ، ونحو ذلك ( ^ ويحرم عليهم الخبائث ) وذلك مثل : الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه ( ^ ويضع عنهم إصرهم ) الإصر : كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل ، والإصر : العهد الثقيل : وإصرهم : أن الله - تعالى - جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم ( ^ والأغلال التي كانت عليهم ) وذلك مثل ما كان عليهم من قرض موضع النجاسة عن الثوب بالمقراض ، ولا يجزئهم غسلها ، وأنه كان لا تجوز صلاتهم إلا في الكنائس ، وأنه لا يجوز لهم أخذ الدية عن القتيل بل كان يتعين القصاص ، وكان يجب عليهم قطع الجوارح الخاطئة لا يسعهم غير ذلك ، فسماها أغلالا ؛ لأنها كانت كالطوق في عنقهم .
( ^ فالذين آمنوا به ) أي : بمحمد ( ^ وعزروه ) أي : عظموه ( ^ ونصروه واتبعوا
____________________

( ^ الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ( 158 ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( 159 ) وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر ) * * * * النور الذي أنزل معه ) وهو القرآن ( ^ أولئك هم المفلحون ) . < < الأعراف : ( 158 ) قل يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله لا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ) يعني : محمدا يؤمن بالله وبالقرآن ويقرأ : ' وكلمته ' قيل : هي القرآن أيضا ، وقال بعضهم : أراد بالكلمة : عيسى - صلوات الله عليه - ( ^ واتبعوه لعلكم تهتدون ) . < < الأعراف : ( 159 ) ومن قوم موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : هؤلاء قوم بأقصى الشرق وراء الصين عند مطلع الشمس ، كانوا على شريعة موسى - صلوات الله عليه - إلى أن بعث محمد فلما بعث محمد آمنوا به ، وكانوا على الحق من لدن موسى إلى زمان محمد عليهما السلام - وقيل : هم الذين أسلموا في زمن النبي من اليهود مثل ( ابن ) صوريا ، وابن سلام ، ونحوهما ، والأول أظهر .
وقوله : ( ^ وبه يعدلون ) أي : يقومون بالحق والعدل . < < الأعراف : ( 160 ) وقطعناهم اثنتي عشرة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ) أي : فرقناهم فرقا ، وقوله : ( ^ اثنتي عشرة ) يقال في اللغة : اثنتي عشرة بكسر الشين وبجزم الشين ، والجائز في القرآن بجزم الشين ، فإن قيل : لم لم يقل : اثني عشر أسباطا على التذكير ؟ قيل : إنما ذكره على التأنيث لأنه يرجع إلى الأمم .
____________________

( ^ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 160 ) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ( 161 ) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ( 162 ) ) * * * *
قالوا : وفي الآية تقديم وتأخير ، وتقديرها . وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة ، وقيل فيه حذف ، وتقديره : وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا أمما ، فيكون بدلا عن الفرقة ، وقد بينا أن الأسباط في بني إسحاق كالقبائل في بني إسماعيل ، وأنشدوا في السبط :
( علي والثلاثة من بنيه ** هم الأسباط ليس بهم خفاء )
( فسبط سبط إيمان وبر ** وسبط غيبته كربلاء )
أي : كرب وبلاء .
( ^ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر ) وقد بينا هذا في سورة البقرة .
( ^ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ) أي : انفجرت ( ^ قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) وقد سبق تفسيره في سورة البقرة . < < الأعراف : ( 161 ) وإذ قيل لهم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم ) ويقرأ : ' خطيئاتكم ' وكلاهما واحد ( ^ سنزيد المحسنين ) وقد بينا هذا أيضا في سورة البقرة . < < الأعراف : ( 162 ) فبدل الذين ظلموا . . . . . > >
( ^ فبدل الذين ظلموا ) قد بينا معنى هذا التبديل ( ^ منهم قولا غير الذي قيل
____________________

( ^ واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ( 163 ) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ) * * * * لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء ) أي عذابا من السماء ( ^ بما كانوا يظلمون ) . < < الأعراف : ( 163 ) واسألهم عن القرية . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ واسألهم عن القرية ) هذا سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استعلام ، واختلفوا في تلك القرية ، قال ابن عباس : هي الأيلة . وقال الزهري : هي طبرية الشام . وقيل : إنها مدين ( ^ التي كانت حاضرة البحر ) أي : مجاورة البحر ( ^ إذ يعدون في السبت ) أي : يجاوزون أمر الله في السبت ، وكان الله - تعالى - حرم عليهم أن يعملوا في السبت عملا سوى العبادة .
( ^ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ) أي : ظاهرة ، قاله ابن عباس ، ومنه الشوارع لظهورها ، وقيل : هو من الشروع ، وهو الدخول ، فيكون معناه أن تلك القرية كان بجنبها خليج البحر ، فتدخله الحيتان يوم السبت ولا تدخله في سائر الأيام . وفي القصة : أنها كانت تأتيهم مثل الكباش السمان البيض يوم السبت تشرع إلى أبوابهم ، ثم لا يرى شيء منها في غير يوم السبت فذلك قوله : ( ^ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) وقرأ الحسن : ' لا يسبتون ' بضم الياء ، أي : لا يدخلون في السبت ، والمعروف : ' لا يسبتون ' ومعناه : لا يعظمون السبت ، يقال : ( أسبت ) إذا دخل السبت ، وسبت إذا عظم السبت ، يعني : ويوم لا يعظمون السبت ( ^ لا تأتيهم ) وعلى قراءة الحسن : ويوم لا يدخلون السبت لا تأتيهم ، وكان ذلك ابتلاء من الله - تعالى - لهم كما قال : ( ^ كذلك نبلوهم ) أي : نختبرهم ( ^ بما كانوا يفسقون ) . < < الأعراف : ( 164 ) وإذ قالت أمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما ) وفي القصة : أنهم احتالوا بحيلة الاصطياد ؛ فكانوا يضعون الحبال يوم الجمعة حتى تقع فيها الحيتان يوم السبت ، ثم يأخذونها يوم الأحد ، وقيل : إن الشيطان وسوس إليهم أن الله - تعالى -
____________________

( ^ ربكم ولعلهم يتقون ( 164 ) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ( 165 ) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم ) * * * * لم ينهاكم عن الاصطياد في هذا اليوم وإنما نهاكم عن الأكل ، فاصطادوا يوم السبت ، ثم افترقوا على ثلاث فرق : فرقة اصطادت ، وفرقة نهت وأمرت بالمعروف ، وفرقة سكتت ؛ فقالت الفرقتان للفرقة العاصية : لا نساكنكم قرية عصيتم الله فيها ؛ فاعتزلنا القرية وخرجوا ، فلما أصبحوا جاءوا إلى باب القرية ، فلم يفتحوا لهم الباب ؛ فجاءوا بسلم ، فلما صعدوا بالسلم ، رأوهم قد مسخوا قردة ، قال قتادة : كانت لهم أذناب يتعادون .
فقوله : ( ^ وإذ قالت أمة منهم ) هي الفرقة الساكتة ، قالت للفرقة الناهية : ( ^ لم تعظون قوما ) يعني : الفرقة العاصية ( ^ الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ) أي : موعظتنا معذرة ، وذلك أنا قد أمرنا بالأمر بالمعروف ، فنأتهم هذا الأمر وإن لم يقبلوا ؛ حتى يكون ذلك لنا عذرا عند الله - تعالى - ويقرأ ' معذرة ' بالنصب ، أي : نعتذر معذرة إلى ربكم ( ^ ولعلهم يتقون ) . < < الأعراف : ( 165 ) فلما نسوا ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما نسوا ما ذكروا به ) أي : تركوا ما ذكروا به ، قيل : كانوا يصطادون سبعة أيام ، وقيل : كانوا قد اصطادوا يوما واحدا .
( ^ أنجينا الذين ينهون عن السوء ) يعني : الفرقة الناهية ( ^ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ) يعني : الفرقة العاصية ، فأخذناهم بعذاب بئيس على وزن فعيل . وبئس على وزن فعل ، وبئس على وزن فعلل ، والكل واحد ، ومعناه : بعذاب شديد ، قال ابن عباس : بعذاب لا رحمة فيه .
( ^ بما كانوا يفسقون ) قال ابن عباس : أدري أن الفرقة العاصية قد هلكت ، وأن الفرقة الناهية قد نجت ، ولا أدري ما حال الفرقة الساكتة .
قال عكرمة : ما زلت أنزله - يعني : من الآيات درجة درجة - وأبصره - يعني : ابن عباس - حتى قال : نجت الفرقة الساكتة ، وكساني بذلك حلة . فإن عكرمة كان
____________________

( ^ كونوا قردة خاسئين ( 166 ) وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( 167 ) وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) * * * * يكلمه في الآية ، ويستدل بظاهرها ؛ حتى ظهر الدليل لابن عباس على نجاة الفرقة الساكتة ، ومن الدليل عليه في ظاهر الآية أنه قال : ( ^ فلما نسوا ما ذكروا به ) وتلك الفرقة لم ينسوا ذلك ، والثاني أنه قال : ( ^ أنجينا الذين ينهون عن السوء ) والفرقة الساكتة قد نهوا نهي تحذير بقولهم : لم تعظون قوما الله مهلكهم .
والثالث أنه قال : ( ^ وأخذنا الذين ظلموا ) يعني : بالاصطياد يوم السبت ؛ وهم ما ظلموا بالاصطياد ، قال الحسن البصري : نجت الفرقتان ، وهلكت واحدة . < < الأعراف : ( 166 ) فلما عتوا عن . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) وهذا أمر تكوين ، وقوله : ( ^ خاسئين ) أي : مبعدين . < < الأعراف : ( 167 ) وإذ تأذن ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ تأذن ربك ) أي : أعلم ربك ، قال الشاعر :
( تأذن إن شر الناس حي ** ينادي من شعارهم يسار )
وقال الزجاج : معناه : تألى ربك وحلف ( ^ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) أي : يذيقهم سوء العذاب ، وهو الجزية ، وقيل : هو قتل بختنصر إياهم فإن قال قائل : كيف يبعث عليهم العذاب ، وقد أهلكهم ؟ وقيل : أراد به على أبنائهم ، ومن يأتي بعدهم ( ^ إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) . < < الأعراف : ( 168 ) وقطعناهم في الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقطعناهم في الأرض أمما ) أي : فرقناهم فرقا ، ومعناه : شتتنا أمر اليهود فلا يجتمعون على كلمة واحدة ( ^ منهم الصالحون ) يعني : الذين أسلموا منهم ( ^ ومنهم دون ذلك ) يعني الذين بقوا على الكفر .
( ^ وبلوناهم ) أي : اختبرناهم ( ^ بالحسنات والسيئات ) أي : بالخصب والجدب والخير والشر ( ^ لعلهم يرجعون ) .
____________________

( ( 168 ) فخلف من بعدهم خلف ورثوا لكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 169 ) ) * * * * < < الأعراف : ( 169 ) فخلف من بعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فخلف من بعدهم خلف ) اعلم أن الخلف يقال في الذم والمدح جميعا ، لكن عند الإطلاق الخلف للمدح ، والخلف للذم ، قال الشاعر :
( لنا لقدم الأولى إليك وخلفنا ** لأولنا في طاعة لله تابع )
وهاهنا للذم ، وأراد به أبناء الذين سبق ذكرهم من أصحاب السبت ( ^ ورثوا الكتاب ) يعني : انتقل إليهم الكتاب ( ^ يأخذون عرض هذا الأدنى ) أي : حطام الدنيا ، وإنما سميت الدنيا دنيا ؛ لأنها أدنى إلى الخلق من الآخرة ؛ ولذلك قال : ( ! ( عرض هذا الأدنى ) ! ويقولون سيغفر لنا ) وهذا اغترار منهم بالله - تعالى - وفي الحديث : ' الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله المغفرة ' ( ^ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) قال مجاهد : وصفهم بالإصرار على الذنب ، وقيل معناه : إنهم يأخذون أخذا بعد أخذ لا يبالون من حلال كان أو من حرام ، بل يأخذون من غير تفتيش .
( ^ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ) أي : أخذ عليهم العهد ألا يقولوا على الله الباطل في التوارة ( ^ ودسوا ما فيه ) أي : علموا ذلك فيه بالدرس ، قاله الضحاك ، ودرس الكتاب : قراءته مرة بعد أخرى ( ^ والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) .
____________________

( ^ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ( 170 ) وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ( 171 ) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ) * * * * < < الأعراف : ( 170 ) والذين يمسكون بالكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة ) قيل : هذا في أمة محمد وقيل : هو فيمن أسلم من اليهود ، يمسكون بالقرآن ، وأقاموا الصلاة ( ^ إنا لا نضيع أجر المصلحين ) . < < الأعراف : ( 171 ) وإذ نتقنا الجبل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ) نتقنا أي : رفعنا الجبل فوقهم ، وقد ذكر هذا في سورة البقرة ( ^ وظنوا أنه واقع بهم ) يعني : وأيقنوا ، والظن : اليقين : وقيل : غلب على ظنهم أنه واقع بهم ( ^ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) وقد ذكرنا القصة في سورة البقرة . < < الأعراف : ( 172 ) وإذ أخذ ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) في الآية نوع إشكال ، وشرحها وتفسيرها في الأخبار ، روى مالك في الموطأ بإسناده عن مسلم بن يسار الجهني عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله يقول : ' إن الله - تعالى - مسح ظهر آدم ، فاستخرج منه ذرية ، وقال : هؤلاء في الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهر آدم فاستخرج ذرية ، وقال : هؤلاء أهل النار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقيل : يا رسول الله ، ففيم العمل إذا ؟ فقال : إن الله - تعالى - إذا خلق للجنة أهلا استعملهم بعمل أهل الجنة حتى يدخلهم الجنة ، وإذا خلق للنار خلقا استعملهم بعمل أهل النار حتى يدخلهم النار ' والمعروف والذي عليه جماعة المفسرين في معنى الآية أن الله - تعالى -
____________________

( ^ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( 172 ) أو ) * * * * مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهر آدم اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك ، ثم قال لهم : ( ^ ألست بربكم ) ؟ قالوا : بلى ، فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي ، وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعا في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء .
قال الله تعالى فيمن نقض العهد : ( ^ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) وروى أبو العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية ، قال : جمعهم الله جميعا ، فجعلهم أرواحا ثم صورهم ، ثم استنطقهم ، فقال : ( ^ ألست بربكم ) ؟ قالوا : بلى ، شهدنا أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، قال الله - تعالى - : فأرسل إليكم رسلي ، وأنزل عليكم كتبي ، فلا تكذبوا رسلي ، وصدقوا كلامي ، فإني سأنتقم ممن أشرك ولم يؤمن بي ، فأخذ عهدهم وميثاقهم .
وفي بعض الأخبار : أن الله استخرج ذرية آدم ، فنثرهم بين يدي آدم ، ثم كلمهم قبلا - أي : عيانا - فقال : ( ^ ألست بربكم ) ؟ قالوا : بلى . وقيل : جعل لهم عقولا يفهمون بها ، وألسنة ينطقون بها ، ثم خاطبهم وألهمهم الجواب .
وقال بعض المفسرين عن علماء السلف : إن الكل قالوا : بلى ، لكن المؤمنين قالوا : بلى طوعا ، وقال الكافرون كرها ، وهذا معنى قوله - تعالى - : ( ^ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ) .
رجعنا إلى قوله تعالى : ( ^ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) فإن قال قائل : لما كان الاستخراج من ظهر آدم ، فكيف قال : ( ^ أخذ ربك من بني آدم من
____________________

( ^ تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( 173 ) ) * * * * ظهورهم ) ؟ قال بعض العلماء في جوابه : إن الله - تعالى - استخرجهم من صلب آدم على الترتيب الذي يخرجه من بني آدم من ظهورهم إلى يوم القيامة ، فلذلك قال : ( ^ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) .
واعلم أن المعتزلة تأولوا هذه الآية ، فقالوا : أراد به الأخذ من ظهور بني آدم على الترتيب الذي مضت به السنة من لدن آدم إلى فناء العالم .
وقوله : ( ^ وأشهدهم على أنفسهم ) يعني كما نصب من دلائل العقول التي تدل على كونه ربا ، ويلجئهم إلى الجواب بقولهم : بلى ، وأنكروا الميثاق . وهذا تأويل باطل ، وأما أهل السنة مقرون بيوم الميثاق ، والآية على ما سبق ذكره .
( ^ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) واختلفوا في قوله : ( ^ شهدنا ) قل بعضهم : هذا من قول الله والملائكة قالوا : شهدنا ، وقيل : هو قول المخاطبين ، قالوا : بلى شهدنا ، وقيل : فيه حذف ، وتقديره : أن الله تعالى قال للملائكة : اشهدوا ، فقالوا : شهدنا .
وأما قوله تعالى : ( ^ أن تقولوا يوم القيامة ) يقرأ بالياء والتاء ، فمن قرأ بالياء فتقدير الكلام : وأشهدهم على أنفسهم لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام : أخاطبكم ألست بربكم ؟ لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . فإن قال قائل : الحجة إنما تلزم في الدنيا إذا رجعوا عن ذلك العهد الذي كان يوم الميثاق واحد لا يذكر ذلك الميثاق حتى يكون بالرجوع معاندا ، فتلزمه الحجة ، وقيل : إن الله - تعالى - قد أوضح الدلائل ونصبها على وحدانيته ، وصدق قوله ، وقد أخبر عن يوم الميثاق ، وهو صادق في الأخبار ، فكل من نقض ذلك العهد كان معاندا ولزقته الحجة . < < الأعراف : ( 173 ) أو تقولوا إنما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) يعني : إنما أخذت ما أخذت
____________________

( ^ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( 174 ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ ) * * * * من العهد والميثاق عليكم جميعا ؛ لئلا تقولوا : ( ^ إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) يعني : أن الجناية من الآباء ، وكنا أتباعا لهم ؛ فيجعلوا لأنفسهم حجة وعذرا عند الله ، وفي هذا دليل على أن أولاد الكفار يكونون مع الكفار .
( ^ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) أي : تأخذنا بجناية آبائنا المبطلين ؟ . < < الأعراف : ( 174 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . < < الأعراف : ( 175 ) واتل عليهم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال ابن عباس وابن مسعود : في بلعم بن باعور ، ويقال : بلعام بن باعر ، كان في مدينة الجبارين ، وكان معه الاسم الأعظم ، فلما قصدهم موسى بجنده ، قالوا لبلعم : إن موسى رجل فيه حدة ، فادع الله حتى يرد عنا موسى ، وقيل : إن ملكهم دعاه إلى نفسه وقال له ذلك ، فقال بلعم : لو فعلت ذلك ذهب ديني ودنياي ، فألحوا عليه حتى دعا الله - تعالى - فاستجيبت دعوته ، ورد عنهم موسى ، وأوقعهم في التيه ، فلما وقعوا في التيه ، قال موسى : يا رب بم حبستنا في التيه ؟ قال : بدعاء بلعم . قال موسى : اللهم فكما استجبت دعوته فينا فاستجب دعوتي فيه ، ثم دعا الله - تعالى - حتى ينزع عنه اسمه الأعظم والإيمان ، ففعل ، وقيل : نزع الله عنه الاسم الأعظم والإيمان ، معاقبة له على ما دعا ، ولم يكن ذلك بدعوة موسى ؛ فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ فانسلخ منها ) .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي كان يطلب الدين قبل مبعث النبي ، وكان يطمع أن يكون نبيا ، فلما بعث النبي حسده وكفر به ، وكان أمية صاحب حكمة وموعظة حسنة .
وقال الحسن : الآية في منافقي اليهود . وقال مجاهد : الآية في نبي من الأنبياء بعثه الله - تعالى - إلى قومه ، فرشاه قومه . وهذا أضعف الأقوال ؛ لأن الله تعالى يعصم أنبياءه عن مثل ذلك ، وعن ابن عباس - في رواية أخرى - أن الآية في رجل من بني إسرائيل كانت له ثلاث دعوات مستجابة أعطاه الله تعالى ذلك ، وكانت له امرأة
____________________

( ^ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( 175 ) ولو شئنا لرفعناه ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( 176 ) ساء مثلا القوم الذين ) * * * * دميمة ؛ فقالت له : ادع الله أن يجعلني من أجمل نساء العالم ، فدعا الله تعالى فاستجاب دعوته ؛ فتمردت واستعصت عليه ؛ فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة ؛ فجعلت ، فقال له بنوها : ادع الله أن يردها ، فدعا الله تعالى فعادت كما كانت ، فذهبت فيها دعواته الثلاثة ، والقولان الأولان أظهر .
وقوله : ( ^ فأتبعه الشيطان ) أي : أدركه الشيطان ، يقال : تبعه إذا سار في أثره ، واتبعه إذا أدركه ( ^ فكان من الغاوين ) أي : من الضالين . < < الأعراف : ( 176 ) ولو شئنا لرفعناه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شئنا لرفعناه بها ) أي لرفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات وأمتناه قبل أن يكفر ، وقيل معناه : لو شئنا [ لحلنا ] بينه وبين الكفر ( ^ ولكنه أخلد إلى الأرض ) أي : مال إلى الدنيا ، ( ^ واتبع هواه ) وهذه أشد آية في حق العلماء ، وقلما يخلوا عن أحد هذين عالم من الركون إلى الدنيا ، ومتابعة الهوى .
( ^ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) ضرب له مثلا بأخس حيوان في أخس الحال ؛ فإنه ضرب له المثل بالكلب لاهثا ، وحقيقة المعنى : أنك إن حملت على الكلب وطردته يلهث ، وإن تتركه يلهث ، فكذلك الكافر ، إن وعظته وزجرته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال ، واللهث : إدلاع اللسان .
( ^ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ) ضرب المثل ثم بين أنه مثل ذلك ( الذي ) سبق ذكره ، وقيل : هذا كله ضرب مثل للكفار مكة ؛ فإنهم كانوا يتمنون أن يكون منهم بني ، فلما بعث النبي حسدوه وكفروا ؛ فكانوا كفارا قبل بعثته وكفارا ( بعد بعثته ) ( ^ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) .
____________________

( ^ كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ( 177 ) من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ( 178 ) ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا ) * * * * < < الأعراف : ( 177 ) ساء مثلا القوم . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أي : بئس المثل مثلا القوم ( ! ( وأنفسهم كانوا يظلمون ) { < الأعراف : ( 178 ) من يهد الله . . . . . > > من يهد الله ) أي : من يهده الله ( ^ فهو المهتد ومن يضلل ) أي : ومن يضلله الله ( ^ فأولئك هم الخاسرون ) وهذا دليل على القدرية ؛ حيث نسب الهداية والضلالة إلى فعله من غير سبب . < < الأعراف : ( 179 ) ولقد ذرأنا لجهنم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) أي : خلقنا لجهنم كثيرا ، وهذا على وفق قول أهل السنة ، وروت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي أنه قال : ' إن الله تعالى خلق الجنة ، وخلق لها أهلا ؛ خلقهم لها وهم في أصلاب بائهم ، وخلق النار ، وخلق لها أهلها ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ' وهذا في الصحيح ، وفي رواية أخرى : ' إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم ، وخلق النار ، وخلق لها أهلا بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم - وهذا الحديث ليس في الصحيح - لا يزاد فيهم ولا ينقص ' وقيل معنى قوله : ( ^ ولقد ذرأنا لجهنم ) أي : ذرأناهم ، وعاقبة أمرهم إلى جهنم ، واللام لام العاقبة ، وهذا مثل قول القائل :
( يا أم سليم فلا تجزء عن ** فللموت ما تلد الوالدة )
وقال آخر :
( وللموت تغذوا الوالدات سخالها ** كما لخراب الدهر تبنى المساكن )
____________________

( ^ يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ( 179 ) ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ( 180 ) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ) * * * *
والأول أصح ، وأقرب إلى مذهب أهل السنة ، وقوله : ( ^ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) ومعناه : أنهم لما لم يفقهوا بقلوبهم ما انتفعوا به ، ولم يبصروا بأعينهم ، ولم يسمعوا بآذانهم ؛ ما انتفعوا به ؛ فكأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون شيئا ، وهذا كما قال مسكين الداري :
( أعمى إذا ما جارتي برزت ** حتى توارى جارتي الخدر )
( أصم عما كان بينهما سمعي ** وما بالسمع من وقر )
( ^ أولئك كالأنعام ) يعني : في أن همتهم من الدنيا الأكل والتمتع بالشهوات ( ^ بل هم أضل ) وذلك أن الأنعام تميز بين المضار والمنافع ، وأولئك لا يميزون ما يضرهم عما ينفعهم ( ^ أولئك هم الغافلون ) . < < الأعراف : ( 180 ) ولله الأسماء الحسنى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) الأسماء الحسنى هي ما وردت في الخبر ، روى أبو هريرة عن النبي أنه قال : ' إن لله تسعة وتسعين اسما - مائة غير واحد - من أحصاها دخل الجنة ' ، وقوله : ( ^ الحسنى ) يرجع إلى التسميات ، وقوله ( ^ فادعوه بها ) وذلك بأن يقول : يا عزيز ، يا رحمن ، ونحو هذا ، واعلم أن أسماء الله تعالى على التوقيف ؛ فإنه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا ، وإن كان في معنى الجواد ، ويسمى رحيماً ولا يسمى رقيقا ، ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا ، وعلى هذا لا يقال : يا خادع ، يا مكار ، وإن ورد في القرآن ( ! ( يخادعون الله وهو خادعهم ) ! ويمكرون ويمكر الله ) لكن لما لم يرد الشرع بتسميته به لم يجز ذلك له .
( ^ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) قال يعقوب بن السكيت صاحب الإصلاح :
____________________

( ^ وبه يعدلون ( 181 ) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( 182 ) وأملي لهم إن كيدي متين ( 183 ) أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير ) * * * * الإلحاد : هو الميل عن الحق ، وإدخال ما ليس في الدين ، قيل : والإلحاد في الأسماء هاهنا : كانوا يقولون في مقابلة اسم الله : اللآت ، وفي مقابلة العزيز : العزى ، ومناة في مقابلة المنان ، وقيل : هو تسميتهم الأصنام آلهة ، وهذا أعظم الإلحاد في الأسماء ، فهذا معنى قوله : ( ^ وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) . < < الأعراف : ( 181 ) وممن خلقنا أمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) روى قتادة مرسلا عن النبي أنه قال : ' هؤلاء من هذه الأمة ، وقد كان فيمن قبلكم ' وأشار به إلى قوم موسى ، كما قال تعالى : ( ^ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) . < < الأعراف : ( 182 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) قال الأزهري : الاستدراج : هو الأخذ قليلا قليلا ، ومنه درج الكتاب ، وقيل : الاستدراج من الله هو أن العبد كلما ازداد معصية زاده الله - تعالى - نعمة ، وقيل : هو أن يكثر عليه النعم وينسيه الشكر ، ثم يأخذه بغتة ؛ فهذا هو الاستدراج من حيث لا يعلمون . < < الأعراف : ( 183 ) وأملي لهم إن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأملي لهم ) أي : أمهل لهم وأؤخر لهم ( ^ إن كيدي متين ) أي : شديد . < < الأعراف : ( 184 ) أولم يتفكروا ما . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ) سبب نزول هذه الآية ما روي : ' أن النبي ذات ليلة صعد الصفا ، وهو ينادي طول الليل : يا بني فلان ، يا بني فلان ، إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فلما أصبحوا قالوا : إن محمدا قد جن ، يصيح طول الليل ؛ فنزلت هذه الآية ' ( ^ أو لم يتفكروا ) ' يعني : في حال محمد أنه لا يليق بحاله الجنون .
____________________

( ^ مبين ( 184 ) أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ( 185 ) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ( 186 ) يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 187 ) * * * * < < الأعراف : ( 185 ) أولم ينظروا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ) يعني : استدلوا بها على وحدانية الله تعالى ( ^ وما خلق الله من شيء ) أي : أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شيء ( ^ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) يعني : لعل قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ( ^ فبأي حديث بعده يؤمنون ) أي : بأي نبي بعد محمد ، وبأي كتاب بعد كتاب محمد يؤمنون . < < الأعراف : ( 186 ) من يضلل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من يضلل الله ) أي : من يضلله الله ( ^ فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) أي : في غلوهم في الباطل ( ^ يعمهون ) يتحيرون ويترددون . < < الأعراف : ( 187 ) يسألونك عن الساعة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) أي : مثبتها ، يقال : أرسى ، أي : أثبت ، ومعناه : يسألونك عن الساعة متى قيامها ( ^ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها ) لا يظهرها لوقتها ( ! ( إلا هو ) ! ثقلت في السموات والأرض ) أي : خفي علمها في السموات والأرض ، فكأنما ثقلت ، وكل خفي ثقيل ، ومعناه : ثقيل وصفها على أهل السموات والأرض ؛ بما يكون فيها من تكوير الشمس والقمر ، وتكوير النجوم ، وتسيير الجبال ، وطي السموات والأرض ، وقيل معناه : عظم وقوعها على أهل السموات والأرض .
( ^ لا تأتيكم إلا بغتة ) أي : فجأة .
( ^ يسألونك كأنك حفي عنها ) أي كأنك مسرور بسؤالهم عنها ، يقال : تحفيت فلانا في المسألة إذا سألته وأظهرت السرور في سؤالك ، فعلى هذا تقدير الآية :
____________________

( ^ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ( 188 ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ) * * * * يسألونك عنها كأنك حفي بسؤالهم ، وقيل معناه : يسألونك كأنك حفي عنها أي : عالم بها ، يقال : أحفيت فلانا ، إذا ما بالغت في المسألة عنه حتى علمت ، فعلى هذا معنى الآية : كأنك حفي عنها ، أي : كأنك بالغت في السؤال عنها ، حتى علمت ( ^ قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . < < الأعراف : ( 188 ) قل لا أملك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : معناه : ولو كنت أعلم الخصب من الجدب لأعددت من الخصب للجدب وما مسني الجوع ، قاله ابن عباس .
وقال ابن جريج : معناه : لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من الخيرات والطاعات ، وما مسني السوء أي : ما بي جنون ؛ لأنهم كانوا نسبوه إلى الجنون .
القول الثالث : معناه : ولو كنت أعلم متى الساعة لأخبرتكم بقيامها حتى تؤمنوا ، وما مسني السوء يعني : بتكذيبكم ( ^ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . < < الأعراف : ( 189 ) هو الذي خلقكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : آدم ( ^ وجعل منها زوجها ) يعني : حواء ( ! ( ليسكن إليها ) ! فلما تغشاها ) أي : وطئها ، والغشيان أحسن كناية عن الوطء ، يقال : تغشاها وتخللها ، إذا وطئها .
( ^ حملت حملا خفيفا ) هو أول ما تحمل المرأة من النطفة ( ^ فمرت به ) وقرأ يحيى بن يعمر : ' فمرت به ' خفيفا من المرية أي : شكت ، وقرئ في الشواذ : ' فمارت به : ' أي : تحركت به من المور ، وقرأ ابن عباس : ' فاستمرت به ' وهو معنى القراءة المعروفة ، ومعناه : فمرت بالحمل حتى قامت وقعدت ودخلت وخرجت ، وقيل : هو مقلوب ، وتقديره فمر الحمل بها حتى قامت وقعدت ( ^ فلما أثقلت ) أي : حان
____________________

( ^ فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ( 189 ) فلما آتاهما ) * * * * وقت الولادة ( ^ دعوا الله ربهما ) .
وفي القصة : أن إبليس جاء إلى حواء حين حبلت ، وقال لها : أتدرين ما في بطنك ؟ قالت : لا . فقال : لعله بهيمة ، وإني أخشى أن تكون لها قرنان تشق بهما بطنك ؛ فخافت حواء ، وجلست حزينة ، ثم عاد إليها اللعين ، وقال : أتريدين أن أدعو الله تعالى حتى يجعله إنسانا متكلما ؟ قالت : نعم . إني قد وسوست إليكما مرة فأطيعاني حتى أدعو ، فقالت : ماذا نصنع ؟ قال اللعين : إذا ولدت تسميه عبد الحارث - وكان اسم إبليس من قبل الحارث - فذكرت ذلك لآدم ، فتوافقا على ذلك ، فلما ولدت سمياه عبد الحارث ، وقيل : إنها ولدت مرة فسمياه عبد الله فمات ، ثم ولدت ولد آخر فسمياه عبد الله فمات ، فجاء اللعين ، وقال : أما علمتما أن الله تعالى لا يدع عبده عندكما ، فإذا ولدت ولدا فسميه عبد الحارث ، حتى يحيا ، فلما ولدت الثالث سمياه عبد الحارث فعاش وحيا .
وفي الخبر : قال النبي : ' خدعهما إبليس مرتين : مرة في الجنة ، ومرة في الأرض ' وأراد به هذا ' . قوله ( ^ فلما أثقلت دعوا الله ربهما ) يعني : آدم وحواء ( ^ لئن آتيتنا صالحا ) أي : ولدا سوى الخلق ، إذ كانا [ يدعوان ] أن يجعله الله إنسانا مثلهما خوفا من وسوسة إبليس ( ! ( لنكونن من الشاكرين ) { < الأعراف : ( 190 ) فلما آتاهما صالحا . . . . . > > فلما آتاهما صالحا ) أي : سوى الخلق ( ^ جعلا له شركاء فيما آتاهما ) يعني سمياه عبد الحارث ، فإن قال قائل : كيف يقول : ( ^ جعلا له شركاء ) وآدم كان نبيا معصوما عن الإشراك بالله ؟
قيل : لم يكن هذا إشراكا في التوحيد ، وإنما ذلك إشراك في الاسم ، وذلك لا يقدح في التوحيد ، وهو مثل تسمية الرجل ولده عبد يغوث وعبد زيد وعبد عمرو ، وقول الرجل لصاحبه : أنا عبدك ، وعلى ذلك قول يوسف - صلوات الله عليه - : ( ^ إنه ربي أحسن مثواي ) ومثل هذا لا يقدح ، وأما قوله : ( ^ فتعالى الله عما يشركون )
____________________

( ^ صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ( 190 ) أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ( 191 ) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ( 192 ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ( 193 ) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) * * * * ابتداء كلام بعد الأول ، وأراد به : إشراك أهل مكة ، ولئن أراد به الإشراك الذي سبق استقام الكلام ؛ لأنه كان الأولى ألا يفعل ما أتى به من الإشراك في الاسم ، وكان ذلك زلة منه ، فلذلك قال : ( ^ فتعالى الله عما يشركون ) وفي الآية قول آخر : أن هذا في جميع بني آدم . قال عكرمة : وكأن الله يخاطب به كل واحد من الخلق بقوله : ( ^ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : خلق كل واحد من أبيه ( ^ وجعل منها زوجها ) أي : جعل من جنسها زوجها ( ^ ليسكن إليها ) يعني : كل زوج إلى زوجته ( ^ فلما تغشاها ) أي : وطئها ( ^ حملت حملا خفيفا فمرت به ) وهذا قول حسن في الآية .
وقيل : إنما عبر بآدم وحواء عن جميع أولادهما ؛ لأنهما أصل الكل ، والأول أشهر وأظهر ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وجماعة المفسرين كلهم قالوا : إن الآية في آدم وحواء كما بينا . < < الأعراف : ( 191 ) أيشركون ما لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ) يعني : الأصنام لا يخلقون شيئا بل هم مخلوقون < < الأعراف : ( 192 ) ولا يستطيعون لهم . . . . . > > ( ^ ولا يستطيعون لهم نصرا ) أي : منعا ( ^ ولا أنفسهم ينصرون ) . < < الأعراف : ( 193 ) وإن تدعوهم إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ) هذا في قوم مخصوصين علم الله أنهم لا يؤمنون ( ^ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) أي : سواء دعوتموهم أو لم تدعوهم لا يؤمنون ) < < الأعراف : ( 194 ) إن الذين تدعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) . فإن قال قائل : كيف تكون الأصنام عبادا أمثالنا ؟ قيل : قال مقاتل : أراد به الملائكة . والخطاب مع قوم كانوا
____________________

( ( 194 ) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ( 195 ) إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ( 196 ) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون ) * * * * يعبدون الملائكة ، وقيل : أراد به الشياطين . والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الكهنة والشياطين ، والصحيح أنه في الأصنام ، وهم عباد أمثال الناس في العبادة ، وعبادتهم التسبيح ، وللجمادات تسبيح كما نطق به الكتاب . ( ^ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) وقوله ( ^ أمثالكم ) يعني : أن الأصنام مذللون مسخرون لما أريد منهم مثلكم ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ومعناه : أمثالكم في شيء دون شيء كذلك هاهنا وقيل : إنما قال : ( ^ أمثالكم ) لأنهم صوروها على صورة الأحياء ، وطلبوا منها ما يطلب من الأحياء .
( ^ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) وهذا لبيان عجزهم ، ثم أكده فقال : < < الأعراف : ( 195 ) ألهم أرجل يمشون . . . . . > > ( ^ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ) وذلك أن قدرة المخلوقين إنما تكون بهذه الآلات والجوارح ، وليست لهم تلك الآلات ، بل أنتم أكبر قدرة منهم لوجود هذه الأشياء فيكم .
( ^ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) أي : فلا تمهلون . < < الأعراف : ( 196 ) إن وليي الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب ) يعني : ناصري ومعيني الله الذي نزل الكتاب ، وقرئ في الشواذ : ' إن ولي الله ' بكسر الهاء ، ومعناه : جبريل ولي الله الذي نزل الكتاب أي : نزل بالكتاب ( ^ وهو يتولى الصالحين ) يعني : جبريل ولي الصالحين ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ فإن الله هو مولاه وجبريل ) . < < الأعراف : ( 197 ) والذين تدعون من . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم
____________________

( ^ نصركم ولا أنفسهم ينصرون ( 197 ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( 198 ) خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين ) * * * * ينصرون ) وهذا لبيان عجزهم أيضا < < الأعراف : ( 198 ) وإن تدعوهم إلى . . . . . > > ( ^ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ) يعني : الأصنام ( ^ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) فإن قيل : كيف يتصور النظر من الأصنام ؟ قال الكسائي : تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان ، إذا كانت مقابلة لما ، فكذلك قوله : ( ^ وتراهم ينظرون إليك ) يعني : نظر المقابلة . < < الأعراف : ( 199 ) خذ العفو وأمر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) روى : ' أن جبريل - صلوات الله عليه - لما نزل بهذه الآية ، قال : يا رسول الله ، أتيتك بمكارم الأخلاق ، فروى أن النبي سأل جبريل عن معنى هذه الآية ، فقال له : حتى أسأل ربي ، ثم رجع وقال : صل من قطعك ، وأعط من حرمك واعف عن من ظلمك ' .
ثم اختلفوا في معنى هذا العفو ، فقال عطاء : هو الفضل من أموال الناس . وكان في الابتداء يجب التصدق بما فضل من الحاجات ، ثم صار منسوخا بآية الزكاة ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) وقال ابن الزبير : العفو : ما تيسر من أخلاق الناس ، أي : خذ الميسور من أخلاق الناس مثل : قبول الاعتذار ، والعفو والمساهلة في الأمور ، وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك .
وقوله : ( ^ وأمر بالعرف ) هو الأمر بالمعروف ، وهو ما يعرفه الشرع .
وقوله : ( ^ وأعرض عن الجاهلين ) يعني : إذا سفه عليك الجاهل فلا تكافئه ولا تقابله بالسفه ، وذلك مثل قوله : ( ^ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) وذلك
____________________

( ( 199 ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ( 200 ) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ( 201 ) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ( 202 ) وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما ) * * * * سلام المنازعة ، قال : ( ^ وإذا مروا باللغو مروا كراما ) يعني : أكرموا أنفسهم عن الخوض فيه .
وروى أن عيينة بن حصن - وكان سيد غطفان - لما قدم المدينة قال للحر بن قيس : لك وجه عند أمير المؤمنين ؛ فاستأذن لي عليه ، فاستأذن له فدخل على عمر - رضي الله عنه - فقال له : إنك لا تقضي فينا بالحق ، ولا تقسم فينا بالعدل ، فغضب عمر وهم أن يؤديه ، فقال الحر بن قيس : إن الله تعالى يقول : ( ^ وأعرض عن الجاهلين ) وهذا من الجاهلين ، فسكت عمر - رضي الله عنه - . < < الأعراف : ( 200 ) وإما ينزغنك من . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ) النزغ من الشيطان : الوسوسة ( ^ فاستعذ بالله ) أي : استجر بالله ( ^ إنه سميع عليم ) . < < الأعراف : ( 201 ) إن الذين اتقوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان ) وتقرأ : ' طائف ' ومعناهما واحد .
قال سعيد بن جبير : هو الغضب . وقال أبو عمرو بن العلاء : هو الوسوسة . وأصل الطيف : الجنون .
( ^ تذكروا فإذا هم مبصرون ) وفي معناه قولان : أحدهما : أنهم إذا وسوسهم الشيطان بالمعصية ذكروا عقاب الله ؛ فإذا هم كافون عن المعصية .
والقول الثاني معناه : ذكروا الله ؛ فإذا هم يبصرون الحق عن الباطل . < < الأعراف : ( 202 ) وإخوانهم يمدونهم في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإخوانهم ) أي : أشباههم من الشياطين ( ^ يمدونهم ) أي : يردونهم ( ^ في الغي ) في الضلالة ( ^ ثم لا يقصرون ) أي : لا يكفون .
____________________

( ^ أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 203 ) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( 204 ) واذكر ربك في نفسك تضرعا ) * * * * < < الأعراف : ( 203 ) وإذا لم تأتهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبتها ) كانوا يسألون النبي الآيات ( تعنتا ) ويستكثرون منها ، فإذا لم يقرأ عليهم آية قالوا : لولا اجتبيتها ، أي : هلا اختلقتها وقلتها من تلقاء نفسك . قال : ( ^ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم ) يعني : القرآن ( ^ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . < < الأعراف : ( 204 ) وإذا قرئ القرآن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) قال الحسن ، والزهري ، والنخعي : هذا في القراءة في الصلاة . وقال عطاء ومجاهد : هو في الخطبة . ولم يرضوا من مجاهد هذا القول ؛ لأن الآية مكية ، والجمعة إنما وجبت بالمدينة ، ولأن الاستماع في جميع الخطبة واجب ، ولا يختص بالقراءة في الخطبة . فالأول أصح .
وليس لمن يرى ترك القراءة خلف الإمام مستدل ( في الآية ) ؛ لأن القراءة خلف الإمام لا تنافي الاستماع ؛ لأنه يتبع سكتات الإمام ، ولأن الآية فيما وراء الفاتحة ؛ بدليل حديث عبادة بن الصامت ، عن النبي أنه قال : ' إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن ' .
وفي الآية : قول ثالث : أن المراد به النهي عن الكلام في الصلاة . قاله أبو هريرة . وهذا قول حسن . < < الأعراف : ( 205 ) واذكر ربك في . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفه ) قيل : هذا في الدعاء أي : ادع الله بالتضرع والخيفه . وقيل : هو في صلاة السر .
____________________

( ^ وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ( 205 ) إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ( 206 ) . * * * *
( ^ ودون الجهر من القول ) أراد به : في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا ( ^ بالغدو والأصال ) فالغدو : أوائل النهار ، والآصال : أواخر النهار ( ^ ولا تكن من الغافلين ) عن ذكر الله . < < الأعراف : ( 206 ) إن الذين عند . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين عند ربك ) يعني : الملائكة ؛ ذكرهم بالتقريب والكرامة ( ^ لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) يعني : إن كان هؤلاء يستكبرون عن عبادة الله تعالى ؛ فالذين عنده لا يستكبرون عنها .
وقد ورد في السجود أخبار منها : ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال : ' إذا سجد ابن آدم ؛ اعتزل الشيطان يبكي ، ويقول : يا ويلاه ، أمر ابن آدم بالسجود فسجد ؛ فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت ؛ فلي النار ' .
وفي حديث ربيعة بن كعب الأسلمي : ' أنه أتى النبي بوضوئه لحاجته فقال : سلني . فقلت : أريد مرافقتك في الجنة ، فقال : أو غير ذلك ؟ فقلت : هو ذاك ، فقال : أعني على نفسك بكثرة السجود ' أخرجه مسلم في الصحيح .
وروى أبو فاطمة عن النبي أنه قال : ' ما من عبد يسجد لله سجدة ؛ إلا رفعه الله بها درجة ' . والله أعلم .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا ) * * * * <
> تفسير سورة الأنفال <
>
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات ؛ وذلك من قوله : ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ) إلى آخر الآيات السبع ؛ فإنها نزلت بمكة ، وأكثر السورة في غزوة بدر . < < الأنفال : ( 1 ) يسألونك عن الأنفال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) والسؤال سؤالان : سؤال استخبار ، وسؤال طلب ؛ فقوله : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) سؤال استخبار ؛ فإنهم سألوه عن حكم الأنفال .
وقرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص : ' يسألونك الأنفال ' وهذا سؤال طلب . روى مصعب بن سعد ، عن أبيه سعد بن أبي وقاص أنه قال : ' سألت رسول الله سيفا يوم بدر فقلت : نفلنيه يا رسول الله ، فنزل قوله : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) ' .
والأنفال : الغنائم . والنفل في اللغة : الزيادة ، قال لبيد بن ربيعة العامري شعرا :
( إن تقوى ربنا خير نفل ** وبإذن الله ريثي والعجل )
ومنه صلاة النافلة ؛ لأنها زيادة على الفريضة . فسميت الغنائم أنفالا ؛ لأنها زيادة كرامة من الله تعالى لهذه الأمة على الخصوص .
وسبب نزول الآية ما روى ' أن أصحاب النبي افترقوا يوم بدر فرقتين : فرقة كانت تقاتل وتأسر ، وفرقة تحرس رسول الله ، ثم تنازعوا ، فقالت الفرقة المقاتلة :
____________________

( ^ الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ( 1 ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) * * * * الغنائم لنا ؛ قاتلنا وأسرنا ، وقال الآخرون : كنا ردءا لكم ، ونحرس رسول الله ، فالغنيمة بيننا ؛ فنزل قوله تعالى : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) .
وفي رواية : ' أن النبي قال يومئذ : من قتل قتيلا فله كذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا ، فتسارع الشبان وقاتلوا وأسروا ، وبقي الشيوخ مع الرسول - عليه السلام - يحرسونه ثم تنازعوا في الغنيمة ، فقال الشبان : الغنيمة لنا ؛ لأنا قاتلنا . وقال الشيوخ : كنا نحرس رسول الله ، وكنا ردءا لكم . وكان الذي تكلم من الشبان أبو اليسر والذي تكلم من الشيوخ سعد بن معاذ ، فنزلت الآية ، فقسم النبي الأنفال بين الكل .
وقوله : ( ^ قل الأنفال لله والرسول ) واختلفوا فيه قال مجاهد ، وعكرمة : الآية منسوخة بقول تعالى : ( ^ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ) فهذه الآية ردت من الكل إلى الخمس ، فكانت ناسخة للأولى .
وقيل : الآية غير منسوخة ، ومعنى قوله : ( ^ قل الأنفال لله والرسول ) أي : حكمها لله والرسول ؛ فتكون موافقة لتلك الآية .
( ^ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) قال : ثعلب : يعني : أصلحوا الحالة التي بينكم ، ومعناه : الإصلاح بترك المنازعة وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول ( ^ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) . < < الأنفال : ( 2 ) إنما المؤمنون الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) قال ابن أبي نجيح :
____________________

( ^ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ( 2 ) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 3 ) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ( 4 ) كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) * * * * أي : خافت وفرقت ، قال الشاعر :
( لعمرك ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تغدو المنية أول )
( ^ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) أي : يقينا وتصديقا ؛ وذلك أنه كلما نزلت آية فآمنوا به ازدادوا إيمانا وتصديقا ، وهذا دليل لأهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص ( ^ وعلى ربهم يتوكلون ) التوكل هو الاعتماد على الله والثقة به . < < الأنفال : ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . . > >
( الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) إقامة الصلاة هي أداؤها في أوقاتها بشرائطها وأركانها . < < الأنفال : ( 4 ) أولئك هم المؤمنون . . . . . > >
( ^ أولئك هم المؤمنون حقا ) قال مقاتل : يعني : إيمانا لا شك فيه . وقيل : برأهم من الكفر والنفاق .
وفيه دليل لأهل السنة على انه لا يجوز لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمنا حقا ؛ لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوما مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكل أحد لا يتحقق في نفسه وجود تلك الأوصاف .
( ^ لهم درجات عند ربهم ) قال الربيع بن أنس : الدرجات سبعون درجة ، ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة ( ^ ومغفرة ورزق كريم ) أي : كامل لا نقص فيه . < < الأنفال : ( 5 - 6 ) كما أخرجك ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) الأكثرون على أنه في إخراجه من المدينة إلى بدر للقتال مع المشركين . وقيل : هو في إخراجه من مكة إلى المدينة .
____________________

( ( 5 ) يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ( 6 ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) * * * *
واختلفوا في أن قوله : ( ^ كما أخرجك ) إلى ماذا ترجع كاف التشبيه ؟ قال المبرد : تقديره : الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك وإن كرهوا . وقول الفراء قريب من هذا ، وهكذا قول الزجاج ؛ فإنهما قالا : تقديره : امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر الله عند إخراجك من بيتك وإن كرهوا .
وقيل : هو راجع إلى قوله تعالى : ( ^ فاتقوا الله ) وتقديره : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق فاتبعت أمره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . وقيل : هو راجع إلى قوله تعالى : ( ^ لهم درجات عند ربهم ) وتقديره : وعد الدرجات حق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ؛ فأنجز والوعد بالنصر والظفر . وقال أبو عبيدة : ' ما ' هاهنا بمعنى : ' الذي ' أي : كالذي أخرجك ربك .
( ^ وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين ) وذلك أن أصحاب رسول الله كرهوا خروجه إلى بدر ، وجادلوا فيه ، فقالوا : لا نخرج ؛ فإنا لم نستعد للقتال ، وليس معنا أهبة الحرب .
وقوله : ( ^ بعد ما تبين ) معناه : ما تبين لهم صدقه في الوعد بما وعدهم مرة بعد أخرى فصدقهم في وعده .
( ^ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : وإن فريقا من المؤمنين لكارهونه كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، يجادلونك في الحق بعد ما تبين . < < الأنفال : ( 7 ) وإذ يعدكم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) سبب هذا : ما روي أن أبا سفيان قدم على عير من قبل الشام فيها أموال قريش ، فبلغ ذلك رسول الله وأصحابه بالمدينة ، فخرجوا في طلب العير ، فبعث أبو سفيان رجلا إلى مكة يستنفرهم ويستغيث بهم ، فخرج أبو جهل ورءوس المشركين في سبعمائة وخمسين
____________________

( ^ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ( 7 ) ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ( 8 ) إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف ) * * * * رجلا ، وكان المسلمون يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا ، ولم يكن لهم كثير سلاح ، وكان معهم فرسان فحسب ، أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لأبي مرثد الغنوي ، وكان معهم ستة أدرع ، وكان أكثرهم رجاله ، وبعضهم على الأبعرة ، فوعدهم الله - تعالى - إحدى الطائفتين : إما العير ( أو ) النفير ، وكان أبو سفيان صاحب العير ، وأبو جهل صاحب النفير ، فالتقى الجمعان ، ووقعوا في القتال ، وأخذ العير طريق الساحل وذهبوا ، وكان المسلمون يودون أن يظفروا بالعير ويفوزوا بالمال من غير القتال ' فهذا معنى قوله : ( ^ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) والشوكة : السلاح .
( ^ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ) أي : يظهر الحق ويعلى كلمته ( ^ ويقطع دابر الكافرين ) أي : أصل الكافرين . < < الأنفال : ( 8 ) ليحق الحق ويبطل . . . . . > >
( ^ ليحق الحق ويبطل الباطل ) أي : يثبت الحق وينفي الباطل ( ^ ولو كره المجرمون ) . < < الأنفال : ( 9 ) إذ تستغيثون ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ تسغيثون ربكم ) الاستغاثة : طلب الغوث ( ^ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) سبب هذا ما روى : ' أنه لما التقى الجمعان ببدر استقبل النبي القبلة ورفع يديه وقال : اللهم أنجزني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ، وعلا به صوته فقال له أبو بكر : خفض من صوتك يا رسول الله ؛ فإن الله منجزك ما وعدك ' فنزلت الآية واستجاب دعاءه ، وأمدهم الله تعالى بالملائكة ؛ فروى : ' أنه نزل جبريل في خمسمائة ، وميكائيل في خمسمائة ، وكان على رءوسهم عمائم بيض قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم ، وهم على صور البشر
____________________

( ^ من الملائكة مردفين ( 9 ) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ( 10 ) إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من ) * * * * على خيل بلق ' فهذا معنى قوله : ( ^ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) يقال : ردفه وأردفه إذا ( أتبعه ) ، قال الشاعر :
( إذا الجوزاء أردفت الثريا ** ظننت بآل فاطمة الظنونا )
فمعنى قوله ( ^ مردفين ) أي : متتابعين بعضهم في إثر بعض . وهذا معنى القراءة الثانية بفتح الدال . ومنهم من فرق بينهما وقال : مردفين أي : ممدين بعضهم لبعض . ومن قرأ بفتح الدال فمعناه : ممدين من قبل الله . < < الأنفال : ( 10 ) وما جعله الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما جعله الله إلا بشرى ) أي : بشارة ( ^ ولتطمئن به قلوبكم ) أي : تسكن به قلوبكم ( ^ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) < < الأنفال : ( 11 ) إذ يغشيكم النعاس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ويقرأ : ' إذ يغشاكم النعاس ' وقرأ ابن محيصن : ' أمنة ' ساكنة الميم في الشواذ .
والقصة في ذلك : أن الكفار يوم بدر نزلوا على الماء ، ونزل المسلمون على غير ماء ، فأجنب بعضهم وأحدثوا ، فلم يجدوا ماء يتطهرون به ، وكانوا في رمل تسوخ فيه أرجلهم ، فوسوس إليهم الشيطان : إنكم تزعمذسون أنكم على الحق وأولئك على الباطل وإذا هم على الماء ، فلو كنتم على الحق لكنتم أنتم على الماء ، وما بقيتم مجنبين محدثين ، فوقع فيهم خوف شديد ، فألقى الله تعالى عليهم النعاس حتى أمنوا ، وأنشأ سحابة فتمطرت عليهم حتى سال الوادي وتطهروا واغتسلوا ، وتلبدت الرمال حتى ثبتت عليها الأقدام . فهذا معنى قوله : ( ^ إذ يغشيكم النعاس أمنة ) .
____________________

( ^ السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( 11 ) إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ( 12 ) ذلك ) * * * *
قال ابن مسعود : النعاس في القتال من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
( ^ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) وهو ما ذكرنا ( ^ ويذهب عنكم رجز الشيطان ) أي : وسوسة الشيطان ( ^ وليربط على قلوبكم ) أي : يشدد قلوبكم وتثبت بإزالة الخوف ( ^ ويثبت به الأقدام ) يعني : على الرمل حين تلبد بالمطر . < < الأنفال : ( 12 ) إذ يوحي ربك . . . . . > >
( ^ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ) أي : بالنصر والظفر ( ^ فثبتوا الذين آمنوا ) وروى ' أن الملك كان يمشي بين أيديهم وينادي : أيها المسلمون ، أبشروا بالظفر والنصر ' . وقيل : كان يلهمهم الملك ذلك ؛ وللملك إلهام .
( ^ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق ) أي : على الأعناق ، وقيل : ' فوق ' فيه صلة ، ومعناه : فاضربوا الأعناق ، وقيل : هو على موضعه ، ومعناه : فاضربوا على اليافوخ .
( ^ واضربوا منهم كل بنان ) قيل : البنان : مفاصل الأطراف ، وقيل : الأصابع ، كأنه عبر به عن الأيدي والأرجل .
قال ابن الأنباري : ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون ، فعلمهم الله .
وقيل : إن الملائكة لم يقاتلوا إلا في غزوة بدر .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أنه لما أراد أن يحز رأس أبي جهل - وكان قد علاه ليقتله - فقال له أبو جهل : كنا نسمع الصوت ولا نرى شخصا ، ونرى الضرب ولا نرى الضارب ، فمن هم ؟ قال : هم الملائكة : فقال أبو جهل : أولئك غلبونا لا انتم . < < الأنفال : ( 13 - 14 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . . > >
( ^ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ) أي : نازعوا الله ورسوله .
____________________

( ^ بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ( 13 ) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ( 14 ) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ( 15 ) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى ) * * * *
( ^ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عاب النار ) إنما قال ذلك مبالغة في التعذيب والانتقام ، والعرب تقول للعدو إذا أصابه المكروه : ذق . قال الله تعالى : ( ^ ذق إنك أنت العزيز الكريم ) .
وروي أن أبا سفيان بن حرب لما مر بحمزة بن عبد المطلب وهو مطروح مقتول يوم أحد فقال له : ذق يا عقق ، يعني : ذق أيها العاق .
وفي القصة : أن المسلمين لما فرغوا من قتال بدر وانهزم الكفار قصدوا طلب العير وأن يتبعوهم - وكان العباس بن عبد المطلب في وثاق المسلمين وأسرهم - فقال لهم : ليس لكم إلى ذلك سبيل ؛ فإن الله - تعالى - وعدكم إحدى الطائفتين ، وقد ظفرتم بالجيش ؛ فليس لكم العير ، فسكتوا . < < الأنفال : ( 15 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ) أي : متزاحفين والتزاحف : التداني من القتال ، ومعناه : إذا تزاحفتم وتوافقتم ( ^ فلا تولوهم الأدبار ) أي : لا تنهزموا ؛ فإن المنهزم يولي دبره إذا انهزم < < الأنفال : ( 16 ) ومن يولهم يومئذ . . . . . > > ( ^ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال ) التحرف للقتال هو أن يرى الانهزام ويقصد به طلب الغرة والغيلة ، وانتهاز الفرصة ( ^ أو متحيزا إلى فئة ) أي : مائلا إلى فئة ( ^ فقد باء بغضب من الله ) أي : رجع بغضب من الله ( ^ ومأواه جهنم وبئس المصير ) واستدلت المعتزلة بإطلاق قوله : ( ^ ومأواه جهنم ) في وعيد الأبد ، ولا حجة لهم فيه ؛ لأن معنى الآية : ومأواه جهنم إلا أن تدركه الرحمة ؛ بدليل سائر الآي المقيدة .
قال الحسن البصري : الآية في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام بحال ؛ لأن النبي كان معهم ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها ، فأما في حق غيرهم فالفرار من الزحف لا يكون كبيرة ؛ لأن المسلمين بعضهم فئة لبعض ، فيكون الفار متحيزا إلى فئة .
____________________

( ^ فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( 16 ) فلم تقتلوهم ولكن الله ) * * * *
وهذا مروي عن أبي سعيد الخدري - من الصحابة - ويشهد لذلك : قول عمر - رضي الله عنه - أنه قال : لما أصاب المسلمين يوم الجسر ما أصابهم وصبروا حتى قتلوا ، قال عمر : هلا رجعوا إليّ وكان إذا بعث جيشا بعد ذلك يقول : أنا فئة لكل مسلم .
ويدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : ' غزونا غزو فحصنا حيصة ، فقلنا : يا رسول الله ، نحن الفرارون ؟ فقال لا ؛ بل أنتم العكارون ، وأنا فئتكم ' .
وفي الآية قول آخر - وهو المذهب اليوم وعليه عامة الفقهاء - أنه إن كان الكفار أكثر من مثليهم جاز الفرار من الزحف ؛ لقوله : ( ^ الآن خفف الله عنكم ) ولقوله : ( ^ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ولو صبروا جاز ، اللهم أن يعلموا قطعا أنه لا يمكنهم مقاومتهم ، فحينئذ لا يجوز الصبر ؛ لأنه يكون إلقاء لنفسه في التهلكة ، وإن كان الكفار مثلي المسلمين أو دون المثلين لا يجوز الفرار من الزحف إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - يعني : إلى فئة قريبة من الجيش مثل السرايا - والفرار من الزحف إنما يكون كثيره من هذه الصورة . < < الأنفال : ( 17 ) فلم تقتلوهم ولكن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) سبب هذا : أن المسلمين لما انصرفوا من قتال بدر ، كان الواحد منهم يقول : أنا قتلت فلانا ، ويقول الآخر : أنا قتلت فلانا ؛ فلم يرض الله تعالى منهم ذلك ، ونزلت الآية : ( ^ فلم تقتلوهم ) يعني : بقوتكم وعدتكم ( ^ ولكن الله قتلهم ) ( بنصره ) إياكم ومعونته لكم . وقيل معناه : ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى ظفرتم بهم .
____________________

( ^ قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ( 17 ) ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ( 18 ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) * * * *
وقيل معناه : ولكن الله قتلهم ببعث الملائكة لكم مددا ، فقتلهم الله بالملائكة .
( ^ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) روى : ' أن النبي أخذ كفا من الحصباء يوم بدر ورمى به إلى وجوه المشركين وقال : شاهت الوجوه . فلم يبق منهم أحد إلا وأصاب عينيه من ذلك ، وشغل بعينيه ' .
( ^ وما رميت إذ رميت ) يريد به ذلك الرمي بالحصباء التي أصابت عيونهم ؛ إذ ليس هذا في قدرة البشر أن ترمي الحصباء إلى وجوه جيش بحيث لا تبقى عين إلا ويصيبها منها ؛ ( ^ ولكن الله رمى ) بقوته وقدرته . وقيل معناه : وما بلغت إذ رميت ؛ ولكن الله بلغ ، وقيل معناه : وما رميت بالرعب في قلوبهم .
( ^ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) أي : نعمة حسنة ينعم بها على المؤمنين ، وذلك نعمة النصر والظفر ، والشدة بلاء ، والنعمة بلاء ، والله تعالى يبتلي عبده تارة بالنعمة وتارة بالشدة ( ^ إن الله سميع عليم ) . < < الأنفال : ( 18 ) ذلكم وأن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ) يقرأ مخففا ومشددا ومعناه : مضعف كيد الكافرين . < < الأنفال : ( 19 ) إن تستفتحوا فقد . . . . . > >
قوله : ( ^ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) قال الضحاك : سبب هذا أن أبا جهل
____________________

( ^ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ( 19 ) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ( 20 ) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ( 21 ) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ( 22 ) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ( 23 ) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا ) * * * * قال يوم بدر : اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأكرمهم عليك . وفي رواية أخرى : اللهم أقطعنا للرحم ، وأفسدنا للجماعة ، وأتانا بما لا نعرف ؛ فاخزه اليوم ، فأجابه الله تعالى يقوله : ( ^ إن تستفتحوا ) أي : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر .
( ^ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ) أي : إن تعودوا إلى الدعاء نعد إلى الإجابة ، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى النصر ( ^ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) . < < الأنفال : ( 20 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ) أمر الصحابة بطاعته وطاعة رسوله ( ^ ولا تولوا عنه ) أي : لا تعرضوا عنه ( ^ وأنتم تسمعون < < الأنفال : ( 21 ) ولا تكونوا كالذين . . . . . > > ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) يعني : أنهم لما لم ينتفعوا بما سمعوا فكأنهم لم يسمعوا ، فلا تكونوا مثلهم . < < الأنفال : ( 22 ) إن شر الدواب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) سمى الكفار صما بكما ؛ لأنهم لما لم يسمعوا الحق ، ولم ينطقوا بالحق ، ولم يعقلوا الحق سماهم بذلك ، وعدهم من جملة الأنعام . < < الأنفال : ( 23 ) ولو علم الله . . . . . > >
( ^ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي : لأسمعهم سماع التفهم والقبول لو علم أنهم يصلحون لذلك .
( ^ ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) فإن قيل : كيف يستقيم قوله : ( ^ لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا ) ؟ قيل معناه : لو علم فيهم خيرا لأسمعهم سماع التفهم ، ولو
____________________

( ^ دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ( 24 ) ) * * * * أسمعهم سماع الآذان لتولوا . وقيل معناه : ولو أسمعهم سماع التفهم لتولوا ؛ لما سبق لهم من الشقاوة ، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا خير فيهم . وقيل : معناه : أنهم كانوا يقولون للنبي : أحيي لنا قصيا ؛ فإنه كان شيخا مباركا حتى نشهد لك بالنبوة فنؤمن بك ، فقال الله تعالى : ( ^ ولو أسمعهم ) كلام قصي ( ^ لتولوا وهم معرضون ) . < < الأنفال : ( 24 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) قال السدي في قوله : ( ^ لما يحييكم ) : أراد به الإيمان . وسمى السدي بذلك ؛ لأنه كان يجلس في سدة مسجد الكوفة .
وقال قتادة : هو القرآن . وقال الفراء : هو الجهاد . وقال ابن قتيبة : هو الشهادة .
وروى أبو هريرة ' أن النبي دعا أبي بن كعب وهو في الصلاة ، فأسرع القراءة وأتم الصلاة وأجابه ، فقال النبي : ما منعك أن تجيبني ؟ فقال : كنت في الصلاة ، فقال - عليه السلام - : أما سمعت قوله الله تعالى : ( ^ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ؟ فقال : علمت ، لا أعود ' .
( ^ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) قال سعيد بن جبير وجماعة : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر ، والإيمان . قال الضحاك : يحول بين المؤمن والمعصية ، وبين الكافر والطاعة .
وفيه قول ثالث : أن معناه : يحول بين المؤمن والخوف ، وبين الكافر والأمن ؛ وذلك أن الكفار كانوا آمنين ، والمسلمين كانوا خائفين ؛ فأبدل الله تعالى خوف هؤلاء بالأمن ، وأمن هؤلاء بالخوف ، وعبر بالقلب ؛ لأنه محل الخوف والأمن ( ^ وأنه إليه تحشرون ) .
____________________

( ^ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ( 25 ) واذكروا إذ انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ( 26 ) يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ( 27 ) واعلموا أنما أموالكم ) * * * * < < الأنفال : ( 25 ) واتقوا فتنة لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) أكثر المفسرين على أن الآية في أصحاب النبي ومعناها : اتقوا عذابا يصيب الظالم وغير الظالم .
قال الزبير حين رأى ما رأى يوم الجمل : ما علمت أن هذه الآية نزلت فينا أصحاب رسول الله حتى كان هذا اليوم . وقال ابن عباس في معنى الآية : لا تقروا المنكر بينكم ، ومروا بالمعروف ؛ كي لا يعمكم الله بعقاب ، فيصيب الظالم وغير الظالم .
وقيل : أراد بالفتنة : تفريق الكلمة واختلاف الآراء ، واتقوا فتنة تفريق الكلمة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، فيكون العذاب مضمرا فيه ( ^ واعلموا أن الله شديد العقاب ) . < < الأنفال : ( 26 ) واذكروا إذ أنتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) قال وهب بن منبه : يعني : تتخطفكم فارس . وقال عكرمة : يتخطفكم كفار العرب ( ^ فآواكم ) يعني : إلى المدينة ( ^ وأيدكم بنصره ) أي : قواكم بنصره ( ^ ورزقكم من الطيبات ) يعني : الغنائم ( ^ لعلكم تشكرون ) . < < الأنفال : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) ولا تخونوا أماناتكم ( ^ وأنتم تعلمون ) قال الكلبي : نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر ؛ فإن النبي لما حاصر بني قريظة بعثه إليهم - وكان منهم - فقالوا له : ماذا يفعل بنا لو نزلنا على حكيه ؟ فوضع أصبعه على حلقه وأشار إليهم بالذبح - يعني : يقتلكم - قال أبو لبابة : فما برحت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله ، ونزلت الآية ' .
____________________

( ^ وأولادكم فتنة وان الله عنده أجر عظيم ( 28 ) يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ( 29 ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير ) * * * *
وقيل : الآية في جميع الأمانات ، نهي العباد عن الخيانة في الأمانات ، وتدخل في الأمانات الطاعات ؛ فإن الطاعات أمانات عند العباد على معنى أنها بينهم وبين ربهم أدوها أو لم يؤدوها . < < الأنفال : ( 28 ) واعلموا أنما أموالكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) قيل : هذا أيضا في أبي لبابة ، وكان فيهم أهله وأولاده وأمواله ، فقال ما قال خوفا عليهم . وقيل : هو في سائر الخلق . وفي الحديث : ' الولد مجبنة مبخلة ومجهلة ' .
وروي أن النبي رأى الحسن والحسين فقال : ' إنكم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني ، وإنكم لمن ريحان الله ' وأشار إلى الحسن والحسين يعني : توقعون الأباء في الجبن والبخل والجهل . وقوله : ' لمن ريحان الله ' أي : من رزق الله . < < الأنفال : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) قال ابن عباس : أي : مخرجا . وقال جاهد : منجاة ( ^ ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) . < < الأنفال : ( 30 ) وإذ يمكر بك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) سبب نزول الآية أن المشركين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا أمر رسول الله ، فدخل
____________________

( ^ الماكرين ( 30 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا ) * * * * عليهم إبليس في صورة شيخ ، فقالوا له : ما الذي أدخلك علينا ؟ قال : أنا شيخ من نجد ، ولست من تهامة ، وقد بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل ، وأنه لا يعدمكم مني رأي ، فقالوا : اتركوه ، ثم تشاوروا ، فقال عتبة : اربطوه على جمل وأخرجوه من بلدكم تكفكموه العرب ، فقال إبليس : ليس هذا برأي ، أما ترون حلاوة منطقه وأخذه القلوب ، فلو فعلتم به ذلك يذهب فيستميل قلوب قوم ثم يغزوكم ويفرق جمعكم ، فتركوا ذلك ، فقال أبو البختري بن هشام : نحبسه في بيت ونتربص به ريب المنون ، فقال إبليس : ليس هذا برأي ، فإن له عشيرة وقوما لا يرضون به ويخرجونه ، فتركوا ذلك ، فقال أبو جهل : عندي رأي ، هذه خمسة أحياء من قريش ، نختار من كل حي شابا قويا ونضع في يده سيفا حادا ، ونأمرهم أن يضربوه دفعة واحدة حتى يتفرق دمه في القبائل ، ويعجز قومه عن القتال فيرضون بالدية ، فقال إبليس : هذا هو الرأي ، وتفرقوا عليه ، فأخبره الله تعالى يمكرهم ، ونزلت الآية ، فروى أن النبي بعث أبا بكر ليتفحص عن حالهم ، فلما جاء إليهم فإذا إبليس قد خرج من بينهم ، فماشاه ساعة ثم لما أراد أن يفارقه قال له أبو بكر : أين تريد ؟ فقال [ له ] اللعين : لي قوم بهذا الوادي ، فعلم أبو بكر أنه إبليس ، فقال الحمد لله الذي أخزاك واظهر دينه ، فاختفى منه ؛ فقوله ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ) هو مكرهم ذلك ، والمكر : التدبير ( ^ ليثبتوك ) أي : ليحبسوك كما قال أبو البختري ( ^ أو يقتلوك ) كما قال أبو جهل ( ^ أو يخرجوك ) كما قال عتبة .
( ^ ويمكرون ويمكر الله ) والمكر من الله : التدبير بالحق ، وقيل : هو الأخذ بغتة . قال الزجاج معناه : يجازيهم جزاء المكر .
( ^ والله خير الماكرين ) أي : خير المدبرين . < < الأنفال : ( 31 ) وإذا تتلى عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) هذا قول النضر بن الحارث بن كلدة ، وكان قد خرج إلى الحيرة من أرض العراق
____________________

( ^ أساطير الأولين ( 31 ) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( 32 ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان ) * * * * واشترى أخبار رستم ، واسفنديار ، وأحاديث العجم ، وجاء بها إلى مكة ، وقال : لو شئت لقلت مثل القرآن ؛ فذلك قوله : ( ^ لو نشاء لقلنا مثل هذا ) .
( ^ إن هذا إلا أساطير الأولين ) أي : أكاذيب الأولين ؛ والأساطير : جمع الأسطورة ، وهي المكتوبة . فإن قيل : إذا كان القرآن معجزا كيف يستقيم قوله : ( ^ لو نشاء لقلنا مثل هذا ) وهل يقول أحد : لو شئت قلبت الحجر ذهبا والعصا حية وهو عاجز عنه ؟
قيل : إن القرآن مطمع ممتنع ، فقد يتوهم صفوهم أنه يقول مثله ، ويمتنع عليه ذلك فيخطئ ظنه . وقيل : إنه توهم بجهله أنه يمكنه الإتيان بمثله وكان عاجزا . < < الأنفال : ( 32 ) وإذ قالوا اللهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) أكثر المفسرين على أن هذا قول النضر بن الحارث ، وفي الصحيح برواية أنس أن هذا قول أبي جهل عليه اللعنة .
وهذا يدل على شدة بصيرتهم في الكفر ، وأنه لم تكن لهم شبهة وريبة في كذب الرسول ؛ لأن العاقل لا يسأل العذاب بمثل هذا متردد في أمره ؛ وهذا دليل على أن العارف ليست بضرورته .
وحكى عن معاوية أنه قال لرجل من أهل اليمن : ما أجهل قومك حيث قالوا : ربنا باعد بين أسفارنا ، فقال الرجل وأجهل من قومي قومك ؛ حيث قالوا : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . < < الأنفال : ( 33 ) وما كان الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) يعني : أهل مكة ( ^ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) وفي معناه أقوال :
أحدها : أن هذا في قوم من المسلمين بقوا بمكة بعد هجرة الرسول ، وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر .
____________________


( ^ الله معذبهم وهم يستغفرون ( 33 ) وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد ) * * * *
وقيل : في قوم علم الله تعالى أنهم يؤمنون ويستغفرون من أهل مكة ، وذلك مثل : أبي سفيان ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام ، ونحوهم ، فلما كان في علم الله تعالى أنهم لأصحابه يسلمون ويستغفرون ؛ عدهم مستغفرين في الحال .
وقيل معناه : وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر ؛ إذ كان لبعضهم أولاد قد أسلموا .
وقيل : إنما قال : ( ^ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) دعوة لهم إلى الإسلام والاستغفار ، كالرجل يقول : لا أعاقبك وأنت تطيعني ، أي : أطعني حتى لا أعاقبك .
وفي الخبر : ' أن النبي قال : أنزل الله على أمانين لأمتي : ( ^ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان معذبهم وهم يستغفرون ) فإذا مضيت تركت لهم الاستغفار إلى يوم القيامة ' . وهو في جامع أبي عيسى بطريق أبي موسى الأشعري .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : من قال في كل يوم : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاث مرات ، غفر له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف .
واستدل بهذا الأثر من عد الفرار من الزحف من جملة الكبائر . < < الأنفال : ( 34 ) وما لهم ألا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما لهم ألا يعذبهم الله ) فإن قال قائل : كيف التلفيق بين هذا وبين قوله : ( ^ وما كان الله [ ليعذبهم ] ) ؟ قيل : أراد بالأول : عذاب الاستئصال ، وبهذا : عذاب السيف . وقيل : أراد بالأول : عذاب الدنيا ، وبالثاني : عذاب الآخرة .
____________________


( ^ الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 34 ) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 35 ) إن ) * * * *
وقيل : المراد به أولئك الذين ترك تعذيبهم ؛ لكون النبي بينهم ، ومعناه : وما لهم ألا يعذبهم الله بعد خروجك من بينهم .
( ^ وهم يصدون عن المسجد الحرام ) أي : يمنعون عنه ( ^ وما كانوا أولياءه ) وذلك أنهم كانوا يدعون : إنا أولياء البيت ( ^ إن أولياؤه إلا المتقون ) يعني : المؤمنين ( ^ ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . < < الأنفال : ( 35 ) وما كان صلاتهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) قال ابن عمر ، وابن عباس - رضي الله عنهم - والحسن المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق . والمكاء في اللغة : اسم طائر له صفير فكأنه قال : إلا صوت مكاء ، وقال مجاهد : والمكاء أن يجعل أصابعه في شدقيه ، والتصدية : الصفير ؛ فجعلهما شيئا واحدا . وقال سعيد بن جبير : التصدية : هي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام . والأول أصح ، قال الشاعر :
( وحليل غانية تركت مجدلا ** تمكو فريصته كشدق الأعلم )
أي : تصفر فريصته كشدق الأعلم .
والقصة في ذلك : أن أربعة من بني عبد الدار كانوا إذا صلى النبي في المسجد الحرام وقف اثنان عن يمينه ، واثنان عن يساره ، فيصفر اللذان عن يمينه ويصفق اللذان عن يساره حتى يخلطوا عليه القراءة .
قال ابن الأنباري : إنما سماه صلاة ؛ لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد ، فلما وضعوا ذلك موضع الصلاة سماه صلاة ( ^ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . < < الأنفال : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذيك كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فيسنفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) فيه قولان :
____________________


( ^ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ( 36 ) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ( 37 ) قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت ) * * * *
أحدهما : أن الآية في المطمعين يوم بدر ، وهم اثنا عشر نفرا من رؤس المشركين : أبو جهل بن هشام ، والحارث بن هشام ، وأبي بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، والعباس بن عبد المطلب ؛ لأن كل واحد منهم كان كل يوم ينحر عشرة أبعرة ويطعم الجيش .
والقول الثاني : أن هذا في أبي سفيان بن حرب استأجر ثلاثة آلاف رجل من الأحابيش يوم أحد لقتال النبي - عليه السلام - فنزل قوله تعالى : ( ^ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ثم تكون حسرة عليهم يوم القيامة ثم يغلبون ) .
قال الحسن : أشد الناس حسرة يوم القيامه من يرى ماله في ميزان غيره ( ^ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) . < < الأنفال : ( 37 ) ليميز الله الخبيث . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليميز الله الخبيث من الطيب ) أي : ليفرق الله الخبيث من الطيب ؛ الخبيث : ما أنفق من الحرام ، والطيب : ما أنفق من الحلال . وقيل : الخبيث ما أنفق في المعصية ، والطيب ما أنفق في الطاعة .
( ^ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا ) أي : يجمعه جميعا ؛ يقال : سحاب مركوم إذا كان بعضه على بعض ( ^ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) .
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : إن الله تعالى يجمع الدنيا يوم القيامة ، فيأخذ ماله ويطرح الباقي في النار . ولأي معنى يطرحه في النار ؟ قيل : ليضيق المكان على الكفار ، وقيل : لتكون الحسرة أشد عليهم إذا نظروا إليها . < < الأنفال : ( 38 ) قل للذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) قال يحيى بن
____________________


( ^ الأولين ( 38 ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ( 39 ) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ( 40 ) واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى ) * * * * معاذ الرازي - رحمه الله - إيمان لم يعجز عن هدم كفر قبله فمتى يعجز عن هدم ذنب بعده !
( ^ وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ) قيل : سنة الأولين : أن يصل عذاب الدنيا بعقوبة الآخرة . < < الأنفال : ( 39 - 40 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) أي : لا يكون شرك ( ^ ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ) فالمولى : القيم بالأمور ، والنصير : الناصر . < < الأنفال : ( 41 ) واعلموا أنما غنمتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ) الآية .
اختلف العلماء في الغنيمة والفيء ؛ فأحد القولين : أنهما سواء ، وهو المال المأخوذ من الكفار على وجه القهر .
والقول الثاني - وهو الأصح - : أنهما مختلفان ، والفرق بينهما : أن الغنيمة : هي المال المأخوذ من الكفار على وجه العنوة بإيجاف الخيل والركاب ، والفيء : هو المال المأخوذ من غير إيجاف خيل ولا ركاب .
وهذا القول منقول عن سفيان الثوري ، والشافعي - رضي الله عنهما - وغيرهما .
( ^ فأن الله ) أكثر المفسرين على أن قوله : ( ^ لله ) افتتاح كلام ، وليس لله سهم منفرد ؛ بل سهم الله وسهم الرسول واحد .
وفيه قول آخر : أن لله سهما يصرف إلى الكعبة . وقد روي أن الحسن بن محمد بن الحنفية سئل عن هذه الآية فقال : قوله ( ^ فأن لله خمسة ) افتتاح كلام ، لله الدنيا والآخرة . وعن أبي العالية الرياحي قال : ' كان رسول الله يقسم الغنيمة على
____________________

خمسة أسهم ، فيفرز الخمس منه ، ثم يأخذ منه قبضة فيجعله للكعبة ، ثم يقسم الباقي على ما ذكر الله ' .
وأما قوله : ( ^ وللرسول ) أكثر المفسرين على أن للرسول سهما مفردا . وقال بعضهم : ليس للرسول سهم أصلا ؛ وإنما هو افتتاح كلام ، ومعنى ذكر الرسول أن التدبير إليه .
ثم اختلفوا على القول الأول أن ذلك السهم بعد موته لمن يكون ؟
قال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : يرد إلى الأسهم الأربعة . وأما مذهب الشافعي : أن ذلك السهم يصرف إلى المصالح .
وفيه قول رابع : أنه يصرف إلى الكراع والسلاح في سبيل الله . وهذا مروي عن إبراهيم النخعي وغيره .
وأما قوله : ( ^ ولذي القربى ) اختلفوا في هذا على ثلاثة أقاويل :
فمذهب الشافعي : أن لهم سهما مفردا بعد رسول الله إلى قيام الساعة ، يشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم على ما هو المعروف . وهذا قول أحمد وغيره .
وقال مالك : الأمر فيه إلى الإمام إن شاء أعطاهم ، وإن شاء لم يعطهم ، وكذلك في الباقي ، وإنما ذكروا لجواز الصرف إليهم لا للاستحقاق .
والقول الثاني : وهو مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - : أن سهم ذوي القربى يرد إلى الباقين ، وليس لهم سهم مفرد ، فيقسم على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل . ويروون هذا عن الخلفاء الأربعة أنهم قسموا على هذا الوجه ، والله أعلم بالصواب .
ثم اختلفوا في ذوي القربى من هم ؟ قال مجاهد . هم بنو هاشم خاصة ؛ وروي عن ابن عباس أنه قال : جميع قريش . وحكى عنه أنه سئل عن سهم ذوي القربى فقال : نزعم أنه لنا ، ويأبى قومنا ذلك علينا .
____________________


( ^ والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى ) * * * *
والقول الثالث : أن ذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب ، وهذا قول الشافعي - رحمه الله - وقد دل عليه الخبر المروي بطريق جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عن النبي : ' قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، فمشيت أنا وعثمان إلى رسول الله وقلنا : يا رسول الله ، إنا لا ننكر فضيلة بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ؛ ولكننا وإخواننا بني المطلب في القرابة منك سواء ، وقد أعطيتهم وحرمتنا ، فقال : أنا وبني المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - وإنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام ' .ٍ
وأما قوله تعالى : ( ^ واليتامى ) فاليتامى لهم سهم مفرد بالإنفاق ، واليتيم الذي يستحق السهم هو الذي لا أب له فيكون صغيرا فقيرا .
وقوله : ( ^ والمساكين ) فالمساكين هم أهل الحاجة ، وسيرد الفرق بين المسكين والفقير في سورة براءة .
وأما قوله : ( ^ وابن السبيل ) فهو المنقطع الذي بعد عن ماله .
وقوله : ( ^ إن كنتم آمنتم بالله ) معناه : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ، على ما ذكر ، إن كنتم آمنتم بالله . وقيل معناه : يأمران فيه بما يريدان فاقبلوا إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : ( ^ وما أنزلنا ) يعني : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا ( ^ على عبدنا ) .
وفيه قول آخر : أن هذا راجع إلى قوله تعالى : ( ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ( ^ يوم الفرقان ) يوم بدر ، فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل ( ^ يوم التقى الجمعان ) معناه : التقى حزب الله وحزب الشيطان
____________________


( ^ الجمعان والله على كل شيء قدير ( 41 ) إذ إنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ( 42 ) إذ ) * * * *
( ^ والله على كل شيء قدير ) .
وروي عن الشعبي أنه قال : يوم الفرقان يوم السابع عشر من رمضان أخبر الله تعالى بتمام قدرته . < < الأنفال : ( 42 ) إذ أنتم بالعدوة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) الآية ، العدوة : شفير الوادي ؛ والغدوة والعدوة واحد ، وقوله ( ^ الدنيا ) يعني : الأدنى من المدينة ؛ فهي تأنيث الأدنى ( ^ وهم بالعدوة القصوى ) يعني : الأقصى من مكة ؛ وهي تأنيث الأقصى ( ^ والركب أسفل منكم ) قالوا معناه : والركب بمنزل أسفل منكم . والركب : هو العير الذي كان عليه أبو سفيان ، وكانوا بساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر ( ^ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) معناه : ولو تواعدتم الاتفاق والاجتماع للقتال لاختلفتم لقلتكم وكثرتهم ( ^ في الميعاد ولكن ) الله جمع من غير ميعاد ( ^ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) .
قوله تعالى : ( ^ ليهلك من هلك عن بينة ) الآية فيها قولان :
أحدهما - وهو الأظهر - : أن الهلاك هو الكفر ، والحياة هي الإيمان ، ومعناه : ليكفر من كفر عن حجة بينة فيما له وعليه ( ^ ويحيا من حي ) يعني : ويؤمن من آمن على مثل ذلك .
والقول الثاني : أن الهلاك هو الموت ، والحياة هي العيش ، ومعناه : ليموت من يموت عن حجة بينة ، ويعيش من يعيش على مثل ذلك .
( ^ وإن الله لسميع عليم ) سميع لأقوالكم ، عليم بأموركم . < < الأنفال : ( 43 ) إذ يريكهم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ) الآية فيها قولان :
أظهر القولين : أن المنام حقيقة النوم ؛ فرآهم رسول الله في نومه أقل مما كانوا
____________________


( ^ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ( 43 ) وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ( 44 ) يا أيها الذين آمنوا ) * * * * في العدد .
والقول الثاني وهو قول الحسن البصري : أنه قوله تعالى : ( ^ في منامك ) أي : في عينك قليلا ؛ وسمى العين مناما ؛ لأنها موضع النوم .
( ^ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) لجبنتم ( ^ ولتنازعتم في الأمر ) يعني : في الإحجام والإقدام ( ^ ولكن الله سلم ) أي : سلمكم من الفشل والجبن ( ^ إنه عليم بذات الصدور ) .
وقد صح عن النبي أنه كان يستعيذ بالله من الجبن . < < الأنفال : ( 44 ) وإذ يريكموهم إذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ) معنى الآية : أن الله تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ؛ ليقدموا ولا يجبنوا ، وقلل المؤمنين في أعين الكفار ؛ لئلا يهربوا .
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : قلت يوم بدر لبعض من كان بجنبي : تراهم سبعين رجلا ، فقال : أراهم مائة ، ثم إنا أسرنا منهم فقلنا لهم : كم كنتم ؟ فقالوا : كنا ألفا ( ^ ليقضي الله ) يعني : ليقضي الله من إعلاء الإسلام وإذلال الشرك ونصرة المؤمنين وقتل المشركين . < < الأنفال : ( 45 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة ) الآية ، الفئة : الجماعة .
____________________


( ^ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( 45 ) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ( 46 ) ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعلمون ) * * * *
قوله : ( ^ فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ) ومعنى ذكر الله : هو الدعاء بالنصرة والظفر ( ^ لعلكم تفلحون ) وكونوا على رجاء الفلاح . < < الأنفال : ( 46 ) وأطيعوا الله ورسوله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأطيعوا الله ورسوله ) الآية ، وقوله : ( ^ ولا تنازعوا فتفشلوا ) معناه : ولا تختلفوا فتضعفوا ( ^ وتذهب ريحكم ) معناه : جدكم وجهدكم .
وقال قتادة : الريح هاهنا : ريح النصرة . وقد صح عن النبي أنه قال : ' نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ' .
والقول الثالث ، قول الأخفش وغيره : وتذهب ريحكم أي : دولتكم ( ^ واصبروا إن الله مع الصابرين ) معلوم التفسير .
وفي الآية فضيلة عظيمة لأهل الصبر ؛ فإن الله تعالى قال : ( ^ إن الله مع الصابرين ) قال الشاعر :
( إني رأيت في الأيام تجربة ** للصير عاقبة محمودة الأثر )
قوله تعالى : ( ^ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ) الآية ، البطر : الطغيان في النعمة وترك الشكر ، والرياء : إظهار الجميل وإبطان القبيح .
والآية نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ، < < الأنفال : ( 47 ) ولا تكونوا كالذين . . . . . > > فقال تعالى للمؤمنين : ( ^ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ) .
( ^ ويصدون عن سبيل الله ) معناه : يمنعون عن سبيل الحق ( ^ والله بما يعلمون محيط ) روي عن النبي أنه قال حين أقبل المشركون : ' اللهم هذه قريش أقبلت
____________________


( ^ محيط ( 47 ) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم وإني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ( 48 ) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) * * * * بفخرها وخيلائها تحادك وتحاد رسولك ' الخبر إلى آخره . < < الأنفال : ( 48 ) وإذ زين لهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ) الآية . روي أن إبليس - عليه ما يستحق - تمثل في صورة سراقة بن مالك وقال للمشركين : ( ^ وإني جار لكم ) معناه : مجير لكم من بني كنانة ، فلا يصيبكم منهم سوء ، ثم جعل يحرضهم على القتال ( ^ فلما تراءت الفئتان ) أي : تلاقت الفئتان ، المؤمنون والمشركون ( ^ نكص على عقبيه ) رجع القهقري على عقبيه ( ^ وقال إني بريء منكم ) في القصة : أنه كان آخذا بيد الحارث بن هشام أخي أبي جهل ، فلما رأى الملائكة ينزلون من السماء يقدمهم جبريل - عليه السلام - نزع يده من يد الحارث وهرب ، فقال له الحارث : أفرارا من غير قتال ؟ وجعل يمسكه ، فدفع في صدره وقال : ( ^ إني أرى ما لا ترون ) وهرب ( ^ إني أخاف الله ) .
فإن قال قائل : كيف قال إني أخاف الله وقد ترك السجود لآدم وهو لم يخف الله ؟ الجواب فيه قولان :
أحدهما : أنه قال هذا كذبا ، والقول الثاني : أنه خاف أن يؤخذ فيفتضح بين الإنس . ومنهم من قال : خاف أنه قد حضر أجله ( ^ والله شديد العقاب ) . < < الأنفال : ( 49 ) إذ يقول المنافقون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) هؤلاء قوم كانوا أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فكان في قلوبهم بعض الريب ، فخرجوا مع المشركين وقالوا : إن نرى مع محمد قوة انتقلنا إليه ، فلما رأوا قلة المؤمنين وضعف شوكتهم قالوا هذا القول ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ إذ يقول المنافقون . . . ) الآية .
قوله تعالى : ( ^ ومن يتوكل على الله ) ومن يثق بالله ( ^ فإن الله عزيز حكيم ) قد
____________________


( ^ غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( 49 ) ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ( 50 ) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 51 ) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ( 52 ) ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) * * * * بينا معنى العزيز الحكيم من قبل . < < الأنفال : ( 50 ) ولو ترى إذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ) فيه قولان :
أحدهما : أن هذا عند الموت ، وقوله : ( ^ يضربون وجوههم وأدبارهم ) يضربون وجوههم بأسواط النار ، وأدبارهم سوقا إلى العذاب .
والقول الثاني : أن التوفي هاهنا هو القتل ، ومعناه : قتل الملائكة المشركين ببدر ، وقوله ( ^ يضربون وجوههم وأدبارهم ) معناه : يضربونهم بالسيف إذا أقبلوا . وقوله ( ^ وأدبارهم ) ويضربونهم بالسيف إذا أدبروا ، ويقولون : ( ^ وذوقوا عذاب الحريق ) .
روي عن الحسن البصري أنه قال : مع الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار ، فتلتهب النار في جراحاتهم ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وذوقوا عذاب الحريق ) . < < الأنفال : ( 51 ) ذلك بما قدمت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) ومعناه ظاهر . < < الأنفال : ( 52 ) كدأب آل فرعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كدأب آل فرعون ) الآية ، الدأب هاهنا بمعنى العادة ، ومعناه : عادتهم في الكفر كعادة آل فرعون ( ^ والذين من قبلهم كفروا بآيات الله ) الآية ، ومعنى الآية ظاهر . < < الأنفال : ( 53 ) ذلك بأن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم ) الآية ، فيه قولان :
أحدهما : معناه : ( ^ لم يكن مغيرا نعمة ) يعني : لم يكن مبدلا النعمة بالبلية
____________________


( ( 53 ) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ( 54 ) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( 55 ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) * * * * ( ^ حتى يغيروا ما بأنفسهم ) يعني : حتى يتركوا الشكر ، ويؤتوا الكفران .
والقول الثاني : أن هذا في أهل مكة ؛ فإن الرسول كان نعمة أنعمها الله تعالى عليهم ، فكفروا بهذه النعمة ، فغيرها الله تعالى ، ومعناه : أنه نقلها إلى أهل المدينة ( ^ وأن الله سميع عليم ) معلومان . < < الأنفال : ( 54 ) كدأب آل فرعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كدأب آل فرعون ) ومعناه : ما بينا ، وإعادة الذكر للتأكيد ، ويجوز أن هذا كان في قوم آخرين سوى الأولين .
قوله تعالى : ( ^ والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ) يعني : نهلك هؤلاء كما أهلكنا أولئك .
قوله تعالى : ( ^ وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) يعني : الأولين والآخرين . < < الأنفال : ( 55 ) إن شر الدواب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ) الآية . هذه الآية مثل قوله تعالى : ( ^ أولئك كالأنعام بل هم أضل ) سماهم الله تعالى دواب وأنعاماً ؛ لقلة انتفاعهم بعقولهم وألبابهم وأسماعهم وأبصارهم ( ^ فهم لا يؤمنون ) معناه ظاهر . < < الأنفال : ( 56 ) الذين عاهدت منهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين عاهدت منهم ) هذه الآية نزلت في قوم من المشركين عاهدوا مع رسول الله ثم نقضوا العهد ، فقال الله تعالى : ( ^ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ) يعني : كلما عاهدوا نقضوا ( ^ وهم لا يتقون ) معناه : لا يتقون نقض العهد . < < الأنفال : ( 57 ) فإما تثقفنهم في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإما تثقفنهم في الحرب ) معناه : فإما تصادفنهم في الحرب ( ^ فشرد بهم من خلفهم ) قال سعيد بن جبير : أنذر بهم من خلفهم ، قال الشاعر :
( أطوف في الأباطح كل يوم ** مخافة أن يشرد بي حكيم )
____________________


( ( 56 ) فإما تثقفهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( 57 ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( 58 ) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( 59 ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ لعلهم يذكرون ) يعني : يتذكرون .
ومعنى الآية : أي نكل بهؤلاء الذين جاءوا لحربك أو نقضوا عهدك تنكيلا يفرق بينهم من خلفهم من جماعاتهم . < < الأنفال : ( 58 ) وإما تخافن من . . . . . > >
فقوله تعالى : ( ^ وإما تخافن من قوم خيانة ) الآية ، معنى المخافة هاهنا : هو الإحساس بالخيانة ( ^ فانبذ إليهم على سواء ) يعني : فانبذ العهد إليهم ( ^ على سواء ) يعني : على حالة تستوي أنت وهم في العلم به .
والمراد من الآية : ألا تقاتلهم قبل نبذ العهد ، وقبل علمهم بالنبذ حتى لا تنسب إلى نقض العهد ، وهذه الآية تعد من فصيح القرآن .
قوله تعالى : ( ^ إن الله لا يحب الخائنين ) والمعنى معلوم . < < الأنفال : ( 59 ) ولا يحسبن الذين . . . . . > >
قوله تعالى ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ) الآية في القوم الذين انهزموا يوم بدر من المشركين ، قوله : ( ^ سبقوا ) يعني : فاتوا .
قوله ( ^ إنهم لا يعجزون ) يعني : لا يفوتوني . وقرأ ابن محيصن : ' لايعجزون ' والصحيح القراءة الأولى . وقد قرئت الآية بقراءتين : ' أنهم ' و ' إنهم ' فقوله : ' إنهم ' على طريق الابتداء ، وقوله : ' أنهم ' يعني : لأنهم لا يفوتون . ومعنى الفوات منقول عن أبي عبيدة ، وعن الحسن البصري أنه قال : ( ^ لا يعجزون ) معناه : إن فاتهم عذاب الدنيا لا يفوتهم من عذاب الآخرة . < < الأنفال : ( 60 ) وأعدوا لهم ما . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) الآية ، الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة ، وقوله : ( ^ من قوة ) فيه أقوال :
____________________


( ^ ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا ) * * * *
أحدها : ما روى عقبة بن عامر : ' أن النبي قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ' . أورده مسلم في ' الصحيح ' .
والقول الثاني : وهو أن القوة : ذكور الخيل ، والرباط : إناثها . هذا قول عكرمة .
وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث ؛ لقلة صهيلها .
وعن أبي محيريز قال : كانوا يستحبون ركوب ذكور الخيل عند الصفوف ، وركوب إناث الخيل عند الثبات والغارات .
والقول الثالث : أن القوة : هي جميع الأسلحة . وقد قيل : إن القوة : الحصون ؛ والحصون : الخيول ، قال الشاعر :
( ولقد علمت على تجنبي الردى ** أن الحصون الخيل لا مدر القرى )
وقوله : ( ^ ترهبون به ) معناه : تخيفون به ( ^ عدو الله وعدوكم ) أي : أعداء الله وأعداءكم واحد بمعنى الجمع . وقوله : ( ^ وآخرين من دونهم ) أي : ترهبون به آخرين من دونهم ، واختلفوا في معناه :
روي عن مجاهد أنه قال : هم بنو قريظة . وفيه قول آخر : أنهم المنافقون .
وفيه قول ثالث : أنهم الجن . وعن السدى أنه قال : أهل فارس .
وروي عن النبي أنه قال : ' لن يخبل الجن آدميا في داره فرس عتيق ' . أورده النقاش في تفسيره .
____________________


( ^ من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( 60 ) وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( 61 ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( 62 ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ) * * * *
وفي الآية قول رابع : روي عن معاذ بن جبل أنه قال : ( ^ وآخرين من دونهم ) يعني : الشياطين .
وقوله : ( ^ لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ظاهر .
قوله : ( ^ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) أي : لا ينقص أجوركم . < < الأنفال : ( 61 ) وإن جنحوا للسلم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) السلم والسلم والسلم : الصلح ، ومعناه : وإن مالوا إلى الصلح فمل إليه .
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا : هذه الآية منسوخة بآية السيف .
قوله تعالى : ( ^ وتوكل على الله ) معناه : ثق بالله ( ^ إنه هو السميع العليم ) . < < الأنفال : ( 62 ) وإن يريدوا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن يريدوا أن يخدعوك ) الخداع : أن يظهر خلاف ما يبطن .
قوله : ( ^ فإن حسبك الله ) يعني : فإن كافيك هو ( ^ هو الذي أيدك بنصره ) هو الذي قواك بنصره ( ^ وبالمؤمنين ) أي : قواك بالمؤمنين < < الأنفال : ( 63 ) وألف بين قلوبهم . . . . . > > ( ^ وألف بين قلوبهم ) أكثر المفسرين أن هذا في الأوس والخزرج ؛ وقد كانت بينهم إحن وتراث في الجاهلية ، وكان القتال بينهم قائما مائة سنة ، فألف الله بين قلوبهم بالنبي قال الزجاج : كان الرجل منهم يلطم اللطمة فكان يقاتل بقوته إلى أن يستفيد منها ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، حتى صار الرجل يقاتل أخاه وقريبه على الإسلام .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : نزلت الآية في المتحابين في الله .
وفي الأخبار عن النبي أنه قال : ' المؤمن مألفة ، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا
____________________

( ^ جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( 63 ) يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( 64 ) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن ) * * * * يألف .
وعن خالد بن معدان أنه قال : إنه لله ملكا في السماء ؛ نصفه من ثلج ونصفه من نار ، وتسبيحه : اللهم كما ألفت بين الثلج والنار فألف بين قلوب عبادك الصالحين .
قوله ( ^ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) أي منيع في ملكه ، حكيم في خلقه . < < الأنفال : ( 64 ) يا أيها النبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) روي عن ابن عباس برواية الوالبي أنه قال : أسلم تسعة وثلاثون رجلا وثلاث وعشرون امرأة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه تمام الأربعين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وفي الآية قولان : أحدهما : ( ^ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك ) أي : يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين ، فتكون ' من ' في موضع النصب .
والقول الثاني : ( ^ حسبك الله ) وحسبك تباعك من المؤمنين ؛ فتكون ' من ' في موضع الرفع ، قال الشاعر :
( إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ** فحسبك والضحاك سيف مهند )
وهذا استشهاد للقول الأول .
وقرأ الشعبي : ' حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ' ومعناه قريب من الأول . < < الأنفال : ( 65 ) يا أيها النبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) قرئ في الشاذ : ' حرص
____________________

( ^ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( 65 ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع ) * * * * المؤمنين ' بالصاد غير معجمة ، والمعروف بالضاد معجمة ؛ والتحريض : هو الحث على المبادرة إلى الشيء .
قوله تعالى : ( ^ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) هذا خبر بمعنى الأمر ، وكان الله تعالى أمر المؤمنين ألا يفر الواحد منهم عن عشرة ، ولا تفر المائة منهم عن ألف . فإن قال قائل : أيش معنى ( ^ بأنهم قوم لا يفقهون ) وأي اتصال لهذا بمعنى الآية ؟
جوابه : معناه : أنهم يقاتلون على جهالة لا على حسبة وبصيرة ، وأنتم تقاتلون على بصيرة وحسبة ، فلا يثبتون إذا ثبتم ، ثم إن المسلمين سألوا الله التخفيف ، فأنزل الله تعالى الآية الأخرى ، وأمر ألا يفر الواحد من أثنين ، والمائة من المائتين .
فإن قال قائل : الله تعالى قال : ( ^ يغلبوا مائتين ) ونحن رأينا القتال على هذا العدد بلا غلبة ، فكيف يستقيم معنى الآية ، والخلف في خبر الله لا يجوز ؟
قلنا : إن معنى قوله : ( ^ يغلبوا ) أي : يقاتلوا ؛ كأنه أمرهم بالقتال على رجاء الظفر والنصرة من الله تعالى . < < الأنفال : ( 66 ) الآن خفف الله . . . . . > >
وأما قوله : ( ^ الآن خفف الله عنكم ) هذه الآية ناسخة للآية الأولى ، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ' وعلم أن فيكم ضعفاء ' والمعروف : ' ضعفا ' و ' ضعفا ' ومعناهما واحد .
( ^ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) وباقي الآية معناه معلوم .
____________________


( ^ الصابرين ( 66 ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( 67 ) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما ) * * * * < < الأنفال : ( 67 ) ما كان لنبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) قرئ : ' أسرى ، وأسارى ' . قال أهل اللغة : أسرى جمع أسير ، وأسارى جمع الجمع . وحكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : الأسرى هم المأخوذون من غير شد ، والأسارى هم الذين أخذوا وشدوا . والأصح عند أهل اللغة أنه لا فرق بينهما ، قاله الأزهري .
وقوله تعالى : ( ^ حتى يثخن في الأرض ) الإثخان : القتل ، وقيل : المبالغة في التنكيل .
( ^ تريدون عرض الدنيا ) بالإفداء .
قوله تعالى : ( ^ والله يريد الآخرة ) معناه : يرغبكم في الآخرة ، وقوله : ( ^ والله عزيز حكيم ) قد ذكرنا معنى العزيز الحكيم .
واعلم أن الآية نزلت في أسارى بدر ؛ فإنه روي : ' أن النبي قتل سبعين يوم بدر ، وأسر سبعين من المشركين ، ثم إنه استشار أصحابه في الأسارى ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : هؤلاء قومك وأسرتك وأهلك ، استبقهم لعل الله أن يهديهم بك ، وخذ منهم الفداء ؛ فيكون معونة للمسلمين . وقال عمر : هؤلاء آذوك وأخرجوك وكفروا بما جئت به فاضرب أعناقهم . فمال الرسول إلى قول أبي بكر وأحب ما ذكره ' .
وروي ' أنه قال لأبي بكر : مثلك مثل إبراهيم حين قال : ( ^ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) وقال لعمر : مثلك مثل نوح حين قال : ( ^ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ' ثم قال لأصحابه : لا يخلين أحد منكم
____________________


( ^ أخذتم عذاب عظيم ( 68 ) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ) * * * * عن أسير إلا بفداء أو بضرب عنقه ففادوا وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، الأوقية أربعون درهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها . < < الأنفال : ( 68 ) لولا كتاب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) روي عن النبي برواية أبي هريرة أنه قال : ' لم تحل الغنائم لأحد سود الرءوس قبلكم ؛ كانت نار تنزل من السماء فتأكلها . قال أبو هريرة : فلما كان يوم بدر ووقعوا فيما وقعوا من الغنائم فادوا الأسارى قبل أن ينزل الوحي بالجواز ، أنزل الله تعالى : ( ^ لولا كتاب من الله سبق لمسكم ) الآية ' . وفي معنى الآية أقوال :
أحدها : لولا كتاب من الله سبق في تحليل الغنائم لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . هذا قول سعيد بن جبير وجماعة .
والثاني : لولا كتاب من الله سبق من مغفرته لأهل بدر ما صنعوا ؛ لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، هذا قول الحسن البصري .
والثالث : لولا كتاب من الله سبق أنهم لم يقدم إليكم ألا تأخذوا ؛ لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ؛ فإنه لا يعذب من غير تقدمة .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' أريت عذابكم دون هذه الشجرة ، وأشار إلى شجرة قريبة منه ' . وروي أنه قال لعمر : ' لو نزل العذاب ما نجا أحد سواك ' .
وروي أنه قال له : ' كاد يصيبنا ' .
____________________


( ( 69 ) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ( 70 ) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ( 71 ) إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ) * * * *
وروي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله أيديهم عما أخذوا من الفداء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها . < < الأنفال : ( 70 ) يا أيها النبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ، فإنه أسر يوم بدر ، وكانت معه عشرون أوقية من الذهب فأخذت منه ، ثم قال له النبي : ' افد نفسك وابني أخيك - يعني عقيلا ونوفلا - فقال : مالي شيء ، وقد أخذتم ما كان معي ، قال : أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقلت : إن أصبت في هذا الوجه فلعبد الله كذا ، وللفضل كذا ، ولقثم كذا ؟ فقال : والله ما كان معنا أحد ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؛ ثم إنه فادى نفسه وابني أخيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها ' .
قوله تعالى : ( ^ إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ) معناه : إن يعلم في قلوبكم إيمانا .
قوله تعالى : ( ^ يؤتكم خير مما أخذ منكم ) قال العباس : فقد آتاني الله خيرا مما أخذ مني ، وكان له عشرون عبدا يتجر كل عبد في عشرين ألف درهم .
وقوله : ( ^ ويغفر لكم والله غفور رحيم ) قال العباس : وأنا أرجو من الله المغفرة . < < الأنفال : ( 71 ) وإن يريدوا خيانتك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن يريدوا خيانتك ) الخيانة : ضد الأمانة ؛ ومعناه : إن أرادوا أن يكفروا بك ( ^ فقد خانوا الله من قبل ) أي : قد كفروا بالله من قبل .
قوله : ( ^ فأمكن منهم ) يعني : مكن منهم ( ^ والله عليم حكيم ) . < < الأنفال : ( 72 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) الآية ، الهجرة : هي الخروج من الوطن إلى غيره ، وقد كانت فرضا في ابتداء
____________________


( ^ بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ( 72 ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( 73 ) ) * * * * الإسلام ، فلما كان يوم فتح مكة قال النبي : ' لا هجرة بعد اليوم ' .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : الهجرة قائمة إلى قيام الساعة ، فعلى أهل البوادي إذا أسلموا أن يهاجروا إلى الأمصار .
قوله : ( ^ والذين آووا ونصروا ) هؤلاء أهل المدينة ؛ ومعنى الإيواء : ضمهم المهاجرين إلى أنفسهم في الأموال والمساكن .
قوله : ( ^ أولئك بعضهم أولياء بعض ) فيه قولان :
أحدهما : أولئك أعوان بعض .
والقول الثاني معناه : يرث بعضهم من بعض .
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) قطع الموالاة بين المسلمين وبينهم حتى يهاجروا ، وكان المهاجر لا يرث من الأعرابي ، ولا الأعرابي من المهاجر ، ثم قال : ( ^ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) يعني : وإن استنصروكم الذين لم يهاجروا فعليكم النصر ، ثم استثنى وقال : ( ^ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) أي : موادعة ، فلا تنصروهم عليهم . قوله : ( ^ والله بما تعملون بصير ) معناه ظاهر . < < الأنفال : ( 73 ) والذين كفروا بعضهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) يعني : أن بعضهم أعوان بعض .
والقول الثاني : إن بعضهم يرث من البعض .
وقوله ( ^ إلا تفعلوه ) يعني : إن لم تقبلوا هذا الحكم ( ^ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) الفتنة في الأرض : قوة الكفر ، والفساد الكبير : ضعف الإيمان .
____________________

( ^ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ( 74 ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ( 75 ) ) * * * * < < الأنفال : ( 74 ) والذين آمنوا وهاجروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) ( الآية ) ، فإن قيل : أي معنى في هذا التكرار ؟
قلنا : المهاجرون كانوا على طبقات ، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد الحديبية قبل فتح مكة ، وكان بعضهم ذا هجرتين ، وهما الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة ؛ فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ، والمراد من الثانية الهجرة الثانية .
قوله تعالى : ( ^ أولئك هم المؤمنون حقا ) يعني : لا مرية ولا ريب في إيمانهم .
قوله : ( ^ لهم مغفرة ورزق كريم ) روى في الرزق الكريم أن المراد منه : رزق الجنة لا يصير بخوى ؛ بل يصير رشحا له ريح المسك . < < الأنفال : ( 75 ) والذين آمنوا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) الآية ، أراد به : فأولئك معكم ، فأنتم منهم وهم منكم .
قوله تعالى : ( ^ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أكثر المفسرين على أن هذه الآية ناسخة لما سبق من إثبات الميراث بالهجرة ، فنقل الميراث من الهجرة إلى الميراث بالقرابة .
قوله تعالى : ( ^ في كتاب الله ) أي : في حكم الله .
قوله : ( ^ إن الله بكل شيء عليم ) قال أهل العلم : ليس المراد من أولي الأرحام الأقرباء الذين ليس لهم عصوبة ولا فرض ؛ وإنما المراد من أولي الأرحام [ أهل العصابات ] ثم ميراث الأقرباء مذكور في موضع آخر ، وهو آية الميراث ، والله أعلم .
____________________

<
> تفسير سورة التوبة <
>
اعلم أن هذه السورة مدنية ، وقد صح عن النبي برواية البراء بن عازب : ' أنها آخر سورة أنزلت كاملة ' ولها أسماء كثيرة .
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه السورة ، فقال : هي الفاضحة ؛ مازال ينزل قوله [ تعالى ] : ومنهم ، ومنهم ، حتى طننا أنه لا يترك منا أحدا . وقال حذيفة بن اليمان : هي سورة العذاب .
ومن المعروف أنها تسمى سورة البحوث ، ومن أسمائها : المبعثرة ، ومن أسمائها : المنيرة ، ومن أسمائها : الحافرة ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين . وروى النقاش عن ابن عمر أنها تسمى المقشقشة . وعن عمران بن حدير أنه قال : قرأت هذه السورة على أعرابي ، فقال : هذه السورة أظنها آخر ما أنزلت ، فقلت له : ولم ؟ فقال : أرى عهودا تنبذ ، وعقودا تنقض .
وعن سعيد بن جبير : أن هذه السورة كانت تعدل سورة البقرة في الطول .
وأما الكلام في حذف التسمية : روي عن ابن عباس أنه قال : ' قلت لعثمان - رضي الله عنه - : ما بالكم عمدتم إلى سورة التوبة وهي من المئين ، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر ( ^ بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟ فقال : ' كان إذا أنزل على رسول الله الشيء من القرآن دعا بعض من يكتب ، فيقول له : ضعه في سورة كذا ، ضعه في سورة كذا ، وكانت الأنفال من أول ما أنزلت بالمدينة ، والتوبة من آخر ما أنزلت ، وكان قصتيهما شبيهة بعضها ببعض ، وخرج رسول الله من الدنيا ولم يبين لنا شيئا فظننا أنهما سورة واحدة ؛ فلذلك قرنا بينهما ولم نكتب ( ^ بسم الله الرحمن الرحيم ) .
____________________

( ^ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( 1 ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ( 2 ) وأذان ) * * * *
وهذا خبر في ' الصحيح ' أورده مسلم ، وروى أن الصحابة اختلفوا ، فقال بعضهم : هما سورتان ، وقال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ فاتفقوا أن يفصلوا ببياض بين السورتين ، ولا يكتبوا : ' بسم الله الرحمن الرحيم ' .
والقول الثالث : ما حكى عن سفيان بن عيينة من المتقدمين ، والمبرد من المتأخرين : أن السورة سورة نقض العهد والبراءة من المشركين ؛ والتسمية أمان وافتتاح خير ؛ فلهذا لم يكتبوا ' بسم الله الرحمن الرحيم ' . < < التوبة : ( 1 ) براءة من الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ برآءة من الله ورسوله ) قوله : ( ^ براءة ) هذه براءة ، والبراءة : نقض العصمة ، ومعنى الآية : تبرؤ من الله ورسوله .
( ^ إلى الذين عاهدتم من المشركين ) وقال بعضهم : برىء الله ورسوله من المشركين . < < التوبة : ( 2 ) فسيحوا في الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فسيحوا في الأرض ) معناه : أقبلوا وأدبروا واذهبوا وجيئوا ( ^ أربعة أشهر ) اختلفوا في الأشهر الأربعة :
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : ابتداؤه من يوم النحر ، وآخره العاشر من شهر ربيع الآخر . وقال الزهري : هو شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
والقول الأول هو الصواب .
قوله تعالى : ( ^ واعلموا أنكم غير معجزي الله ) أي : غير فائتي الله ، ومعناه : أنه
____________________

وإن أجلكم هذه المدة فلا يعجز عن عذابكم ، كما يعجز من يفوته الشيء ( ^ وأن الله مخزي الكافرين ) أي : مذل الكافرين .
وسبب نزول الآية : ' أنه كان بين رسول الله وبين المشركين عهود ومدد ، فلما غزا غزوة تبوك أرجف المنافقون بالنبي ، فجعل المشركون ينقضون العهود - وقيل : إن هذا كان قبل غزوة تبوك - فلما كانت سنة تسع من الهجرة بعث أبا بكر - رضي الله عنه - للحج بالناس ، وبعث عليا - رضي الله عنه - ليقرا على الناس هذه الآيات من أول هذه السورة . ويروى أنه بعث أبا بكر أولا ، ثم إنه بعث عليا في إثره ، وقال : ' لا يبلغ هذه الآيات إلا رجل منى ' يعني : من رهطي فكان أبو بكر أميرا على الموسم ، وكان علي ينادي في الناس بهذه الآيات .
وروى أن عليا سئل : بم بعثك رسول الله ؟ فقال : بعثني بأربعة أشياء : أولها : من كان بينه وبين رسول الله عهد فمدته إلى أربعة أشهر ، والثاني : لا يحجن بعد هذا العام مشرك ، والثالث : لا يطوفن بالبيت عريان ، والرابع : لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ' .
فإن قال قائل : كيف بعث أبا بكر بهذه الآيات ثم عزله وبعث عليا ، وقال : ' لا يبلغ عني إلا رجل مني ' ، فإن كان لا يبلغ هذا إلا رجل من رهطه ، فكذلك سائر الأشياء ؟
والجواب عنه : ذكر العلماء أن رسول الله لم يعزل أبا بكر عن الموسم ، وكان هو الأمير ، وإنما بعث عليا لينادى بهذه الآيات ؛ لأن العرب كانوا تعارفوا أنه لا يعقد على القوم إلا سيدهم ، ولا ينقض إلا سيدهم أو رجل من أهله ، فبعث عليا على ما تعارفوا ؛ ليزيح العلل بالكلية ، فلا تبقى لهم علة ، فكان المعنى هذا ، والله أعلم .
____________________


( ^ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين ) * * * * < < التوبة : ( 3 ) وأذان من الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأذان من الله ورسوله ) معناه : إعلام من الله ورسوله ، قال الحارث بن حلزة :
( آذنتنا بينهماأسماء ** رب ثاو يمل منه الثواء )
معناه : أعلمتنا .
قوله تعالى : ( ^ إلى الناس يوم الحج الأكبر ) اختلفوا في يوم الحج الأكبر على أقوال :
روى يحيى بن ( الجزار ) أن عليا - رضي الله عنه - خرج يوم العيد على دابة ، فأخذ رجل بلجام دابته ، وقال : ما يوم الحج الأكبر ؟ فقال : هو اليوم الذي أنت فيه ، خل عنها .
وروى مثل هذا عن ابن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن أبي أوفى .
والقول الثاني : قول ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : هو يوم عرفة . وهو قول مجاهد والشعبي والنخعي وجماعة .
وقال ابن سيرين - وهو القول الثالث - : يوم الحج الأكبر هو اليوم الذي حج فيه رسول الله ، اتفق فيه حج أهل المل كلها .
والصحيح هو أحد القولين الأولين .
واختلفوا في الحج الأكبر :
فأحد القولين : أن الحج الأكبر هو القرآن ، والحج الأصغر هو الإفراد .
والقول الثاني : أن الحج الأكبر : هو الحج ، والأصغر هو العمرة .
قوله : ( ^ أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ) معناه : ورسوله بريء
____________________


( ^ كفروا بعذاب أليم ( 3 ) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ( 4 ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ) * * * * أيضا . < < التوبة : ( 4 ) إلا الذين عاهدتم . . . . . > > ( ^ إلا الذين عاهدتم من المشركين ) وقع الاستثناء على قوم من بني ضمرة أمر الله رسوله أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر ؛ والسبب في الإتمام : أنهم لم ينقضوا العهد ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ثم لم ينقصوكم شيئا ) ، وقرأ عطاء بن يسار : ' ثم لم ينقضوكم شيئا ' بالضاد المعجمة .
قوله تعالى : ( ^ ولم يظاهروا عليكم أحدا ) ومعناه : ولم يعاونوا عليكم أحدا ( ^ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ) يعني : المتقين عن نقض العهد . وروى عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال : المتقي : من يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس . < < التوبة : ( 5 ) فإذا انسلخ الأشهر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) روي في التفاسير ' أن النبي أجل المشركين الذين كان بينهم وبين النبي عهد أربعة أشهر ، وأجل الذين لم يكن بين رسول الله وبينهم عهد باقي ذي الحجة والمحرم وهو خمسون ليلة ' فهذا معنى الآية .
فإن قيل : قال تعالى : ( ^ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) وما ذكرتم بعض الأشهر الحرم .
قلنا : هذا القدر كان متصلا بما مضى ؛ فأطلق عليه اسم الجميع ، ومعناه : هو مضى المدة المعروفة التي تقع بعد انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله تعالى : ( ^ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) معناه معلوم .
قوله ( ^ وخذوهم ) ظاهر . أي : خذوهم أسرا ؛ والعرب تسمي الأسير أخيذا ، وفي المثل : أكذب من أخيذ .
قوله تعالى : ( ^ واحصروهم ) يعني : واحبسوهم ، يعني : حولوا بينهم وبين
____________________


( ^ واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( 5 ) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ( 6 ) كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما ) * * * * المسجد الحرام ، هذا هو معنى الحبس هاهنا .
وقوله : ( ^ واقعدوا لهم كل مرصد ) قال أبو عبيدة : المرصد : الطرق . يعني اقعدوا لهم بطرق مكة حتى لا يصلوا إلى المسجد الحرام قال الشاعر :
( ولقد علمت [ ولا أخالك ناسيا ] ** أن المنية للفتى بالمرصد )
قوله : ( ^ فإن تابوا ) يعني : آمنوا ( ^ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) يعني : خلوا سبيلهم ليصلوا إلى المسجد الحرام ( ^ إن الله غفور رحيم ) معلوم . < < التوبة : ( 6 ) وإن أحد من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) الإستجارة : طلب الأمان . ومعنى الآية : وإن أحد من المشركين طلب منك الأمان فأجره ، أي : أمنه ( ^ حتى يسمع كلام الله ) يعني : فيما له وعليه من العقاب والثواب والوعد والوعيد ( ^ ثم أبلغه مأمنه ) يعني : الموضع الذي يأمن فيه ( ^ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) ومعناه : أنهم يحتاجون إلى أن يسمعوا كلام الله تعالى لجهلهم . < < التوبة : ( 7 ) كيف يكون للمشركين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) قال الفراء : كلمة ' كيف ' هاهنا كلمة استفهام بمعنى الجحد ، ومعناه : لا يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، يعني : ولا عند رسوله .
قوله تعالى : ( ^ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) هؤلاء قوم من بني ضمرة على ما ذكرنا .
قوله تعالى : ( ^ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) يعني : إذا وفوا بعهدكم وفوا
____________________


( ^ استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ( 7 ) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ( 8 ) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا ) * * * * بعهدهم ( ^ إن الله يحب المتقين ) قيل معناه : إن الله يحب المؤمنين ، وقيل : يحب المتقين نقض العهد . < < التوبة : ( 8 ) كيف وإن يظهروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) يعني : كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ؟ اختلفت الأقوال في ' إلا ' :
روي عن مجاهد أن ' إلا ' هو الله تعالى . وفي الشاذ قرئ : ' لا يرقبوا فيكم إيلا ولا ذمة ' ، وإيل : هو الله .
وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال في كلمات مسيلمة الكذاب - لعنه الله - حين سمع أنه يقول : يا ضفدع نقي نقي ، كم تنقين ، لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين . فقال أبو بكر : إن هذا كلام لم يخرج من إل يعني : من الله .
والقول الثاني قول أبي عبيدة : الإل هو العهد ، والذمة : التذمم .
والثالث : قول الضحاك - وهو أولى الأقاويل وأحسنها - قال : إن الإل هو القرابة ، والذمة : العهد ، قال حسان بن ثابت :
( لعمرك إن إلك من قريش ** كإل السقب من رأل النعام )
قوله تعالى : ( ^ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ) يعني : يعدون الوفاء بالقول ، وتأبى قلوبهم إلا الغدر ( ^ وأكثرهم فاسقون ) فإن قال قائل : هذا في المشركين وهم كلهم فاسقون ، فكيف قال : ( ^ وأكثرهم ) ؟
قلنا : الفسق هاهنا : نقض العهد ، وكان في المشركين من وفى بعهده ؛ فلهذا قال ( ^ وأكثرهم فاسقون ) . < < التوبة : ( 9 ) اشتروا بآيات الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ) الآية . قال الحسن البصري : الدنيا
____________________


( ^ يعملون ( 9 ) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ( 10 ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ( 11 ) وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) * * * * بحذافيرها ثمن قليل . ومعنى الآية : أنهم اختاروا الدنيا على رضا الله وعلى الإيمان بآيات الله ( ^ فصدوا عن سبيله ) يعني : منعوا الناس عن سبيله ( ^ إنهم ساء ما كانوا يعملون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 10 ) لا يرقبون في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) المراقبة : الحفظ ، والإل والذمة قد ذكرنا معناهما ( ^ وأولئك هم المعتدون ) المجاوزون للحدود . < < التوبة : ( 11 ) فإن تابوا وأقاموا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 12 ) وإن نكثوا أيمانهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) هذا في العهد الذي كان بين رسول الله وبين قريش ، فنقضوا العهد ، وكان نقضهم : أنهم عاونوا بني بكر على خزاعة ، وكانت بنو بكر حلفاء قريش ، وخزاعة حلفاء النبي ، فجاء رجل من خزاعة إلى النبي بالمدينة ، وأنشده :
( لاهم إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( وإن قريشا نقضوك الموعدا ** وبيتونا بالوثير هجدا )
( وقتلونا ركعا وسجدا ** )
في أبيات كثيرة ، فقال رسول الله : ' لانصرت إن لم أنصركم ' .
____________________


( ^ إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ( 12 ) ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ( 13 ) قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف ) * * * *
وروى أنه رأى سحابة تبرق ، فقال رسول الله : ' إن هذه السحابة لتستهل بنصر خزاعة ' ، وكان هذا ابتداء القصد لفتح مكة .
قوله تعالى : ( ^ وطعنوا في دينكم ) هذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد ، ويجوز قتله .
قوله : ( ^ فقاتلوا أئمة الكفر ) يعني : رءوس الكفر ، ورءوس الكفر هم : أبو سفيان ، وسهيل بن عمرو ، وأمية بن صفوان ، وعكرمة بن أبي جهل ( ^ إنهم لا أيمان لهم ) يعني : لا عهود لهم . وقرأ الحسن البصري : ' إنهم لا إيمان لهم ' وهو اختيار ابن عامر ، ويجوز أن تكون الأيمان هاهنا بمعنى الإيمان ، تقول العرب : أمنته إيمانا ، فذكر المصدر وأراد به الاسم ( ^ لعلهم ينتهون ) . < < التوبة : ( 13 ) ألا تقاتلون قوما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) معناه معلوم .
قوله ( ^ وهموا بإخراج الرسول ) معلوم ( ^ وهم بدءوكم أول مرة ) أراد به أنهم بدءوا بالقتال في حرب بدر . قال أبو جهل - لعنه الله - : لا نرجع حتى نستأصل محمدا وأصحابه ( ^ أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) معناه : ظاهر . < < التوبة : ( 14 ) قاتلوهم يعذبهم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ) معنى الآية ظاهر .
وقوله : ( ^ ويشف صدور قوم مؤمنين ) يعني : خزاعة . < < التوبة : ( 15 ) ويذهب غيظ قلوبهم . . . . . > >
( ^ ويذهب غيظ قلوبهم ) أي : خزاعة ( ^ ويتوب الله على من يشاء والله عليم
____________________


( ^ صدور قوم مؤمنين ( 14 ) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ( 15 ) أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ( 16 ) ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك ) * * * * حكيم ) روي عن النبي أنه قال يوم فتح مكة : ' ارفعوا السيف إلا خزاعة عن بني بكر إلى العصر ' . < < التوبة : ( 16 ) أم حسبتم أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) الآية ، قال أهل التفسير : لما أمر الله تعالى نبيه بالقتال ظهر المنافقون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) والمراد من العلم هاهنا : العلم الذي يقع الجزاء عليه ، وهو العلم بعد الوجود لاعلم الغيب الذي لا يقع الجزاء عليه ( ^ ولما يعلم الله ) يعني : ولم يعلم الله ( ^ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) قال الفراء : الوليجة : البطانة ، وهو خاصة الإنسان الذي يفشي سره إليه ، فصار معنى الآية ( ^ ولما يعلم الله ) ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ولم يعلم الذين امتنعوا أن يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ( ^ والله خبير بما تعملون ) ظاهر . < < التوبة : ( 17 ) ما كان للمشركين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) معنى الآية : نفي أهلية عمارة المسجد الحرام عن المشركين .
قوله ( ^ شاهدين على أنفسهم بالكفر ) و ' شاهدين ' نصب على الحال ، وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر : هي سجودهم للأصنام ، وقولهم في التلبية : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملكك .
____________________


( ^ حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ( 17 ) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( 18 ) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله ) * * * *
وفيه قول آخر : أن معنى قوله : ( ^ شاهدين على أنفسهم بالكفر ) هو أنك تقول لليهودي : ما أنت ؟ فيقول : يهودي ، وتقول للنصراني : ما أنت ؟ فيقول : نصراني ، وكذلك المجوسي والمشرك .
قوله تعالى : ( ^ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ) الحبوط : هو البطلان ، وخالدون : دائمون . < < التوبة : ( 18 ) إنما يعمر مساجد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما يعمر مساجد الله ) سبب نزول الآية : أن العباس - رضي الله عنه - لما أسر يوم بدر عيره أصحاب رسول الله بترك الإسلام والهجرة ، فقال : نحن عمار المسجد الحرام وسقاة الحجيج .
وفي رواية : أنه لما أسلم قال للمسلمين : لئن سبقتمونا بالإسلام فقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحجيج ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) معناه : لم يترك الإيمان بالله من خشية أحد ( ^ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) وعسى من الله واجب . فإن قال قائل : أتقولون : إن كل من عمر مسجدا بكون هكذا على ما قال الله تعالى ؟
قلنا : معنى الآية - والله أعلم - أن من كان بهذه الأوصاف كان أهل عمارة المسجد الحرام ، ولا يعمر المسجد الحرام إلا من استجمع هذه الأوصاف ، وعمارة المسجد الحرام بذكر الله ، والرغبة إليه ، والدعاء ، والصلاة وغيره . < < التوبة : ( 19 ) أجعلتم سقاية الحاج . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في علي والعباس - رضي الله عنهما - وكان الذي عير العباس بترك الإسلام
____________________


والهجرة هو علي - رضي الله عنه - فقال العباس : نحن عمار المسجد الحرام ، وسقاة الحجيج ، فقال الله تعالى ( ^ أجعلتم سقاية الحاج ) ومعناه : أجعلتم أهل سقاة الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله . وقرىء : ' أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ' وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير الأهل ( ^ لا يستوون عند الله ) معناه : لا يستوي من عبد الله وهو مؤمن ، ومن عمر المسجد وهو مشرك ( ^ والله لا يهدي القوم الظالمين ) وقد وردت أخبار في الترغيب في عمارة المساجد :
روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' من رأيتموه يعتاد المساجد ؛ فاشهدوا له بالإيمان ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ) .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ' .
وروى جابر - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' المسجد سوق من أسواق الجنة ، من دخله كان ضيف الله ، قراه : المغفرة ، وتحيته : الكرامة ؛ فإذا دخلتم فارتعوا . قيل : يا رسول الله ، وما الرتاع ؟ قال : الابتهال إلى الله والرغبة ' .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة ' .
____________________


( ^ واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ( 19 ) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ( 20 ) يبشرهم ربهم برحمة منه ) * * * *
وفي رواية عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال ' من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة ؛ بنى الله له بيتا في الجنة ' . < < التوبة : ( 20 ) الذين آمنوا وهاجروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ) فإن قال قائل : كيف يستقيم قوله : ( ^ أعظم درجة عند الله ) وليس للمشركين درجة أصلا ؟ الجواب من وجهين :
أحدهما : أعظم درجة من درجتهم على تقديرهم في أنفسهم ؛ وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) ومعناه : على تقديرهم في أنفسهم .
والثاني : أن هؤلاء الصنف من المؤمنين أعظم درجة عند الله من غيرهم .
ثم قال تعالى : ( ^ وأولئك هم الفائزون ) الفائز : الذي ظفر بأمنيته . < < التوبة : ( 21 ) يبشرهم ربهم برحمة . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ يبشرهم ربهم برحمة ) الآية . والبشارة : خبر سار صدق ؛ يسمى بشارة لأنه تتغير به بشرة الوجه .
____________________


( ^ ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ( 21 ) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ( 22 ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( 23 ) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة ) * * * *
قوله ( ^ برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) النعيم هو العيش اللذيذ ، والمقيم : الدائم ، وهو من لا يظعن أبدا < < التوبة : ( 22 ) خالدين فيها أبدا . . . . . > > ( ^ خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 23 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ) الآية : نزلت الآية في قو م أسلموا بمكة ، فلما هاجر المسلمون لم يهاجروا . قال ابن عباس : كان الرجل إذا أراد أن يهاجر تعلق به أهله وولده ، وقالوا : أتضيعنا وتتركنا ، فيقيم شفقة عليهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ إن استحبوا الكفر على الإيمان ) معناه : أي : اختاروا الكفر على الإيمان .
قوله : ( ^ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ) وكان في ذلك الوقت لا يقبل الإيمان إلا من مهاجر ؛ فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ فأولئك هم الظالمون ) . < < التوبة : ( 24 ) قل إن كان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم ) روي أن الآية الأولى لما نزلت قال أولئك الذين أسلموا ولم يهاجروا : إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وخربت دورنا ، وقطعنا أرحامنا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ وعشيرتكم ) قرئت بقراءتين : ' عشيرتكم ' و ' عشيراتكم ' والأصح : ' عشيرتكم ' فإن جمع العشيرة هو عشائر ، والعشيرات قالوا : ضعيف في اللغة .
قوله تعالى : ( ^ وأموال اقترفتموها ) أي : اكتسيتموها ، ومثله قوله تعالى : ( ^ ومن
____________________


( ^ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 24 ) لقد نصركم الله ) * * * * يقترف حسنة ) يعني : يكتسب .
قوله : ( ^ وتجارة تخشون كسادها ) معناه ظاهر .
وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال في قوله : ( ^ وتجارة تخشون كسادها ) قال : هي الأخوات والبنات إذا لم يوجد لهن خاطب . حكاه النقاش في تفسيره .
قوله : ( ^ ومساكن ترضونها ) يعني : تستطيبونها .
قوله : ( ^ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ) معناه : فانتظروا .
قوله ( ^ حتى يأتي الله بأمره ) أكثر المفسرين على أن المراد منه : فتح مكة ، وهذا أمر تهديد وليس بأمر حتم ولا ندب ولا إباحة .
قوله : ( ^ والله لا يهدي القوم الفاسقين ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 25 ) لقد نصركم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) الآية . حنين واد بين مكة والطائف ( ^ إذ أعجبتكم كثرتكم ) روي أن النبي كان في اثني عشر ألفا ، والمشركون أربعة آلاف ، عليهم مالك بن عوف النصري ، فقال رجل من الأنصار يقال له : سلمة بن سلامة وقش : لن نغلب اليوم عن قلة ، فلم يرض الله تعالى قوله ، ووكلهم إلى أنفسهم ، فحمل المشركون حملة انهزم المسلمون كلهم سوى نفر يسير بقوا مع رسول الله فيهم العباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ' .
وذكر البخاري في ' الصحيح ' برواية البراء بن عازب : ' أن أبا سفيان بن الحارث
____________________


( ^ في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ( 25 ) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذاب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ) * * * * كان آخذا برأس بغلة النبي يوم حنين ، والنبي يقول : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد الله بن عبد المطلب ' ، ثم إن العباس - رضي الله عنه - نادى المسلمين بأمر رسول الله - وكان رجلا صيتا - فجعل ينادي يا أصحاب سورة البقرة ، يا أنصار الله وأنصار رسول الله ، يا أصحاب الشجرة ، هذا رسول الله ، فرجعوا وقاتلوا ووقعت الهزيمة على الكفار . . . القصة إلى آخرها ' فهذا معنى قوله : ( ^ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) يعني : أن الظفر ليس بالكثرة ، بل بنصرة الله تعالى .
قوله تعالى : ( ^ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) قال الفراء : الباء هاهنا بمعنى ' في ' معناه : في رحبها وسعتها . وقيل المعنى : برحبها وسعتها .
قوله تعالى : ( ^ ثم وليتم مدبرين ) أي : متفرقين ، أي : منهزمين . < < التوبة : ( 26 ) ثم أنزل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) الآية . السكينة : الرحمة . وقيل : السكينة : الآمنة ، وهي فعيلة من السكون ، وهاهنا هي بمعنى النصر ، قال الشاعر :
( لله قبر بالبسيطة غالها ** ماذا أجن سكينة ووقارا )
قوله تعالى : ( ^ وأنزل جنودا لم تروها ) يعني : الملائكة ، ونزلت لا للقتال ، ولكن لتجبين الكفار وتشجيع المسلمين ، فإن المروي أن الملائكة لم تقاتل إلا في يوم بدر .
____________________


( ^ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ( 27 ) يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ وعذب الذين كفروا ) يعني : بالقتل والأسر ، ( ^ وذلك جزاء الكافرين ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 27 ) ثم يتوب الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) معناه ظاهر وهذا في الذين كفوا عن القتل . < < التوبة : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) معنى قوله ( ^ نجس ) قذر ، فإذا ضم إلى غيره قيل : رجس نجس ، وإذا أفرد قيل : نجس .
روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : نجاستهم كنجاسة الكلب والخنزير .
وعن الحسن البصري قال : إذا صافح مسلم كافرا يجب عليه غسل يده .
والصحيح أن المراد من الآية : أنه يجب الاجتناب منهم كما يجب الاجتناب من النجاسات . وقيل إن معنى قوله ( ^ نجس ) : أنهم يجنبون فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضئون .
قوله تعالى : ( ^ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) هذا خبر بمعنى أمر ، ومعناه : لا تخلوهم أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
ومذهب المدنيين : أن المسجد الحرام هو جميع الحرم ، ولا يترك كافر يدخله ، وإن كان معاهدا أو عبدا ، وهذا قول عمر بن عبد العزيز وجماعة .
ومذهب الكوفيين : أنه يجوز أن يدخله المعاهد والعبد ، وهذا مروي عن جابر .
وقوله : ( ^ وإن خفتم عيلة ) يعني : فقرا . وفي مصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ' وإن خفتم عائلة ' يعني : أمرا شاقا ، يقال : عالني الأمر ، أي : شق علي .
وسبب نزول الآية : أن أهل مكة إنما كانت معايشهم من التجارات والأرباح ، فلما أمر الله تعالى المسلمين أن لا يخلوا الكفار أن يدخلوا المسجد الحرام ، قالوا : فكيف
____________________


( ^ خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ( 28 ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم ) * * * * أمر معايشنا ؟ وخافوا الفقر وضيق العيش ، فقال الله تعالى لهم : ( ^ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) فروي أنه أسلم أهل جرش - بالجيم معجمة - وصنعاء ، وسائر نواحي اليمن ، وجلبوا الميرة الكثيرة إلى أهل مكة ، ووسع الله عليهم ( ^ إن الله عليم حكيم ) ومعناه ظاهر . < < التوبة : ( 29 ) قاتلوا الذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) فإن قال قائل : إن أهل الكتابين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف معنى الآية ؟
الجواب من وجهين :
أحدهما : أنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر كإيمان المؤمنين ؛ فإنهم قالوا : عزير ابن الله ، وقالوا : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود : لا أكل ولا شرب في الجنة .
والجواب الثاني : أن كفرهم ككفر من لا يؤمن بالله واليوم الآخر في عظم الجرم .
قوله تعالى : ( ^ ولا يدينون دين الحق ) قال أبو عبيدة : ولا يطيعون الله كطاعة أهل الحق .
قوله : ( ^ من الذين أوتوا الكتاب حتى يطعوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) قال قتادة : ' عن يد ' : عن قهر وذل . وقال غيره : ' عي يد ' أي يعطي بيده . وفيه قول ثالث : ' عن يد ' أي : عن إقرار بإنعام أهل الإسلام عليهم ( ^ وهم صاغرون ) روي عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : معناه : وهم مذمومون . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : يؤخذ ويوجأ في عنقه ، فهذا معنى الصغار . وقال غيره : يؤخذ منه وهو قائم ، والآخذ جالس . وقيل : إنه يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف . وعند الشافعي - رضي الله عنه - معنى الصغار : هو جريان أحكام الإسلام
____________________

( ^ صاغرون ( 29 ) وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) * * * * عليهم . وهذا معنى حسن . < < التوبة : ( 30 ) وقالت اليهود عزير . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالت اليهود عزير ابن الله ) هذا في قوم بأعيانهم كانوا بالمدينة أفناهم السيف ، منهم : سلام بن مشكم ، ومالك بن ' الضيف ' ، وفنحاص اليهودي ، وأما الآن فلا يقول منهم أحد هذا . ويقال : إن القائلين لهذه المقالة قوم من سلفهم ومتقدميهم .
وكان السبب في ذلك أن اليهود لما بدلوا وخالفوا شريعة التوراة نسخ الله تعالى التوراة من صدورهم ، فخرج عزير يسيح في الأرض يطلب العلم ، فلقيه جبريل - عليه السلام - فعلمه التوراة . وروي أنه نزل نور فدخل جوفه فقرأ التوراة عن ظهر قلبه ، فرجع وأملى التوراة على اليهود ، فقال جماعة منهم هذه المقالة يعني : عزير ابن الله .
( ^ وقالت النصارى المسيح ابن الله ) هم على ذلك الآن .
قوله : ( ^ ذلك قولهم بأفواههم ) فإن قال قائل : الإنسان لا يقول قولا إلا بفمه ، فكيف يكون معنى هذا الكلام ؟
الجواب : أن معناه : أنهم قالوا هذا القول بلا حجة ولا بيان ولا برهان ، وإنما كان مجرد قول بلا أصل .
قوله تعالى : ( ^ يضاهئون ) قرئ بقراءتين ، و ( ^ يضاهئون ) يعني : يشابهون ، والمضاهاة : المشابهة والمماثلة ، تقول العرب : امرأة ضهياء إذا كانت لا تحيض ، فهي تشبه الرجال .
قوله تعالى : ( ^ قول الذين كفروا من قبل ) فيه معنيان :
أحدهما : قول الذين أشركوا من قبل ؛ فإن المشركين كانوا يقولون : مناة واللات والعزى بنات الله .
____________________


( ^ ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 30 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا ) * * * *
والقول الثاني : أن النصارى قالوا في المسيح ما قالت اليهود في عزير ، فهذا معنى قوله : ( ^ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) .
( ^ قاتلهم الله ) قال أبو عبيدة : لعنهم الله ، وقيل : قتلهم الله ، كما تقول العرب : عافاه الله ، أي : أعفاه الله .
وفيه قول ثالث : أن هذه كلمة تعجب ، قال الشاعر :
( فيا قاتل الله ليلى كيف تعجبنى ** وأخبر الناس أنى لا أباليها )
وليس المعنى تحقيق المقاتلة ؛ ولكنه كلمة تعجب .
قوله تعالى : ( ^ أنى يؤفكون ) معناه : أنى يصرفون ، يقال : أرض مأفوكة إذا صرف عنها المطر ، وقول مأفوك إذا كان مصروفا عن الحق . < < التوبة : ( 31 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) يقال : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى ، وقد بينا فيها أقوالا من قبل . فإن قال قائل : إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان ، فأيش معنى قوله ( ^ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ؟
قلنا : معناه : أنهم استحلوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا ؛ فهذا معنى عباداتهم لهم . وقد صح هذا المعنى برواية عدي بن حاتم ، عن النبي .
____________________


( ^ إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( 31 ) يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ( 32 ) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 33 ) يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في ) * * * *
قوله : ( ^ والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 32 ) يريدون أن يطفئوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ) معناه : يريدون أن يخمدوا نور الله ، والمراد من النور : القرآن ، وقيل : هو محمد .
وقوله : ( ^ بأفواههم ) معناه : بتكذيبهم .
قوله : ( ^ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 33 ) هو الذي أرسل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) قال المفسرون : هذا عند نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام لا يبقى في الأرض أحد إلا أسلم .
وفي قوله : ( ^ ليظهره على الدين كله ) قول آخر : وهو أنه الإظهار بالحجة ؛ فدين الإسلام ظاهر على كل الأديان بالدليل والحجة . < < التوبة : ( 34 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) الآية ، وقد بينا معنى الأحبار والرهبان من قبل وقوله : ( ^ ليأكلون أموال الناس بالباطل ) قال أهل التفسير : إن المراد منه أخذ الرشاء في الأحكام والمآكل التي كانت لعلمائهم على سفلتهم ( ^ ويصدون عن سبيل الله ) معناه : أنهم يمنعون الناس عن الإسلام ، وقوله : ( ^ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) الكنز هو المال المجموع ، قال الشاعر :
____________________


( ^ سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ( 34 ) * * * *
( لا در درى إن أطعمت نازلهم ** قرف الحتى وعندي البر مكنوز )
والحتى قالوا : هو المقل .
واختلف أهل العلم في من نزلت هذه الآية ، قال بعضهم : نزلت في أهل الكتاب ، والأكثرون أنها نزلت في الكل .
واختلفوا في الكنز ، روي عن ابن عمر ، وجماعة : أن الكنز كل مال لم تؤد زكاته ، وأما الذي أديت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أربعة آلاف درهم نفقة وما فوقها كنز . وقال بعضهم : ما فضل عن الحاجة فهو كنز .
وقوله : ( ^ ولا ينفقونها في سبيل الله ) فإن سأل سائل وقال : إنه تقدم ذكر الذهب والفضة جميعا ، فكيف قال : ولا ينفقونها ، ولم يقل : ولا ينفقونهما ؟
الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن المعنى : ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله .
والثاني : أن معنى الآية : يكنزون الذهب ولا ينفقونه ، ويكنزون الفضة ولا ينفقونها ، فاكتفى بأحدهما عن الآخر ، قال الشاعر :
( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف )
معناه : نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض . وفي مثل هذا قول الشاعر :
( إن شرخ الشباب والشعر الأسود ** ما لم يعاض كان جنونا )
يعني : ما لم يعاضيا .
قوله : ( ^ فبشرهم بعذاب أليم ) معناه : ضع هذا الوعيد موضع البشارة ، وإلا فالوعيد لا يكون بشارة حقيقة .
____________________


( ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ( 35 ) * * * * < < التوبة : ( 35 ) يوم يحمى عليها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم ) أي : يوقد عليها حتى تصير نارا .
قوله تعالى : ( ^ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) قال أهل التفسير : لا يوضع درهم مكان درهم ، ولا دينار مكان دينار ؛ ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضعه . وفي حديث أبي أمامة الباهلي ( رضي عنه ) : ' أن رجلا من أهل الصفة مات وترك دينارا ، فقال النبي : كيه . ومات آخر وترك دينارين فقال : كيتان ' .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' يجعل الذهب والفضة صفائح ، فيكوى بها في كل يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ' .
وروى ثوبان : ' أن الله تعالى لما أنزل هذه الآية شق على المسلمين مشقة شديدة فقالوا : يا رسول الله ، أي المال نتخذ ، وقد أنزل في المال ما أنزل ؟ فقال : ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة تعينه على دينه ' .
____________________


( ^ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة ) * * * *
وفي الأخبار - أيضا - عن النبي : ' أن الكنز يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده ' .
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه قال : الآية منسوخة بآية الزكاة . وقال سائر العلماء : ليست بمنسوخة . وعن أبي بكر الوراق - رحمه الله - أنه قال : إنما ذكر الجبهة والجنب والظهر ؛ لأن الغني إذا رأى الفقير قبض جبهته ، وزوى ما بين عينيه ، وولاه ظهره ، وأعرض عنه كشحه .
قوله تعالى : ( ^ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) وعيد وتهديد . < < التوبة : ( 36 ) إن عدة الشهور . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ) قال أهل التفسير : معنى الآية : هو أن الشهور التي تعبد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، هي الشهور بالأهلة ، وقد كان أهل الجاهلية يحسبون السنة بالشهور الشمسية ، ويجعلون السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم . وأما في الشريعة فالسنة ما بينا ، ولهذا يكون الصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف .
قوله : ( ^ في كتاب الله ) أي : في حكم الله ، وقيل : في اللوح المحفوظ . ( ^ يوم خلق السموات والأرض ) ظاهر المعنى .
قوله : ( ^ منها أربعة حرم ) هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . واحد فرد وثلاثة سرد .
____________________


( ^ كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين ( 36 ) إنما النسيء زيادة في الكفر * * * *
وقد صح عن النبي برواية أبي بكرة أنه قال : ' ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم 000 ' الخبر .
قوله : ( ^ ذلك الدين القيم ) أي : ذلك الحساب الصحيح .
قوله : ( ^ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) اختلفوا في هذا على قولين :
أحدهما : أن قوله : ( ^ فلا تظلموا فيهن ) ينصرف إلى الأشهر الأربعة .
والثاني أنه منصرف إلى جميع أشهر السنة ، وهذا محكي عن ابن عباس .
وأما الظلم في هذا الموضع : فهو ترك الطاعة وفعل المعصية .
وقوله : ( ^ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة ) أي : قاتلوا جميع المشركين كافة كما قاتلوا جميعكم .
قوله : ( ^ واعلموا أن الله مع المتقين ) من الظلم بالنصرة والظفر . < < التوبة : ( 37 ) إنما النسيء زيادة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما النسيء زيادة في الكفر ) قرىء بغير الهمز ، والمشهور بالهمزة . قال أهل العربية : وهو الأصح ، والنسيء : هو التأخير ، يقال نسأ الله في أجلك أي : أخر .
وسبب نزول الآية : أن أهل الجاهلية كانوا يجعلون المحرم مرة حلالا ومرة حراما ، فإذا أحلوا المحرم أبدلوا الصفر بالتحريم ، وكان السبب في ذلك أن عامة معايشهم كانت بالغارات والقتال والسيوف ، فكان يشق عليهم أن يكفوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية ، وكان الذي يتولى التحليل والتحريم رجل من بني كنانة يقال له : أبو ثمامة ، ورثه عن آبائه ، وكان يقوم على ناقة ويقول : أيها الناس ، أنا لا أعاب ولا أحاب ولا يرد قضاء قضيته ، أما إني قد أحللت المحرم وحرمت الصفر العام ، قال رجل منهم : ألسنا الناسئين على معد شهور الحل يجعلها حراما . فهذا هو معنى النسىء المذكور في الآية .
____________________


( ^ يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ( 37 ) يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ زيادة في الكفر ) معناه : زيادة كفر على كفرهم .
قوله تعالى : ( ^ يضل به الذين كفروا ) أي : يضل الله به الذين كفروا ، وقرىء ' يضل به الذين كفروا ' على ما لم يسم فاعله ، وقرىء ' يضل به الذين كفروا ' وهو الأشهر ، وهو ظاهر المعنى .
قوله تعالى : ( ^ يحلونه عاما ويحرمونه عاما ) قد ذكرنا المعنى . قوله : ( ^ ليواطئوا ) ليوافقوا ، والمواطأة : الموافقة ، ومعناه : ليوافقوا ( ^ عدة ما حرم الله ) يعني : عدد ما حرم الله ( ^ فيحلوا ما حرم الله ) فيقولوا : أربعة وأربعة . قوله : ( ^ زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ) ظاهر المعنى .
وفي الآية قول آخر : وهو أن النسىء : تأخير الحج كل عام شهرا . قالوا : وحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة ، وحج رسول الله سنة عشر في ذي الحجة ، وهو معنى قوله : ' ألا إن الزمان قد استدار كهيئته ' الخبر الذي ذكرنا . < < التوبة : ( 38 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) نزلت الآية في غزوة تبوك ، وكانت الغزوة في حارة القيظ حين أينعت الثمار وطابت الظلال فشق على المسلمين مشقة شديدة وتخلف بعضهم بالعذر ، وتخلف بعضهم بلا عذر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقوله : ( ^ اثاقلتم إلى الأرض ) أي : تثاقلتم ؛ وحقيقة المعنى : قعدتم عن الغزو وكرهتم الخروج .
____________________


( ^ بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( 38 ) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ( 39 ) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ ) * * * *
وقوله : ( ^ إلى الأرض ) أي : إلى الدنيا ، وسمى الدنيا أرضا ، لأنها في الأرض .
قوله : ( ^ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) أي : بنعيم الدنيا من نعيم الآخرة .
قوله ( ^ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) . روى عن سعيد بن جبير أنه قال : جميع الدنيا جمعة من جمع الآخرة . وقد صح عن النبي أنه قال : ' ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع ' . < < التوبة : ( 39 ) إلا تنفروا يعذبكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) هذا تهديد ووعيد لمن ترك النفر في سبيل الله ، والنفر ضد الهدوء والسكون .
قوله : ( ^ ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ) معناه : إن ضره راجع إليكم لا إليه ( ^ والله على كل شيء قدير ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 40 ) إلا تنصروه فقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلا تنصروه فقد نصره الله ) معناه : إن لم تنصروه فقد نصره الله ( ^ إذ أخرجه الذين كفروا ) قد بينا قصة إخراجهم في قوله تعالى : ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ) الآية . قوله : ( ^ ثاني اثنين ) معناه : أحد اثنين ، تقول العرب : خامس خمسة أي : أحد الخمسة ، ورابع أربعة أي : أحد الأربعة .
قال المفسرون : عاتب الله جميع الناس بترك نصرة الرسول سوى أبي بكر - رضي الله عنه - وقيل : نصرته عن خلقي إلا عن أبي بكر - رضي الله عنه - فإنه قد نصره .
قوله تعالى : ( ^ إذ هما في الغار ) الغار : ثقب في الجبل ، وهذا الجبل هو جبل ثور ، جبل قريب من مكة .
____________________


( ^ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده ) * * * *
قوله : ( ^ إذ يقول لصاحبه ) أي : لأبي بكر - رضي الله عنه - باتفاق أهل العلم .
وروي أن النبي قال : ' أبو بكر صاحبي في الغار ، وصاحبي على الحوض ' .
وعن الحسين بن الفضل البجلي أنه قال : من قال : إن أبا بكر ليس بصاحب رسول الله فهو كافر ، لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ولا يكون كافرا .
قوله : ( ^ لا تحزن إن الله معنا ) روي ' أن النبي لما خرج مع أبي بكر - رضي الله عنه - أمر عليا حتى اضطجع على فراشه ، وذكر له أنه لا يصيبه سوء ، وخرج مع أبي بكر قبل الغار ، وجاء المشركون يقصدون النبي فقام علي - رضي الله عنه - من مضجعه فقالوا له : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فخرجوا في طلبه يقتفون أثره حتى وصلوا إلى الغار ، فلما أحس أبو بكر - رضي الله عنه - بهم خاف خوفا شديدا ، وقال : يا رسول الله ، إن أقتل يهلك واحد ، وإن تقتل تهلك هذه الأمة ، فقال له النبي : لا تحزن إن الله معنا ' . وقد ثبت أن النبي قال له : ' يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ' . وفي القصة : أن الله تعالى أنبت ثمامة على فم الغار ، وهي شجرة صغيرة ، وألهم حمامة حتى فرخت ، وألهم عنكبوتا حتى نسجت .
قوله تعالى : ( ^ فأنزل الله سكينته عليه ) فيه قولان : أحدهما : على النبي . وهو اختيار الزجاج .
والآخر : أنه على أبي بكر ، وهو قول الأكثرين ؛ لأن السكينة هاهنا ما يسكن به
____________________


( ^ بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ( 40 ) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 41 ) لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ) * * * *
القلب ؛ وأبو بكر - رضي الله عنه - كان هو الخائف والحزين دون رسول الله .
وفي الآية قول ثالث : أن السكينة نزلت عليهما ؛ ونقل في مصحف حفصة - رضي الله عنها - ' فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما بجنود لم تروها ' قوله : ( ^ وأيده بجنود لم تروها ) الجنود هاهنا : الملائكة ، نزلوا فألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا . قوله : ( ^ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) كلمتهم : الشرك ؛ وهي السفلى إلى يوم القيامة ( ^ وكلمة الله هي العليا ) يعني : لا إله إلا الله ، وهي العليا إلى يوم القيامة . قوله : ( ^ والله عزيز حكيم ) قد بينا معنى العزيز الحكيم . < < التوبة : ( 41 ) انفروا خفافا وثقالا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ انفروا خفافا وثقالا ) يقال : إن هذه الآية أول آية أنزلت من سورة التوبة .
قوله : ( ^ خفافا وثقالا ) فيه أقوال : روي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : نشاطا وغير نشاط . قال الأزهري : النشاط جمع النشيط .
والقول الثاني : قول الحسن البصري : انفروا في اليسر والعسر . وهذا قول حسن . وعن الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل . وعن أبي طلحة صاحب النبي :
شيوخا وشبابا . وفيه قول خامس : رجالة وركبانا . ( ^ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله 000 ) إلى آخر الآية ، معناه ظاهر ، وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( ^ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) الآية ، والله أعلم . < < التوبة : ( 42 ) لو كان عرضا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ) أي : لو كانت غنيمة قريبة المتناول ( ^ وسفرا قاصدا ) أي : سفرا قصيرا سهلا [ قريبا ] ( ^ لاتبعوك ) أي :
____________________


( ^ ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ( 42 ) عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ( 43 ) لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ( 44 ) إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت فهم في ريبهم يترددون ( 45 ) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل ) * * * * لخرجوا معك ( ^ ولكن بعدت عليهم الشقة ) أي : بعد عليهم السفر ، والشقة في اللغة : هي الغاية التي يقصد إليها .
قوله ( ^ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ) هذا في المنافقين .
قوله تعالى : ( ^ يهلكون أنفسهم ) يعني : باليمين الكاذبة . قوله : ( ^ والله يعلم إنهم لكاذبون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 43 ) عفا الله عنك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ عفا الله عنك لم أذنت لهم ) روي عن عمرو بن ميمون الأودي أنه قال : فعل رسول الله شيئين بغير إذن من الله : فداء أسارى بدر ، وأذن للمتخلفين في غزوة تبوك ، فعاتبه الله تعالى فيهما جميعا . وفي تقديم قوله تعالى : ( ^ عفا الله عنك ) معنى لطيف في حفظ قلب النبي .
قوله : ( ^ حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 44 ) لا يستأذنك الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ) معناه : لا يستأذنك في التخلف .
قوله ( ^ أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) الآية ، معلوم ، ثم قال < < التوبة : ( 45 ) إنما يستأذنك الذين . . . . . > > : ( ^ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم ) أي : شكت قلوبهم ( ^ فهم في ريبهم يترددون ) يتحيرون .
ثم قال : < < التوبة : ( 46 ) ولو أرادوا الخروج . . . . . > > ( ^ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) يعني : لو قصدوا الخروج لأعدوا له
____________________


( ^ اقعدوا مع القاعدين ( 46 ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ( 47 ) لقد ) * * * * عدة أي : أهبة السفر من الزاد والراحلة وغيرهما ( ^ ولكن كره الله انبعاثهم ) معناه : خروجهم ( ^ فثبطهم ) معناه : فكسلهم وكفهم عن الخروج ( ^ وقيل اقعدوا مع القاعدين ) قال مقاتل بن سليمان : وحيا إلى قلوبهم . وقال غيره : قال بعضهم لبعض : اقعدوا مع القاعدين . < < التوبة : ( 47 ) لو خرجوا فيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، ومعنى قوله : ( ^ خبالا ) أي : فسادا وشرا ، ومعنى الفساد : هو إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين .
وقوله ( ^ ولأوضعوا خلالكم ) الإيضاع : هو سرعة السير . قال الراجز شعر :
( يا ليتني فيها جذع ** أخب فيها وأضع )
قال الزجاج : معنى الآية : أسرعوا فيما يخل بكم . وقال غيره : أسرعوا بينكم بايقاع البغضاء والعداوة بالنميمة ، ونقل الحديث من بعض إلى بعض ، وعلى هذا قوله : ( ^ خلالكم ) : وسطكم ( ^ يبغونكم الفتنة ) يطلبون لكم الفتنة ، وفي الفتنة معنيان : أحدهما : أنها الشرك ، والآخر : أنها تفريق الكلمة .
( ^ وفيكم سماعون لهم ) فيه قولان :
أحدهما : أن فيكم جواسيس لهم ينقلون الحديث إليهم ، وسئل ابن عيينة : هل في القرآن ذكر للجواسيس ؟ قال : نعم . وذكر هذه الآية .
والقول الثاني : ( ^ وفيكم سماعون لهم ) قائلون لهم أي : يقبل ما يقولون ، ومنه ما ورد في الصلاة : ' سمع الله لمن حمده ' قبل الله لمن حمده . وعن أبي عبيدة : وفيكم سماعون لهم : مطيعون لهم . والمعنى قريب من القول الثاني .
____________________


( ^ ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ( 48 ) ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( 49 ) إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا ) * * * *
( ^ والله عليم بالظالمين ) معناه معلوم . فإن قال قائل : قد قال في أول الآية : ( ^ مازادوكم إلا خبالا ) وكان النبي وأصحابه في خبال حتى يزيدوا ؟
الجواب : إن معنى الآية : مازادوكم قوة ؛ بل طلبوا لكم الخبال . < < التوبة : ( 48 ) لقد ابتغوا الفتنة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد ابتغوا الفتنة من قبل ) الآية ، الابتغاء : الطلب ، والفتنة : إيقاع الاختلاف المؤدي إلى تفريق الكلمة . وقوله ( ^ وقلبوا لك الأمور ) ومعناه : صرفوا لك الأمور وأرادوها ظهرا لبطن وبطنا لظهر ، وحقيقة المعنى : أنهم طلبوا بكل حيلة إفساد أمرك ( ^ حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 49 ) ومنهم من يقول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين يقال له : الجد بن قيس قال له رسول الله : ' هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - لعلك تصيب منهم سرارى . قال رسول الله حثا له على الخروج ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي - يعني : في التخلف - ولا تفتني - يعني : بنساء الروم - قال : قومي علموا أني بالنساء مغرم ، يعني : معجب ' .
وهذا أحد القولين في قوله : ( ^ ولا تفتني ) .
والقول الثاني : إن معناه : لا تؤثمني ، قال قتادة ، ومعناه : لا تسمنى للخروج ، والخروج عسير علي فأتخلف فأقع في الإثم .
____________________


( ^ أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ( 50 ) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 51 ) قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) * * * *
قوله : ( ^ ألا في الفتنة سقطوا ) فيه معنيان :
أحدهما : ألا في جهنم سقطوا ، والآخر : ألا في الشرك سقطوا .
( ^ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) محدقة بالكافرين . < < التوبة : ( 50 ) إن تصبك حسنة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن تصبك حسنة تسؤهم ) الحسنة هاهنا هي النعمة التي تطيب بها نفس الإنسان ، وتلذ عيشه . وفي غير هذا الموضع الحسنة بمعنى الطاعة . .
( ^ وإن تصبك مصيبة ) المصيبة هاهنا هي البلية في القتال بإصابة الكافرين من المسلمين ، يقال : إن الحسنة المذكورة كانت يوم بدر ، والمصيبة المذكورة كانت يوم أحد .
وقوله : ( ^ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) يعني : حذرنا من قبل ، ومعناه : احترزنا من الوقوع في المصيبة ( ^ ويتولوا وهم فرحون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 51 ) قل لن يصيبنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا ) أمر الله تعالى المؤمنين بأن يجيبوهم بهذا .
وقوله : ( ^ إلا ما كتب الله لنا ) أي : علينا ، وقيل : معناه : ما أخبر الله لنا ( ^ هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) وهو حافظنا وناصرنا وعليه يعتمد المؤمنون ، وفي الخبر المعروف برواية أبي الدرداء أن النبي قال : ' لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ' . < < التوبة : ( 52 ) قل هل تربصون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هل تربصون بنا ) هل تنتظرون بنا ( ^ إلا إحدى الحسنيين )
____________________


( ^ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ( 52 ) قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ( 53 ) وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون ) * * * * تثنيه الحسنى : الحسنيان ، أحدهما : الظفر ، والأخرى : الشهادة .
وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال : ' ضمن الله لمن خرج في سبيله إيمانا واحتسابا أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ' .
وقوله : ( ^ ونحن نتربص بكم ) أي : ننتظر بكم ( ^ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) العذاب من عنده هو القارعة تنزل من السماء ، والعذاب بأيدي المؤمنين هو العذاب بالسيف ( ^ فتربصوا إنا معكم متربصون ) فانتظروا إنا معكم منتظرون . < < التوبة : ( 53 ) قل أنفقوا طوعا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل أنفقوا طوعا أو كرها ) هذا أمر بمعنى الشرط ، ومعناه : إن أنفقتم طوعا أو كرها ( ^ لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ) لأنكم كنتم قوما فاسقين ، والفسق هاهنا هو الكفر . < < التوبة : ( 54 ) وما منعهم أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) معناه : أن المانع من قبول نفقاتهم كفرهم بالله وبرسوله .
وقوله : ( ^ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) أي : متثاقلين . فإن قيل : كيف ذكر الكسل في الصلاة ولا صلاة أصلا ؟
قلنا : الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل ؛ فإن الكفر مكسل والإيمان منشط ، ويقال : أصل كل كفر الكسل ، وفي المثل : الكسل أحلى من العسل ( ^ ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) معلوم المعنى . وحقيقة المعنى في الكل : أنهم لا يصلون ولا ينفقون إلا خوفا ، فأما تقربا إلى الله فلا .
____________________


( ^ الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( 54 ) فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( 55 ) ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ) * * * * < < التوبة : ( 55 ) فلا تعجبك أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) الإعجاب بالشيء هو السرور به .
وقوله : ( ^ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) فيه سؤال ، وهو أنه يقال : كيف يكون التعذيب بالمال والولد وهم يتنعمون بالأموال والأولاد ؟
الجواب من وجوه :
أحدهما : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، كأنه تعالى قال : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
والقول الثاني : أن التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد .
الثالث : أن معنى التعذيب هو التعب في الجمع ، وشغل القلب بالحفظ ، وكراهة الإنفاق مع الإنفاق ، وتحليفه عند من لا يحمده ، وقدومه على من لا يعدله .
وقوله ( ^ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) تخرج أنفسهم وهم كافرون .
وفي الآية رد على القدرية ، وهو ظاهر . < < التوبة : ( 56 ) ويحلفون بالله إنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ) يعني : من جملتكم ( ^ وما هم منكم ) يعني : ليسوا من جملتكم ( ^ ولكنهم قوم يفرقون ) أي : يخافون .
وفي الحكايات : أن بعض الملحدين رئي يصلي صلاة حسنة ، فسئل عن ذلك فقال : عادة أهل البلد ، وصيانة المال والولد . < < التوبة : ( 57 ) لو يجدون ملجأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا ) قال قتادة : والملجأ : الحصون ، والمغارات : الغيران ، والمدخل : الأسراب . وهذا قول حسن . فمعنى الآية : لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ لولوا إليه وهم يجمحون ) يعني : يسرعون ، يقال : فرس جموح إذا لم يكن رده عن وجهه بشيء .
____________________


( ( 56 ) لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ( 57 ) ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ( 58 ) ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ( 59 ) ) * * * *
قال الشاعر :
( لقد جمحت جماحا في دمائهم ** حتى رأيت ذوي الأشراف قد خمدوا )
وروي عن أنس أنه قرأ : ' وهم يجمرون ' والمعنى قريب في الأول . < < التوبة : ( 58 ) ومنهم من يلمزك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات ) يعني : يعيبك في إعطاء الصدقات ، ويقال : الهمزة واللمزة بمعنى واحد ، ويقال : اللمزة الذي يعيب الناس بقوله ، والهمزة : الذي يشير بطرفه [ هزاء ] .
سبب نزول الآية : ' أن ذا الخويصرة التميمي - واسمه : حرقوش بن زهير - أتى رسول الله وهو يقسم ، فقال : يا رسول الله ، اعدل ، فقال : فمن يعدل إن لم أعدل . ثم قال : يخرج من ضئضىء هذا أقوام تحقرون صلاتكم عند صلاتهم ، وصيامكم عند صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ' الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) هذا في ثعلبة بن حاطب وأصحابه ، كانوا يرضون إن أعطوا كثيرا ، وإن أعطوا القليل سخطوا وعابوا . < < التوبة : ( 59 ) ولو أنهم رضوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله ) كافينا الله ( ^ سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) يعني : لو رضوا بما فعلت
____________________


( ^ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب ) * * * * ورغبوا في الزيادة كان خيرا لهم من سخطهم وعيبهم . < < التوبة : ( 60 ) إنما الصدقات للفقراء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية ، الفقير في اللغة : هو المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره ، والمسكين : الذي ضعفت نفسه عن الحركة في طلب القوة فسكنت ، وأما الكلام ففي الفقير والمسكين نفى الآية أقوال كثيرة .
أحدها : روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري أنهم قالوا : الفقير : الذي لا يسأل ، وقال بعضهم على خلاف ذلك .
والثاني : قول قتادة ، وهو أن الفقير الذي به زمانة ولا شيء له ، والمسكين : الذي لا شيء له وليس به زمانة ، وقال بعضهم على ما قاله قتادة .
والثالث : أن الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين هم الأعراب ، وهذا قول إبراهيم النخعي .
والرابع : أن الفقراء هم المسلمون المحتاجون ، والمساكين هم أهل الحاجة من أهل الذمة .
وفيه قول خامس : أن الفقير والمسكين واحد . واختلفوا أيهما أحوج ، فمذهب الشافعي - رحمه الله - أن الفقير أحوج من المسكين ، واستدل بقوله تعالى : ( ^ أما السفينة فكانت لمساكين ) فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة . وزعم الأصمعي وجماعة من أهل اللغة أن المسكين أحوج من الفقير ، وأنشدوا :
( أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم تترك له [ سبد ] )
قال يونس النحوي : قلت لأعرابي : أفقير أنت ؟ قال : بل مسكين - يعني : أدون من الفقير .
____________________


( ^ والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( 60 ) ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ والعاملين عليها ) يعني : السعادة ، ولهم سهم من الصدقات معلوم .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن لهم بقدر أجر المثل .
وقوله : ( ^ والمؤلفة قلوبهم ) قال أهل العلم : المؤلفة قلوبهم صنفان : مسلمون ، ومشركون ، وكل صنف على صنفين : أما المسلمون قوم كان إيمانهم ضعيفا مثل : أبي سفيان بن حرب ، وعيينة بن حصن الفزارى ، والأقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس وأمثالهم ، كان رسول الله يعطيهم ليتألفوا على الإيمان فيقوي إيمانهم ، وصنف كان إيمانهم قويا مثل : عدي بن حاتم ، والزبرقان بن بدر وغيرهما ، كان يعطيهم ليتألف عشيرتهم .
وأما المشركون فصنفان : صنف كان يدفعهم ليدفع أذاهم عن المسلمين ، مثل عامر ابن الطفيل وغيره ، وصنف كان يعطيهم ليؤمنوا ويميلوا إليه مثل صفوان بن أمية بن خلف ، ومالك بن عوف النصري وغيرهما .
واختلفوا أن سهم المؤلفة قلوبهم هل بقي بعد النبي ؟
قال الشعبي وجماعة : قد سقط . وهو قول أكثر أهل العلم . وقال الزهري : هو باق . وقد حكى عن الشافعي كلا القولين ، والصحيح هو الأول .
وقوله : ( ^ وفي الرقاب ) فيه قولان :
أحدهما : أنهم المكاتبون . وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما .
وقال مالك : يشترى بذلك السهم رقاب فيعتقون . الصحيح هو الأول .
قوله : ( ^ والغارمين ) قال مجاهد : هؤلاء قوم أحرقت النار دورهم ، وأذهب السيل أموالهم فادانوا لنفقاتهم . وقال غيره : هو كل من لحقه غرم بسبب لا معصية فيه .
____________________


( ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( 61 ) يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) * * * *
وقوله : ( ^ وفي سبيل الله ) هؤلاء الغزاة والحجاج ، وقوله : ( ^ في سبيل الله ) : في طاعة الله ( ^ وابن السبيل ) فيه قولان :
أحدهما : أنه الذي قطع عليه الطريق فبقي فقيرا لا مال له . والذي عليه الفقهاء أنه الذي بعد عن ماله ؛ فيصرف إليه سهم من الصدقات وإن صار غنيا في بلده .
وحكى ابن الأنباري قولا ثالثا : أن ابن السبيل هو الضيف .
قوله تعالى : ( ^ فريضة من الله ) أي : افترض الله ذلك فريضة ( ^ والله عليم حكيم ) عليم بما يصلح خلقه ، حكيم فيما دبره . < < التوبة : ( 61 ) ومنهم الذين يؤذون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ) الأذن هاهنا : هو من يسمع كل ما قيل له . قال الشاعر :
( أيها القلب تعلل بددن ** إن همي في سماع وأذن )
وسبب نزول الآية : أن المنافقين قالوا : قولوا ما تريدون ثم أنكروا واحلفوا ؛ فإن محمدا أذن يسمع كل ما قيل له ويقبله .
( ^ قل أذن خير لكم ) يعني : هذه الخلة خير لكم ، فكأنه قال : مستمع خير خير لكم ، ومستمع شر شر لكم ( ^ يؤمن بالله ) يصدق بالله ( ^ ويؤمن للمؤمنين ) ويصدق المؤمنين ( ^ ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) معناه ظاهر . وقرئ : ' أذن خير لكم ' أي : أصلح لكم . < < التوبة : ( 62 ) يحلفون بالله لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) معناه ظاهر .
وقوله : ( ^ إن كانوا مؤمنين ) قيل : يعني : ما كانوا مؤمنين .
____________________


( ( 62 ) ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ( 63 ) يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ( 64 ) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا ) * * * * < < التوبة : ( 63 ) ألم يعلموا أنه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله ) يحادد الله : يعني : من يكون في حد وجانب من الله ورسوله ( ^ فإن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ) الفضيحة العظيمة والنكال العظيم . < < التوبة : ( 64 ) يحذر المنافقون أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يحذر المنافقون ) فيه قولان :
أحدهما : أنه خبر بمعنى الأمر ، ومعناه : ليحذر المنافقون .
والآخر : أنه بمعنى الإخبار عنهم ؛ إذ كانوا يستهزئون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم .
قوله تعالى : ( ^ أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) وقد بينا أن هذه السورة تسمى المبعثرة والفاضحة ؛ فهذه الآية تشير إلى ما قدمنا .
وقد روي عن عبد الله بن عباس قال : أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم ، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة ورأفة على المؤمنين ؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين ، فنسخ ذلك لئلا يعير بعضهم بعضا .
قوله تعالى : ( ^ قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 65 ) ولئن سألتهم ليقولن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) .
سبب نزول الآية : ' أن النبي كان يسير في غزوة تبوك وقدامه ثلاثة من المنافقين ، اثنان يستهزئان ، والثالث يضحك ' وقيل : إن استهزاءهم : أنهم كانوا يقولون : إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ، ما أبعده عن ذلك .
وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن محمدا يزعم أنه نزل القرآن في شأن أصحابنا المقيمين
____________________


( ^ نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ( 65 ) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ( 66 ) المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن ) * * * * بالمدينة ، وإنما هو قوله وكلامه . فهذا معنى الآية ؛ فإنه روي أن النبي أرسل إليهم : ماذا كنتم تقولون ؟ فقالوا : إنا كنا نخوض فيما يخوض فيه الركب ، فقال الله تعالى : ( ^ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) .
وروي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : ' رأيت عبد الله بن أبي ابن سلول يشتد قدام النبي والحجارة تنكبه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ؛ ورسول الله يقول : ( ^ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ' . < < التوبة : ( 66 ) لا تعتذروا قد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) فإن قال قائل : قد كفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين .
الجواب عنه : أن معناه : أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان .
وقوله تعالى : ( ^ إن نعف عن طائفة منكم ) قرئ : ' نعف ' ومعناهما واحد ، والطائفة هاهنا رجل واحد كان يسمى مخشى بن حمير ، وكان هو الذي يضحك ولا يخوض معهم ، وروى أنه جانبهم فقال : ( ^ إن نعف عن طائفة منكم ) يعني : هذا الواحد ( ^ نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 67 ) المنافقون والمنافقات بعضهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) الآية ، قوله : ( ^ بعضهم من بعض ) فيه قولان :
أحدهما : أن بعضهم على دين البعض .
____________________


( ^ المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ( 67 ) ) * * * *
والآخر : أن أمرهم واحد ، وهذا كالرجل يقول لغيره : أنا منك ، يعني : أمري وأمرك واحد .
( ^ يأمرون بالمنكر ) فيه قولان :
أحدهما : أن المنكر : هو الشرك ، والمعروف : هو الإيمان بالله .
وعن أبي العالية الرياحي أنه قال : كل ما ذكر من المنكر في القرآن فهو عبادة الأوثان والشرك بالله .
والقول الثاني : أن المنكر : هو معصية الله تعالى ، والمعروف : هو طاعة الله .
وقوله تعالى : ( ^ وينهون عن المعروف ) القول المعروف أن معنى قوله : ( ^ ويقبضون أيديهم ) يمسكون عن الإنفاق في سبيل الله .
والقول الثاني : يقبضون أيديهم أي : عن الجهاد في سبيل الله .
وقال بعض المتأخرين : يعني : لا يبسطونها للدعاء والرغبة إلى الله .
قوله تعالى : ( ^ نسوا الله فنسيهم ) أي : تركوا أمر الله فتركهم من رحمته . وروي عن قتادة أنه قال : نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر .
قوله تعالى : ( ^ إن المنافقين هم الفاسقون ) يعني : هم الخارجون عن طاعة الله .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' علامة المنافق ثلاثة : إذا قال كذب ، وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد ( خلف ) ' . وفي بعض الروايات : ' إذا عاهد غدر ' . وفي بعض الأخبار : ' لايأتون الصلاة إلا دبرا ولا يقرءون القرآن إلا هجرا ' . وفي بعض الروايات عن ابن عباس : أن عدد المنافقين من الرجال في زمان رسول الله كان ثلثمائة ، وعدد النساء مائة وسبعون .
____________________


( ^ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ( 68 ) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكر قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ( 69 ) ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ) * * * * < < التوبة : ( 68 ) وعد الله المنافقين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ) معلوم . وقوله : ( ^ هي حسبهم ) أي : كافيتهم ( ^ ولعنهم الله ) أي : أبعدهم الله من رحمته ( ^ ولهم عذاب مقيم ) أي : دائم . < < التوبة : ( 69 ) كالذين من قبلكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كالذين من قبلكم ) معناه : أنتم يا معشر المنافقين كالذين من قبلكم . قوله : ( ^ كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ) الخلاق : النصيب ، وقيل : الحظ الوافر . ومعنى الآية : استمتعوا باتباعهم الشهوات ( ^ كما استمتعتم بخلاقكم ) باتباعكم الشهوات ، وقيل : معنى الآية : رضوا بنصيبهم من الدنيا عن نصيبهم من الآخرة . وقوله تعالى : ( ^ وخضتم كالذي خاضوا ) يعني : لعبوا واستهزءوا كما فعلتم . قوله تعالى : ( ^ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) معناه : كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم . وقد روي عن النبي أنه قال : ' لتتبعن سنن من قبلكم حتى لو دخل أحدهم في جحر ضب ليدخلنه أحدكم ' . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : ما أشبه الليلة بالبارحة في الدنيا والآخرة . < < التوبة : ( 70 ) ألم يأتهم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ) أي : خبر الذين من قبلهم ( ^ قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين ) ومدين اسم قرية شعيب . قوله : ( ^ والمؤتفكات ) هي : قريات لوط ؛ سميت مؤتفكة ؛ لأن الله تعالى قلبها بهم . قوله :
____________________


( ^ وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 70 ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ( 71 ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في ) * * * * ( ^ أتتهم رسلهم بالبينات ) بالحجج ( ^ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) معناه : ما نقص الله حظهم ؛ ولكن نقصوا هم حظهم ، وضروا بأنفسهم . < < التوبة : ( 71 ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) هذه الولاية هي ولاية الدين واتفاق الكلمة . ويقال في تفسير الآية : المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض .
قوله تعالى : ( ^ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) إلى آخر الآية معناه معلوم . وقوله : ( ^ ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ) قال عطاء بن أبي رباح : هو اتباع الكتاب والسنة . وقوله : ( ^ إن الله كان عزيزا حكيما ) أي : عزيز في نصره ، حكيم في تدبيره . < < التوبة : ( 72 ) وعد الله المؤمنين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) الجنات : البساتين ( ^ تجري من تحتها الأنهار ) هذه الأنهار هي الأنهار التي ذكر الله تعالى في سورة محمد .
قوله : ( ^ ومساكن طيبة ) روي عن عبد الله بن عباس أنه قال : ( ^ ومساكن طيبة ) هي قصر من لؤلؤ فيها سبعون دارا من الزبرجد ، في كل دار سبعون بيتا من الياقوت ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش زوجة من الحور العين . وفي الآثار - أيضا - أن قوله : ( ^ في جنات عدن ) قال : إن جنة عدن هي مأوى الأنبياء والصديقين والشهداء ، وسائر الجنان حواليها . وقيل : إن جنة عدن في السماء السابعة لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو إمام عدل أو رجل محكم في نفسه . ومعنى قوله ' محكم في نفسه ' يعني : خير بين الكفر والقتل فاختار
____________________


( ^ جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ( 72 ) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ( 73 ) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) * * * * القتل . وأما جنة المأوى فهي في السماء الدنيا . وقوله : ( ^ عدن ) أي : موضع الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ، قال الشاعر :
( فإن تستضيفوا إلى حلمه ** تضيفوا إلى راجح قد عدن )
وقوله تعالى : ( ^ ورضوان من الله أكبر ) معناه : رضا الله أكبر من هذه التحف .
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي قال : ' إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم عني ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا أفضل ما تعطي أحدا من خلقك ؟ ! فيقول : وأنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل - أي : أنزل - عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ' . خرجه البخاري ومسلم في كتابيهما .
قوله ( ^ ذلك هو الفوز العظيم ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 73 ) يا أيها النبي . . . . . > >
( ^ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) قال أهل التفسير : معناه : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لا تلق المنافق إلا بوجه مكفهر . وروي عنه أنه قال : يجاهد بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . وقوله تعالى : ( ^ واغلظ عليهم ) الغلظة ها هنا : هو الانتهار الشديد . قوله : ( ^ ومأواهم جهنم وبئس المصير ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 74 ) يحلفون بالله ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) الآية نزلت في المنافقين أيضا . واختلف القول في كلمة الكفر .
قال بعضهم : كلمة الكفر : هي سب محمد . وقال بعضهم : كلمة الكفر : هي قول الجلاس بن سويد ؛ فإنه قال : لئن كان ما يقول محمد حق فنحن شر من الحمير .
____________________


( ^ وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ) * * * * وفيه قول ثالث : أن كلمة الكفر هي قولهم : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وعنوا بالأعز : عبد الله بن أبي بن سلول ، وقالوا : نتوجه بالتاج خلافا على محمد .
وقوله تعالى : ( ^ وكفروا بعد إسلامهم ) معناه : وأظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام .
وقوله تعالى : ( ^ وهموا بما لم ينالوا ) يعني : قصدوا ما لم يدركوه ؛ فإنه روي أن اثني عشر نفرا من المنافقين اجتمعوا في غزوة تبوك ليغتالوا النبي . وروي أنهم قصدوا أن يوقعوه من العقبة في الوادي ، فدفع الله شرهم عن النبي ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وهموا بما لم ينالوا ) . وقوله تعالى : ( ^ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) نقموا أي : كرهوا ، قال الشاعر في مدح بني أمية شعرا :
( ما نقموا من بني أمية ** إلا أنهم ( يحلمون ) إن غضبوا )
( وأنهم سادة الملوك ** ولا يصلح إلا عليهم العرب )
وقوله تعالى : ( ^ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) يعني : بالغنائم . وروي : ' أن الجلاس بن سويد كان تحمل بحمالة فأداها عنه رسول الله ' . وروي أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له دية على قوم فأمر النبي أن يوفر عليه . فهذا كله معنى قوله تعالى : ( ^ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) .
قوله تعالى : ( ^ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ) روي أنه لما نزلت هذه الآية قال الجلاس بن سويد : إني أرى الله يعرض علي التوبة ، وإني قد تبت إلى الله مما كنت فيه ؛ فروي
____________________


( ^ والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( 74 ) ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ( 75 ) فلما آتاهم من فضله بخلوا ) * * * * أنه صح إيمانه واستشهد يوم اليمامة .
قوله تعالى : ( ^ وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) إلى آخر الآية ، معناه ظاهر .
ويقال في قوله تعالى : ( ^ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ) يعني : ليست لهم كراهة ولا نقمة ، وهذا مثل قول الشاعر :
( ولا عيب فينا غير أن سيوفنا ** بهن فلول من قراع الكتائب )
يعني : لا عيب فينا أصلا . < < التوبة : ( 75 - 76 ) ومنهم من عاهد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ) أي : لنتصدقن ، وأدغمت التاء في الصاد وشددت ، أي : لنصدقن في وجوه الخير من الجهاد وغيره ، ولنكونن من الصالحين . قيل : مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما في البذل والعطاء .
في الآية قولان : أحدهما : أنها نزلت في رجل من الأنصار كان له مال غائب ، فقال : إن رد الله على مالي لأفعلن كذا وكذا ، فرد الله عليه ماله فلم يفعل شيئا ، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية .
والقول الثاني : أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب . روى أبو أمامة الباهلي : ' أن ثعلبة ابن حاطب جاء إلى النبي وقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : قليل يكفيك خير من كثير لا تقوم بحقه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : أما ترضى أن تكون مثل رسول الله ، فوالله لو أردت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فوالله لاؤدين إلى كل ذي حق حقه ، فدعا رسول الله وقال : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها أزقة المدينة ، فخرج بها إلى الصحراء
____________________


( ^ به وتولوا وهم معرضون ( 76 ) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( 77 ) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ) * * * * وجعل يحضر الصلوات الخمس ، ثم نمت حتى ضاقت بها مراعي المدينة ، فقال فبعد بها وجعل لا يحضر إلا الجمعة ، ثم ترك حضور الصلوات والجمعة جميعا . قال : فبعث رسول الله مصدقه ليأخذ الزكاة ، فمر عليه وطالبه بالزكاة ، فقال : ما أرى هذا إلا أخت الجزية ، اذهب حتى تعود إلي ، فلما عاد إليه لم يعط شيئا ، وقال : حتى ألقى رسول الله ، فرجع المصدق وأخبر النبي بأمره ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فروي أنه ذكر له أنه نزلت فيه هذه الآية فحضر المدينة وقال : يا رسول الله ، خذ مني الزكاة ، فأبى أن يأخذ ، فلما توفي رسول الله جاء إلى أبي بكر وطلب أن يأخذ منه الزكاة ، فقال : ما أخذ رسول الله ؛ فلا آخذ أنا ، وهكذا في زمان عمر وزمان عثمان ، وتوفي في زمان عثمان ' . < < التوبة : ( 77 ) فأعقبهم نفاقا في . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ) فيه معنيان :
أحدهما : فعاقبهم نفاقا في قلوبهم ، يقال : أعقبه وعاقبه بمعنى واحد .
والمعنى الثاني : أخلفهم نفاقا في قلوبهم .
( ^ إلى يوم يلقونه ) يوم القيامة .
قوله تعالى : ( ^ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) . < < التوبة : ( 78 ) ألم يعلموا أن . . . . . > >
ثم قال : ( ^ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ) يعني : ما أضمروا في قلوبهم
____________________


( ^ ونجواهم وأن الله علام الغيوب ( 78 ) الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ( 79 ) استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن ) * * * * وما تناجوا به بينهم ( ^ وأن الله علام الغيوب ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 79 ) الذين يلمزون المطوعين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) يلمزون : يعيبون .
وسبب نزول الآية : ' أن النبي حث الناس على الصدقة ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار - وكان ذلك نصف ماله - وجاء عاصم بن عدي بثلثمائة وسق من تمر - والوسق حمل بعير - وجاء أبو عقيل - رجل من الأنصار - بصاع من تمر ، وقال : كان لي صاعان من تمر فجئت بأحدهما ، فقال المنافقون : أما عبد الرحمن ابن عوف وعاصم بن عدي : فأعطيا ما أعطيا رياء ، وأما أبو عقيل : فما كان أغنى الله من صاع أبي عقيل ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ' . ( ^ والمطوعين ) المتطوعين من المؤمنين ، هو عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي ( ^ والذين لا يجدون إلا جهدهم ) هو أبو عقيل . والجهد : الطاقة ( ^ فيسخرون منهم ) يستهزئون منهم ( ^ سخر الله منهم ) جازاهم جزاء السخرية ( ^ ولهم عذاب أليم ) . < < التوبة : ( 80 ) استغفر لهم أو . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) الآية . أراد به إثبات اليأس عن طمع المغفرة لهم .
وروي عن الحسن البصري أنه روى عن النبي مرسلا أنه قال : ' والله لأزيدن على السبعين ' فأنزل الله عز وجل : ( ^ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) وذكر عدد السبعين للمبالغة في إثبات اليأس ( ^ إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) معناه معلوم .
____________________


( ^ يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 80 ) فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ( 81 ) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ( 82 ) فإن ) * * * * < < التوبة : ( 81 ) فرح المخلفون بمقعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فرح المخلفون ) الفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، والغم : ضيق في القلب بفوات المشتهى . وأما المخلفون فهم الذين قعدوا عن الغزو ، وتركوا الخروج مع رسول الله . والمخلف : المتروك . وقوله : ( ^ بمقعدهم ) يعني : بقعودهم . وقوله : ( ^ خلاف رسول الله ) فيه معنيان : أحدهما : مخالفة لرسول الله . والثاني : بمقعدهم خلاف رسول الله أي : بعد رسول الله ، قاله أبو عبيدة ( ^ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) المجاهدة بالمال : هي الإنفاق ، والمجاهدة بالنفس : هي مباشرة القتال ، وقوله : ( ^ وكرهوا ) يعني : لم يحبوا ( ^ وقالوا لا تنفروا في الحر ) الحر : هو وهج الشمس ، والبرد ضده . ( ^ قل نار جهنم أشد حرا ) يعني : أشد وهجا ( ^ لو كانوا يفقهون ) قرأ ابن مسعود : ' لو كانوا يعلمون ' . والمعنى واحد . < < التوبة : ( 82 ) فليضحكوا قليلا وليبكوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) الضحك : حالة تكون في الإنسان من التعجب والفرح ، والبكاء حالة تعتري الإنسان من الهم وضيق القلب مع جريان الدمع على الخد ، ويقال : إن الضحك في بني آدم كالصهيل في الخيل .
وفي الآية قولان : أحدهما : أن معنى قوله : ( ^ فليضحكوا قليلا ) أي : في الدنيا ( ^ وليبكوا كثيرا ) في الآخرة ( ^ جزاء بما كانوا يعملون ) قاله أبو رزين ، والحسن وجماعة .
والقول الثاني : أن هذا أمر بمعنى الخبر ، فكأنه قال : يضحكون قليلا ، ويبكون كثيرا ، يعني : في الآخرة .
فإن قال قائل : كيف قال : يضحكون قليلا وهم لا يضحكون أصلا في الآخرة ؟
الجواب : قلنا : معنى قوله : يضحكون قليلا يعني : لا يضحكون أصلا ، وهذا مثل
____________________


( ^ رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ( 83 ) ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا ) * * * * قوله تعالى : ( ^ فقليلا ما يؤمنون ) أي : لا يؤمنون شيئا .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : إن أهل النار ليبكون لا يرقأ لهم دمع حتى إن السفن لو أجريت في دموعهم جرت . < < التوبة : ( 83 ) فإن رجعك الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) يعني : لو ردك الله إلى طائفة منهم ( ^ فاستئذنوك للخروج ) ليخرجوا معك في القتال ( ^ فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) قال أهل التفسير : العدو ها هنا : أهل الكتاب ؛ فإنه لم يكن بقي بجزيرة العرب مشرك في ذلك الوقت . قوله : ( ^ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ) والخالفون هاهنا هم النساء والصبيان ، وقيل : هم أهل الزمانة والضعف . < < التوبة : ( 84 ) ولا تصل على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) الآية . نزلت الآية في شأن عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فإنه روي : ' أنه لما حضره الموت جاء ابنه إلى رسول الله برسالته يطلب منه قميصه ليكفنه فيه ، فأعطاه رسول الله قميصه . وفي بعض الروايات : أنه أعطاه قميصه الذي فوق قميصه وهو الأعلى ، فرد وطلب قميصه الذي يلي جلده ، فلما توفي قدم ليصلي عليه رسول الله بطلب ابنه ذلك ووصيته ، فلما تقدم رسول الله ليصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال : يا رسول الله ، أتصلي على هذا المنافق ؟ فقال رسول الله : إن ربي خيرني . وقرأ قوله تعالى : ( ^ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) وقد اخترت أن أصلي عليه قال : فصلي عليه ، فأنزل الله تعالى قوله ( ^ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) .
وفي رواية أنس : ' أن النبي لما وقف ليصلي عليه أخذ جبريل - عليه السلام
____________________


( ^ وهم فاسقون ( 84 ) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( 85 ) وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله ) * * * * بطرف ثوبه ومنعه من الصلاة ، فترك الصلاة ' .
والرواية الأولى هي في ' الصحيحين ' .
وقوله : ( ^ ولا تقم على قبره ) وفي رواية : ' أن النبي كان إذا صلى على ميت وقف على قبره ودعا ' فمنعه الله تعالى عن ذلك في حق المنافقين .
فإن قيل : كيف يجوز أن يصلي النبي على المنافق وهو يعلم أنه كافر بالله ؟
الجواب عنه : أنه رأى ذلك مصلحة ؛ وقد قيل حين صلى عليه : ' إن صلاتي عليه لا تغني عنه من عذاب الله شيئا ' .
وفي بعض الروايات : ' أن عبد الله بن أبيّ بن سلول لما طلب منه قميصه ليتبرك به ويكفن فيه ، أسلم ألف رجل من قومه لم يكونوا أسلموا من قبل لما رأوا من تبركه بالنبي . [ ( ^ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) ] وباقي الآية معلوم . < < التوبة : ( 85 ) ولا تعجبك أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) قد بينا معناها فيما سبق ؛ فإن قيل : أيش معنى التكرار ؟
وفي هذه الآية الجواب من وجهين : أحدهما : أنه للتأكيد .
والثاني : أن الآيتين نزلتا في طائفتين من المنافقين دون طائفة واحدة .
____________________


( ^ وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ( 86 ) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( 87 ) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ( 88 ) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين ) * * * * < < التوبة : ( 86 ) وإذا أنزلت سورة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله ) معنى الآية ظاهر .
وقوله : ( ^ استأذنك أولوا الطول منهم ) الطول : هو السعة والغنا بإجماع المفسرين ، وقيل : إنه إنما سميت السعة طولا ؛ لأن الإنسان يتطاول بها الناس .
وقوله : ( ^ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) يعني : مع القاعدين عن الجهاد . < < التوبة : ( 87 ) رضوا بأن يكونوا . . . . . > >
ثم قال : ( ^ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) قال قتادة : الخوالف : هم النساء . وقال غيره : هم أدنياء الناس وسفلتهم ، يقال : فلان خالفه قومه إذا كان دونهم . قوله : ( ^ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ) طبع : ختم ، ويقال : الطبائع نكت سوداء تقع على القلب ، يعرف بها الملك المنافق من المؤمن . < < التوبة : ( 88 ) لكن الرسول والذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) معناه معلوم .
وقوله : ( ^ وأولئك لهم الخيرات ) فيه أقوال :
أحدها : أن الخيرات : هي الغنائم ، والآخر : أن الخيرات : هي الحور في الجنة ، وواحدتها : خيرة ؛ قال الله تعالى : ( ^ فيهن خيرات حسان ) يعني : الحور .
والقول الثالث : أن الخيرات لا يعلم معناها إلا الله . حكي هذا عن ابن عباس ، ومثل هذا : قوله تعالى : ( ^ فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) .
( ^ وأولئك هم المفلحون ) قد بينا المعنى .
____________________


( ^ فيها ذلك الفوز العظيم ( 89 ) وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 90 ) ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ) * * * * < < التوبة : ( 89 ) أعد الله لهم . . . . . > >
ثم قال : ( ^ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) ومعناه ظاهر . < < التوبة : ( 90 ) وجاء المعذرون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ) قرىء بقراءتين ' المعذرون ' و ' المعذرون ' ؛ وفي المعذرين قولان : أحدهما : أن المعذرين هم المعتذرون ، أدغمت التاء في الذال .
والقول الثاني : أن المعذرين : هم المقصرون ، والتعذير في اللغة : هو التقصير . وأما المعذرون : فهم الذين بالغوا في العذر ، يقال في المثل : لقد أعذر من أنذر . يعني : بالغ في إظهار العذر من قدّم في النذارة ، قال لبيد شعرا :
( إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر )
يعني : بالغ في العذر .
واعلم أن هذه الآية نزلت في المنافقين ، وقد اعتذروا ولم يكن لهم عذر . وأما الأعراب : هم الذين يسكنون البادية ، والعربي : اسم لمن له نسب من العرب .
وقوله : ( ^ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) هذا في المنافقين ؛ ومعنى ( ^ كذبوا الله ورسوله ) يعني : لم يأتوا بعذر صادق ، ثم قال : ( ^ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ) ومعناه معلوم . < < التوبة : ( 91 ) ليس على الضعفاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) اختلفوا في الضعفاء ، قال بعضهم : هم المجانين ، والضعف : نقصان عقولهم . وقال بعضهم : هم الصبيان . وقال بعضهم : هم النسوان . وأما المرضى : فمعلوم . وقوله : ( ^ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) الذين لا يجدون : هم الفقراء ، والحرج : الضيق . وقوله : ( ^ إذا نصحوا
____________________


( ^ لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ( 91 ) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ( 92 ) إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ( 93 ) ) * * * * لله ورسوله ) يعني : أخلصوا العمل لله ولرسوله ، وإخلاص العمل لله بالعبادة ، وللرسول بالمتابعة . قوله تعالى : ( ^ ما على المحسنين من سبيل ) معناه : ليس على من أحسن بالإخلاص سبيل ، والسبيل : هو العقوبة ( ^ والله غفور رحيم ) . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : ' والله لأهل الإساءة غفور رحيم ' . < < التوبة : ( 92 ) ولا على الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) معناه : لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء ، قال محمد بن إسحاق : نزلت الآية في سبعة نفر ، منهم عبد الله بن المغفل المزني ، والعرباض بن سارية ، وأبو ( ليلى ) عبد الرحمن بن كعب ، سموا البكائين . وروي عن الحسن البصري أنه قال هذا في أبي موسى الأشعري وأصحابه .
واختلف القول في قوله : ( ^ لتحملهم ) أحد القولين - وهو المعروف - : أنهم طلبوا الإبل ليركبوها . والقول الثاني : أنهم طلبوا النعال . هذا قول الحسن بن صالح .
وقوله : ( ^ قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ) معناه ظاهر . وفي بعض الأخبار : أن النبي قال : ' لا يزال أحدكم راكبا مادام متنعلا ' . < < التوبة : ( 93 ) إنما السبيل على . . . . . > >
ثم قال ( ^ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) الخوالف : النساء والصبيان ؛ يقال : خالف وخوالف ، كما يقال : فارس وفوارس ، وهالك وهوالك . ( ^ طبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ) ظاهر المعنى .
____________________


( ^ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( 94 ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( 95 ) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) * * * * < < التوبة : ( 94 ) يعتذرون إليكم إذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ) روي أن المنافقين الذين تخلفوا كانوا بضعة وثمانين نفرا ، فلما رجع رسول الله من غزوة تبوك جاءوا يعتذرون ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ( ^ قل لاتعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ) يعني : فيما سلف ( ^ وسيرى الله عملكم ورسوله ) يعني : في المستأنف ( ^ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) . < < التوبة : ( 95 ) سيحلفون بالله لكم . . . . . > >
ثم قال في شأنهم : ( ^ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) الانقلاب : هو الرجوع إلى المكان الذي خرجوا منه ( ^ فأعرضوا عنهم إنهم رجس ) الرجس : هو النتن والقذر ( ^ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) فإن قيل : كيف قال في الآية : ( ^ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) إذا كان المؤمنون مقبلين عليهم حتى يقول : ( ^ لتعرضوا عنهم ) ؟
والجواب عنه : ذكر الأزهري في كتابه ' التقريب ' معنى الآية : سيحلفون بالله لكم لإعراضكم عنهم لتقبلوا عليهم ؛ فأعرضوا عنهم . < < التوبة : ( 96 ) يحلفون لكم لترضوا . . . . . > >
ثم قال : ( ^ يحلفون لكم لترضوا عنهم ) الرضا ضد الكراهة ( ^ فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) .
وفي القصة : ' أن أبا خيثمة رجل من أصحاب رسول الله كان قد تخلف ، وكانت له امرأتان ، فذهب إليهما وقد هيأت كل واحدة منهما طعاما ، وبردت شرابا وبسطت له في الظل ، فنظر إلى ذلك وقال : رسول الله في الضح والذبح ، وأبو خيثمة في الظل ! ما هذا بنصف ، ثم ركب ناقته واتبع رسول الله ، فأدرك النبي وقد نزل
____________________


( ( 96 ) الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ( 97 ) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم ) * * * * بتبوك ، فقال الناس : يا رسول الله ، هذا راكب قد أقبل ، فقال رسول الله : كن أبا خيثمة فقال الناس : هو أبو خيثمة ' . < < التوبة : ( 97 ) الأعراب أشد كفرا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ) معنى أجدر : أخلق وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ( ^ على رسوله ) وهذا لبعدهم من سماع القرآن ومعرفة السنن . وفي بعض الأخبار : ' أهل الكفور هم أهل القبور ' . وفي آثار التابعين عن إبراهيم النخعي : أن أعرابيا جلس عند زيد بن صوحان - وكانت شماله أصيبت يوم نهاوند في حرب العجم - فجعل يكلمه ويذكر له العلم ، فقال له الأعرابي : إنه ليؤنسني علمك وتريبني يدك ، فقال له زيد : وما يريبك مني وإنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : إني ما أدري الشمال تقطع أم اليمين ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله تعالى : ( ^ الأعراب أشد كفرا ونفاقا ) .
وزيد بن صوحان من كبار التابعين ، وهو الذي ذكر رسول الله في شأنه أن يده تسبقه إلى الجنة . ( ^ والله سميع عليم ) . < < التوبة : ( 98 ) ومن الأعراب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ) المغرم : التزام ما لا يلزم ، قال الشاعر :
( فمالك مسلوب العدا كأنما ترى ** هجر ليلى مغرما أنت غارمه )
قوله : ( ^ ويتربص بكم الدوائر ) أي : ينتظر بكم الدوائر ، والدوائر : جمع الدائرة ،
____________________


( ^ الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ( 98 ) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ( 99 ) والسابقون الأولون من ) * * * * والدائرة : انتقال المحبوب إلى المكروه ، وقيل : الدوائر : صروف الدهر .
ثم قال : ( ^ عليهم دائرة السوء ) وقرىء : ' دائرة السوء ' ومعناه : أن المكروه العظيم ما يلحقهم . وقوله : ( ^ والله سميع عليم ) . < < التوبة : ( 99 ) ومن الأعراب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) معناه معلوم ( ^ ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) القربات جمع القربة ، والصلوات جمع الصلاة ؛ ومعنى القربات : أنه يطلب القربة إلى الله تعالى ، ومعنى الصلوات : أنه يطلب الدعاء من رسول الله .
واعلم أن الصلاة من الله الرحمة ، ومن المؤمنين الدعاء ، ومن الملائكة الاستغفار ، قال الأعشى :
( تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ** يا رب جنب أبى الأوصاب والوجعا )
( عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ** عينا فإن لجنب المرء مضطجعا )
ثم قال : ( ^ ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ) أي : في جنته ( ^ إن الله غفور رحيم ) معلوم . < < التوبة : ( 100 ) والسابقون الأولون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) هذه الآية في السابقين الأولين ، وفيهم أقوال :
أحدها : قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وجماعة ، أنهم قالوا : هم الذين صلوا إلى القبلتين .
____________________


( ^ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد ) * * * *
وقال عطاء : هم أهل بدر .
وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان ، وبيعة الرضوان كانت بالحديبية .
والقول الرابع : السابقون الأولون من المهاجرين : هم الذين أسلموا قبل الهجرة ، والسابقون الأولون من الأنصار : هم الذين بايعوا مع رسول الله ليلة العقبة .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قرأ : ' والأنصار ' بالرفع . وفي هذه القراءة السابقون الأولون من المهاجرين خاصة . والمعروف ' والأنصار ' ومعناه : ومن الأنصار : والمهاجرين هم الذين هاجروا من أوطانهم وقدموا المدينة مع رسول الله ، والأنصار هم أهل المدينة الذين أنزلوا رسول الله والمهاجرين في دورهم .
وأما قوله : ( ^ والذين اتبعوهم بإحسان ) فيه قولان : أحدهما : أنهم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين منهم .
والقول الثاني : أنهم المؤمنون إلى قيام الساعة .
وعن أبي صخر حميد بن زياد قال : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله في الجنة ، مسيئهم ومحسنهم ، فقلت له : من أين تقول هذا ؟ فقال : اقرأ قوله تعالى : ( ^ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) إلى أن قال : ( ^ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات ) ثم قال : شرط للتابعين شريطة ، وهو قوله : ( ^ اتبعوهم بإحسان ) ومعناه : أنهم اتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : وكأني لم أقرأ هذه الآية قط .
وفي الخبر المعروف برواية أبي سعيد الخدري أن النبي قال : ' لا تسبوا أصحابي ؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا لم يدرك مد أحدهم
____________________


( ^ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( 100 ) وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ( 101 ) وآخرون اعترفوا ) ولا نصيفه '
قوله : ( ^ رضي الله عنهم ورضوا عنه ) أي : رضي الله عنهم بطاعتهم ( ^ ورضوا عنه ) بثوابه ، وباقي الآية معلوم ( ^ وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك هو الفوز العظيم ) . < < التوبة : ( 101 ) وممن حولكم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وممن حولكم من الأعراب منافقون ) قال أهل التفسير : هم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم ( ^ ومن أهل المدينة ) قوم من الأوس والخزرج ( ^ مردوا على النفاق ) قال الفراء : مرنوا على النفاق . وقال ثعلب : استنمروا على النفاق . وفي الآية تقديم وتأخير ، كأنه قال : وممن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ومن أهل المدينة ، هكذا قاله أهل المعاني ( ^ لا تعلمهم نحن نعلمهم ) هذا دليل على أن الرسول لم يعلم جميع المنافقين .
وقوله تعالى : ( ^ سنعذبهم مرتين ) فيه أقوال :
أحدها : أنها الفضيحة في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
وفي الخبر ' أن النبي قام خطيبا على المنبر ، وقال : اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، اخرج يا فلان ، فإنك منافق ' هكذا حتى أخرجهم جميعا من المسجد .
____________________


( ^ بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور ) * * * *
والقول الثاني : قو مجاهد ، وهو الخوف في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
والقول الثالث : أن العذاب الأول : هو القتل ، والعذاب الثاني : هو عذاب القبر .
والرابع : قال ابن قتيبة : العذاب الأول : هو السبي ، والعذاب الثاني : هو القتل .
( ^ ثم يردون إلى عذاب عظيم ) يعني : إلى جهنم . < < التوبة : ( 102 ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) الآية نزلت في قوم من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله بغير عذر ، فيهم أو لبابة بن عبد المنذر وغيره ، فلما قفل رسول الله من الغزو ، وقرب من المدينة جاءوا فربطوا أنفسهم بسوارى المسجد وقالوا : لا نحل أنفسنا حتى يتوب الله علينا ، فدخل رسول الله المسجد ، وكان من عادته أنه كان إذا خرج إلى سفر صلى ركعتين في المسجد ، ثم يخرج ، وإذا رجع بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم يدخل منزله ، فلما دخل المسجد ورأى هؤلاء النفر قد ربطوا أنفسهم بالسوارى سأل وقال : ' ما شأنهم ؟ فقيل : إنهم حلفوا ألا يحلوا أنفسهم حتى يتوب الله عليهم ، فقال رسول الله : وإني أحلف أن لا أحلهم حتى يقضي الله فيهم بأمره ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' .
وقوله تعالى : ( ^ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) العمل السيء هو التخلف عن الغزو بلا إشكال ، وأما العمل الصالح ففيه معنيان :
أحدهما : ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسوارى .
والثاني : العمل الصالح : هو غزواتهم مع رسول الله من قبل .
وفي الأخبار ، عن سمرة بن جندب أن النبي قال : ' أتاني الليلة آتيان فانطلقا بي إلى مدينة مبنية لبنة من الذهب ولبنة من الفضة ، فتلقاني رجال شطر خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر خلقهم كأقبح ما أنت راء ، فقيل لهم : قعوا في ذلك
____________________


( ^ رحيم ( 102 ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ( 103 ) ) * * * * النهر ، فوقعوا في النهر ، فخرجوا وقد ذهب عنهم السوء ، فسألت عن أولئك القوم ، فقيل لي : أما المدينة فهي الجنة ، [ وهذاك ] منزلك ، وهؤلاء القوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ فتجاوز الله عنهم ' .
وأما قوله تعالى : ( ^ عسى الله أن يتوب عليهم ) قال الحسن البصري وغيره : عسى من الله واجب . فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله أن يحل أولئك القوم من السوارى .
وروي عن أبي عثمان النهدي أنه قال : أرجي آية في القرآن هذه الآية .
( ^ إن الله غفور رحيم ) . < < التوبة : ( 103 ) خذ من أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) قال أهل التفسير : لما تاب الله على أولئك القوم جاءوا بأموالهم إلى النبي وقالوا : خذها صدقة لله ، فأبى أن يأخذها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ خذ من أموالهم ) . وقوله : ( ^ تطهرهم ) أي : من الذنوب . وقوله : ( ^ وتزكيهم بها ) أي : وترفعهم بها من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين ( ^ وصل عليهم ) وادع لهم ( ^ إن صلاتك سكن لهم ) أي : دعاؤك سكن لهم ، أي : سكون لهم ، أي : دعاؤك سكن لهم وطمأنينة وتثبيت .
وقد قال بعض أهل العلم : إنه يجب على الإمام أن يدعو للذي جاء بالصدقة . وقال بعضهم : يستحب ، ولا يجب . وقال بعضهم : يجب في الفرض ويستحب في النفل . وقال بعضهم : يجب على الإمام أن يدعو للمعطي ، ويستحب للفقير أن يدعو . ومنهم من قال : إن التمس المعطي أن يدعو له يجب ؛ وإلا فلا يجب .
____________________


( ^ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ( 104 ) ) * * * *
وقد ثبت الخبر برواية عبد الله بن أبي أوفى قال : ' كان الرجل إذا جاء بصدقته إلى النبي دعا له ؛ فجاء أبي بصدقته فقال النبي : أللهم صل على آل أبي أوفى .
( ^ والله سميع عليم ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 104 ) ألم يعلموا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) هذا ظاهر . وقوله : ( ^ ويأخذ الصدقات ) معناه : يقبل الصدقات . وقال بعض أهل المعاني قوله : ( ^ ألم يعلموا ) هو بمعنى الأمر ؛ كأنه قال : اعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده .
وفي الخبر المشهور المعروف عن أبي هريرة عن النبي قال : ' والذي نفسي بيده ، ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه ، حتى إن اللقمة تجيء يوم القيامة مثل أحد ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) ' . والخبر صحيح .
وروي عن ابن مسعود أنه قال : إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير . وروي في بعض الروايات مرفوعا إلى النبي .
قوله : ( ^ وأن الله هو التواب الرحيم ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 105 ) وقل اعملوا فسيرى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) في الآية
____________________


( ^ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( 105 ) وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم ) * * * * معنى التهديد . فإن قال قائل : ما معنى رؤية الرسول والمؤمنين ؟
قلنا : رؤية الرسول : هي بإعلام الله إياه عملهم ، ورؤية المؤمنين : بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح ، وإيقاع البغضة في قلوبهم لأهل الفساد .
وفي بعض الأخبار : ' لو عمل المؤمن في صخرة ليس لها باب [ لأظهره ] الله إذا عمله ' .
قوله تعالى : ( ^ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة . . . . ) الآية ، معناه معلوم . < < التوبة : ( 106 ) وآخرون مرجون لأمر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآخرون مرجون لأمر الله ) الإرجاء : التأخير ، ومعناه : مؤخرون لأمر الله ، وأمر الله تعالى هنا : حكم الله .
والآية نزلت في كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ؛ وهؤلاء الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعد .
وقوله ( ^ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 107 ) والذين اتخذوا مسجدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا ) نزلت الآية في قوم من المنافقين منهم : وديعة بن ثابت ، وثعلبة بن حاطب ، ( وجارية بن يزيد ) ، وابنه
____________________


( ^ وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ( 106 ) والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ( 107 ) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على ) * * * * مجمع بن جارية ، وحزام بن مالك ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن حنيث ، ورجل يقال له : يخرج إلى تمام اثنى عشر نفرا ، بنوا هذا المسجد بقصد ما ذكره الله في كتابه ، وهو قوله : ( ^ ضرارا ) يعني : مضارة بالرسول ( ^ وكفرا ) بالله ( ^ وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ) والإرصاد : الإعداد ، والذي حارب الله ورسوله هاهنا هو أبو عامر الراهب ، وكان ممن يطلب الدين في الابتداء ، ثم تنصر وتحزب الأحزاب على رسول الله ، ثم لحق بقيصر يستنجده على رسول الله وأصحابه ، فهؤلاء بنوا هذا المسجد وقالوا : نبني هذا المسجد فنخلوا بأمرنا ، ونتحدث بما نريد ، وننتظر رجوع أبي عامر الراهب . وكان هذا المسجد بني قريبا من مسجد قباء . وقوله : ( ^ من قبل ) راجع إلى أبي عامر ( ^ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ) معناه : إلا الرفق بالمسلمين ( ^ والله يشهد إنهم لكاذبون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 108 ) لا تقم فيه . . . . . > >
ثم قال : ( ^ لا تقم فيه ابدا ) روي أنهم طلبوا من النبي أن يأتي فيصلي فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ لا تقم فيه أبدا ) معناه : لا تصل فيه أبدا ( ^ لمسجد أسس على التقوى ) اختلفوا في هذا المسجد ؛ قال ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي بالمدينة . وروى أبو سعيد الخدري : ' أن رجلين تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى ، فسألا رسول الله فقال - عليه السلام - : هو مسجدي هذا ' . وأورده أبو عيسى الترمذي في ' جامعه ' .
____________________


( ^ التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( 108 ) أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس ) * * * *
والقول الثاني : أنه مسجد قباء . هذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة ، وجماعة من التابعين .
والقول الثالث : أنه جميع مساجد المدينة والأولى هو القول الأول .
وقوله : ( ^ أسس على التقوى ) أي : ليتقى فيه من الشرك . وقوله : ( ^ من أول يوم ) معناه : من ابتداء أيام الإسلام ( ^ أحق أن تقوم فيه ) أي : أولى أن تقوم فيه ، أي : تصلي فيه ، قوله تعالى : ( ^ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) معناه معلوم .
وقد روي أن النبي قال لأهل قباء : ' إن الله تعالى قد أحسن الثناء عليكم ، فماذا تعملون ؟ فقالوا : نتوضأ من الحدث ونغتسل من الجنابة . فقال - عليه السلام - : فهل شيء غير هذا ؟ فقالوا : إن أحدنا إذا استنجى أحب أن يتبع أثر الاستنجاء بالماء ، فقال عليه السلام : هو ذاك ، فعليكم به ' . < < التوبة : ( 109 ) أفمن أسس بنيانه . . . . . > >
ثم قال : ( ^ أفمن أسس ) وقرىء : ' أفمن أسس ' ( ^ بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير ) أي : على طلب التقوى وطلب الرضا من الله خير ( ^ أم من أسس بنيانه على
____________________


( ^ بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( 109 ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم ) * * * * شفا جرف ) الشفا : هو الحرف والحد ، والجرف : هو ما تجرف من السيل ، أي : تقطع من السيل ، فصار لرخاوته لا يثبت عليه بناء . قوله : ( ^ هار ) معناه : هائر ، والهائر : الساقط ( ^ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) معناه معلوم .
واعلم أن المراد من الآية : هو التمثيل والتشبيه في قلة الثبات والقرار وسوء العاقبة . واختلفوا في الذي كانت عاقبة مسجد الضرار ؛ فالأكثرون على أن النبي دعا مالك بن الدخشم ، وعاصم بن عدي ، وأمرهما أن يهدما ذلك المسجد ويحرقاه ففعلا ذلك .
والقول الآخر : أن ذلك المسجد انهار بنفسه من غير أن يمسه أحد . وفي بعض التفاسير أنه خسف به . وروي أنه لما خسف به سطع منه دخان في السماء ، والله أعلم . < < التوبة : ( 110 ) لا يزال بنيانهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) يعني : شكا واضطرابا في قلوبهم . وقال السدى : حرازة في قلوبهم . وقوله : ( ^ إلا أن تقطع قلوبهم ) فيه قولان :
أحدهما : حتى يموتوا . وقرىء في الشاذ : ' إلى أن تقطع قلوبهم ' .
والقول الثاني : حتى يتوبوا ، فجعل الندامة في القلب بمنزلة تقطع في القلب .
( ^ والله عليم حكيم ) عليم بخلقه ، حكيم في تدبيره . < < التوبة : ( 111 ) إن الله اشترى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) معنى الآية : أن الله تعالى أمر ( المسلمين ) بأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وجعل لهم الجنة ثوابا عليه ، فجعل هذا بمنزلة الشراء والبيع .
قوله : ( ^ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا ) معناه : أن ثواب الجنة وعد حق . ثم قال : ( ^ في التوراة والإنجيل والقرآن ) وهذا دليل على أن أهل
____________________


( ^ حكيم ( 110 ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) * * * * الملل كلهم أمروا بالجهاد وجعل ثوابهم الجنة ، وقد بينا معنى التوراة والإنجيل والقرآن .
وقوله : ( ^ ومن أوفى بعهده من الله ) معناه معلوم ( ^ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ) معناه : فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به ( ^ وذلك هو الفوز العظيم ) .
روي في الأخبار أن هذه الآية : لما نزلت قال أصحاب رسول الله : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك . وعن بعض التابعين أنه قال : ثامن فأغلى في الثمن ، وبايع فأغلى في العوض . وعن الحسن البصري أنه قال : إن الله تعالى أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها من الله . < < التوبة : ( 112 ) التائبون العابدون الحامدون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ التائبون العابدون ) الآية التائبون : هم الذين تابوا من الشرك . وقيل : هم الذين تابوا من جميع المعاصي . والعابدون : هم الذين عبدوا الله بالتوحيد ، وقيل : بسائر الطاعات . و ( ^ الحامدون ) فيه قولان :
أحدهما : أنهم [ هم ] الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء .
والقول الثاني : أنهم الذين يحمدون الله على الإسلام .
وقوله : ( ^ السائحون ) فيه أقوال :
( أحدهما ) : أنهم الصائمون . هكذا روي عن ابن مسعود ، وابن عباس . وفي بعض الأخبار أن النبي قال : ' سياحة أمتي : الصيام ' . ( وقال ) سفيان بن عيينة : سمى الصائم سائحا ؛ لأنه ترك المطعم والمشرب والمنكح .
والقول الثاني : أن السائحين : هم المجاهدون في سبيل الله . وفي بعض الأخبار أن
____________________


( ( 111 ) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ( 112 ) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانون أولي قربى من بعد ما ) * * * * النبي قال : ' سياحة أمتي : الجهاد ' .
والقول الثالث : أن السائحين : هم طلبة العلم ، روي عن بعض التابعين .
وقوله ( ^ الراكعون الساجدون ) يعني : المصلين . وقوله : ( ^ الآمرون بالمعروف ) أي : الآمرون بالإيمان ( ^ والناهون عن المنكر ) يعني : عن الشرك . وقوله : ( ^ والحافظون لحدود الله ) معناه : القائمون بأوامر الله ( ^ وبشر المؤمنين ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 113 ) ما كان للنبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :
الأول : ما رواه سعيد بن المسيب ، عن أبيه : ' أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النبي : أي عم ! قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله . فقال له أبو جهل وعبد الله بن [ أبي ] أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ! فما زالا يكلمانه حتى كان آخر كلمة قالها : على ملة عبد المطلب ، فقال النبي : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ ما كان للنبي . . . . ) إلى آخر الآية ' .
والثاني : روى مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : ' أن النبي خرج إلى المقابر فاتبعناه ، فأتى قبرا وقعد عنده ، وناجاه طويلا ، ثم بكى وبكينا لبكائه ، فقلنا له : يا رسول الله من صاحب هذا القبر ؟ فقال : هذه أمي آمنة بنت وهب ، استأذنت ربي
____________________


( ^ تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( 113 ) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) * * * * في زيارتها فأذن لي ، ثم استأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، قال : فأخذني عليها الشفقة ما يأخذ الولد للوالدة فبكيت ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ ما كان للنبي . . . ) إلى آخر الآية ' .
والقول الثالث : روي عن علي - رضي الله عنه - : ' أنه سمع رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقال له علي : أتستغفر للمشركين ؟ فقال ذلك الرجل : قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فأتى النبي وأخبره بذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها ' . < < التوبة : ( 114 ) وما كان استغفار . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أن إبراهيم - عليه السلام - قال لأبيه : لأستغفرن لك ، قال هذا رجاء أن ينقله الله تعالى من الكفر إلى الإسلام ببركة دعائه واستغفاره .
والقول الثاني : أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم وقال : لأسلمن ، فاستغفر لي ، فاستغفر له إبراهيم لهذا المعنى .
( ^ فلما تبين له أنه عدو لله ) بموته على الكفر ( ^ تبرأ منه ) فإن قال قائل : كيف يجوز أن يستغفر إبراهيم للمشرك ؟
____________________


( ^ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ( 114 ) ) * * * *
الجواب عنه : قال بعض أهل المعاني : يحتمل أن أبا إبراهيم كان أظهر الإسلام وهو يبطن الكفر ، فاستغفر له إبراهيم لإظهاره الإسلام ( ^ فلما تبين له أنه عدو لله ) مصر على الكفر في الباطن ( ^ تبرأ منه ) هكذا قاله بعض أهل المعاني .
والذي عليه عامة المفسرين ما بينا من قبل .
وقد قرأ الحسن البصري : ' إلا عن موعدة وعدها إياه ' وهذا صريح في أن الوعد كان من إبراهيم ، والدليل على أن إبراهيم استغفر له وهو مشرك : أن الله تعالى قال في سورة الممتحنة : ( ^ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . ) إلى أن قال : ( ^ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ) فقد صرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار ؛ وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد ؛ رجاء أن يسلم .
وقوله : ( ^ إن إبراهيم لأواه حليم ) اختلفوا في ' الأواه ' على أقاويل .
روي عن عبد الله بن مسعود . وعبد الله بن عباس : أن الأواه : هو الدعاء . وعن ابن مسعود في رواية أخرى : أنه الرحيم ، وعن ابن عباس في رواية أخرى : أنه المؤمن التواب ، وعن مجاهد أنه الفقيه ، وعن كعب الأحبار : أنه الذي يتأوه من الذنوب ، فيقول : أوه أوه . وروى أبو ذر ' أن رجلا كان يطوف ويقول : أوه أوه ، فقلت للنبي : إن هذا الرجل ليؤذينا ، فقال : لا تقل هذا ؛ فإنه أواه ' . قال الشاعر :
( إذا ما قمت أرحلها بليل ** تأوه آهة الرجل الحزين )
وعن سعيد بن جبير قال الأواه : المسبح . وقيل : إنه الموقف . وقيل : إنه الموقن .
وأما الحليم : فهو : الصفوح عن الذنوب . < < التوبة : ( 115 ) وما كان الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم ) معناه : ما كان الله ليحكم بالضلالة بترك الأوامر ( ^ حتى يبين لهم ما يتقون ) فيتركوا .
____________________


( ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم ( 115 ) إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 116 ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ) * * * *
وعن أبي عمرو بن العلاء قال : معناه : حتى يحتج عليهم بالأمر .
سبب نزول الآية : أن قوما كانوا أتوا النبي فأسلموا ، ولم تكن الخمر حرمت ولا القبلة صرفت ، فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ، ثم حرمت الخمر ( و ) صرفت القبلة ولم يكن لهم علم بذلك ، فلما قدموا بعد ذلك للمدينة وجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت ، فقالوا للنبي : قد كنت على دين ونحن على ( غيره ) فنحن ضلال ؟ فأنزل الله ( ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) .
وفي الآية قول آخر ؛ وهو : أن الآية في الاستغفار للمشركين ؛ فإن جماعة من الصحابة كانوا استغفروا لآبائهم ولم يعلموا أن ذلك لا يجوز ، فلما أنزل النهي عنه خافوا على أنفسهم خوفا شديدا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ إن الله بكل شيء عليم ) ، وكذا الآية التي تليها معلوم المعنى إلى آخرها . < < التوبة : ( 117 ) لقد تاب الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) معنى قوله : ( ^ لقد تاب الله ) لقد تجاوز الله . وقيل : لقد صفح الله . وقوله ( ^ الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) معناه : في وقت العسرة ، وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، وكذلك ذلك الجيش يسمى جيش العسرة ؛ والعسرة : الشدة ، وكانت عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء ، فروي أن الاثنين والثلاثة فما زاد كانوا يعتقبون البعير الواحد . وروي أنهم كانوا فني زادهم حتى كان الرجلان يقتسمان التمرة بينهما . هكذا حكي عن
____________________


( ^ اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ( 117 ) وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض ) * * * * ابن عباس . وروي : ' أنهم عطشوا عطشا شديدا حتى نحروا الإبل وعصروا كرشها وشربوا ما فيها ، ثم إن النبي استسقى الله تعالى فسقوا . هكذا رواه عمر - رضي الله عنه - فهذا هو معنى العسرة .
وقوله : ( ^ من بعد ما كاد يزيغ ) قرئ : ' تزيغ ويزيغ ' فقوله : ' تزيغ ' منصرف إلى القلوب ، وقوله : يزيغ منصرف إلى الفعل ؛ كأنه قال : يزيغ الفعل ( ^ قلوب فريق منهم ) .
وأما الزيغ في اللغة : هو الميل ، وليس المراد من الميل هنا هو الميل عن الدين ، إنما المراد من الميل هو الميل عن متابعة رسول الله ونصرته في الغزو ، واختيار التخلف من شدة العسرة .
( ^ ثم تاب عليهم ) فإن قال قائل : ما هذا التكرار ، فقد قال في أول الآية : ( ^ لقد تاب الله على النبي ) ؟ .
الجواب عنه : أنه ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب - وهو محض [ تفضل ] من الله ، فلما ذكر الذنب أعاد ذكر التوبة ، والمراد منه : القبول .
( ^ إنه بهم رءوف رحيم ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 118 ) وعلى الثلاثة الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) قرأ عكرمة بن عمار : ' وعلى الثلاثة الذين خلفوا ' مخفف ، وفي بعض القراءات : ' وعلى الثلاثة الذين خالفوا ' .
واعلم أن هؤلاء الثلاثة هم الذين أنزل الله في شأنهم قوله تعالى : ( ^ وآخرون مرجون لأمر الله ) وأما أسماؤهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن
____________________


( ^ بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ) * * * * الربيع ، وكانوا مؤمنين مخلصين تخلفوا بغير عذر ، فلما قدم النبي المدينة قافلا من غزوة تبوك ، حضروا وأقروا عنده بالذنب ، وأنه لم يكن لهم عذر ، فأخر أمرهم ولم يستغفر لهم ، ونهى المسلمين عن مخالطتهم ومكالمتهم .
وفي الآية قصة طويلة مذكورة في ' الصحيحين ' ؛ فروي أنهم مكثوا على ذلك أربعين ليلة ، ثم إن رسول الله أمرهم أن يعتزلوا نساءهم إلى تتمة خمسين ليلة ، وكانوا يسلمون على أصحاب رسول الله فلا يردون عليهم السلام . قال كعب بن مالك : فكنت أدخل المسجد وأصلي وأنظر هل ينظر إلي رسول الله فكنت إذا نظرت إليه صرف عني بصره ، قال : فاقتحمت يوما على أبي قتادة حائطه - وكان ابن عمي - فسلمت عليه فلم يرد علي الجواب ، فقلت له : يا ابن عمي ، أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت عني ، فرددت الكلام ثلاثا ، فقال في الثالثة : الله ورسوله أعلم ، قال : فبكيت بكاء شديدا وخرجت ، قال : فلما كان تتمة خمسين ليلة من يوم نهى رسول الله عن كلامنا ، كنت على ظهر بيتي وقد صليت الصبح ، وأنا كما ذكر الله تعالى : ( ^ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) أي : برحبها وسعتها ( ^ وضاقت عليهم أنفسهم ) أي : من جفوة القوم وغلظة رسول الله عليهم ، إذ سمعت مناديا ينادي على ذروة سلع - والسلع : الجبل - : أبشر يا كعب بن مالك ، قال : فخررت لله ساجدا ، وجاء البشير فأعطيته ثوبي ولبست ثوبين غيرهما ، وأتيت رسول الله وجلست بين يديه ووجهه يستنير كاستنارة القمر ، فقال : أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم مر عليك منذ أسلمت فقلت : يا رسول الله ، أمن عندك أم من عند الله ؟ فقال : لا ، بل من عند الله وقرأ على الآية ، فقلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أخلع من ( جميع ) مالي صدقة لله ولرسوله ، فقال : أمسك عليك بعض مالك ؛ فهو خير لك ' القصة إلى آخرها .
____________________


( ^ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ( 118 ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( 119 ) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) معناه : وظنوا : تيقنوا أن لا مفزع ولا منجا من الله إلا إليه . وقوله تعالى : ( ^ ثم تاب عليهم ليتوبوا ) يعني : ليستقيموا على التوبة ويثبتوا عليها ، فإن توبتهم قد سبقت ( ^ إن الله هو التواب الرحيم ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 119 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) قال الضحاك : مع محمد وأصحابه .
وروي عن بعضهم أنه قال : مع الصادقين أي : مع أبي بكر وعمر . وعن بعضهم : مع الخلفاء الأربعة . وقال بعضهم : إن الصادقين هاهنا الثلاثة الذين سبق ذكرهم ؛ فإنهم صدقوا النبي بالاعتراف بالذنب ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة مثل المنافقين . فروي عن كعب بن مالك قال : ما أبلاني الله ببلاء أعظم عندي من صدقي رسول الله فإنه من شكري عليها أن لا أكذب أبدا . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ، وقرأ هذه الآية . ويقال : إن في قراءته : ' وكونوا من الصادقين ' . < < التوبة : ( 120 ) ما كان لأهل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) الآية ، معناها : هو النهي عن التخلف . وقوله : ( ^ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه : ما كان لهم أن يختاروا الخفض والدعة ، ويتركوا رسول الله في شدة السفر ومقساة التعب . ثم قال : ( ^ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ) الظمأ : العطش ( ^ ولا نصب ) النصب : التعب ( ^ ولا مخمصة ) وهي المجاعة ( ^ في سبيل الله ) في الجهاد . وقوله : ( ^ ولا يطئون موطئا ) يعني : لا يضعن قدما ( ^ يغيظ الكفار ) أي : يغضبهم ( ^ ولا ينالون من عدو نيلا ) يعني : لا يصيبون منهم شيئا في نفس أو مال ( ^ إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) معلوم المعنى .
____________________


( ^ عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ( 120 ) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ( 121 ) وما كان المؤمنون ) * * * * < < التوبة : ( 121 ) ولا ينفقون نفقة . . . . . > >
ثم قال : ( ^ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ) يعني : قليلا ولا كثيرا ، قيل في التفسير : حتى التمرة ( ^ ولا يقطعون واديا ) أي : لا يعبرون واديا مقبلين ومدبرين ( ^ إلا كتب لهم ) أي : أثيبوا على ذلك ( ^ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 122 ) وما كان المؤمنون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) الآية ، وفيها قولان :
أحدهما : ' أن النبي كان يبعث بالسرايا بعد غزوة تبوك ، فكان الناس يخرجون جميعهم لعظم ما أصابهم من التعيير والملامة في التخلف ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' . قال قتادة : هذا في السرايا ، فأما إذا خرج الرسول بنفسه فعليهم أن يخرجوا جميعا معه .
و القول الثاني : أن النبي كما دعا على مضر ، وقال : ' اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف ، قال : فأصابهم قحط شديد وجدب ، فجعلت القبيلة تقبل إلى المدينة بأجمعهم ويقولون : أسلمنا ، فكانوا يضيقون على أهل المدينة منازلهم ويلوثون الطرقات ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فردهم رسول الله إلى قبائلهم ' . وقوله : ( ^ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) معناه : هلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، فعلى الأول معنى الآية : هو النهي عن ترك رسول الله وحده . وقوله : ( ^ ليتفقهوا في الدين ) يعني : ليحضروا نزول القرآن وبيان السنن ( ^ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) معناه : ليعلموا السرية إذا رجعوا إليهم ما نزل من القرآن والسنن .
وعلى القول الثاني معنى الآية : ما كان لأهل القبائل أن ينفروا جميعا إلى المدينة
____________________


( ^ لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( 122 ) ) * * * * ويتركوا مواضعهم ؛ ولكن لينفر من كل فرقة طائفة أي : من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم ( ^ لعلهم يحذرون ) .
وأما الطائفة : فهو اسم لثلاثة فما زاد ، وقد ورد في القرآن ذكر الطائفة ، والمراد منه : الواحد ، وقد ذكرناه في قوله تعالى : ( ^ إن نعف عن طائفة منهم ) من قبل .
واستدل أهل الأصول بهذه على وجوب قبول خبر الواحد ، والمسألة في الأصول ( كبيرة ) .
وأما الفقه فهو في اللغة : عبارة عن الفهم ، وفي الشرع : عبارة عن علم مخصوص وهو علم الأحكام .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ' .
وروي عن النبي أنه قال : ' الناس معادن ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ' . وفي بعض الأخبار : ' أفضل العبادة : الفقه ، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ' . وعن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال : طلب
____________________


( ^ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ( 123 ) وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( 124 ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ( 125 ) أولا يرون أنهم يفتنون في ) * * * * العلم أفضل من صلاة النافلة . < < التوبة : ( 123 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) يعني : يقربون منكم . وعن عمر : هم الديلم ، وعن غيره : هم الروم ( ^ وليجدوا فيكم غلظة ) قال ابن عباس : شجاعة . وقال الحسن : صبرا على الحرب ( ^ واعلموا أن الله مع المتقين ) ظاهر . < < التوبة : ( 124 ) وإذا ما أنزلت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) هذا في المنافقين الذين كانوا يقولون هذا القول استهزاء ، فقال الله تعالى : ( ^ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وهم يفرحون . < < التوبة : ( 125 ) وأما الذين في . . . . . > >
ثم قال : ( ^ وأما الذين في قلوبهم مرض ) أي : شك ونفاق ( ^ فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) أي : كفر إلى كفرهم . فإن قال قائل : كيف يزيد إنزال السورة لهم كفرا ؟
الجواب : أنهم كانوا يكفرون بكل سورة أنزلها الله تعالى ، فلما كفروا عند إنزال السورة نسب كفرهم إليها ، وهذا كما تقول العرب : كفى بالسلامة داء ؛ لأن الداء يكون عند طول السلامة ، قال الشاعر :
( أرى بصري قد رابني بعد صحة ** وحسبك داء أن تصح وتسلما ) < < التوبة : ( 126 ) أو لا يرون . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) معناه : يبتلون في كل عام بالأمراض والشدائد ، وقيل : بالجهاد مع الأعداء ( ^ ثم لا يتوبون ) لا يرجعون إلى الله ( ^ ولا هم يذكرون ) ولا هم يتعظون . < < التوبة : ( 127 ) وإذا ما أنزلت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض ) الآية ، كان المنافقون إذا نزلت السورة أو شيء من القرآن يومئ بعضهم إلى بعض ، ويخافون مع ذلك أن
____________________

( ^ كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ( 126 ) وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ( 127 ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص ) * * * * يراهم المؤمنون ، فهذا معنى قوله : ( ^ هل يراكم من أحد ) ثم قال : ( ^ ثم انصرفوا ) فيه معنيان : أحدهما : انصرفوا عن مواضعهم ، والآخر : انصرفوا عن الإيمان ، أي : لم يؤمنوا ولم يقبلوا .
وقوله : ( ^ صرف الله قلوبهم ) قال أبو إسحاق الزجاج : أضلهم الله مجازاة على كفرهم ( ^ بأنهم قوم يفقهون ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 128 ) لقد جاءكم رسول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) قرىء في الشاذ : من أنفسكم ، ويقال : إن هذه القراءة قراءة فاطمه - رضي الله عنها - قال يعقوب الحضرمي : طلبت هذا الحرف خمسين سنة فلم أجد له راويا . ومعنى هذا : أشرفكم وأفضلكم .
والقراءة المعروفة : ( ^ من أنفسكم ) قال قتاده : ومعناه : إن نسبه معروف بينكم
والقول الثاني : حكى عن جعفر بن محمد - رضي الله عنه - أنه قال : ( ^ من أنفسكم ) معناه : أنه لم يولد إلا من نكاح صحيح إلى زمان آدم .
والقول الثالث : حكى عن ابن عباس أنه قال : معناه : أنه ليس بطن من بطون العرب إلا وقد ولدت النبي .
والقول الرابع : أن معنى هذا هو معنى قوله تعالى : ( ^ قل إنما أنا بشر مثلكم ) وإذا كان الرسول بشرا مثل القوم ؛ فيكون أقرب للألفة وأدنى لفهم الحجه .
وقوله : ( ^ عزيز عليه ما عنتم ) أي : شديد عليه عنتكم ، والعنت : هو المكروه ولقاء الشده ، كانه قال : شديد عليه ما يضركم ويهلككم ، وهو الكفر الذي أنتم عليه .
وقوله تعالى : ( ^ حريص عليكم ) الحرص : شدة طلب الشىء ، ومعناه : حريص
____________________

( ^ عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( 128 ) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ( 129 ) ) * * * * على إيمانكم ( ^ بالمؤمنين رءوف رحيم ) عطوف رفيق .
وقد أعطاه الله تعالى في هذه الآيه اسمين من أسمائه ، وهو في نهاية الكرامه . < < التوبة : ( 129 ) فإن تولوا فقل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن تولوا ) معناه : فإن أعرضوا عن الإيمان أو عنك ( ^ فقل حسبي الله ) كافي الله أي : يكفيني الله ( ^ لا إله إلا هو عليه توكلت ) عليه اعتمدت وبه وثقت ( ^ وهو رب العرش العظيم ) قرأ ابن محيصن : ' رب العرش العظيم ' بالرفع ، فرجع إلى الله تعالى ، والقراءة المعروفة بالكسر ، وهو يرجع إلى العرش . وعن بعض التابعين : لا يعرف أحد قدر العرش سوى الله تعالى . وفى بعض الأخبار عن النبي أنه قال : ' العرش من ياقوتة حمراء ' . وعن وهب بن منبه : أن الله تعالى خلق العرش من نوره . وعن كعب الأخبار : أن السموات في العرش كقنديل معلق من السماء . وعن مجاهد : أن السموات في العرش كحلقة . وحكى عن أبي بن كعب أنه قال في هاتين الآيتين : هما أحدث الآيات بالله عهدا . فعلى قوله : هاتان الآيتان آخر ما أنزل من القرآن . وهو رواية أيضا عن ابن عباس وقد ذكرنا غير هذا برواية البراء بن عازب ، والله أعلم بالصواب .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ آلر تلك آيات الكتاب الحكيم ( 1 ) أكان للناس عجبا ) * * * * <
> تفسير سورة يونس <
>
وهي مكية إلا ثلاث آيات ، وهو قوله تعالى ( ^ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) إلى آخر الآيات الثلاث .
وحكى عن محمد بن سيرين أنه قال : هذه السورة كانت بعد السورة السابقة . < < يونس : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ آلر ) روى أبو الضحى عن ابن عباس قال : ( ^ آلر ) أنا الله أرى . وروى عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الر ، وحم ، ونون هو تمام اسم الرحمن .
وفي الحروف المهجيات أقوال ذكرناها في أول سورة البقرة .
وقوله : ( ^ تلك آيات الكتاب ) قال أبو عبيدة : معناه : هذه آيات الكتاب . قال الشاعر :
( تلك خيلي منه وتلك ركابي ** هن صفر أولادها كالزبيب )
وقال الزجاج : معنى الآية : وهو أن الآيات التي أنزلتها عليك من قبل ( ^ تلك آيات الكتاب الحكيم ) والكتاب : هو القرآن ، والحكيم : هو المحكم ، على قول أكثر المفسرين ، فعيل بمعنى مفعل ، مثل قوله : ( ^ هذا ما لدى عتيد ) أي : معتد . وقال بعضهم : الحكيم على وضعه ، وسمى القرآن حكيما ؛ لأنه كالناطق بالحكمة . < < يونس : ( 2 ) أكان للناس عجبا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أكان للناس عجبا ) العجب : حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة .
وسبب نزول هذه الآية : أن الله تعالى لما بعث محمدا قال المشركون : أما وجد
____________________


( ^ أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ( 2 ) ) * * * * الله نبيا سوى يتيم أبى طالب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهى قوله : ( ^ أكان للناس عجبا ) ومعناه : أعجب الناس ، يعنى : المشركين ( ^ أن أوحينا إلى رجل منهم ) والرجل ها هنا : النبي ، وقوله : ( ^ منهم ) قالوا : معناه : إنه رجل يعرفونه باسمه ونسبه ، لا يكتب ، ولا يشعر ، ولا يتكهن ، ولايكذب .
وقوله : ( ^ أن أنذر الناس ) الإنذار : هو الإعلام مع التخويف . وقوله : ( ^ وبشر الذين آمنوا ) قد بينا معنى البشارة . وقوله : ( ^ أن لهم قدم صدق عند ربهم ) فيه أربعة أقوال :
القول الأول - وهذا قول الأكثرين - أن القدم الصدق : هو الأعمال الصالحة ، يقال : لفلان قدم في الشجاعة ، وقدم فى العلم ، ويقال : فلان وضع قدمه فى كذا ، إذا شرع فيه بعمله .
والقول الثاني : أن القدم الصدق : هو الثواب .
والقول الثالث : حكى عن ابن عباس أنه قال : القدم الصدق : هو السعادة في الذكر الأول .
والقول الرابع : أن المراد منه : هو الرسول ، وقدم صدق : شفيع صدق ، قاله مقاتل بن حيان .
قوله تعالى : ( ^ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) وقرىء بقراءتين : ' لساحر مبين ' ، و ' إن هذا لسحر مبين ' ؛ فالساحر ينصرف إلى الرسول ، والسحر ينصرف إلى القرآن .
____________________


( ^ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ( 3 ) إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا ) * * * * < < يونس : ( 3 ) إن ربكم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض في ستة أيام ) في الأيام قولان :
أحدهما : أنها كأيام الآخرة ، كل يوم ألف سنة . والآخر أنها كأيام الدنيا .
قوله ( ^ ثم استوى على العرش ) قد بيينا مذهب أهل السنة في الاستواء ؛ وهو أنه نؤمن به ونكل علمه إلى الله تعالى من غير تأويل ولا تفسير .
وأما المعتزلة : فإنهم أولوا الاستواء بالاستيلاء ، وهو باطل عند أهل العربية .
حكى عن أحمد بن أبي داود - وكان من رؤساء المعتزلة - أنه قال لابن الأعرابي : أتعرف العرب الاستواء ؟ بمعنى الإستيلاء فقال . لا . ويحكى أن هذه المسألة جرت في مجلس المأمون ، فقال بشر المريسي : الاستواء بمعنى الاستيلاء ، فقال له أبو السمراء - وهو رجل من أهل اللغة - اخطأت يا شيخ ؛ فإن العرب لا تعرف الاستيلاء إلا بعد عجز سابق .
قوله تعالى ( ^ يدبر الأمر ) قال مجاهد : يقضي الأمر ( ^ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) معناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه ، وهذا رد على النضر بن الحارث ، فإنه كان يقول : إذا كان يوم القيامة يشفعني اللات والعزى . قوله تعالى ( ^ ذلكم الله ربكم ) يعنى : ذلك الذي فعله هذا ربكم ( ^ فاعبدوه أفلا تذكرون ) أفلا تتعظون . < < يونس : ( 4 ) إليه مرجعكم جميعا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا ) نصب وعد الله حقا يعنى : وعد الله وعداً حقا ( ^ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) معناه معلوم ( ^ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) قال ابن عباس : بالعدل ( ^ والذين كفروا لهم شراب من حميم ) الحميم هو الماء الذي انتهى حره . وفي القصص : أن النار أوقدت عليه منذ يوم خلقها إلى أن يدخل الكفار [ في ] ( 1 ) النار . قوله : ( ^ وعذاب أليم بما كانوا
____________________

( ^ الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( 4 ) هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ( 5 ) إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ( 6 ) إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن أياتنا غافلون ) * * * * أي : عذاب موجع بكفرهم . < < يونس : ( 5 ) هو الذي جعل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) الآية ، الشمس والقمر جسمان نيران ، أحدهما أضوأ من الآخر ، وقوله : ( ^ جعل الشمس ضياء ) أي : ذات ضياء ( ^ والقمر نورا ) أي : ذا نور . وقوله : ( ^ وقدره منازل ) منهم من قال : هذا ينصرف إلى القمر خاصة ، ومنهم من قال : ينصرف إليهما ، إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر .
ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ، أساميها معلومة عند العرب ، تكون أربعة عشر منها ظاهرة أبدا ، وأربعة عشر منها غائبة أبدا ، وكلما طلع واحد غاب واحد ، والقمر ينزل كل ليلة منزلا منها .
وقوله تعالى : ( ^ لتعلموا عدد السنين والحساب ) يعني : قدره منازل لتعلموا عدد السنين وحساب الشهور والأيام . وقوله : ( ^ ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أي : للحق .
قوله : ( ^ يفصل الآيات لقوم يعلمون ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 6 ) إن في اختلاف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن في اختلاف الليل والنهار ) معناه معلوم إلى آخر الآية ، وقد ذكرنا من قبل . < < يونس : ( 7 ) إن الذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين لا يرجون لقاءنا ) قوله : ' لا يرجون ' فيه قولان :
أحدهما : لا يخافون ، والآخر : لا يطمعون .
وقوله : ( ^ لقاءنا ) قد بينا من قبل . وقوله تعالى : ( ^ ورضوا بالحياة الدنيا ) قال قتادة : لها يطلبون وبها يفرحون . وقوله تعالى : ( ^ واطمأنوا بها ) سكنوا إليها . قوله تعالى : ( ^ والذين هم عن آياتنا غافلون ) الغفلة سهو يعتري القلب يصرفه عن وجد
____________________

( ( 7 ) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( 8 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ( 9 ) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( 10 ) * * * * العلم . < < يونس : ( 8 ) أولئك مأواهم النار . . . . . > >
ثم قال : ( ^ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) معناه معلوم . < < يونس : ( 9 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال مجاهد : هذا هو معنى قوله تعالى : ( ^ نورا يمشي به ) . وقال غيره : يهديهم ربهم : يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة ( ^ تجري من تحتهم الأنهار ) أي : من تحت الأشجار . قوله : ( ^ في جنات النعيم ) . < < يونس : ( 10 ) دعواهم فيها سبحانك . . . . . > >
ثم قال : ( ^ دعواهم فيها ) معناه : دعاؤهم فيها ( ^ سبحانك اللهم ) هذا كلمة تنزيه وتبرئة الرب عن السوء . وفي الأخبار : ' أن قوله : ( ^ سبحانك اللهم ) علامة بين أهل الجنة والخدم ، وإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم ، فيدخل الخدم بالموائد ، كل مائدة ميل في ميل ، قوائمها من اللؤلؤ ، على كل مائدة سبعون ألف صحفة ، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضه بعضا ، ثم تجىء الطير كأمثال البخت ، قوائمها لون ، وأجنحتها لون ، وبطونها وظهورها لون ، فيقع بين أيدى أهل الجنة فيأكلون منها ما يشاءون ، ثم تطير كما كانت ' .
وقوله تعالى : ( ^ وتحيتهم فيها سلام ) يعنى : تحية بعضهم بعضا يكون بالسلام ، ويقال معناه : إن تحية الملائكة لهم بالسلام ، ويقال : إن تحية الله لهم بالسلام .
قوله تعالى : ( ^ وآخر دعواهم ) معناه : وآخر قولهم : ( ^ أن الحمد لله رب العالمين ) فيكون ابتداء أمرهم بالتسبيح ، وانتهاء أمرهم بالحمد والشكر .
____________________


( ^ يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ( 11 ) وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو ) * * * * < < يونس : ( 11 ) ولو يعجل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) قال ابن عباس : هذا في قول الرجل يقول عند الغضب لأهله وولده : لعنكم الله ، لا بارك الله فيكم ، ومعناه : ولو يعجل الله للناس الشر - يعنى : المكروه - استعجالهم بالخير أي : كما يحبون استعجالهم بالخير ( ^ لقضى إليهم أجلهم ) فهلكوا جميعا وماتوا . وقوله : ( ^ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) أي : لا يخافون لقاءنا ( ^ في طغيانهم ) أي : في ضلالتهم . قوله ( ^ يعمهون ) يترددون ، وقيل : يتمادون ، وقد ثبت الخبر عن النبي أنه قال : ' اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما [ رجل ] سببته أولعنته فاجعلها له طهرة ورحمة ' . وفي الباب روايات كثيرة كلها صحيحة . < < يونس : ( 12 ) وإذا مس الإنسان . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وإذا مس الإنسان الضر ) أي : المكروه ( ^ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ) قال أهل التفسير : هذا يحتمل معنيين :
أحدهما : إذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما دعانا .
والآخر : يحتمل إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، يعني : على هذه الأحوال كلها .
قوله تعالى : ( ^ فلما كشفنا عنه ضره مر ) فيه معنيان :
أحدهما : مر طاغيا كما كان من قبل ، والآخر : استمر على ما كان من قبل . قال بعضهم في هذا المعنى :
( كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ** ولم تك صعلوكا إذا ما تمولا )
قوله تعالى : ( ^ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) معناه : كأن لم يطلب منا كشف ضرمسه . قوله ( ^ كذلك زين للمسرفين ) قال ابن جريج : كذلك زين للمسرفين ( ^ ما
____________________


( ^ قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ( 12 ) ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ( 13 ) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من ) * * * * كانوا يعملون ) من الدعاء عند البلاء ، وترك الشكر عند الرخاء . وفيه معنى آخر : وهو أنه كما زين لكم أعمالكم ، كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم . < < يونس : ( 13 ) ولقد أهلكنا القرون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ) معناه معلوم . وقوله : ( ^ وما كانوا ليؤمنوا ) قال الزجاج : هذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون . وقال ابن الأنباري : منعهم الله من الإيمان جزاء على كفرهم . قوله : ( ^ كذلك نجزي القوم المجرمين ) وهذا دليل على أن قول ابن الأنباري أصح . < < يونس : ( 14 ) ثم جعلناكم خلائف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ) يعني : خلفاء في الأرض من بعدهم ( ^ لننظر كيف تعملون ) ومعناه : ليختبركم فينظر كيف تعملون .
روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : يا ابن أم عمر ، لقد استخلفت ، فانظر كيف تعمل .
وروي أنه قال في موعظته : أيها المؤمنون ، إن الله استخلفكم لينظر كيف تعملون ، فأروا الله أعمالكم الحسنة ، وكفوا عن الأعمال القبيحة . < < يونس : ( 15 ) وإذا تتلى عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) روي في التفاسير أن المشركين قالوا للنبي : يا محمد ، إن كنت تريد أن نؤمن لك فأت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا ، وليس فيه ذكر البعث والنشور وإن لم ينزله الله هكذا ، فقله من عند نفسك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . فإن قال قائل : أيش الفرق بين قوله : ( ^ ائت بقرآن غير هذا ) [ وقوله ] : ( ^ أو بدله ) أليس معناهما واحد ؟
____________________


( ^ بعدهم لننظر كيف تعملون ( 14 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 15 ) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( 16 ) فمن أظلم ممن ) * * * *
الجواب : أن معناهما مختلف ، وقوله : ( ^ ائت بقرآن غير هذا ) يجوز أن يأتي بغيره معه ، وقوله : ( ^ أو بدله ) لا يكون إلا أن يترك هذا ويأتي بغيره .
قوله تعالى : ( ^ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) معلوم المعنى ، وكأنه قال : لم أقل هذا من تلقاء نفسي حتى أقول غيره من تلقاء نفسي . < < يونس : ( 16 ) قل لو شاء . . . . . > >
ثم قال : ( ^ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ) يعني : لو شاء الله ما أنزل القرآن علي ، ( ^ ولا أدراكم به ) أي : ولا أعلمكم الله به ( ^ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ) العمر والعمر بمعنى واحد ، قال الشاعر :
( بان الشباب وأخلف العمر ** وتنكر الإخوان والدهر )
وقدر العمر الذي لبث فيهم من قبله : هو أربعون سنة باتفاق أهل العلم ؛ فإن النبي بعث إليهم وهو ابن أربعين سنة ، ولبث بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة عشرا ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة . وفي رواية عن أنس ' أن النبي مكث بمكة عشرا ، وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رأس ستين سنة . والرواية الأولى أظهر وأشهر .
قوله ( ^ أفلا تعقلون ) معناه : أفلا تفقهون . < < يونس : ( 17 ) فمن أظلم ممن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 18 ) ويعبدون من دون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) فإن قال قائل :
____________________


( ^ افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ( 17 ) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ( 18 ) وما كان الناس ) * * * * كيف قال : ( ^ ولا يضرهم ) ولا شك أنه ضرهم ؟
الجواب عنه معناه : لا يضرهم إن تركوا عبادته ، ولا ينفعهم إن عبدوه . وقوله : ( ^ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) فإن قال قائل : كيف قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وهم لا يؤمنون بالبعث ؟ .
الجواب : أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله في مصالح معايشنا في الدنيا .
وقوله تعالى : ( ^ قل أتنبئون الله ) أي : أتخبرون الله ؟ ( ^ بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) معلوم المعنى .
وحقيقة الآية : الرد أو الإنكار عليهم . < < يونس : ( 19 ) وما كان الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان الناس إلا أمة واحدة ) فيه قولان :
أحدهما : قول مجاهد وهو : أن الناس كانوا على الإسلام في زمان آدم إلى أن قتل أحد ابنيه الآخر ( ^ فاختلفوا ) .
والقول الثاني : أن العرب كانوا على دين إبراهيم حتى اختلفوا . ومن المعروف أن أول من غير دين إبراهيم من العرب هو عمرو بن لحي . وثبت أن النبي قال : ' رأيت [ عمرو ] بن لحي يجر قصبه في النار ' .
ويقال في الآية : إن المراد من ' الأمة ' أهل سفينة نوح عليه السلام .
قوله تعالى : ( ^ ولولا كلمة سبقت من ربك ) يعني : في التأجيل والإمهال ( ^ لقضى بينهم فيما فيه يختلفون ) أي : لحكم بينهم فيما فيه يختلفون .
____________________


( ^ إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ( 19 ) ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( 20 ) وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل ) * * * * < < يونس : ( 20 ) ويقولون لولا أنزل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ) فإن قال قائل : أليس الرسول قد أتى بالآيات على زعمكم ؟
الجواب عنه : بلى ، ومعنى الآية : هلا أنزل عليه آية من ربه على ما نقترحه .
( ^ فقل إنما الغيب لله ) يعني : علم الغيب لله ، إن شاء أتى بالآية التي تسألونها وإن شاء لم يأت ( ^ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) يعني : انتظروا الغيب إني معكم من المنتظرين . < < يونس : ( 21 ) وإذا أذقنا الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) الذوق : تناول ماله طعم بفمه ليجد طعمه ، فأما الرحمة هاهنا فيها قولان :
أحدهما : أنها العافية ، والآخر : أنها الخصب والنعمة .
والضراء فيها قولان :
أحدهما : أنها الشدة ، والآخر : أنها الجدب والقحط .
( ^ مستهم ) أي : أصابتهم . وقوله تعالى : ( ^ إذا لهم مكر في آياتنا ) المكر : صرف الشيء عن وجهه بطريق الحيلة . قال مجاهد : ( ^ إذا لهم مكر في آياتنا ) أي : تكذيب واستهزاء .
وقوله تعالى : ( ^ قل الله أسرع مكرا ) يعني : أشد أخذا . ويقال : معناه : إن ما يأتي من العذاب من قبله أسرع في إهلاككم مما يأتي منكم في دفع الحق وتكذيبه .
وقوله : ( ^ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) معناه معلوم . < < يونس : ( 22 ) هو الذي يسيركم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي يسيركم في البر والبحر ) قرئت بقراءتين : ' يسيركم ' و ' ينشركم ' ، والمعروف : ' يسيركم ' ومعناه : تسهيل طريق السير عليكم في البر والبحر . وأما من قرأ : ' ينشركم ' معناه : يبثكم . وروي عن الضحاك أنه قال : البحر هو الأمصار ، والبر هو البوادي . وقوله تعالى : ( ^ حتى إذا كنتم في الفلك ) قال أهل
____________________


( ^ الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ( 21 ) هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) * * * * اللغة : الفلك تؤنث وتذكر . قال الله تعالى : ( ^ في الفلك المشحون ) وقال هاهنا : ( ^ وجرين بهم ) وقالوا أيضا : إن الفلك يكون بمعنى الواحد وبمعنى الجمع . وقوله : ( ^ بريح طيبة ) أي : هينة لينة .
وقد روي عن النبي أنه قال : ' الريح من روح الله ، فسألوا الله من خيرها ، وتعوذوا بالله من شرها ' .
فإن قال قائل : كيف قال : ( ^ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) فهذا تغيير الكلام عن وجهه ؟
والجواب عنه : أن العرب تقيم المعاينة مقام المخاطبة ، والمخاطبة مقام المعاينة ، قال الشاعر :
( وشطت مزار العاشقين فأصبحت ** عسيرا على طلابك ابنة مخرم )
ومنهم من قال : معنى الآية : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة يا محمد . وقوله : ( ^ وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) وهي الشديدة المهلكة ، قال الشاعر :
( في فيلق شهباء ملمومة ** تعصف بالحاسر والدارع )
وقوله : ( ^ وجاءهم الموج من كل مكان ) الموج : ما يظهر على البحر من الريح .
____________________


( ^ وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) * * * *
وقوله : ( ^ وظنوا ) وتيقنوا ( ^ أنهم أحيط بهم ) يقال لمن كان في بلاء وشدة : إنه قد أحيط به . وقوله : ( ^ دعوا الله مخلصين له الدين ) معناه : أنهم أخلصوا في الدعاء ، ولم يدعوا أحدا سوى الله . وقوله : ( ^ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) معناه معلوم . < < يونس : ( 23 ) فلما أنجاهم إذا . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) البغي : هو قصد الاستعلاء على الغير بالظلم ، والبغي ها هنا بمعنى الفساد ، ويقال : بغي الجرح إذا أدى إلى الفساد ، وبغت المرأة إذا فجرت .
وقد روي عن النبي أنه قال : ' لا يؤخر الله صاحب بغي ' أي : لا يمهله . وفي الأخبار - أيضا - : ' البغي مصراعة ' .
ثم قال : ( ^ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) أي : وبال بغيكم عليكم .
قوله ( ^ متاع الحياة الدنيا ) وقرىء : ' متاع الحياة الدنيا ' ؛ فمن قرأ بالرفع معناه : هو متاع الحياة الدنيا ، ومن قرأ بالنصب معناه : يمتعون متاع الحياة الدنيا . وعن الأعمش قال : المتاع : زاد الراكب . وقال أهل المعاني : حقيقة معنى الآية : أن البغي متاع الحياة الدنيا .
____________________


( ^ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ( 23 ) إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت بها وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) أي : نخبركم بما كنتم تعملون . < < يونس : ( 24 ) إنما مثل الحياة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما مثل الحياة الدنيا ) معناه : إنما صفة الحياة الدنيا ( ^ كماء أنزلناه من السماء ) أي : من السحاب ( ^ فاختلط به نبات الأرض ) يعني : اختلط المطر بالنبات ، والنبات بالمطر ( ^ مما يأكل الناس والأنعام ) ظاهر المعنى ، وقوله : ( ^ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) الزخرف : كمال الحسن ، والذهب زخرف ؛ لكماله في الحسن ، ومعنى الزخرف هاهنا : البهجة والنضرة . وقوله : ( ^ وازينت ) أي : تزينت ، وقالوا معناه : أنبتت وأثمرت وأينعت .
وقوله : ( ^ وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) معناه : وظن أهلها أنهم قادرون على جذاذها وقطافها وحصادها . وقوله : ( ^ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) أي : عذابنا ليلا أو نهارا . وقوله : ( ^ فجعلناها حصيدا ) الحصيد : المحصود ، والمعنى ها هنا : هو الاستئصال بالعذاب . وقوله : ( ^ كأن لم تغن بالأمس ) قال مجاهد : معناه : كأن لم تعمر بالأمس . وقال غيره : كأن لم يكن قائما بالأمس ، يقال : غنى فلان بالمكان إذا قام فيه ، والمغاني هي المنازل ، قال لبيد :
( ولقد سئمت من الحياة وطولها ** وسؤال هذا الناس كيف لبيد )
( وغنيت سبتا قبل مجرى داحس ** لو كان للنفس اللجوج خلود )
ومعنى غنيت : أقمت ، والسبت : الدهر هاهنا .
قال قتادة : معنى الآية : هو أن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون وأعجب بها .
وقوله ( ^ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) * * * * < < يونس : ( 25 ) والله يدعو إلى . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ والله يدعو إلى دار السلام ) في الأخبار أن النبي قال : ' ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يسمعان الخلائق إلا الثقلين : ألا هلموا إلى ربكم ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ والله يدعوا إلى دار السلام ) . وفي الآثار - أيضا - : ' أنه ما من يوم ولا ليل إلا وينادى مناد : يا طالب الخير هلم ، ويا طالب الشر أقصر .
وأما دار السلام : فالدار هي الجنة ، وفي السلام قولان :
أحدهما : أنه هو الله . والآخر : أن السلام بمعنى السلامة ؛ كأنه قال : يدعو إلى دار السلام من الآفات .
وروى أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - أن النبي قال : ' رأيت في منامي كأن على رأسي جبريل ، وكأن
____________________

( ^ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( 24 ) والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 25 ) ) * * * * على رجلي ميكائيل ، فقال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا ، فقال الآخر : مثلك يا محمد مثل ملك بنى دارا ثم بنى في دار بيتا ، ثم وضع في البيت مأدبة ، ثم دعا إليها الناس ، فمنهم التارك ومنهم المجيب ، فالملك : هو الله تعالى ، والدار : هو الإسلام ، والبيت : الجنة ، والداعي : أنت ، فمن أجاب دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها ' .
وقوله : ( ^ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) الصراط المستقيم : هو الإسلام ، وفيه أقوال أخر ، ذكرناها من قبل . < < يونس : ( 26 ) للذين أحسنوا الحسنى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) الإحسان هاهنا : الإسلام ، والإحسان : هو قول لا إله إلا الله . واختلفوا في الحسنى وزيادة ، فروي عن أبي بكر الصديق وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وحذيفة ، وقتادة ، وجماعة من التابعين أنهم قالوا : الحسنى : هي الجنة ، والزيادة : هي النظر إلى الله عز وعلا . وروى أبو القاسم بن بنت منيع ، عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب - رضي الله عنهم - أن النبي قال : ' إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله - تعالى - : يا أهل الجنة ، إن لكم عندي موعدا وأنا منجزكموه ، فقالوا : وما ذلك ؟ ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تثقل موازيننا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتخلصنا من النار ؟ قال : فيتجلى لهم فينظرون إلى وجهه ، فما أعطوا شيئا هو أحب ( إليهم ) من النظر إليه ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ' .
____________________

( ^ للذين أحسنوا بالحسنى وزيادة ) * * *
قال الإمام أبو المظفر : أخبرنا بهذا الحديث أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور بالتخفيف ببغداد قال : أخبرنا أبو القاسم بن حبابة قال : أخبرنا أبو القاسم بن بنت منيع . . . الخبر خرجه مسلم في ' الصحيح ' .
وفي الآية أقوال آخر .
وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : الزيادة : غرفة من اللؤلؤ لها أربعة آلاف باب . وروى عن الحسن البصري أنه قال : الحسنى : هي المثل من الثواب ، والزيادة : هي الزيادة على المثل إلى سبعمائة ضعف . وقال مجاهد : الحسنى ، هي المثل ، والزيادة : رضوان الله تعالى .
قوله ا \ تعالى : ( ^ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) القتر : سواد الوجه ، وأصل ( القتار ) : هو الدخان .
قوله : ( ^ ولا ذلة ) أي : هوان .
قوله : ( ^ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) معناه ظاهر . < < يونس : ( 27 ) والذين كسبوا السيئات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ) الآية ، هذا هو معنى قوله تعالى : ( ^ ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها ) . قوله : ( ^ [ و ] ترهقهم ذلة ) أي : تغشاهم ذلة ، أي : ذل . ( ^ ما لهم من الله من عاصم ) أي : مانع . وقوله : ( ^ كأنما أغشيت وجوههم قطعا ) قرئت بقراءتين : ' قطعا ' و ' قطعا ' ، فالقطع
____________________

( ^ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( 26 ) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 27 ) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال ) * * * * بتحريك الطاء - جمع القطعة ، والقطع - بسكون الطاء - واحد .
فإن قيل : كيف لم يقل : ' قطعا من الليل مظلمة ' ؟
قلنا : تقدير الآية : قطعا من الليل في حال ظلمته ، هكذا قاله أهل اللغة .
( ^ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ظاهر . < < يونس : ( 28 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم ) الآية . معنى الآية : ثم نقول للذين أشركوا : الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم .
قوله : ( ^ فزيلنا بينهم ) معناه : ميزنا بينهم يعني : فرقنا بين المشركين والأصنام ؛ وهو من قوله : زلت ، لا من قوله : ذلت ( ^ وقال شركاؤكم ما كنتم إيانا تعبدون ) الشركاء : هي الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى على زعمهم . وقوله : ( ^ ما كنتم إيانا تعبدون ) معناه : كنتم إيانا تعبدون بطلبنا ودعوتنا . < < يونس : ( 29 ) فكفى بالله شهيدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 30 ) هنالك تبلو كل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هنالك تبلو ) الآية ، قرئت بقراءتين : ' تتلو ' و ' تبلو ' فقوله : ' تبلو ' قال مجاهد : تختبر ، معناه : تجده وتقف عليه ، وقوله ' تتلو ' قال الأخفش : يقرأ ، فيكون في معنى قوله : ( ^ يخرج له يوم القيامة ) إلى قوله : ( ^ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
____________________

( ^ شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ( 28 ) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ( 29 ) هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق ) * * * *
والقول الثاني : أن معنى ' تتلو ' : تتبع ، قال الشاعر :
( أرى المريب يتبع المريبا ** كما رأيت الذيب يتلوا الذيبا )
قوله تعالى : ( ^ كل نفس ما أسلفت ) أي : ما قدمت . قوله تعالى : ( ^ وردوا إلى الله مولاهم الحق ) فإن قال قائل : قد قال في موضع آخر : ( ^ وأن الكافرين لا مولى لهم ) وقال هاهنا : ( ^ وردوا إلى الله مولاهم الحق ) فكيف وجه الآيتين ؟ .
الجواب عنه : أن المولى هناك بمعنى الناصر والحافظ ، والمولى هاهنا بمعنى المالك ، فلم يكن بين الآيتين اختلاف .
وقوله [ تعالى ] ( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي : فات عنهم ما كانوا يكذبون . < < يونس : ( 31 ) قل من يرزقكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل من يرزقكم من السماء والأرض ) الرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات . وقوله : ( ^ أم من يملك السمع والأبصار ) معناه : ومن أعطاكم الأسماع والأبصار . وقوله ( ^ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) معناه : ومن يخرج النطفة من الحي ، والحي من النطفة ، والسنبلة من الحب ، والحب من السنبلة ، والبيض من الطير والطير من البيض ، والشجر من النواة ، والنواة من الشجر ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن .
وقوله ( ^ ومن يدبر الأمر ) ومن يقضي الأمر . وقوله : ( ^ فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) معناه : أفلا تتقون الشرك مع هذا الإقرار . < < يونس : ( 32 ) فذلكم الله ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فذلكم الله ربكم الحق ) معناه : فذلكم الذي صفته هذا هو ربكم الحق . وقوله : ( ^ فماذا بعد الحق إلا الضلال ) معناه : فماذا بعد الحق إلا الباطل .
____________________

( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 30 ) قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ( 31 ) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ( 32 ) ) * * * *
وروي عن حرملة أنه قال : سألت ( مالك بن أنس ) عن الغناء ، فقرأ هذه الآية : ( ^ فماذا بعد الحق إلا الضلال ' )
وروي عن القاسم بن محمد من التابعين نحوا من هذا في هذا المعنى . وقوله ( ^ فأنى تصرفون ) أي : كيف يعدل بكم عن وجه الحق ؟ . < < يونس : ( 33 ) كذلك حقت كلمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كذلك حقت ) أي : وجبت ( ^ كلمة ربك ) أي : حكمة ربك ( ^ على الذين فسقوا ) أي : كفروا ( ^ أنهم لا يؤمنون ) قال أهل التفسير : هذا في أقوام بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون . < < يونس : ( 34 ) قل هل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ) معناه : ينشىء الخلق ثم يعيده . وقوله : ( ^ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) معناه : ينشىء الخلق ثم يعيده ، ومعنى الإعادة : هي الإحياء للبعث يوم القيامة . وقوله ( ^ فأنى تؤفكون ) معناه : فكيف تصرفون ؟ . < < يونس : ( 35 ) قل هل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق ) معناه ظاهر . وقوله : ( ^ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) قرئت بقراءات كثيرة قال أهل العربية : أصحها : ' أمن لا يهدي ' أو ' يهدي ' على وجه الإدغام ؛ لأن معناه : يهتدي . ثم قال : ( ^ إلا أن يهدى ) فإن قيل : كيف قال : ( ^ إلا أن يهدى ) والأصنام لا يتصور فيها أن تهدى ولا أن تهتدي ؟ الجواب من وجهين :
أحدهما أن معنى الهداية هاهنا هي النقل ، يعنى : لا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن ينقل .
____________________

( ^ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ( 33 ) قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ( 34 ) قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي أي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ( 35 ) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ( 36 ) وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ) * * * *
والوجه الثاني : أن هذا مذكور على وجه المجاز ؛ فإن المشركين كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تسمع وتعقل وتهدي ، فذكر ذلك في الأصنام على وفق ما يعتقدون ، وجعلها بمنزلة من يعقل في هذا الخطاب ، وأثبت عجزها عن الهداية . قوله : ( ^ فما لكم كيف تحكمون ) معناه ظاهر . < < يونس : ( 36 ) وما يتبع أكثرهم . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) الآية ، الظن : حالة بين الشك واليقين . وقوله : ( ^ وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) معناه : إن الظن لا يقوم مقام الحق بحال . وقوله : ( ^ إن الله عليم بما يفعلون ) معناه ظاهر . < < يونس : ( 37 ) وما كان هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ) الآية ، وفيه وجهان من المعنى :
أحدهما : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله .
والوجه الثاني : وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله لقوله تعالى : ( ^ وما كان لنبي أن يغل ) معناه : وما ينبغي لمثل النبي أن يغل .
وقوله : ( ^ ولكن تصديق الذي بين يديه ) فيه قولان :
أحدهما : تصديق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل .
والثاني : تصديق الشيء الذي القرآن بين يديه من القيامة والبعث .
وقوله : ( ^ وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) التفصيل : التبيين ،
____________________

( ^ رب العالمين ( 37 ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( 38 ) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( 39 ) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ( 40 ) وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) * * * * ومعنى باقي الآية معلوم . < < يونس : ( 38 ) أم يقولون افتراه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ) معنى الآية : هو الاحتجاج على الكفار بمعجزة القرآن ؛ فإنهم كانوا يقولون : إن محمدا قد افتراه ، فقال لهم : إن كان افتراه وأتى به من عند نفسه فأتوا أنتم بمثله .
فإن قيل : قال : ( ^ فأتوا بسورة مثله ) فللقرآن مثل يؤتى بسورة منه ؟
الجواب : أن معناه : فأتوا بسورة من مثله في البلاغة والنظم وصحة المعنى . وقيل : إن معناه : فأتوا بسورة مثل سورة القرآن .
وقوله : ( ^ وادعوا من استطعتم من دون الله ) معناه : واستعينوا بمن استطعتم من دون الله ( ^ إن كنتم صادقين ) . < < يونس : ( 39 ) بل كذبوا بما . . . . . > >
قوله : ( ^ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) الإحاطة بعلم الشيء هي : المعرفة به من جميع وجوهه ، ومعنى الآية : بل كذبوا بالقرآن ولم يحيطوا بعلمه ، يعني : لم يعلموه .
وقوله : ( ^ ولما يأتهم تأويله ) أي : ولم يأتهم تأويله ، ومعناه : ولم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم . ثم قال تعالى : ( ^ كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 40 ) ومنهم من يؤمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ) معناه : ومنهم من يؤمن به - بالقرآن - كأصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ، ومنهم من لا يؤمن به كأبي جهل ومن ( تابعه ) ، ومنهم من قال : ومنهم من يؤمن
____________________


( ^ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ( 41 ) ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ( 42 ) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو ) * * * * به سرا وعلانية كالمؤمنين المخلصين ، ومنهم من لا يؤمن به سرا كالمنافقين .
( ^ وربك أعلم بالمفسدين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 41 ) وإن كذبوك فقل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) الآية ، معناه : لي عملي وجزاؤه ولكم عملكم وجزاؤه . قوله : ( ^ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) هذا مثل قوله : ( ^ لكم دينكم ولي دين ) ومثل قوله تعالى : ( ^ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) . < < يونس : ( 42 ) ومنهم من يستمعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يستمعون إليك ) الآية ، الاستماع : طلب السمع ، وقد كانوا يطلبون سماع القرآن للرد والتكذيب به ، لا للتفهم والإيمان به . وقوله : ( ^ أفأنت تسمع الصم ) الصمم : آفة تمنع من السماع ، والمراد من الصمم هاهنا : صمم القلب ؛ فإنهم لما لم يسمعوا القرآن للإيمان به وقبوله كأنهم لم يسمعوا ، وجعلهم بمنزلة الصم ، والصم : جمع الأصم . وقال الزجاج : قد كانوا يسمعون حقيقة ؛ ولكن لشدة بغضهم وعداوتهم للنبي لم يستمعوا ليفهموا ، فجعلهم كأن لم يسمعوا . قوله : ( ^ ولو كانوا لا يعقلون ) معناه : ولو كانوا جهالا . < < يونس : ( 43 ) ومنهم من ينظر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من ينظر إليك ) النظر : طلب الرؤية بتقليب البصر ، وأما نظر القلب : هو طلب العلم بالفكرة . وقوله : ( ^ أفأنت تهدي العمي ) جعلهم بمنزلة العمي ؛ لأنهم لم ينظروا لطلب الحق ، والمراد من العمى هاهنا : عمى القلب . ومنهم من قال : جعلهم بمنزلة العمى كما جعلهم بمنزلة الصم حيث لم ينتفعوا لا بأسماعهم ولا بأبصارهم .
وذكر ابن الأنباري حاكيا عن ابن قتيبة أنه استدل بهذه الآية على أن السمع أفضل
____________________


( ^ كانوا لا يبصرون ( 43 ) إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( 44 ) ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين ) * * * * من البصر ، فإن الله تعالى قال في الصمم : ( ^ لو كانوا لا يعقلون ) ، وقال في العمى : ( ^ ولو كانوا لا يبصرون ) .
قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأن المراد من الآية عمى القلب لا عمى العين ، وكذلك صمم القلب لا صمم الأذن ؛ فعلى هذا لا يقع التفضيل .
قال ابن الأنباري : ولأن حاسة البصر أفضل من حاسة السمع ، ألا ترى أن الجمال فيها أكثر ، والنقصان بفوتها أعظم ، وسماها الرسول كريمتى الإنسان ؛ فإنه قال : ' يقول الله تعالى : من أخذت كريمتيه فصبر واحتسب ، لم يكن له جزاء إلا الجنة ' .
وإذا كان الرجل أعمى فإنه لا يبصر إقباله من إدباره ، ولا طريق غيه من طريق رشده ، ويكون أسيرا في نفسه ، ( ويتعطل ) عليه منافع عامة جوارحه . < < يونس : ( 44 ) إن الله لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 45 ) ويوم يحشرهم كأن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ) معنى الآية : تقريب وقت مماتهم من وقت بعثهم ، وهذا كقوله تعالى : ( ^ كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) . وقوله : ( ^ يتعارفون بينهم ) يعني : يعرف بعضهم بعضا . وفي بعض
____________________


( ^ كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ( 45 ) وإما نرنيك بعض الذين نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ( 46 ) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ( 47 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 48 ) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا ) * * * * الآثار : أن الإنسان يوم القيامة يعرف من بجنبه ، ولا يكلمه هيبة وخشية . وقوله : ( ^ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) الخسران هاهنا : خسران النفس ، ولا شيء أعظم من خسران النفس . وفي بعض الآثار : يا بان آدم ، أنت في دار التجارة فاربح فيها نفسك . < < يونس : ( 46 ) وإما نرينك بعض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) قال مجاهد : بعض الذي نعدهم هو : القتل يوم بدر . وقال غيره : معنى الآية : إما نعذبهم في حياتك ( ^ أو نتوفينك ) قبل تعذيبهم ( ^ فإلينا مرجعهم ) ومرجعهم إلينا . وقوله : ( ^ ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ظاهر المعنى ، و ' ثم ' هاهنا بمعنى الواو . < < يونس : ( 47 ) ولكل أمة رسول . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ولكل أمة رسول ) الأمة : هي الجماعة إذا كانوا على منهج واحد ومقصد واحد . والرسول : كل من حمل رسالة ليؤديها على الحق . وقوله تعالى : ( ^ فإذا جاء رسولهم ) قال مجاهد : فإذا جاء رسولهم شاهدا عليهم يوم القيامة ( ^ قضى بينهم بالقسط ) أي : بالعدل ( ^ وهم لا يظلمون ) يعني : لا ينقص من حقهم .
وفي الآية معنى آخر : وهو أن معنى قوله : ( ^ فإذا جاء رسولهم ) يعني : إذا جاء رسولهم بالإعذار والإنذار قضى بينهم بالقسط أي : بالحق ، ومعناه : أنه قبل مجيء الرسل لا يتوجه ثواب ولا عقاب . < < يونس : ( 48 ) ويقولون متى هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) يعني : وعد الساعة . < < يونس : ( 49 ) قل لا أملك . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) الآية . الملك : قوة يتصرف بها في الشيء ، وقوله : ( ^ ضرا ولا نفعا ) يعني : دفع ضر ولا جلب نفع لم يقدره الله تعالى . وقوله : ( ^ لكل أمة أجل ) الأجل : مدة مضروبة لحلول أمر .
____________________


( ^ يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ( 49 ) قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ( 50 ) أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون ( 51 ) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ( 52 ) ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ( 53 ) ولو أن ) * * * *
وقوله : ( ^ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 50 ) قل أرأيتم إن . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ) والبيات : ما يحصل ليلا .
وقوله : ( ^ ماذا يستعجل منه المجرمون ) معناه : ماذا يستعجل من الله المجرمون ؟ وقيل : ماذا يستعجل من العذاب المجرمون ؟ وحقيقة المعنى : أنهم كانوا يستعجلون العذاب ؛ مثل قول النضر بن الحارث ، فإنه قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فقال الله تعالى في هذه الآية : ( ^ ماذا يستعجل منه المجرمون ) يعني : وأيش يعلم المجرمون ماذا يستعجلون ويطلبون ؟ كالرجل يقول لغيره : ماذا جنيت على نفسك ؟ إذا فعل فعلا قبيحا . < < يونس : ( 51 ) أثم إذا ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم إذا ما وقع آمنتم به ) قيل في التفسير : معنى قوله : ( أثم ) : هنالك إذا ما وقع - أي : العذاب ( ^ آمنتم به ) يعني : آمنتم بالله ؟ من وقع العذاب ؟ أي : نزل . ثم قال : ( ^ الآن ) وفيه حذف ومعناه : الآن آمنتم به ( ^ وقد كنتم به تستعجلون ) تكذيبا واستهزاء . < < يونس : ( 52 ) ثم قيل للذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 53 ) ويستنبئونك أحق هو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويستنبئونك أحق هو ) معناه : ويستخبرونك أحق هو ؟ والحق ضد الباطل ، ويقال : الحق ما قام عليه الدليل . وقوله : ( ^ قل إي وربي ) معناه : قل نعم وربي ( ^ إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) معناه : وما أنتم بفائتين من العذاب ؛ لأن من عجز عن الشيء فقد فاته . < < يونس : ( 54 ) ولو أن لكل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ) الافتداء
____________________


( ^ لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهو لا يظلمون ( 54 ) ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 55 ) هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ( 56 ) يا أيها ) * * * * هاهنا : بذل ما ينجو به عن العذاب . وقوله : ( ^ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) فيه قولان :
أحدهما : قول أبي عبيدة ، وهو : أن معناه : وأظهروا الندامة .
والقول الثاني : وأسروا الرؤساء منهم الندامة من الضعفاء خوفا من مذامتهم وتعييرهم .
وقوله : ( ^ وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) قد بينا المعنى . < < يونس : ( 55 ) ألا إن لله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا إن لله ما في السموات والأرض ) فإن قال قائل : أليس أن عندكم السموات سبع ، والأرضون سبع ، فكيف ذكر السموات بلفظ الجمع والأرض بلفظ ( الوحدان ) ؟
الجواب : أن الواحد هاهنا بمعنى الجمع ، والعرب قد تذكر الواحد بلفظ الجمع ، والجمع بلفظ الواحد ، وقيل : إن الأرضين وإن كانت سبعا ولكن لما لم تظهر سوى هذه الواحدة وكانت الباقون مخفية ، ذكر بلفظ الوحدان .
وقوله : ( ^ ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 56 ) هو يحيي ويميت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 57 ) يا أيها الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) الآية ، الموعظة : قول على طريق العلم يؤدي إلى صلاح العباد . وقوله : ( ^ وشفاء لما في الصدور ) الشفاء هاهنا هو الدواء لذي الجهل . وقال أهل العلم : لا داء أعظم من الجهل ، ولا دواء أعز من دواء الجهل ، ولا طبيب أقل من طبيب الجهل ، ولا شفاء أبعد من شفاء الجهل .
____________________

( ^ الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ( 57 ) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ( 58 ) قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ) * * * *
وأما قوله ( ^ لما في الصدور ) الصدر موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان ؛ لجوار القلب . وقوله : ( ^ وهدى ) يعني : وهدى من الضلالة . وقوله : ( ^ ورحمة للمؤمنين ) الرحمة : هي النعمة على المحتاج ، فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال : قد رحمه ، وإن كان هذا نعمة على الحقيقة ؛ لأنه لم يضعها في محتاج . < < يونس : ( 58 ) قل بفضل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل بفضل الله وبرحمته ) قال الحسن البصري : فضل الله : القران ، ورحمته : الإسلام . وعن بعضهم : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن . وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : فضل الله : القرآن ، ورحمته : أن جعلنا من أهله . وهذا مروي أيضا عن عكرمة .
وقوله : ( ^ فبذلك فليفرحوا ) وقرأ الحسن : ' فبذلك فلتفرحوا ' معناه : فبذلك فلتعجبوا .
وقوله : ( ^ هو خير مما يجمعون ) أي : مما يجمع الكفار من الدراهم والدنانير . < < يونس : ( 59 ) قل أرأيتم ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ) قال أهل التفسير : معنى هذا هي السوائب والحوامي التي جعلها أهل الشرك حراما عليهم ، وقد ذكرنا هذا في تفسير سورة الأنعام ، وما أحلوا من ذلك وما حرموا في تفسير قوله : ( ^ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) فإن قيل : كيف يستقيم هذا المعنى ، وقد قال في آخر الآية : ( ^ قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ) ؟
وليس المراد من الآية الاستفهام ؛ وإنما المراد منها الرد والإنكار عليهم . < < يونس : ( 60 ) وما ظن الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ) قالوا : معناه :
____________________

( ( 59 ) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ( 60 ) وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في * * * * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ، أيلقاهم الخير أم يلقاهم الشر ؟ وحقيقة المعنى : أن الشر يلقاهم ؛ لأنه الذي يليق بافترائهم .
وقوله : ( ^ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ) في التفاسير : من ألف واحد شاكر . < < يونس : ( 61 ) وما تكون في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما تكون في شأن ) الشأن : اسم مبهم ، وهو مثل قول القائل لغيره : ما حملك وما بالك ؟ وما شانك ؟ وقوله : ( ^ في شأن ) يعني : في شأن من الشؤون .
وقوله : ( ^ وما تتلو منه من قرآن ) فإن قيل : [ أيش معنى ] قوبه : ( ^ وما تتلو منه ) ولم يسبق ذكر القرآن ؟ الجواب عنه من وجهين : أحدهما أن معناه : وما تتلو من الشأن ، من قرآن ، والآخر : أنه راجع إلى القرآن أيضاً ، فأبطن في قوله : ( ^ منه ) وأظهر في قوله ( ^ من قرآن ) تفخيما له . وقوله : ( ^ ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً ) الشهود هاهنا : جمع شاهد .
وقوله : ( ^ إذ تفيضون فيه ) قال ابن الأنباري : إذ تندفعون فيه ، والإفاضة هي الدفع بالكثرة . وقوله : ( ^ وما يعزب عن ربك ) معناه : وما يغيب عن ربك ( ^ من مثقال ذرة ) من وزن ذرة ؛ والذرة : هي النملة الصغيرة ، وقيل : ما يظهر في شعاع الشمس . والأول هو المعروف .
____________________

( ^ الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( 61 ) ألا إن ) * * * *
وقوله : ( ^ في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ) يعني : أصغر من الذرة . ( ^ ولا أكبر ) معناه : ولا أكبر من الذرة إلى ما لا يعلم قدره إلا الله تعالى . قوله : ( ^ إلا في كتاب مبين ) معناه : إلا هو مبين في الكتاب ، يعني : اللوح المحفوظ .
وفي الأخبار المشهورة : ' أن الله تعالى لما خلق القلم قال : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ' . وقد ثبت برواية عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال : ' إن الله قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ' . خرجه مسلم في ' صحيحه ' . < < يونس : ( 62 ) ألا إن أولياء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا إن أولياء الله ) اختلفوا في أولياء الله على أقوال :
أحدهما : أنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون ، والآخر : أنهم الذين يرضون بالقضاء ، ويشكرون عند الرخاء ، ويصبرون على البلاء ، والثالث : هم المتحابون في الله تعالى .
وقد روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء ، يغبطهم النبيون والشهداء لمكانهم عند الله . فقال رجل : يا رسول الله ، ومن هم ؟ فقال رسول : قوم تحابوا بروح الله من غير أرحام يصلونها ، ولا أموال يتعاطونها ، وإن على وجوههم لنورا ، وإنهم على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ( ^ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ) ' . ذكره أبو داود في ' سننه ' قريبا من هذا .
____________________

( ^ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 62 ) الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 63 ) لهم ) * * * *
والرابع : هو أن أولياء الله من إذا رؤوا [ ذكر ] الله .
وفي بعض الأخبار المرفوعة إلى النبي : ' سئل من أولياء الله ؟ فقال الذين إذا رؤوا [ ذكر ] الله ' . وفي رواية : ' الذين [ يذكر ] الله برؤيتهم ' .
وقوله : ( ^ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) الخوف : انزعاج في النفس من توقع مكروه ، والحزن : هم يقع في القلب لنوع عارض . < < يونس : ( 63 ) الذين آمنوا وكانوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين آمنوا وكانوا يتقون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 64 ) لهم البشرى في . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ لهم البشرى ) اختلفوا في هذه البشرى على أقوال :
الأول : روى ( أبو الدرداء ) - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال : ' هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له ' .
ورواه - أيضا - عبادة بن الصامت أبو الوليد - رضي الله عنه - .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من
____________________

( ^ البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ( 64 ) ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ( 65 ) ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا ) * * * * النبوة ' .
والقول الثاني : روى أبو ذر - رضي الله عنه - عن النبي : ' إن البشرى في الحياة الدنيا : هو الثناء الحسن ، وفي الآخرة : الجنة ' .
والثالث : البشرى : هي نزول نزول ملائكة الرحمة بالبشارة من الله تعالى عند الموت .
والرابع : البشرى : هي علم المؤمن بمكانه من الجنة قبل أن يموت . قاله قوم من التابعين .
وقوله تعالى : ( ^ لا تبديل لكلمات الله ) معناه : لا خلف لوعد الله . وقوله : ( ^ ذلك هو الفوز العظيم ) أي : النجاة العظيمة . < < يونس : ( 65 ) ولا يحزنك قولهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا يحزنك قولهم ) وقف تام . ثم قال : ( ^ إن العزة لله جميعا ) يعنى : إن الغلبة لله جميعا ( ^ هو السميع العليم ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 66 ) ألا إن لله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ) معناه معلوم .
وقوله : ( ^ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ) معناه : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء على الحقيقة ؛ لأنه ليس لله شريك . وقيل : معناه : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء علما ويقينا ؛ بل يتبعون على الظن كما قال : ( ^ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) ومعنى قوله : ( ^ يخرصون ) : يكذبون ؛ لقوله : ( ^ قتل الخراصون ) أي : الكذابون .
____________________

( ^ الظن وإن هم إلا يخرصون ( 66 ) هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( 67 ) قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ( 68 ) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( 69 ) متاع في الدنيا ثم إلينا ) * * * * < < يونس : ( 67 ) هو الذي جعل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ) معناه معلوم . قوله : ( ^ والنهار مبصرا ) أي : مبصرا فيه . وقيل : معناه : والنهار ذا إبصار ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ في عيشة راضية ) يعني : ذات رضا . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 68 ) قالوا اتخذ الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ) فإن قال قائل : أيش الفرق بين اتخاذ الولد واتخاذ الخليل ؟
الجواب عنه : أن الحقيقة الخلة مقصورة على الله تعالى ؛ لأن الخلة : تصفية الود ، وهذا يجوز على الله تعالى . وأما حقيقة الولد : لا يجوز على الله تعالى ؛ فاتخاذه لا يجوز ، ولأنه إنما يتخذ الولد ليرثه ملكه أو ليسر به ، أو ليعنه على أمر ، أو ليخلفه في أموره ، والله تعالى منزه عن هذا كله ، ولا يجوز عليه ، فلم يجز اتخاذ الولد له .
وقوله تعالى : ( ^ هو الغني ) إشارة إلى ما قلنا من عدم الحاجة . وقوله : ( ^ له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا ) أي : من حجة بهذا ؟ .
وقوله : ( ^ أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 69 ) قل إن الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) أي : لا ينجون . < < يونس : ( 70 ) متاع في الدنيا . . . . . > >
وقوله ( ^ متاع في الدنيا ) معناه : إن الذين يفترون على الله حاصلهم متاع في الدنيا .
وقوله : ( ^ ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) معناه معلوم .
____________________

( ^ مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ( 70 ) واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) * * * * < < يونس : ( 71 ) واتل عليهم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتل عليهم نبأ نوح ) معناه : واتل عليهم خبر نوح ( ^ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري ) معناه : إن كان ثقل عليكم مقامي أي : طول مكثي فيكم وتذكيري ( ^ بآيات الله ) وتحذيري إياكم بآيات الله ( ^ فعلى الله توكلت ) قالوا هذا اعتراض في الكلام وفي المعنى . قوله : ( ^ فأجمعوا أمركم ) هو متصل بما سبق كأنه قال : إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فأجمعوا أمركم . وفي الشاذ : ' فاجمعوا أمركم ' قرأه عاصم الجحدري .
قوله : ( ^ فاجمعوا ) قال الفراء : فاعزموا على أمركم وادعوا ( ^ شركاءكم ) وقال الزجاج : فاجمعوا أمركم مع شركائكم ، إلا أنه لما ترك كلمة ' مع ' فانتصب ، قال الشاعر :
( يا ليت شعري والمنى لا تنفع ** حتى أرى أمري وأمري مجمع )
أي : معزم عليه . وقوله : ( ^ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) أي : ملتبسا ، ومنه الغمام ، والغم . وقوله تعالى : ( ^ ثم اقضوا إلي ) قرىء في الشاذ : ' ثم أفضوا إلي ' بالفاء ، والمعروف بالقاف . قال مجاهد معناه : ثم اعلموا ما في أنفسكم . وقيل معناه : توجهوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وهذا على طريق التعجيز ، فإنه قال هذه المقالة وعجزوا عن إيصال مكروه إليه ، فهذا كان ( نوع ) معجزة له ، ومنهم من قال : قوله : ( ^ اقضوا إليَّ ) أي : ثم اقضوا ما أنتم قاضون ، واعملوا ما أنتم عاملون ، وهذا مثل قول السحرة : ( ^ فاقض ما أنت قاض ) ، معناه : فاعمل ما أنت عامل . وحقيقة
____________________

( ( 71 ) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ( 72 ) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( 73 ) ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب ) * * * * القضاء : هو إحكام الأمر والفراغ عنه ، ومنه يقال للرجل إذا مات : قد قضى فلان ، أي : فرغ من أمره .
قوله تعالى : ( ^ ولا تنظرون ) أي : لا تمهلون . < < يونس : ( 72 ) فإن توليتم فما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن توليتم فما سألتكم من أجر ) معناه : فإن أعرضتم فما سألتكم من ثواب على تبليغ الرسالة . قوله : ( ^ إن أجري إلا على الله ) أي : إن ثوابي إلا على الله ( ^ وأمرت أن أكون من المسلمين ) أي : من الموحدين . ومنهم من قال : معنى قوله : ( ^ من المسلمين ) أي : من المستسلمين لأمر الله . < < يونس : ( 73 ) فكذبوه فنجيناه ومن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك ) قال أهل التفسير : كان معه في الفلك ثمانون رجلا ، وكان أول من حمله : الذرة ، وآخر من حمله : الحمار ، وتعلق الشيطان بذنب الحمار ، وجعل يقول : نوح للحمار ، ادخل فلا يدخل حتى قال : ادخل يا شيطان فدخل وإبليس معه .
وقوله تعالى : ( ^ وجعلناهم خلائف ) أي : وجعلنا الذين معه في الفلك خلفاء القوم الذين أغرقناهم في دورهم ومساكنهم ومنازلهم . وقوله تعالى : ( ^ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) الغرق : هلاك بالماء والغامر . ويقال : إن مدة الإغراق كانت أربعين يوما ، وكان من وقت إرسال الماء من السماء إلى أن ( نضب ) الماء ستة أشهر وعدة أيام . < < يونس : ( 74 ) ثم بعثنا من . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ) يعني : من بعد نوح رسلا إلى قومهم ( ^ فجاءهم بالبينات ) أي : بالدلالات الواضحات ( ^ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) أي : فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من
____________________

( ^ المعتدين ( 74 ) ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( 75 ) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ( 76 ) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ( 77 ) قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ( 78 ) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ( 79 ) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ( 80 ) فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن ) * * * * قبل ( ^ كذلك يطبع الله على قلوب المعتدين ) يعني : يختم على قلوب المعتدين . < < يونس : ( 75 ) ثم بعثنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) معناه ظاهر . والآية التي تليها كذا معلوم المعنى . < < يونس : ( 78 ) قالوا أجئتنا لتلفتنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ) معناه : لتصرفنا . وقال قتادة : لتلفتنا : لتلوينا ، وقاله ثعلب من المتأخرين . وقوله : ( ^ وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) قال مجاهد : الكبرياء : الملك ؛ وإنما سمي الملك الكبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب في الدنيا . وقيل : معنى الكبرياء : هو العظمة . وقيل : معناه : الغلبة .
قوله : ( ^ وما نحن لكما بمؤمنين ) أي : بمصدقين . < < يونس : ( 79 ) وقال فرعون ائتوني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ) في القصص : أنه جمع سبعين ألف ساحر . < < يونس : ( 80 ) فلما جاء السحرة . . . . . > >
وقوله : ( ^ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) أي : اطرحوا ما أنتم طارحون . < < يونس : ( 81 ) فلما ألقوا قال . . . . . > >
وقوله : ( ^ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر ) وقد بينا معنى السحر من قبل . ( ^ إن الله سيبطله ) أي : سيذهبه ( ^ إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) معناه معلوم . وفي القصص أنهم كانوا سبعين ألفا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، فألقوا تلك الحبال والعصي ، فجعلت تخيل في أعين الناس كأنها ثعابين وحيات .
____________________

( ^ الله لا يصلح عمل المفسدين ( 81 ) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ( 82 ) فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( 83 ) وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ( 84 ) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم ) * * * * < < يونس : ( 82 ) ويحق الله الحق . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويحق الله الحق بكلماته ) معناه : يعلي الله الحق بآياته ( ^ ولو كره المجرمون ) . < < يونس : ( 83 ) فما آمن لموسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) معناه : فما آمن لموسى إلا قليل في قومه ، واختلفوا في الذرية هاهنا ، قال بعضهم : إنهم قوم كانت آباؤهم في القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل . وقال بعضهم : إنهم قوم نجوا من قتل فرعون ، فإن فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة من بني إسرائيل إذا ولد لها ابن سلمته إلى امرأة قبطية ، وتقول : وهبته لك خوفا عليه من القتل ، فنشأ أولئك الأولاد عند القبط ، وأسلموا في ذلك اليوم ، يعني : يوم السحرة الذين غلبوا . وقوله : ( ^ على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) قال بعض أهل المعاني : في الآية حذف ؛ كأنه قال : على خوف من آل فرعون وملئهم ، وهذا مثل ( قوله ) : ( ^ واسأل القرية ) أي : أهل القرية .
ومنهم من قال : لما ذكر فرعون دخل قومه معه كالرجل يقول : قدم الخليفة أو الأمير بكذا وكذا ، فضاقت المنازل على الناس ، معناه : قدم الخليفة ومن معه .
ثم قال : ( ^ أن يفتنهم ) معناه : أن يعذبهم . وقوله : ( ^ وإن فرعون لعال في الأرض ) أي : لطاغ في الأرض ( ^ وإنه لمن المسرفين ) معلوم . < < يونس : ( 84 ) وقال موسى يا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) التوكل : هو الثقة بالله والاعتماد عليه في الأمور . وقوله : ( ^ إن كنتم
____________________

( ^ الظالمين ( 85 ) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ( 86 ) وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ( 87 ) وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن ) * * * * مسلمين ) أي : إذا كنتم مسلمين . < < يونس : ( 85 ) فقالوا على الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فقالوا على الله توكلنا ) أي : على الله اعتمدنا . وقوله : ( ^ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) فيه قولان :
أحدهما : لا تهلكنا بأيدي الظالمين فيفتتنوا أو يظنوا أنا لم نكن على الحق ، قاله أبو مجلز .
والثاني : لا تعذبنا بعذاب من عندك فيظنوا أنهم خير منا ، فيصير ذلك فتنة لهم < < يونس : ( 86 ) ونجنا برحمتك من . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 87 ) وأوحينا إلى موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا ) معنى قوله : ( ^ تبوءا ) اتخذا .
قال الشاعر :
( نحن بنو عدنان ليس شك ** تبوأ المجد بنا والملك )
وقوله ( ^ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة ) ذكر أهل التفسير أن فرعون أمر بتخريب كنائس بني إسرائيل وبيعهم لما جاء موسى ودعاه إلى الله ، فأمرهم الله تعالى أن يأمرا بني إسرائيل أن يتخذوا في بيوتهم المساجد ، فهذا معنى قوله : ( ^ واجعلوا بيوتكم قبلة ) يعني : مسجدا .
وحكي عن ابن عباس أنه قال أمرهم الله تعالى أن يتوجهوا إلى الكعبة . ومنهم من قال : إنهم خافوا من إظهار الصلاة ، فأمرهم الله تعالى أن يقيموا الصلاة في البيوت . وقوله تعالى : ( ^ وبشر المؤمنين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 88 ) وقال موسى ربنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه ) الآية . قوله : ( ^ زينة
____________________

( ^ سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( 88 ) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ( 89 ) ) * * * * وأموالا في الحياة الدنيا ) قيل في التفسير : إنه كان من فسطاط مصر إلى العريش إلى قريب من الحبشة معادن الذهب والفضة والياقوت والزبرجد ، فهذا معنى قوله : ( ^ زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) قال أهل التفسير : هذه ' اللام ' لام الصيرورة ، ويقال : هي لام العاقبة ، وهذا كما قال الشاعر :
( وللموت ما تلد الوالدة ** )
فلما كانت عاقبة أمرهم الضلال والكفر قال : ليضلوا عن سبيلك ( ^ ربنا اطمس على أموالهم ) الطمس : تغيير صورة الشيء ، وقيل : هو الإنمحاء ، ودروس الأثر . قال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة كلها . وفي بعض الروايات : إن عبيدهم وإماءهم صاروا حجارة .
وقوله : ( ^ واشدد على قلوبهم ) قال مجاهد : بالضلالة . وقال السدي : أمتهم على الكفر .
وقوله : ( ^ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) قيل : هذا بمعنى الدعاء ( كأنه ) قال : فلا آمنوا حتى يروا العذاب الأليم . وقيل : معناه معنى الخبر . < < يونس : ( 89 ) قال قد أجيبت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال قد أجيبت دعوتكما ) في القصص : أنه كان بين دعاء موسى وإجابته أربعون سنة ، وكذلك كان بين دعاء يعقوب وإجابته أربعون سنة . فإن قال قائل : إن الداعي كان موسى ، وقال : ( ^ قد أجيبت دعوتكما ) .
الجواب المروي : أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، والتأمين : دعاء ؛ فإن معنى التأمين : اللهم استجب .
قوله : ( ^ فاستقيما ) يعني : على الطاعة والدين . وقوله : ( ^ ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ) معلوم المعنى .
____________________

( ^ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ( 90 ) آلآن وقد ) * * * * < < يونس : ( 90 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) الآية ، معناه : عبرنا ببني ببني إسرائيل البحر . وقوله : ( ^ فأتبعهم فرعون وجنوده ) قال الأصمعي : يقال : اتبعه إذا سار في أثره ، وأتبعه إذا أدركه ولحقه . وقوله : ( ^ بغيا وعدوا ) ظلما واعتداء ، قرىء : ' عدوا ' و ' عدوا ' والمعنى واحد .
وقوله : ( ^ حتى إذا أدركه الغرق ) يعني : حتى إذا غمره الماء وقرب هلاكه ( ^ قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت بن بنو إسرائيل ) ومعناه : آمنت بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل ( ^ وأنا من المسلمين ) . < < يونس : ( 91 ) آلآن وقد عصيت . . . . . > >
وقوله : ( ^ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) في القصص ' أن جبريل كان واقفا حين قال هذا القول ، فقال له : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ، وقال له هذا القول بأمر الله تعالى ، آلآن وقد عصيت .
وروى يوسف بن مهران ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي ' أن جبريل - عليه السلام - قال : يا محمد ، لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر ، وأدسه في فم فرعون خشية أن تدركه الرحمة ' . وفي رواية أخرى : ' أن جبريل قال : يا محمد ، ما أبغضت أحدا من خلق الله مثل ما أبغضت فرعون لما قال لقومه : ما علمت لكم من ، إله غيري ، فلما قال ما قال حين غرق فجعلت أدس الطين في فمه لئلا يقول
____________________


( ^ عصيت قبل وكنت من المفسدين ( 91 ) فاليوم تنجيك ببدنك لتكون لمن خلقك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ( 92 ) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) * * * * لا إله إلا الله ' . وفي رواية : ' لئلا يثنى مخافة أن يغفر الله له ' .
قال أبو عيسى : والحديث صحيح في الجملة . < < يونس : ( 92 ) فاليوم ننجيك ببدنك . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فاليوم ننجيك ببدنك ) في البر ، قرىء : ' ننحيك ببدنك ' بالحاء [ من التنحية ] ، والمعروف بالجيم أي : نلقيك على نجوة من الأرض . والنجوة : المكان المرتفع . في القصص : أن فرعون لما غرق قالت بنو إسرائيل : هو أجل من أن يغرق ، فلم يصدقوا موسى أنه قد غرق ، فأمر الله تعالى الماء حتى ألقاه على وجهه ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ ننجيك ببدنك ) وقوله : ( ^ ببدنك ) فيه قولان :
أحدهما : بدرعك ، وكان له درع مشهور من اللؤلؤ مرصع من الجواهر ، فرأوه في درعه فصدقوا .
والقول الثاني : ببدنك يعني : بجسد لا روح فيه .
قوله : ( ^ لتكون لمن خلفك آية ) أي : عبرة . وقوله : ( ^ وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 93 ) ولقد بوأنا بني . . . . . > >
وقوله تعالى ( ^ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) أي : أنزلنا بني إسرائيل مبوأ صدق أي : أنزلنا بني إسرائيل منازل صدق . وقيل : إن تلك المنازل هي مصر . وقيل : إنها الشام . وقوله : ( ^ مبوأ صدق ) يعني : بصدقهم وإيمانهم . وقوله : ( ^ ورزقناهم من الطيبات ) معلوم . وقوله : ( ^ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) يعني : التوراة ، فإنهم اختلفوا بعد نزول التوراة وذهاب موسى اختلافا شديدا . ثم قال : ( ^ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) ظاهر المعنى .
____________________


( ^ ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 93 ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( 94 ) ولا تكونن ) * * * * < < يونس : ( 94 ) فإن كنت في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) في الآية سؤال معروف ، وهو : أنه قال : ( ^ فإن كنت في شك ) كيف يجوز أن يكون الرسول في الشك حتى يقول له : فإن كنت في شك ؟ .
الجواب من وجوه : أحدها : أن الخطاب معه والمراد منه قومه ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) وأمثالها كثيرة .
وقال بعضهم : تقديره : فإن كنت في شك أيها الشاك فأسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك .
والوجه الثاني : أن معنى الآية : ما كنت في شك .
وقوله : ( ^ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) زيادة تثبيت ؛ والذين يقرءون الكتاب : هم الذين أسلموا من اليهود ، مثل عبد الله بن سلام ، وابن يامين وغيرهما .
والوجه الثالث : هذا على عادة كلام العربي ، فإن الرجل يقول لابنه : افعل كذا إن كنت ابني ، ولا يكون هذا على الشك ، وكذا يقول لغلامه : أطعمني إن كنت عبدي ، ولا يكون على الشك .ٍ
وقوله : ( ^ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) فقال : مرهم ( ^ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) من الشاكين ، ومعناه : دم على اليقين الذي أنت عليه .
الوجه الأول اختيار الزجاج وغيره من أهل المعاني . < < يونس : ( 95 ) ولا تكونن من . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ) إلى آخر الآية ظاهر
____________________

( ^ من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ( 95 ) إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ( 96 ) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ( 97 ) فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة ) * * * * المعنى . < < يونس : ( 96 - 97 ) إن الذين حقت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك ) معناه : وجب عليهم عذاب ربك .
ويقال : معنى الكلمة : هو قوله تعالى : ' هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ' كما روي في الأخبار .
وقوله : ( ^ لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) يعني : الإيمان عن البأس . < < يونس : ( 98 ) فلولا كانت قرية . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ) معناه : فلم تكن قرية آمنت - أي أهل قرية آمنت - فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ، وهذا الإيمان هو عند نزول العذاب . والمنقول في القصص : أن يونس - صلوات الله عليه - أنذر قومه بالعذاب وخرج من بينهم ، فلما رأوا العذاب شبه النيران في السماء خرجوا من بلدهم إلى الصحراء ، وفرقوا بين الأولاد والأمهات والبهائم والأجنة ، وضجوا إلى الله تعالى ضجة واحدة ، فكشف الله عنهم العذاب بعد أن رأوه عيانا ، ولم يفعل هذا بأحد غيرهم ، فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) أي : إلى أجل معلوم .
وفي بعض التفاسير : أن الدعاء الذي دعا به قوم يونس هو : يا حي حين لا حي ، يا حي يا محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت .
____________________


( ^ الدنيا ومتعناهم إلى حين ( 98 ) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( 99 ) وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل ) * * * *
واختلف القول في أنهم هل رأوا العذاب عيانا أو رأوا دليل العذاب ؟ فالأكثرون على أنهم رأوا العذاب عيانا . قال قتادة : تدنى عليهم العذاب حتى صار بينهم وبين العذاب قدر ميل . وقال بعضهم : رأوا دليل العذاب ، ولم يروا عين العذاب .
والقول الأول أصح ؛ بدليل قوله : ( ^ كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) والكشف إنما يكون بعد وقوع العذاب أو قرب العذاب . فإن قال قائل : كيف قبل إيمانهم عند المعاينة ، ولم يقبل إيمان غيرهم ، وقد قال في موضع آخر : ( ^ يؤمنون بالغيب ) دل أن الإيمان المقبول هو الإيمان بالغيب ؟
الجواب : أن قوم يونس استثنوا من هذا الأصل بنص القرآن ، والله تعالى يفعل ما يشاء ولا سؤال عليه فيما يفعل . وزعم الخليل وسيبويه : أن الاستثناء هاهنا منقطع ، ومعنى الآية : لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .
وعن علي - رضي الله عنه - قال : الحذر لا يرد القدر ، والدعاء يرد القدر ؛ فإن الله تعالى كشف العذاب عن قوم يونس بالدعاء . وعن علي - أيضا - أنه قال : كان كشف العذاب يوم عاشوراء .
وقيل في تقدير ابتداء الآية : ' فهلا ' كانت قرية آمنت حين ينفعها إيمانها ؛ لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ، ومعنى قرية : أهل قرية . وقيل : اسم تلك القرية كان نينوى ، من بلاد الجزيرة . < < يونس : ( 99 ) ولو شاء ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) في الآية رد على القدرية ؛ فإنه تعالى أخبر أنه لم يشأ إيمان جميع الناس ، وعندهم أنه شاء إيمان جميع الناس . وقوله : ( ^ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) هذا تسلية للنبي
____________________

( ^ الرجس على الذين لا يعقلون ( 100 ) قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ( 101 ) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( 102 ) ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا ) * * * * أنى لو أردت لأكرهتهم على الإيمان ، ولم أرد ، فلا ترد أنت - أيضا - أن تكرههم على الإيمان . < < يونس : ( 100 ) وما كان لنفس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) قال عطاء : إلا بتوفيق الله . وقال غيره : إلا بعلم الله . وقيل : إلا بإطلاق الله ذلك بدفع الموانع ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) منهم من قال : ' بإذن الله ' أي : بقضائه وتقديره وحكمه ، والمعاني كلها صحيحة . وقوله تعالى : ( ^ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) قال الفراء : الرجس بمعنى الرجز ، والرجز هو العذاب . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الرجس هو السخط . وقيل : إنه الإثم . وقيل : إنه الهلاك . وأما قوله : ( ^ على الذين لا يعقلون ) معناه : لا يؤمنون . وقيل : معنى قوله : ( ^ لا يعقلون ) أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه . < < يونس : ( 101 ) قل انظروا ماذا . . . . . > >
قوله : ( ^ قل انظروا ماذا في السموات والأرض ) معناه : قل انظروا ماذا في السموات والأرض من الدلائل والعبر والحجج . وقوله : ( ^ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) هذا في قوم بأعيانهم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون وإن نظروا في الآيات . < < يونس : ( 102 ) فهل ينتظرون إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) الانتظار هو الثبات لتوقع أمر . وقوله : ( ^ إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) يعني : مثل أيام الهلاك في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة . قوله : ( ^ قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 103 ) ثم ننجي رسلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ) قوله : ' ننجي ' مستقبل بمعنى
____________________

( ^ علينا ننج المؤمنين ( 103 ) قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ( 104 ) وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ( 105 ) ولا تدع من دون ) * * * * الماضي ، ومعناه : أنجينا رسلنا والذين آمنوا . قوله ( ^ كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين ) يعني : محمدا وأصحابه . < < يونس : ( 104 ) قل يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني ) فإن قال قائل : كيف قال : إن كنتم في شك من ديني ، وهم كانوا يعتقدون بطلان ما جاء به على بصيرة ؟
الجواب : أنه قد كان فيهم قوم شاكوك ، فالمراد من الآية أولئك القوم .
والثاني : أنهم لما رأوا الآيات اضطربوا وشكوا في أمرهم وأمر النبي .
قوله : ( ^ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ظاهر المعنى . فإن قال قائل : ما معنى قوله : ( ^ إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ) وهو لا يعبد الذين من دون الله شكوا أو لم يشكوا ؟ وما معنى قوله : ( ^ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ولأي شيء خص الوفاة بالذكر ؟
الجواب : أما الأول معناه : إن كنتم في شك فلست في شك ، ولا أعبد إلا الله على يقين وبصيرة . وأما ذكر الوفاة في قوله : ' يتوفاكم ' بمعنى التهديد ، فإن العذاب يقع على الكافر حتى تدركه الوفاة .
( ^ وأمرت أن أكون من المؤمنين ) أي : من المخلصين . < < يونس : ( 105 ) وأن أقم وجهك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ) معناه : وأمرت أن أستقيم لله على الدين مخلصا . ويقال معناه : واستقم على الدين الذي أمرت به بوجهك . قوله تعالى : ( ^ حنيفا ) قد بينا من قبل ، ويقال : إن الآية في التوجه إلى القبلة ، وهي الكعبة ؛ وهي في معنى قوله تعالى : ( ^ فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . وقوله : ( ^ ولا تكونن من المشركين ) ظاهر المعنى .
____________________


( ^ الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ( 106 ) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ( 107 ) قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ( 108 ) واتبع ما يوحى ) * * * * < < يونس : ( 106 ) ولا تدع من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) الدعاء يكون بمعنيين : أحدهما : بمعنى النداء ، كقولك : يا زيد ، ويا عمرو ، والآخر : بمعنى الطلب .
وقوله : ( ^ ما لا ينفعك ولا يضرك ) معناه : لا ينفعك إن دعوته ، ولا يضرك إن تركت دعاءه . وقوله : ( ^ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ) يعني : ممن وضع الدعاء في غير موضعه . < < يونس : ( 107 ) وإن يمسسك الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) معناه : إن يصبك الله بضر ، والضر : هو الخوف والمرض والجوع ونحوه .
وقوله : ( ^ فلا كاشف له إلا هو ) أي : لا كاشف لذلك الضر إلا الله .
وقوله : ( ^ وإن يرك بخير ) أي : يصبك بخير ، والخير : هو الخصب والسعة والعافية ونحوه .
وقوله : ( ^ فلا راد لفضله ) أي : لا مانع لفضله .
قوله : ( ^ يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 108 ) قل يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) الحق هاهنا : هو ما ينجو به الإنسان ، وضده : الباطل ، وهو الذي يهلك به الإنسان . وقيل : معناه : الإسلام . وقيل : معناه : القرآن . وقوله : ( ^ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) ' يعني ' : يحتاط لنفسه . ( ^ ومن ضل فإنما يضل عليها ) يعني : من كفر وترك الإيمان ؛ فإنما وباله وضلاله عليه .
قوله : ( ^ وما أنا عليكم بوكيل ) أي : بمسلط ، ومعناه : أنكم تسألون عن
____________________


( ^ إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ( 109 ) ) * * * * أعمالكم ولا أسأل أنا عن أعمالكم ، كما يسأل من وكل بالشيء . < < يونس : ( 109 ) واتبع ما يوحى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتبع ما يوحي إليك ) الوحي : إلقاء الشيء في قلب الإنسان على الخفية . وقوله : ( ^ واصبر ) الصبر : تجرع المرارة بالامتناع عن الشيء المشتهى لتوقع المحبوب في العاقبة ، ومما يعين الإنسان على الصبر علمه بحقيقة الأمر ، وما ينال من الثواب ، والثقة بموعود الله تعالى . وقوله ( ^ حتى يحكم الله ) أي : حتى يقضي الله ( ^ وهو خير الحاكمين ) أي : خير القاضين .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
>
( ^ آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( 1 ) ألا تعبدوا إلا الله ) * * * * <
> تفسير سورة هود <
>
سورة هود مكية ، إلا قوله تعالى : ( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ) إلى آخر الآية ؛ فإنها مدنية . < < هود : ( 1 ) الر كتاب أحكمت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الر ) معناه : أنا الله أرى . وقوله : ( ^ كتاب ) أي : هذا كتاب .
وقوله : ( ^ أحكمت آياته ) فيه أقوال :
قال قتادة : معناه : أحكمها الله فليس فيها اختلاف ولا تناقض .
والثاني : أن معنى قوله : ( أحكمت آياته ) يعني : هي محكمة غير منسوخة .
والثالث : ( ^ أحكمت أياته ) يعني : بالأمر والنهي ، والحلال والحرام .
وقوله : ( ^ ثم فصلت ) فيه أقوال : أحدها : ثم فصلت بالوعد والوعيد . وقال مجاهد : فصلت أي : فسرت وبينت . والثالث : ثم فصلت أي : أنزلها الله شيئا فشيئا .
وقيل : أحكمت آياته للمعتبرين ، ثم فصلت أحكامه للمتقين .
وقيل : أحكمت آياته للقلوب ، ثم فصلت أحكامه على الأبدان .
وقرئ في الشاذ : ' ثم فصلت ' ومعناه : أنها جاءت .
( ^ من لدن حكيم خبير ) أي : من عند حكيم خبير . < < هود : ( 2 ) ألا تعبدوا إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا تعبدوا إلا الله ) فيه قولان :
أحدهما : بأن لا تعبدوا إلا الله .
والقول الثاني : أمركم أن لا تعبدوا إلا الله .
وقوله : ( ^ إنني لكم منه نذير وبشير ) معناه : نذير للعاصين ، وبشير للمطيعين .
____________________


( ^ إنني لكم منه نذير وبشير ( 2 ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا ) * * * * < < هود : ( 3 ) وأن استغفروا ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) قال أهل المعاني : إنما قدم المغفرة على التوبة ؛ لأنها هي المطلوبة بالتوبة .
وفي بعض الأخبار : ' ما أصر من استغفر وإن عاد سبعين مرة ' . وفي بعض الأخبار : ' لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ' .
وفي الآية قول آخر : أن معنى قوله : ( ^ وأن استغفروا ربكم ) يعني : في الماضي ( ^ ثم توبوا إليه ) يعني : في المستأنف .
قوله : ( ^ يمتعكم متاعا حسنا ) معناه : يعيشكم عيشا حسنا . وقيل : يعمركم عمرا حسنا . وأما العيش الحسن : قال بعضهم : هو الرضا بالميسور ، والصبر على ( المقدر ) . وقيل : العيش الحسن : هو طيب النفس وسعة الرزق . ويقال : العيش الحسن : هو الكفاية بالحلال . وقوله ( ^ إلى أجل مسمى ) أي : إلى حين الموت .
وقوله : ( ^ ويؤت كل ذي فضل فضله ) فيه قولان :
____________________


( ^ إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( 3 ) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( 4 ) ألا إنهم يثنون صدورهم ) * * * *
أحدهما : أن معناه يؤت كل ذي عمل حسن في الدنيا ثوابه في الآخرة .
والقول الثاني : أن قوله : ( ^ يؤت كل ذي فضل فضله ) يعني : من عمل لله تعالى وفقه الله تعالى فيما يستقبل على طاعته ويهديه إليها .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : كل ما يحتسب الإنسان فيه من قول أو عمل هو داخل فيها ، حتى الكلمة الواحدة يقولها .
قوله : ( وإن تولوا ) أي : فإن أعرضوا . قوله : ( ^ فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) أي : يوم القيامة . < < هود : ( 4 ) إلى الله مرجعكم . . . . . > >
ثم قال الله تعالى : ( ^ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 5 ) ألا إنهم يثنون . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ) الآية ، قال عبد الله بن شداد : كان الرجل الكافر يمر بالنبي فيثني صدره ، ويستغشي بثوبه بغضا للنبي حتى لا يراه النبي ولا يرى هو النبي . وعن بعضهم : أن الرجل من الكفار كان يدخل بيته ويرخي ستره ، ويتغشى بثوبه ويحني ظهره ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي ؟ وعن أبي رزين قريبا من القول الأول ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ومعنى قوله : ( ^ يثنون صدورهم ) أي : يعطفون ويطوون ، ومنه ثني الثوب ، قال الشاعر في التغشي :
( أرعى النجوم ولم أؤمر برعيتها ** وتارة أتغشى فضل أطمار )
وقوله : ( ^ ليستخفوا منه ) أي : ليستخفوا من الله تعالى . وقيل : ليستخفوا من النبي . وفي الشاذ أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قرأ : ' ألا إنهم يثنوني صدورهم ' على وزن يفعوعل ، وكما يقال : يحلولي .
( ^ ألا حين يستغشون ثيابهم ) يعني : يتغشون بثيابهم . قوله تعالى : ( ^ يعلم ما
____________________


( ^ ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثبابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ( 5 ) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ( 6 ) وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه ) * * * * يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ) قال الأزهري وغيره : معنى الآية من أولها إلى آخرها : إن الذين أضمروا عداوة النبي لا يخفى علينا حالهم . وفي بعض التفاسير : أن رجلا كان يبطن عداوة النبي وكان يختلف إليه ويظهر المحبة له ، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية . < < هود : ( 6 ) وما من دابة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) الآية . الدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوانات . وقوله : ( ^ إلا على الله رزقها ) أي : إن الله يسبب ويسهل رزقها .
قال أهل المعاني : هذا على المشيئة ، لأنه قد يرزق وقد لا يرزق . وقوله : ( ^ ويعلم مستقرها ومستودعها ) في الآية أقوال :
روى مقسم عن ابن عباس أنه قال : المستقر : هو المكان الذي يأوي إليه ، والمستودع : هو المكان الذي يدفن فيه .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : المستقر : هو أرحام الأمهات ، والمستودع : هو الموضع الذي يدفن فيه .
وقال بعضهم : المستقر : هو الذي يستقر عليه عمله ، والمستودع : هو الذي يصير إليه أمره في العاقبة .
ويقال : المستقر : أرحام الأمهات ، والمستودع : هو أصلاب الآباء . وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .
وقوله : ( ^ كل في كتاب مبين ) في اللوح المحفوظ . < < هود : ( 7 ) وهو الذي خلق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ) قد بينا من قبل .
____________________


( ^ على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 ) ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) * * * *
وقوله : ( ^ وكان عرشه على الماء ) قال ابن عباس : كان العرش على الماء ، والماء على متن الريح ، أي : صلب الريح . وروى يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن وكيع ابن حدس ، عن أبي رزين العقيلي أنه قال : ' يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ، وكان عرشه على الماء ' . قال يزيد بن هارون : معنى قوله : ' في عماء ' أي : ليس معه غيره . أورده ابو عيسى في كتابه على هذا الوجه .
قوله : ( ^ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) معناه : ليختبركم أيكم أعمل بطاعة الله تعالى ، وأسرع إلى طلب مرضات الله ، وأورع عن محارم الله ، ومعناه : الابتلاء من الله وقد بينا من قبل .
وقوله : ( ^ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) أي : إلا خدع ظاهر . < < هود : ( 8 ) ولئن أخرنا عنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) معناه : إلى أجل معدودة . قوله : ( ^ ليقولن ما يحبسه ) معناه : ليقولن الذين كفروا : أي شيء يحبسه ؟ يعني : العذاب . وقوله : ( ^ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ) معناه : ألا يوم يأتيهم العذاب لا يكون العذاب مصروفا عنهم .
وقوله ( ^ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) معناه : ونزل بهم جزاء استهزائهم . < < هود : ( 9 ) ولئن أذقنا الإنسان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ) الرحمة هاهنا : هي سعة الرزق .
____________________


( ( 8 ) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( 9 ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( 10 ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( 11 ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت ) * * * *
وقوله : ( ^ ثم نزعناها منه ) يعني أخذناها منه ، قوله : ( ^ إنه ليئوس كفور ) أي : قنوط من رحمة الله تعالى ، كفور بنعمة الله . < < هود : ( 10 ) ولئن أذقناه نعماء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني ) يعني : يقول الإنسان : ذهب السيئات عني باستحقاقي لذلك ، ولا يراه من الله تعالى .
وقوله : ( ^ إنه لفرح فخور ) الفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، والفخر : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وهو منهي عنه في القرآن في مواضغ كثيرة . < < هود : ( 11 ) إلا الذين صبروا . . . . . > >
وقوله : ( ^ إلا الذين صبروا ) قال الفراء والزجاج : هذا استثناء منقطع ، ومعناه . ولكن الذين صبروا ( ^ وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) معناه ظاهر . < < هود : ( 12 ) فلعلك تارك بعض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) قال أهل التفسير : سبب نزول الآية : أن الكفار لما قالوا : يا محمد ، أئت بقرآن غير هذا أو بدله ، يعنون : ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا - على ما ذكرنا في سورة يونس - همّ النبي أن يدع سب آلهتهم ظاهرا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) يعني : سب الآلهة ظاهرا ( ^ وضائق به صدرك ) يعني : ولعلك يضيق صدرك ( ^ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ) أي : هلاّ أنزل عليه كنز أوجاء معه ملك . وقوله : ( ^ إنما أنت نذير ) معناه : إن عليك الإنذار والإبلاغ ، وليس عليك أن تأتي بالآيات التي يقترحونها .
وقوله ( ^ والله على كل شيء وكيل ) أي : حافظ . < < هود : ( 13 ) أم يقولون افتراه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يقولون افتراه ) معناه : بل يقولون : افتراه ، وافتراه : اختلقه ( ^ قل
____________________


( ^ نذير والله على كل شيء وكيل ( 12 ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( 13 ) فإن لم يستجيبوا ) * * * * فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) ومعني مثله : أي : مثله في البلاغة .
قال علي بن عيسى النحوي : البلاغة على ثلاث مراتب : المرتبة العليا : معجزة ، والوسطى والأدنى ممكنه . والقرآن في المرتبة العليا من البلاغة .
فإن قيل : قد قال في سورة يونس : ( ^ فأتوا بسورة مثله ) وقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة ، فكيف يصح أن يقول لهم ( ^ فأتوا بعشر سور مثله ) ، وما هذا إلا كرجل يقول لغيره : أعطني درهما ، فيعجز عنه فيقول : أعطني عشرة دراهم ، وأيضا فإنه قال : ( ^ مفتريات ) وهل يجوز أن يأمر الله تعالى أن يأتوا بالافتراء ؟
الجواب عنه : عنه منهم من قال : إن سورة هود نزلت أولا وإن كانت في الترتيب آخرا ، وأنكر المبرد هذا ، وقال : لا ، بل نزلت سورة يونس أولا . وأجاب عن السؤال وقال : معنى قوله : ( ^ فأتوا بسورة مثله ) في سورة يونس يعني مثله في الخبر عن الغيب والأحكام . والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثل القرآن في أخباره وأحكامه ووعده ووعيده ، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات يعني : مختلقات من غير خبر عن غيب ولا حكم ولا وعد ولا وعيد ، وإنما هي مجرد البلاغة . وهذا جواب صحيح .
وأما السؤال الثاني فالجواب : قلنا : الله سبحانه وتعالى لم يأمرهم بالإفتراء ، وإنما تحدى ، ومعناه : أن إصراركم في تكذيب محمد وزعمكم أنه افترى القرآن يوجب عليكم أن تأتوا بمثله افتراء ، ليظهر كذب محمد كما زعمتموه ، فلما عجزتم دل أنه صادق .
وقوله : ( ^ وادعوا من استطعتم من دون الله ) معناه : واستعينوا بمن استطعتم من دون الله ( ^ إن كنتم صادقين ) .
____________________


( ^ لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ( 14 ) من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ( 15 ) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ( 16 ) أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك ) * * * * < < هود : ( 14 ) فإن لم يستجيبوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) يجوز أن يكون قوله : ( ^ فاعلموا ) خطاب للمؤمنين ، ويجوز أن يكون خطابا للمشركين . وقوله ( ^ بعلم الله ) بمعنى أنزله وفيه علمه ، وهذا رد على المعتزلة حيث قالوا : لا علم لله .
وقوله : ( ^ وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) يعني : فاعلموا أن لا إله إلا هو ، فهل أنتم مسلمون ؟ أي : مخلصون . < < هود : ( 15 ) من كان يريد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) قال الضحاك : نزلت الآية في المشركين . وقال مجاهد وجماعة : نزلت الآية في كل من عمل عملا وأراد به غير الله . وقوله : ( ^ نوف إليهم أعمالهم فيها ) يعني : نجازيهم على أعمالهم في الدنيا ، وذلك بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبه ذلك . وقوله : ( ^ وهم فيها لا يبخسون ) فيها أي : في الدنيا ، لا يبخسون يعني : لا ينقص حظهم . ثم قال : < < هود : ( 16 ) أولئك الذين ليس . . . . . > > ( ^ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها ) وبطل ما صنعوا فيها . وقوله : ( ^ وباطل ما كانوا يعملون ) أي : وما حق ما كانوا يعملون . < < هود : ( 17 ) أفمن كان على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفمن كان على بينة من ربه ) في الآية حذف ، ومعناه : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها . وعامة أهل التفسير على أن المراد به النبي ، وقيل : إن المراد منه : النبي وكل مؤمن في العالم . والأول هو الصحيح .
وقوله : ( ^ على بينة من ربه ) أي : على بيان من ربه . وقوله ( ^ ويتلوه شاهد منه ) فيه أقوال :
الأول : عليه أكثر أهل التفسير : أن المراد منه : جبريل - عليه السلام - وهذا قول
____________________

ابن عباس ، ومجاهد ، ومنصور بن المعتمر تلميذ النخعي ، والنخعي ، وغيرهم .
والقول الثاني : أن قوله : ( ^ ويتلوه شاهد منه ) يعني : لسان محمد . حكى هذا عن الحسن البصري ، ورواه بعضهم عن [ الحسين ] بن علي رضي الله عنهما .
والثالث : أن قوله ( ^ ويتلوه شاهد منه ) هو علي - رضي الله عنه - روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : ما من قرشي إلا ونزلت فيه آية من القرآن ، فقيل له : وهل نزل فيك شيء ؟ فقال : ( ^ وتيلوه شاهد منه ) .
والرابع : ( ^ ويتلوه شاهد منه ) ملك من الملائكة نزل يحفظه ويسدده ويشهد له .
وقيل : إن قوله : ( ^ شاهد منه ) هو الإنجيل ، ومعناه : يتبعه مصدقا له ، يعني : وهو مصدقه . وقوله : ( ^ ومن قبله كتاب موسى إماما ) أراد به : التوراة ، وقوله ( ^ إماما ورحمة ) يعني : كانت إماما ورحمة لمن اتبعها ، وهي مصدقة للقرآن ، شاهدة للنبي . وقوله : ( ^ أولئك يؤمنون به ) قال بعضهم : أراد به المهاجرين والأنصار . وقال بعضهم : أراد به الذين أسلموا من أهل الكتاب . وقوله : ( ^ ومن يكفر به ) يعني : بالرسول ( ^ من الأخزاب ) وهم تحزبوا على النبي أي : تفرقوا من قبائلهم واجتمعوا عليه من قريش وغيرهم . وفي بعض التفاسير : أنهم بنو أمية وبنو المغيرة وبنوأبي طلحة بن عبد العزى ، والمراد هو : الكفار منهم دون المسلمين .
والقول الثاني في الآية : أن الأحزاب أهل الملل كلها . روى أبو موس الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' ما من أحد يسمع بي فلا يؤمن إلا أدخله الله النار ' . قال سعيد بن جبير : طلبت مصداق هذا من القرآن فوجدته في قوله تعالى ( ^ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) .
____________________


( ^ يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( 17 ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( 18 ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ) * * * *
وقوله : ( ^ فلا تك في مرية منه ) يعني : فلا تك في شك منه . وقيل معناه : فلا تك في شيء منه أيها الشاك . قوله : ( ^ إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 18 ) ومن أظلم ممن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ) معناه : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا . ثم قال : ( ^ أولئك يعرضون على ربهم ) العرض : هو إظهار الشيء ليرى ويوقف على حاله ، ومنه قولهم : عرض السلطان الجند . وقوله : ( ^ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) اختلف القول في الأشهاد ، روي عن ابن عباس أنه قال : هم الأنبياء والمرسلون . وقال مجاهد : هم الملائكة . وقال بعضهم : الخلائق كلهم . وقوله : ( ^ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) ظاهر المعنى .
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال : ' يدنى المؤمن ربه يوم القيامة حتى يضع كنفه عليه ، فيقرره بذنوبه ويقول : هل تعرف كذا ؟ فيقول : أعرف . هل تعرف كذا ؟ فيقول : أعرف . فيسأله ما سأله ، ثم يقول : سترته عليك في الدنيا ، وأنا أغفره لك اليوم ، ثم يعطى كتابه بيمينه ، وأما الكفار فينادى على رءوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين ' .
وهذا الحديث هو حديث النجوى ، اتفقوا على صحته عن النبي . < < هود : ( 19 ) الذين يصدون عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يصدون عن سبيل الله ) معناه : الذين يمنعون عن دين الله .
وقوله : ( ^ ويبغونها عوجا ) يعني : ويطلبون الأعوجاج في دين الله . وقوله ( ^ وهم
____________________


( ( 19 ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( 20 ) أولئك ) * * * * بالآخرة هم كافرون ) قال ثعلب : تكرير ' هم ' على طريق التأكيد لدخول الآخرة بينهما . < < هود : ( 20 ) أولئك لم يكونوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) معناه : أولئك لم يكونوا فائتين ، وقيل : أولئك لم يكونوا هاربين من عذابنا ؛ فإن من هرب عن الشيء وقع العجز عنه . وقوله : ( ^ وما كان لهم من دون الله من أولياء ) يعني : من ناصرين وحافظين عن عذابنا . وقوله : ( ^ يضاعف لهم العذاب ) فإن قيل : ما معنى تضعيف العذاب وقد قال في موضع آخر : ( ^ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) ؟
الجواب من وجهين :
أحدهما : أن مضاعفة العذاب بمضاعفة الجرم .
والآخر : أن الآية في رؤساء أهل الشرك ، وتضعيف العذاب عليهم بتضليل الإتباع ودعائهم إياهم إلى شركهم .
وقوله : ( ^ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) قال ابن عباس : حال الله بينهم وبين اإيمان . وذكر الفراء عن بعض أهل المعاني : أن معنى الآية : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يستمعون .
وسائر النحاة أنكروا تقدير ' الباء ' هاهنا . والاستطاعة : قوة تنطاع بها الجوارح للعمل .
وفي الآية قول ثالث : وهو أنهم لما يسمعوا استماع ( التفهم ) والانتفاع به ، ولم يبصروا بصر الحقيقة ؛ جعلهم كمن لا يستطيع السمع والبصر . < < هود : ( 21 ) أولئك الذين خسروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك الذين خسروا أنفسهم ) معناه : غبنوا أنفسهم . وقيل إن
____________________


( ^ الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 21 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( 22 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( 23 ) مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل ) * * * * أعظم الخسران ، خسران النفس ، وأعظم الربح : ربح النفس . وقوله : ( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ) يعني : فات عنهم ما كانوا يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام . < < هود : ( 22 ) لا جرم أنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا جرم ) فيه قولان :
أحدهما : لاجرم يعني : حقا ( ^ أنهم في الآخرة هم الأخسرون )
والقول الثاني : أن قوله : ( ^ لا ) رد لما قالوا ، وقوله : ( ^ جرم ) ابتداء كلام ، وجرم بمعنى : كسب ، قال الشاعر :
( ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا )
يعني : كسبتهم الغضب . وقال آخر :
( نصبنا رأسه في رأس جذع ** بما جرمت يداه وما اعتدينا . )
فمعنى الآية : جرم أي : كسب لهم كفرهم التباب والخسران . < < هود : ( 23 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ) قال مجاهد : يعني : خشعوا . وقال بعضهم : اطمأنوا . وروي عن ابن عباس : خافوا . وقوله : ( ^ إلى ربهم ) أي : لربهم ، مثل قوله تعالى ( ^ بأن ربك أوحى لها ) أي : إليها ، فكذلك هاهنا : إلى ربهم .
وقوله : ( ^ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 24 ) مثل الفريقين كالأعمى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) الآية ، الفريقان هاهنا : فريق الكفار ، وفريق المؤمنين . وقوله : ( ^ كالأعمى والأصم ) فيه قولان :
أحدهما : أن ' الواو ' صلة ، ومعناه : كالأعمى الأصم ، كما يقول القائل : رأيت العاقل والظريف أي : رأيت العاقل الظريف .
____________________


( ^ يستويان مثلا أفلا تذكرون ( 24 ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير جين ( 25 ) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( 26 ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما ) * * * *
والقول الثاني : أن ' الواو ' لتعميم التشبيه ، ومعناه : حال الكافر كحال الأعمى ، وحاله كحال الأصم ، وحاله كحال الأعمى والأصم .
وقوله : ( ^ والبصير والسميع ) الكلام فيه مثل هذا ، والمراد منه : حالة المؤمن . وقوله ( ^ هل يستويان مثلا ) روي أن الكفار لما سمعوا هذا قالوا : لا يستويان ، فأنزل الله تعالى : ( ^ أفلا تذكرون ) يعني : أفلا تتعظون ؟ { < هود : ( 25 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . . > >
قوله : ( ^ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ) قرئ بقراءتين ؛ بالنصب والخفض ؛ فمعنى النصب : بأني لكم نذير مبين . < < هود : ( 26 ) أن لا تعبدوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا تعبدوا إلا الله ) معناه : آمركم ألا تعبدوا إلا الله ، والعبادة : التوحيد ، وإنما بدأ بالتوحيد لأنه من أهم الأمور .
وقوله : ( ^ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) أي : مؤلم ، والمؤلم : الموجع . < < هود : ( 27 ) فقال الملأ الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ) الملأ هم الأشراف والرؤساء .
وقوله : ( ^ ما نراك إلا بشرا مثلنا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) والأراذل : جمع الرذل ، والرذل : الخسيس الدون . وقيل : الأراذل : الأسافل ، والرذل : السفلة ، وفي السفلة أقوال كثيرة لأهل العلم .
قال مالك بن أنس : السفلة : هو الذي يسب أصحاب النبي . وروى عن الحسن بن زياد اللؤلؤي أنه قال : السفلة : الذي لا دين له .
وعن الأصمعي أنه قال : السفلة : الذي لا يبالي ما قال وما قيل له .
وعن ابن المبارك قال : هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاة يطلبون الشهادات .
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : السفلة : هو الذي يأكل بدينه ، وسفلة السفلة هو
____________________


( ^ نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( 27 ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( 28 ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ) * * * *
الذي يسوي دنيا غيره بدينه . وفي بعض الآثار : أشقى الأشقياء من باع دينه بدنيا غيره . وقيل : إن السفلة هم أصحاب الصناعات الدنية مثل : الكناسين ، والدباغين ، والسماكين ، والحجامين ، والحاكة ، وغيرهم . وروي أن بعض العلماء ببغداد سئل عن امرأة قالت لزوجها : يا سفلة ، فقال : إن كنت سفلة فأنت طالق ، فقال له ذلك العالم : ما صناعتك ؟ فقال : سماك ، فقال : سفلة والله سفلة .
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا ، وإذا تفرقوا لم يعرفوا .
وقوله : ( ^ بادي الرأي ) قرئ بقراءتين : بالهمز ، وترك الهمز فأما بالهمز فمعناه : أول الرأي ؛ كأنهم قالوا : إنهم اتبعوك في أول الرأي ولم يتفكروا ولو تفكروا ، لم يتبعوك . وأما بادي الرأي بترك الهمز فمعناه : ظاهر الرأي . قال الزجاج : يعني : اتبعوك ظاهرا لا باطنا .
وقوله : ( ^ وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 28 ) قال يا قوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) يعني : على بيان من ربي . وقوله : ( ^ وآتاني رحمة من عنده ) الرحمة هاهنا هي النبوة والهدى . قوله ( ^ فعميت عليكم ) أي : فخفيت عليكم ؛ لأن من عمي عن الشيء فقد خفى ذلك الشيء عليه . وقرئ : ' فعميت عليكم ' معناه : فأخفيت عليكم . وقوله : ( ^ أنلزمكموها ) معناه : أنلزمكم الدعوة ( ^ وأنتم لها كارهون ) قال قتادة : لو قدر الأنبياء أن يلزموا قومهم لألزموا [ قومهم ] ؛ ولكن لم يقدروا . < < هود : ( 29 ) ويا قوم لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ) معناه : ما
____________________


( ^ ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ( 29 ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ( 30 ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( 31 ) قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من ) * * * * ثوابي إلا على الله . وقوله : ( ^ وما أنا بطارد الذين آمنوا ) فيه دليل أنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين . وقوله : ( ^ إنهم ملاقوا ربهم ) يعني : إنهم صائرون إلى ربهم فيجزي من طردهم . وقوله : ( ^ ولكني أراكم قوم تجهلون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 30 ) ويا قوم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ) معناه : من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم ( ^ أفلا تذكرون ) أي : أغلا تتعظون ؟ . < < هود : ( 31 ) ولا أقول لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) معناه : ليس عندي خزائن الله فآتي ما تطلبون . وقوله : ( ^ ولا أعلم الغيب ) يعني : لا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون . وقوله : ( ^ ولا أقول إني ملك ) هذا جواب لقولهم : ( ^ ما نراك إلا بشرا مثلنا ) . وقوله : ( ^ ولا أقول للذين تزدري أعينكم ) تزدري أي : تحتقر وتستخس ، هذا جواب لقولهم : ( ^ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) .
وقوله ( ^ لن يؤتيهم الله خيرا ) أي : لن يؤتيهم أجرا ( ^ الله أعلم بما في أنفسهم ) . [ يعني : في صدورهم ، في أن يأتيهم الله خيرا ]
وقوله : ( ^ إني إذا لمن الظالمين ) يعني : إني إذا لمن الظالمين لو قلت هذا أو طردتهم . < < هود : ( 32 ) قالوا يا نوح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) روي عن ابن عباس أنه قرأ : ' فأكثرت جدالنا ' بالفتح ؛ والمجادلة خصومة على وجه المبالغة ، وأصل الجدل : هو الفتل ، والعرب تسمى الصقر : الأجدل ؛ لشدته في الجوارح .
والفرق بين الحجاج والمجادلة : أن المطلوب من الحجاج ظهور الحق في المطلوب ، ومن المجادلة هو رجوع الخصم إلى قوله .
____________________


( ^ الصادقين ( 32 ) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ( 33 ) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ( 34 ) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ( 35 ) ) * * * *
والفرق بين المراء والمجادلة : أن المرء مذموم ؛ لأنه خصومة بعد ظهور الحق ، والجدال غير مذموم ، اللهم إلا أن يبالغ فيه من غير قصد طلب الحق .
وقوله تعالى : ( ^ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) هذا دليل على أنه كان وعدهم العذاب إن لم يؤمنوا . < < هود : ( 33 ) قال إنما يأتيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ) يعني : بالعذاب . وقوله : ( ^ وما أنتم بمعجزين ) أي : بفائتين ولا هاربين . < < هود : ( 34 ) ولا ينفعكم نصحي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا ينفعكم نصحي ) والنصح : إخلاص العمل عن الفساد . وقيل : إنه بيان موضع الغي ليجتنب ، وبيان موضع الرشد ليطلب . وقوله : ( ^ إن أردت أن أنصح لكم ) أراد موافقة لأمر الله . وقوله : ( ^ إن كان الله يريد أن يغويكم ) أكثر المفسرين على أن معناه : يضلكم . وقيل : يخلق الغي في قلوبكم ، والغي ضد الرشد . وذكر محمد بن جرير الطبري أن معنى قوله : ( ^ يغويكم ) : يهلككم . ولم يرض ابن الأنباري هذا من حيث اللغة ، وقال : لا يستقيم في اللغة أن يذكر الإغواء بمعنى الإهلاك . وقال بعضهم : يخيبكم من رحمته .
وقوله : ( ^ هو ربكم وإليه ترجعون ) ظاهر المعنى ، وفي الآية رد على القدرية . < < هود : ( 35 ) أم يقولون افتراه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يقولون افتراه ) بل يقولون : افتراه أي : اختلقه . وقوله : ( ^ قل إن افتريته فعلي إجرامي ) قرئ في الشاذ : ' قعلي أجرامي ' بالفتح ، والأجرام : جمع الجرم ، والإجرام : هو كسب الذنب ، ومعنى الآية : فعلي وبال ذنبي وجرمي . وقوله : ( ^ وأنا برئ مما تجرمون ) يعني : أنا برئ مما تكتسبون من الذنب . < < هود : ( 36 ) وأوحي إلى نوح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوحى إلى نوح ) روى الضحاك عن ابن عباس : أن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى [ يسقط ] ، فيلقونه في لبد ويلقونه في بيته ويظنون أنه قد
____________________


( ^ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( 36 ) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( 37 ) ) * * * *
مات ، فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ؛ فروي أن شيخا جاء يتوكأ على عصا ومعه ابنه فقال : يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون ، فقال : يا ابة ، أمكني من العصا ، فدفع إليه العصا ، فضرب نوحا على رأسه وشجمة شجة منكرة حتى سالت الدماء منه ، وهو يدعوهم إلى الإيمان ، فأنزل الله تعالى : ( ^ أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) فحينئذ استجار بالدعاء وقال : ( ^ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) . وقوله : ( ^ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) قال مجاهد وقتادة : فلا تحزن . قال أهل اللغة : الابتئاس : حزن مع استكانة ، قال الشاعر :
( ما يقسم الله فاقبل غير مبتئس ** منه واقعد كريما ناعم البالي ) < < هود : ( 37 ) واصنع الفلك بأعيننا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واصنع الفلك بأعيننا ) عن ابن عباس قال : بمرأى منا .
وعن الضحاك : بمنظر منا . وقيل : برؤيتنا وحفظنا . وفي القصة : أن جبريل - عليه السلام - أتى نوحا - عليه السلام - فقال : إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك . قال : كيف أصنع ولست بنجار ؟ ! فقال : إن ربك يقول : اصنع الفلك فأنت بعيني . فأخذ القدوم وجعل يصنع الفلك فلا يخطيء موضعا .
وقوله : ( ^ ووحينا ) أي : وأمرنا . وقوله : ( ^ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) فيه قولان :
أحدهما : ولا تخاطبني في إمهال الكفار ، فإني قد حكمت بإغراقهم .
والثاني : لا تخاطبني في ابنك ؛ فإنه هالك مع القوم . < < هود : ( 38 ) ويصنع الفلك وكلما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويصنع الفلك ) روي عن زيد بن أسلم أنه قال : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطع ، ومكث مائة سنة يعمل الفلك . وعن كعب الأحبار أنه قال : إن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة . وروي عن سلمان الفارسي : أن نوحا
____________________


( ^ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( 38 ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب ) * * * * عمل السفينة في أربعمائة سنة . ذكر في بعض التفاسير ، والمعروف الأول .
وقوله : ( ^ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ) قال أهل التفسير : كانوا إذا مروا عليه قالوا : إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجارا .
وروي أنهم كانوا يقولون له : يا نوح ، ما تصنع ؟ فيقول : أصنع بيتا يمشي على الماء ، فيضحكون ويتعجبون منه .
وفي بعض التفاسير عن ابن عباس : أنهم لم يكونوا رأوا بحرا قط ولا سفينة ، وإنما البحار الآن من بقايا الطوفان .
وقوله : ( ^ قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) فإن قيل : كيف يجوز أن يسخر نبي من الأنبياء من قومه ؟
الجواب : إن هذا على وجه ازدواج الكلام ، ومعناه : إن تستجهلوني فإني أستجهلكم إذا نزل العذاب . وقيل معناه : إن تسخروا مني فسترون عاقبة سخريتكم . < < هود : ( 39 ) فسوف تعلمون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ) هذا متصل بقوله : ( ^ فسوف تعلمون ) ومعناه : فسوف تعلمون أينا ( ^ يأتيه عذاب يخزيه ) وقيل : فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه ، هذا ومعنى قوله : ' يخزيه ' : يهلكه ، وقيل : يذله . وقوله ( ^ ويحل عليه عذاب مقيم ) معناه : ينزل عليه عذاب دائم ، وهو الغرق . < < هود : ( 40 ) حتى إذا جاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) اختلفوا في التنور على أقوال : الأكثرون على أنه تنور الخابزة ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وجماعة .
وعن عكرمة قال : هو وجه الأرض . وحكي هذا عن ابن عباس أيضا . وقالوا : كأن الله تعالى جعل بينه وبين نوح علامة ، وقال : إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة .
____________________


( ^ مقيم ( 39 ) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ) * * * *
والقول الثالث : ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : ' وفار التنور ' يعني : انفجر الصبح ؛ وهو من قولهم : نور الصبح تنويرا . وقال بعضهم : التنور هاهنا : تنور من حجارة كانت حواء تخبز فيه فورثه نوح ، وقال الله تعالى لنوح : إذا فار الماء من آخر موضع في دارك فهو العلامة ، واسم التنور اسم وافقت العربية فيه العجمية .
واختلفوا في موضع التنور :
روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : كان بالكوفة ، وأشار إلى باب كندة للمسجد ، ومثله عن الشعبي أن التنور فار من ناحية الجانب الأيمن من مسجد الكوفة . وحكي أن رجلا جاء إلى علي - رضي الله عنه - وقال : يا أمير المؤمنين ، إني اشتريت راحلة وأعددت زادا لأذهب وأصلي في مسجد بيت المقدس ، فقال : بع راحلتك ، وكل زادك ، وصل في هذا المسجد - يعني : مسجد الكوفة - ؛ فإنه صلى فيه سبعون نبيا ، ومنه فار التنور .
وقال بعضهم : كان التنور بالشام . وقال بعضهم كان بأرض الهند .
وقال بعضهم : التنور عين بالجزيرة تسمى عين الوردة .
وقوله : ( ^ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ' فيها ' ينصرف إلى الفلك ، واختلفوا في قدر الفلك :
روي عن الحسن البصري أنه قال : كان طول السفينة ألفا ومائتين ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع . والمعروف أن طولها كان ثلثمائة ذراع ، وعرضها كان ( خمسين ) ذراعا ، وارتفاعها إلى السماء كان ثلاثين ذراعا ، وقد قيل غير هذا ، والله أعلم .
قال قتادة : وكان بابها في عرضها . قالوا : وكانت ثلاث طبقات : الطبقة العليا للطير ، والطبقة السفلى للسباع والوحوش ، والوسطى للنساء والرجال ، والحاجز بين النساء والرجال جسد آدم ؛ فإنه كان حمله مع نفسه في السفينة .
____________________


( ^ إلا من سبق عليه القول ومن آمن معه إلا قليل ( 40 ) وقال اركبوا فيها بسم الله ) * * * *
وقوله : ( ^ من كل زوجين اثنين ) الزوج كل واحد لا يستغني عن مثله ، يقال : زوج خف ، وزوج نعل ، والمراد من الزوجين هاهنا : الذكر والأنثى ، ومعناه : من كل ذكر وأنثى اثنين .
وفي القصة : أن نوحا - عليه السلام - قال : يا رب ، كيف أحمل من كل زوجين اثنين ؟ فحشر الله تعالى السباع والطير إليه ، فجعل يضرب بيديه في كل جنس ، فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيحملها في السفينة . وذكر وهب بن منبه أن الناس شكوا الفأر إلى نوح في السفينة ، فأمره الله تعالى أن يمسح جبهة الأسد ، فخرج من منخريه سنوران فأكلا الفأر ، وشكوا إليه أيضا كثرة العذرة فأمره أن يمسح على مؤخر الفيل ، فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة .
وقوله تعالى : ( ^ وأهلك ) معناه : واحمل أهلك ( ^ إلا من سبق عليه القول ) يعني : ابنه وامرأته . وقوله : ( ^ ومن آمن ) معناه : وأحمل من آمن .
وقوله : ( ^ وما آمن معه إلا قليل ) اختلفوا في عددهم ، روي عن ابن عباس أنه قال : كانوا ثمانين نفرا . وعن بعضهم : كانوا اثنين وسبعين نفرا . وعن الأعمش قال : كانوا سبعة نفر : ثلاثة بنين لنوح وهم : سام ، وحام ، ويافث وثلاث كنائنهم - يعني : نساؤهم - ، ونوح . وقال قتادة : كانوا ثمانية نفرا . < < هود : ( 41 ) وقال اركبوا فيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها ) بفتح الميمين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي : ' مجريها ومرسيها ' بالرفع .
أما معنى قوله : ( ^ مجريها ومرسيها ) يعني : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، ومعنى مجريها ومرسيها بالنصب يعني : بسم الله جريها ورسوها . وقال بعضهم : كان إذا قال نوح : بسم الله وأراد الجري جرت ، وإذا قال : بسم الله وأراد الرسو رست .
وأما مدة لبث نوح في السفينة : قالوا : استقلت السفينة على وجه الماء لعشر خلون من رجب ، وجرت مائة وخمسين يوما ، وأرست لعشر خلون من ذي الحجة ، وهبطوا
____________________


( ^ مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ( 41 ) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ( 42 ) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج ) * * * * يوم عاشوراء إلى الأرض ، فصام ذلك اليوم وأمر القوم بصومه .
وفي القصص : أن السفينة طافت جميع الدنيا ، وحين وصلت إلى الكعبة طافت بها أسبوعا ، وكانت الكعبة قد رفعت وبقي الموضع .
وقوله : ( ^ إن ربي لغفور رحيم ) معناه ظاهر . < < هود : ( 42 ) وهي تجري بهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهي تجري بهم في موج كالجبال ) معنى الموج : قطعة من البحر ترتفع عند شدة الريح .
وقوله : ( ^ ونادى نوح ابنه وكان في معزل ) قيل : في معزل من السفينة ، وقيل : في معزل من قومه .
وقوله : ( ^ يا بني اركب معنا ) قرىء بقراءتين : ' يا بني ' و ' يابني ' ، ومعناهما واحد . وقوله : ( ^ ولا تكن مع الكافرين ) أي : من الكافرين ، معناه ظاهر .
واختلفوا في أنه هل كان ابنه من صلبه أولا ؟
فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وجماعة أنهم قالوا : كان ابنه من صلبه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بغت امرأة نبي قط . وكان عكرمة بحلف أنه كان ابن نوح لصلبه . وأما الحسن ومجاهد : فإنهما قالا : كان ابن امرأته ، ولم يكن ابنه ، واستدلا بقوله سبحانه وتعالى ( ^ فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قالا : كان يظن أنه ابنه ولم يكن ابنه . والأول هو الأصح . وقيل : إن اسمه كان كنعان . وقيل : إن اسمه كان ' يام ' . < < هود : ( 43 ) قال سآوي إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) يعني : ألتجىء إلى الجبل يمنعني من الغرق . ف ( ^ قال ) له نوح : ( ^ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم )
____________________


( ^ فكان من المغرقين ( 43 ) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ( 44 ) ونادى نوح ربه فقال رب ) * * * * ففيه قولان :
أحدهما : أن العاصم بمعنى المعصوم ، ومعناه : لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحم .
والقول الثاني : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا الله .
قوله تعالى : ( ^ إلا من رحم ) هو الله تعالى . وقوله ( ^ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) أي : صار من المغرقين .
وفي القصة : أن الماء علا على رءوس الجبال بقدر أربعين ذراعا . وقيل : دونه ، والله أعلم . < < هود : ( 44 ) وقيل يا أرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ) معناه : اشربي ماءك ، ويقال : ابلعي أي : غيبي ماءك في جوفك . وقوله : ( ^ ويا سماء أقلعي ) أي : أمسكي . وقوله : ( ^ وغيض الماء وقضى الأمر ) معناه : ونقص الماء ونضب . وقوله : ( ^ وقضي الأمر ) أي : فرغ من الأمر ، وهو هلاك القوم . وقوله : ( ^ واستوت على الجودى ) معناه : واستقرت على الجودى ، قيل : إنه جبل بناحية آمد . وقال الفراء : جبل بناحية نصيبين . وقوله : ( ^ وقيل بعدا للقوم الظالمين ) أي : هلاكا للقوم الظالمين .
وفي مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ' وغيض الماء واستوت على الجودي وقضي الأمر ' .
وروي أن نوحا - صلوات الله عليه - بعث بالغراب ليأتيه بخبر الأرض ، فوقع على جيفة ولم يرجع ، فبعث بالحمامة فجاءت بورق زيتونة في منقارها ولطخت رجليها بالطين ؛ ليعلم نوح أن الماء قد نضب ، فأعطيت الطوق [ وخضاب ] الرجلين من ذلك الوقت .
وهذه الآية تعد من فصيحات القرآن ، وحكي أنها قرئت عند أعرابي فقال : هذا
____________________


( ^ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ( 45 ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من ) * * * * كلام قادر . < < هود : ( 45 ) ونادى نوح ربه . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) يعني : أنت وعدتني أن تنجي أهلي وأنت أحكم الحاكمين يعني : وأنت أحكم الحاكمين بالعدل . < < هود : ( 46 ) قال يا نوح . . . . . > >
قال الله تعالى : ( ^ يا نوح إنه ليس من أهلك ) معناه : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم . وعلى قول الحسن ، ومجاهد يعني : ليس بابنك .
وقوله : ( ^ إنه عمل غير صالح ) معناه : إنه ذو عمل غير صالح .
والقول الثاني : أن سؤالك إياي إنجاءه ؛ عمل غير صالح .
وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه - ' إنه عمل غير صالح ' .
( ^ فلا تسألن ما ليس لك به علم ) وهذا يؤيد المعنى الثاني . وقرىء : ' إنه عمل غير صالح ' ومعناه : إن ابنك عمل غير صالح .
وقوله تعالى : ( ^ فلا تسألن ما ليس لك به علم ) فيه قولان :
أحدهما : أن نوحا كان يظن أنه مسلم وهو يبطن الكفر من أبيه ، فهذا معنى قوله : ( ^ لا تسألن ما ليس لك به علم )
والثاني : معناه : أنه ليس بابن لك على ما ذكرنا .
وقوله : ( ^ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) معناه : إني أحذرك أن تكون من الآثمين ، وذنب المؤمن جهل ، وذنب الكافر كفر .
والقول الثاني : ( ^ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) - يعني : أن تدعو بهلاك الكفار ثم تطلب نجاة كافر .
____________________


( ^ الجاهلين ( 46 ) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( 47 ) قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ( 48 ) تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ( 49 ) وإلى عاد أخاهم هودا ) * * * * < < هود : ( 47 ) قال رب إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال ) أي : قال نوح : ( ^ رب إني أعوذ بك أن أسألك ) . . .
غير أني أمتنع بك أن أسألك ( ^ ما ليس لي به علم ) ومعناه : سؤال العصمة .
وقوله : ( ^ وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 48 ) قيل يا نوح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قيل يا نوح اهبط بسلام منا ) معناه : انزل بسلامة لك من قبلنا .
وقوله : ( ^ وبركات عليك ) البركة : ثبوت الخير ، ومنه بروك البعير . وقيل : إن البركة هاهنا هو أن الله سبحانه وتعالى جعله آدم الأصغر ، فأهلك سائر من معه من غير نسل ، وجعل النسل من ذريته إلى قيام الساعة . وقوله : ( ^ وعلى أمم ممن معك ) معناه : على ذرية أمم ممن معك . قال محمد بن كعب القرظي : دخل فيه كل مؤمن إلى قيام الساعة كان في صلب نوح . وقوله ( ^ وأمم سنمتعهم ) ابتداء كلام ، ومعناه : وأمم سنمتعهم وهم الكفار . وقوله ( ^ ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 49 ) تلك من أنباء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ) أي : نلقيها إليك . قوله : ( ^ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) يعني : من قبل انزال القرآن . قوله : ( ^ فاصبر إن العاقبة للمتقين ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 50 ) وإلى عاد أخاهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإلى عاد أخاهم هودا ) عاد قوم كانوا بالأحقاف ، وهي رمال بين اليمن والشام . وقيل : إنهم كانوا بنفس اليمن ، وكانوا أعطوا زيادة في الجسم والقوة على سائر الخلق . وقوله : ( ^ أخاهم ) يعني : أخاهم في النسب لا في الدين ، ومعنى الآية : وأرسلنا إلى عاد أخاهم وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا .
____________________


( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ( 50 ) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ( 51 ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( 52 ) قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ) * * * *
قوله : ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ) أي : وحدوا الله . قوله : ( ^ مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ) والافتراء : الكذب ، وكان كذبهم على الله تعالى . < < هود : ( 51 ) يا قوم لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ) أي : ثوابا ، يعني : لا أسألكم على الإبلاغ أجرا . وقوله : ( ^ إن أجري إلا على الذي فطرني ) معناه : إن ثوابي إلا على الذي فطرني ، أي : خلقني ( ^ أفلا تعقلون ) ظاهر [ المعنى ] . < < هود : ( 52 ) ويا قوم استغفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) قدم الاستغفارعلى التوبة لما بينا من المعنى . وقوله : ( ^ يرسل السماء عليكم مدرارا ) معناه : يرسل السماء عليكم مدرارا بالمطر مرة بعد أخرى في أوقات الحاجة ، والمدرار على طريق المبالغة ، يقال : امرأة معطار مذكار . وقوله : ( ^ ويزدكم قوة إلى قوتكم ) روي أن الله تعالى حبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وأعقم أرحام الأمهات فلم يلدن ، فمعنى قوله : ( ^ يزدكم قوة إلى قوتكم ) يعني : يرسل عليكم المطر فتزدادون مالا ، ونعيد أرحام الأمهات إلى ما كان فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد . وقيل : ' ويزدكم قوة إلى قوتكم ' أي : شدة إلى شدتكم . وقيل : يزدكم قوة في دينكم إلى قوتكم في أبدانكم . وقوله : ( ^ ولا تتولوا مجرمين ) أي : ولا تعرضوا . < < هود : ( 53 ) قالوا يا هود . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ) أي : بحجة واضحة . وقوله : ( ^ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) أي : بسبب قولك : ( ^ وما نحن لك بمؤمنين ) أي : بمصدقين . < < هود : ( 54 - 55 ) إن نقول إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن نقول إلا اعتراك ) معناه : إلا أصابك ، قال الشاعر :
( أتيتك عاريا خلقا ثيابي ** على خوف تظن بي الظنونا )
____________________


( ( 53 ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( 54 ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( 55 ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( 56 ) فإن ) * * * *
والعاري هاهنا هو السائل ؛ سمي عاريا لأنه يطلب الإصابة .
وقوله : ( ^ بعض آلهتنا بسوء ) أي : بلمم وخبل ، كأنهم قالوا : إنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل واللمم . وقوله : ( ^ قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) فإن قيل : كيف قال للمشركين : ( ^ واشهدوا ) ولا شهادة لهم ؟ قلنا : هذا مذكور على طريق المبالغة في الحجة ، لا على طريق إثبات الشهادة لهم .
وقوله : ( ^ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ) الكيد : احتيال بشر . وهذا القول معجزة لهود صلوات الله عليه فإنه أمرهم أن يحتالوا بكل حيلة لإيصال مكروه إليه ، ومنعهم الله تعالى عن ذلك فلم يقدروا عليه ، وهذا مثل قول نوح في سورة يونس : ( ^ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) وقد بينا تفسيره . < < هود : ( 56 ) إني توكلت على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إني توكلت على الله ربي وربكم ) معناه : اعتمدت على الله ربي وربكم . وقوله : ( ^ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) معناه : ما من دابة إلا وهي في قبضته وتنالها قدرته ، وخص الناصية بالذكر ؛ لأن الإذلال والإقماء في أخذ الناصية .
وقوله : ( ^ إن ربي على صراط مستقيم ) فيه أقوال :
أحدها : أن معناه : إن ربي يعمل بالعدل ، وإن كان قادرا على كل شيء ، فلا يعمل إلا بالإحسان والعدل .
والثاني : ( ^ إن ربي على صراط مستقيم ) معناه : إن دين ربي على صراط مستقيم .
والثالث : قوله ( ^ إن ربي على صراط مستقيم ) هو في معنى قوله : ( ^ إن ربك لبالمرصاد ) يعني : إنه على طريق الخلق أجمع .
____________________


( ^ تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( 57 ) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ( 58 ) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ( 59 ) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا ) * * * * < < هود : ( 57 ) فإن تولوا فقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ) معناه : فإن أعرضوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم . وقوله : ( ^ ويستخلف ربي قوما غيركم ) معناه : إن أعرضتم يهلككم ويستخلف قوما غيركم هم أطوع لله منكم . وقوله ( ^ ولا تضرونه شيئا ) يعني : ولا تنقصونه شيئا . وقوله : ( ^ إن ربي على كل شيء حفيظ ) أي : حافظ لأمور خلقه على ما دبر وقدر . < < هود : ( 58 ) ولما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه ) الآية . قوله : ( ^ أمرنا ) أي : عذابنا ، ( ^ نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ) أي : بما هديناهم وبيناهم طريق الهدى حتى آمنوا . وقوله : ( ^ ونجيناهم من عذاب غليظ ) العذاب الغليظ : هو العذاب الذي أهلك به عادا وقومه وهو الريح العقيم ، فكانت الريح تدخل في مناخرهم وأفواههم ، وتخرج من أدبارهم فتقطعهم تقطيعا أي : قطعة قطعة . < < هود : ( 59 ) وتلك عاد جحدوا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ) معناه : أنكروا آيات ربهم . وقوله : ( ^ وعصوا رسله ) أي : بالتكذيب . وقوله : ( ^ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) قيل : الجبار هو الذي يقتل على الغضب ، والعنيد هم هو المعاند . قال الشاعر :
( إني لشيخ لا أطيق العندا ** ولا أطيق البكرات الشردا ) < < هود : ( 60 ) وأتبعوا في هذه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنه ) اللعنة : هي الإبعاد عن الرحمة . قال أهل العلم : ولا يجوز لعن البهائم ؛ لأنها غير مستحقة للبعد من رحمة الله . وقد ثبت ' أن رجلا لعن بعيره في سفره فأمره النبي أن ينزل عنه ويخليه وقال : لا يصحبنا ملعون ' . وهذا على طريق الزجر والردع للاعن . وقوله : ( ^ ويوم القيامة ألا إن عادا
____________________


( ^ كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( 60 ) وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا ) * * * * كفروا ربهم ) أي : كفروا بربهم . وقوله : ( ^ ألا بعدا لعاد قوم هود ) معناه : ألا سحقا وخزيا وهلاكا لعاد قوم هود . < < هود : ( 61 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإلى ثمود أخاهم صالحا ) معناه : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا ، وقوله : ( ^ أخاهم ) على ما قدمنا ، وثمود قوم كانوا بحجر بين الحجاز والشام .
وقوله : ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ) أي : وحدوا الله ( ^ مالكم من إله غيره ) أي : مالكم من معبود غيره .
وقوله : ( ^ هو أنشأكم من الأرض ) فيه قولان :
أحدهما أنشأكم في الأرض ، والآخر وهو : أنه أنشأكم من الأرض ؛ لأنه خلقهم من آدم ، وخلق آدم من الأرض .
وقوله ( ^ واستعمركم فيها ) ] فيه [ قولان :
أحدهما : أطال عمركم فيها وكان الواحد منهم يعيش من ثلثمائة سنه إلى ألف سنة ، وهكذا قوم عاد .
والقول الثاني : جعلكم عمارا فيها ، ببناء المساكن وغرس الأشجار . ذكره الفراء والزجاج .
وقوله : ( ^ فاستغفروه ثم توبوا إليه ) قد بينا المعنى . وقوله : ( ^ إن ربي قريب
____________________

( ^ إليه إن ربي قريب مجيب ( 61 ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( 62 ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ( 63 ) ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا ) * * * * مجيب ) قريب من المؤمنين ، مجيب لدعائهم . < < هود : ( 62 ) قالوا يا صالح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) أي : قد كنا نرجوا فيك الخير ، والآن قد يئسنا من خيرك وفلاحك . وقوله : ( ^ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وإننا لفي شك ) لفي ريب ( ^ مما تدعونا إليه مريب ) أي : مرتاب . وهذا على طريق التأكيد . < < هود : ( 63 ) قال يا قوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) أي : على حجة من ربي . وقوله تعالى : ( ^ وآتاني منه رحمة ) الرحمة هاهنا : بمعنى النبوة .
وقوله : ( ^ فمن ينصرني من الله إن عصيته ) أي : فمن يمنع مني عذاب الله إن عصيته .
وقوله : ( ^ فما تزيدونني غير تخسير ) فيه قولان :
أحدهما : إن اتبعتكم ما كنت إلا كمن يزداد خسارا وهلاكا .
والقول الثاني : فما تزيدونني غير تخسير لكم ، وحقيقته : أني أطلب منكم الرشد ، وأنتم تعطونني الخسار والهلاك ، يعني : لأنفسكم .
هذا كله جواب عن سؤال من سأل في هذه الآية : كيف قال ( ^ فما تزيدونني غير تخسير ) ولم يك صالح في خسار ؟ < < هود : ( 64 ) ويا قوم هذه . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ) روى أن قومه طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة الصماء ، وأشاروا إلى صخرة أمامهم ، قال : فدعا صالح ربه فتمخضت الصخرة وسمع لها أنين كأنين الناقة ، ثم خرجت منها ناقة كأعظم ما
____________________

( ^ تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( 64 ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( 65 ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( 66 ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) * * * * يكون من النوق ، وولدت في الحال ولدا مثالها ، فهذا معنى قوله : ( ^ هذه ناقة الله لكم آية ) .
وقوله : ( ^ فذروها تأكل في أرض الله ) أي : فدعوها تأكل في أرض الله . وقوله : ( ^ ولا تمسوها بسوء ) أي : بإهلاك . وقوله ( ^ فيأخذكم عذاب قريب ) معناه : قريب من إهلاك الناقة . < < هود : ( 65 ) فعقروها فقال تمتعوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فعقروها ) العقر ها هنا : جراحة تؤدي إلى الهلاك .
وقوله ( ^ فقال تمتعوا في داركم ) معناه : عيشوا في داركم ، والدار بمعنى الديار .
وقوله : ( ^ ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) فروي أنه قال لهم : يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام ، فتصبحون اليوم الأول ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون اليوم الثاني ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون اليوم الثالث ووجوهكم مسودة ؛ فكان كما قال ، وأتاهم العذاب اليوم الرابع . < < هود : ( 66 ) فلما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ) في بعض التفاسير : أنه آمن معه أربعة آلاف نفر . وقوله : ( ^ ومن خزي يومئذ ) معناه : ومن هلاك يومئذ . وقوله : ( ^ إن ربك هو القوي العزيز ) قد بينا معنى القوي والعزيز من قبل . < < هود : ( 67 ) وأخذ الذين ظلموا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) المعروف انه صاح بهم جبريل صيحة واحدة فهلكوا عن آخرهم ، وقال بعضهم : خلق الله تعالى صياحا في جوف بعض الحيوانات فأهلكهم ، فإن قيل : الصيحة مؤنثة ، وقد قال : ( ^ وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) ؟
والجواب عنه : أن الصيحة ها هنا بمعنى الصياح ، وهو جائز في اللغة .
____________________

( ^ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( 67 ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم إلا بعدا لثمود ( 68 ) ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن ) * * * *
وقوله : ( ^ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) أي : ميتين . ويقال : إنهم سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم ، ومنه جثم الطائر . ومنه الخبر المروي : ' نهى عن المجثمة ' . < < هود : ( 68 ) كأن لم يغنوا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ كأن لم يغنوا فيها ) معناه : كأن لم يقيموا فيها منعمين مسرورين .
وقوله : ( ^ ألا إن ثمودا كفروا ربهم ) أي : بربهم . وقوله : ( ^ ألا بعدا لثمود ) معناه كما قدمنا من قبل . < < هود : ( 69 ) ولقد جاءت رسلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) قال السدي : كانوا اثنى عشر ملكا . وقال غيره : كانوا تسعة من الأملاك .
ويقال : إنهم ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل . وقيل : جاءوا على صورة البشر .
وفي القصة : أن إبراهيم - صلوات الله عليه - كان لا يأكل إلا مع الضيف ، ومكث خمس عشرة ليلة ولم يأته ضيف ، ثم جاءه هؤلاء الملائكة . وقوله : ( ^ بالبشرى ) فيه قولان :
أحدهما : بالبشرى بإسحاق ، والآخر : بالبشرى بإهلاك قوم لوط .
وقوله : ( ^ قالوا سلاما ) معناه : قالوا سلمنا سلاما ( ^ قال سلام ) قرئ بقراءتين : إحداهما : ' سلام ' وهو المعروف ، والآخر : ' سلم ' قراءة حمزة والكسائي . أما قوله : ( ^ سلام ) معناه : جوابي سلام ، أو قولي سلام . أما قوله : ' سلم ' قيل : إن السلم والسلام بمعنى واحد ، كالحل ، والحلال ، والحرم والحرام . ويقال : إن ' السلم ' بمعنى
____________________

( ^ جاء بعجل حنيذ ( 69 ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( 70 ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ) * * * * الصلح ، فمعناه : أنا أطلب السلامة منكم .
وقوله : ( ^ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) فهذا دليل على ان الضيف ينبغي أن يعجل له [ بشيء ] يأكله ، وهو سنة إبراهيم - صلوات الله عليه - وقوله : ( ^ أن جاء بعجل حنيذ ) العجل : ولد البقرة ، والحنيذ : هو المحنوذ ، وهو المشوي على الحجارة المحماة يخد له في الأرض خدا فيشوى فيه . وروي أنه كان سمينا يسيل دسما . < < هود : ( 70 ) فلما رأى أيديهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ) أي : لما رآهم لا يأكلون ؛ فإن الملائكة لا تأكل . قوله : ( ^ نكرهم ) أي : أنكرهم ، قال الشاعر :
( فأنكرتني وما كان الذي نكرت ** من الحوادث إلا الشيب والصلعا )
وقوله : ( ^ وأوجس منهم خيفة ) كان إبراهيم - صلوات الله عليه - نازلا على طرف من الناس ، فلما دخل عليه هؤلاء القوم ولم يأكلوا خاف انهم جاءوا لبلية وقصد مكروه ، وعادة العرب أن القوم إذا أكلوا من الطعام أمنوا منهم ، وإذا لم يأكلوا استشعروا خوفا ، فهذا معنى قوله : ( ^ وأوجس منهم خيفة ) وقوله : ( ^ وأوجس ) أي : فاضمر منهم خوفا . وقوله : ( ^ قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) معناه : إنا ملائكة أرسلنا ربنا إلى قوم لوط . < < هود : ( 71 ) وامرأته قائمة فضحكت . . . . . > >
وقوله : ( ^ وامرأته قائمة ) في مصحف ابن مسعود : ' وامرأته قائمة وهو قاعد ' وهي سارة بنت هاران ، فيقال : إن سارة كانت تخدمهم وإبراهيم يتحدث معهم . ويقال : إن سارة كانت قائمة وراء الستر .
قوله : ( ^ فضحكت ) الأكثرون على أن الضحك هاهنا هو الضحك المعروف ، وقال مجاهد وعكرمة : فضحكت ، أي : حاضت . يقال : ضحكت الأرنب ، إذا حاضت .
____________________

( ^ وراء إسحاق يعقوب ( 71 ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا ) * * * *
وأما الضحك المعروف فاختلف القول في أنها لم ضحكت ؟
فالأكثرون على أنها ضحكت سرورا بما زال من الخوف عنها وعن إبراهيم . وقيل : ببشارة إسحاق . وعلى هذا القول : الآية على التقديم والتأخير ، فكأنه قال : وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت .
والقول الثالث : ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط ، وقد نزلت الملائكة بعذابهم .
وقوله ( ^ فبشرناها بإسحاق ) ظاهر المعنى . وقوله ( ^ ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي : من بعد إسحاق يعقوب . قال أبو عبيدة : الوراء : ولد الولد .
وقوله ( ^ يعقوب ) قرئ بقراءتين : ' يعقوب ' و ' يعقوب ' بالرفع والنصب أما الرفع معناه : ويحدث يعقوب من بعد إسحاق . وأما النصب فمعناه : بشرناها بإسحاق وبشرناها بيعقوب . وأنشد الشاعر في الوراء :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب )
وهذا شعر الأعشى . < < هود : ( 72 ) قالت يا ويلتى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت يا ويلتي أألد وانا عجوز وهذا بعلي شيخا ) قالوا : أصل قوله : ( ^ يا ويلتي ) : يا ويلتي ؛ إلا أن ها هنا أبدل الألف عن الياء . ومعنى قوله : ( ^ يا ويلتي ) هاهنا : ا عجبا ؛ وهذه كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه ، وليس على حقيقة الدعاء بالويل .
وقوله تعالى : ( ^ أألد وأنا عجوز ) اختلفوا في سن إبراهيم وسارة في ذلك الوقت .
قال محمد بن إسحاق : كان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة ، وسن سارة تسعين سنة . وقال بعضهم : كان سن إبراهيم مائة سنة ، وسن سارة تسعة وتسعين سنة . وقيل غير هذا ، والله أعلم .
____________________

( ^ لشيء عجيب ( 72 ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( 73 ) فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم ) * * * *
قوله تعالى ( ^ وهذا بعلي ) يعني : هذا زوجي ( ^ شيخا ) نصب على القطع ، وقيل : على الحال .
وفي قراءة ابن مسعود : ' وهذا بعلي شيخ ' على الخبر . قوله تعالى ( ^ إن هذا لشيء عجيب ) يعني : إن هذا لشيء مستعجب بخلاف العادة . < < هود : ( 73 ) قالوا أتعجبين من . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا أتعجبين من أمر الله ) معناه : لا تعجبي من أمر الله ؛ فإن الله إذا أراد شيئا كان .
وقوله تعالى : ( ^ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) فيه معنيان :
أحدهما : أن هذا على معنى الدعاء من الملائكة .
والآخر : أنه على معنى الخبر ، و ( ^ رحمة الله ) أي : نعمة الله ( ^ وبركاته ) والبركات : جمع البركة ، والبركة : ثبوت الخير . وقيل : وبركاته : سعاداته .
وقوله : ( ^ عليكم أهل البيت ) هذا دليل على أن الأزواج يجوز أن يسمين أهل البيت .
وزعمت الشيعة في قوله تعالى : ( ^ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) أن الأزواج لا يدخلن في هذا . وهذه الآية دليل على أنهن يدخلن فيها .
قوله : ( ^ إنه حميد مجيد ) الحميد : هو المحمود في أفعاله ، والمجيد : هو الكريم ، وأصل المجد هو الرفعة والشرف . < < هود : ( 74 ) فلما ذهب عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) قال قتادة : الروع : الفزع ؛ وأما الروع بالرفع هو النفس ، ومنه قوله : ' ألقى روح القدس في روعي : ( أن لن ) تموت
____________________

( ^ لوط ( 74 ) إن إبراهيم لحليم أواه منيب ( 75 ) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء ) * * * * نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ' . وقوله : ( ^ وجاءته البشرى ) قيل : إن البشرى بإسحاق ويعقوب . وقيل : إنها بإهلاك قوم لوط . وقوله : ( ^ يجادلنا ) معناه : جعل إبراهيم يجادلنا ، والمجادلة هاهنا كما قال في سور الذاريات والحجر : ( ^ قال فما خطبكم أيها المرسلون ) فإن قيل : كيف يجوز أن يجادل إبراهيم ربه في شيء قضاه وأمر به ؟
الجواب : أن هذه المجادلة كانت مع اللائكة لا مع الرب ، وإنما قال : ( ^ يجادلنا ) على توسع الكلام . وفي التفسير : أن مجادلته كانت أنه قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائن قوم لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا . قال : أفرأيتم إن كان فيهم أربعون أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ، فما زال ينقص عشرة عشرة حتى بلغ خمسة نفر وكان عند إبراهيم أن امرأة لوط مؤمنة . وكانت هي الخامسة ، ولم يعلم أنها كافرة ، فما بلغ عدد المؤمنين خمسة ( ^ في قوم لوط ) . < < هود : ( 75 ) إن إبراهيم لحليم . . . . . > >
وقوله تعالى ( ^ إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) قد بينا من قبل . وروي عن بكر بن عبد الله المزني قال : المنيب هو الذي يكون قلبه مع الله تعالى . وحقيقة الإنابة : هي الرجوع ، يقال : ناب وآب وأناب ، إذا رجع . < < هود : ( 76 ) يا إبراهيم أعرض . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ يا إبراهيم أعرض عن هذا ) معنى الآية : أن الملائكة قالوا : يا إبراهيم أعرض عن المجادلة .
قوله : ( ^ إنه قد جاء أمر ربك ) أي : قضاء ربك وحكم ربك . وقوله : ( ^ وإنهم
____________________

( ^ أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( 76 ) ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( 77 ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا ) * * * * آتيهم عذاب غير مردود ) أي : غير مصروف عنهم . < < هود : ( 77 ) ولما جاءت رسلنا . . . . . > >
قوله : ( ^ لما جاءت رسلنا لوطا ) هؤلاء الرسل هم الذين كانوا عند إبراهيم جاءوا لوطا على صورة غلمان مرد ، حسن وجوههم ، نظيف ثيابهم ، طيب [ روائحهم ] .
وفي القصة : أنهم لقوا لوطا وهو يحتطب واستضافوه ، فحمل الحطب وتبعه الملائكة ، فمر معهم على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم ، فقال لوط لهم : إن قومي شر خلق الله ، ثم إنه مر معهم على قوم آخرين منهم ، فغمزوا - أيضا - فيما بينهم ، فقال لوط - ثانيا - : إن قومي شر خلق الله تعالى ، ثم إنه مر معهم على قوم آخرين ، فتغامزوا فيما بينهم - أيضا - فقال لوط - ثالثا - : إن قومي شر خلق الله ، وكان الله تعالى قال لجبريل : لا تهلكهم حتى يشهد لوط عليهم ثلاث مرات ، فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة الذين معه : اشهدوا .
وقوله : ( ^ سيء بهم ) معناه : ساءه مجيئهم . وقوله : ( ^ وضاق بهم ذرعا ) يقال : ضاق ذرعاً فلان بكذا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخلاص عنه .
ومعنى الآية هاهنا : أنه ضاق ذرعا في حفظهم ومنع القول منهم .
قوله تعالى ( ^ وقال هذا يوم عصيب ) أي : شديد . قال الشاعر :
( فإنك إن لم ترض بكر بن وائل ** يكن لك يوم بالعراق عصيب )
أي : شديد . وقال آخر :
( يوم عصيب يعصب الأبطالا ** عصب القوى السلم الطوالا ) < < هود : ( 78 ) وجاءه قومه يهرعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءه قومه يهرعون إليه ) الآية ، يهرعون إليه معناه : يسرعون ويهرولون ؛ وقد بينا أن لوطا قد مر معهم بهم . وفي رواية أخرى : أن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط - عليه السلام - وكان لوط في داره ، فذهبت امرأته السوء الكافرة إلى قومه وأخبرتهم مجيء هؤلاء فلما سمعوا جاءوا لقصد الفاحشة .
____________________

( ^ يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( 78 ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما ) * * * *
وقوله : ( ^ ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) يعني : الفواحش ؛ وهي : إتيان الرجال .
وقوله : ( ^ قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) فيه قولان :
أحدهما : أنه عرض عليهم بنات نفسه تزويجا ونكاحا ؛ فإن قال قائل : كيف يجوز للمشرك أن يتزوج بمسلمة ؟
والجواب : أن ذلك كان جائزا في شريعتهم . ومنهم من قال : عرض عليهم بشرط الإسلام .
والقول الثاني - وهو قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما - : أنه عرض عليهم نساءهم ، وسماهن بنات نفسه ؛ لأن النبي للأمة بمنزلة الأب ؛ وفي قراءة أبي بن كعب : ' النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ' . ومنهم من قال : إنما قال هذا على طريق الدفع ، لا على طريق التحقيق ، ولم يرضوا هذا القول ؛ لأنه كان معصوما من الكذب . وقوله : ( ^ هن أطهر لكم ) معناه : أحل لكم .
قوله : ( ^ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ) معناه : خافوا الله ولا تفضحوني في أضيافي . ( ^ أليس منكم رجل رشيد ) معناه : أليس منكم رجل يأمر بالمعروف ويدفع القوم عن أضيافي . وروي عن عكرمة أنه قال : معنى قوله : ( ^ أليس منكم رجل رشيد ) معناه : أليس فيكم رجل يقول : لا إله إلا الله . < < هود : ( 79 ) قالوا لقد علمت . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ) فيه معنيان : أحدهما : ما لنا في بناتم من حق ، أي : حاجة وشهوة .
والثاني : ما لنا في بناتك من حق ، أي : من نكاح . وقوله ( ^ وإنك لتعلم ما نريد ) معناه : إنا نريد أدبار الرجال .
____________________

( ^ نريد ( 79 ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( 80 ) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه ) * * * * < < هود : ( 80 ) قال لو أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) القوة هاهنا : هي القوة في البدن ، أو القوة بالأتباع . والركن الشديد : المنعة بالعشيرة .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' رحم الله أخي لوطا ؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد ' أي : إلى الله . رواه أبو هريرة .
وعن أبي هريرة أنه قال : ما بعث الله بعد ذلك نبيا إلا في منعة من قومه . < < هود : ( 81 ) قالوا يا لوط . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) . روى أنهم جاءوا وكسروا باب لوط وقصدوا الدخول . وفي رواية أخرى : أنهم كانوا ينازعون مع لوط على الباب ، فقال جبريل : يا لوط ، افتح الباب ودعهم يدخلوا ، فلما دخلوا ضرب بجناحه وجوههم فعموا كلهم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم ) فقالوا : يا لوط ، لقد جئتنا بقوم سحرة ، سترى ما تلقى منا غدا ، وكانوا جاءوا مساء . وقوله : ( ^ لن يصلوا إليك ) معناه معلوم . وقوله : ( ^ فأسر بأهلك بقطع من الليل ) قرئ : ' فسر ' من السرى ، و ' فأسر ' من الإسراء ؛ والسرى : هو السير بالليل . وقال الشاعر :
( عند الصباح يحمد القوم السرى ** وتنجلي عني غيابات الكرى )
وقوله : ( ^ أسر ) من الإسراء ، والمعنيان واحد . وقوله : ( ^ بقطع من الليل ) أي : بآخر الليل . وقيل : إنه السحر الأول . قال الشاعر :
( ونائحة تنوح بقطع ليل ** على ميت بقارعة الصعيد )
____________________

( ^ مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( 81 ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) بالرفع ، وقرئ : ' إلا امرأتك ' بالنصب ؛ فقوله بالنصب معناه : فأسر بأهلك إلا امرأتك . ومن قرأ بالرفع معناه : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ؛ فإنها تلتفت ؛ فروي أنها لما سمعت الهدة في هلاك القوم التفتت وراءها فأصابها حجر فماتت ، وقد كان الله أمر لوطا وأهله أن لا يلتفتوا . وقوله : ( ^ إنه مصيبها ما أصابهم ) ظاهر المعنى . قوله : ( ^ إن موعدهم الصبح ) روي أن لوطا - عليه السلام - لما سمع هذا من جبريل قال : يا جبريل ، أريد أن تهلكهم الآن فقال له مجيبا : ( ^ أليس الصبح بقريب ) ؟ < < هود : ( 82 ) فلما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جاء أمرنا ) أي : عذابنا . وقوله : ( ^ جعلنا عاليها سافلها ) روي أن جبريل جعل جناحه تحت مدائ لوط ، وهي خمس مدائن ، وفيها أربعمائة ألف ، وقيل : فيها أربعة آلاف ألف - ثم رفع المدائن حتى قربت من السماء وسمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ، وروي أنه لم يكفأ لهم إناء ولا انتبه لهم نائم ، ثم قلبها وأتبعهم الله تعالى بالحجارة ، هذا معنى قوله تعالى : ( ^ جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ) .
وقوله : ( ^ من سجيل ) قال ابن عباس : سنك وكل ؛ وكلمة سجيل فارسية معربة .
وقيل : إنه كان طينا مطبوخا كالآجر .
والقول الثاني : أن السجيل هو السماء الدنيا .
والقول الثالث : أن السجيل هو السجين ؛ أبدلت النون باللام . وقيل : إن السجيل : مأخوذ من السجل ؛ وهو سجل الدلو . قال الشاعر :
( وأنا الأخضر من يعرفني ** أخضر الجلدة من بيت العرب )
____________________

( ^ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( 83 ) وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم ) * * * *
( من يساجلني يساجل ماجدا ** يملأ الدلو إلى عقد الكرب )
ومعنى السجيل في الآية : هو الإرسال ، يعني : إرسال الحجارة .
وقوله : ( ^ منضود ) معناه : يتبع بعضها بعضا . < < هود : ( 83 ) مسومة عند ربك . . . . . > >
وقوله : ( ^ مسومة ) أي : معلمة . وفي القصة : أنه كان عليها خطوط حمر في سواد .
والقول الثاني : ' مسومة ' أي : عليها أسماء القوم . وعن الحسن البصري : أنه كان عليها شبه الخواتيم .
قوله : ( ^ عند ربك ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وما هي من الظالمين ببعيد ) يعني : من ظالمي أهل مكة ببعيد .
وقد روي في بعض الآثار : أن على رأس كل ظالم حجرا معلقا في السماء ينتظر أمر الله تعالى . وهذا من الغرائب ، والله أعلم .
وفي بعض القصص : أنه كان منهم رجل في الحرم ، فبقي الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج الرجل [ وأصابه الحجر ] . وروي أن الحجر اتبع شرادهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد حتى هلكوا .
وأورد بعضهم أن الله تعالى أهلك مدائن لوط سوى زعر ، فإنه أبقاها للوط وأهله . < < هود : ( 84 ) وإلى مدين أخاهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإلى مدين أخاهم شعيبا ) قد بينا أن الأخوة هاهنا هي الأخوة في النسب لا في الدين . وقال بعضهم : إنه لم يكن بين شعيب وأهل مدين أخوة في النسب - أيضا - وكان غريبا فيهم ، وإنما أراد بالأخوة المجانسة في البشرية . والصحيح هو الأول .
____________________

( ^ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( 84 ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 85 ) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( 86 ) قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما ) * * * *
وقوله : ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ظاهر المعنى . قول : ( ^ ولا تنقصوا المكيال والميزان ) معناه : ولا تبخسوا المكيال والميزان . وكانوا مع شركهم يطففون في المكيال والميزان . وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا مر بالسوق قال : أيها الباعة ، أوفوا الكيل وأوفوا الوزن ، وقد سمعتم ما فعل الله بقوم شعيب .
وعن ابن عباس قريب من هذا .
وقوله : ( ^ إني أراكم بخير ) قال مجاهد : أي : بخصب وسعة .
وقوله : ( ^ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) أي : محيط بكم فيهلككم . < < هود : ( 85 ) ويا قوم أوفوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ) أي : بالعدل .
وقيل : تقويم لسان الميزان . وقوله : ( ^ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) أي : لا تنقصوا الناس أشياءهم . وقوله : ( ^ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . < < هود : ( 86 ) بقية الله خير . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) معناه : ما أبقى الله لكم من الحلال خير مما تأخذون بالبخس في المكيال والميزان . وقيل : بقية الله : طاعة الله . وقوله : ( ^ إن كنتم مؤمنين ) أي : إن كنتم مؤمنين أن ما عندكم من رزق الله تعالى وعطائه .
قوله : ( ^ وما أنا عليكم بحفيظ ) قيل معناه : لم أؤمر بقتالكم . وقيل : ما أنا عليكم بحفيظ أي : بوكيل . < < هود : ( 87 ) قالوا يا شعيب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ) فيه قولان :
أحدهما : أدينك يأمرك ؟ ، والثاني : أقرآنك يأمرك أن نترك ( ^ ما يعبد آباؤنا أو أن
____________________

( ^ يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ( 87 ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( 88 ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم ) * * * * نفعل في أموالنا ما نشاء ) يعني : من النقصان والزيادة : وقيل : من قرض الدراهم والدنانير ، وكان قد نهاهم عن ذلك ، وزعم أنه محرم عليهم .
وقوله : ( ^ إنك لأنت الحليم الرشيد ) فيه قولان :
أحدهما : إنك لأنت الحليم الرشيد في زعمك ؛ قالوا ذلك استهزاء .
والثاني معناه : إنك لأنت السفيه الأحمق . < < هود : ( 88 ) قال يا قوم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) معناه : على بيان من ربي .
وقوله : ( ^ ورزقني منه رزقا حسنا ) معناه : رزقا حلالا . وفي القصة : أن شعيبا كان كثير المال . وقيل : الرزق الحسن هاهنا : هو النبوة .
وقوله تعالى : ( ^ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) معناه : ما أريد أن آمركم بشيء وأعمل خلافه .
وقوله : ( ^ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وما توفيقي إلا بالله ) دليل على أن الطاعة لا يؤتى بها إلا بتوفيق الله ، والتوفيق من الله : هو التسهيل والتيسير والمعونة .
قوله تعالى : ( ^ عليه توكلت ) أي : عليه اعتمدت .
وقوله : ( ^ وإليه أنيب ) معناه : إليه أرجع . < < هود : ( 89 ) ويا قوم لا . . . . . > >
قوله : ( ^ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي ) معناه : لا يكسبنكم ولا يحملنكم شقاقي أي : خلافي على فعل ( ^ أن يصيبكم ) فيصيبكم ( ^ مثل ما أصاب قوم نوح ) من
____________________

( ^ هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( 89 ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( 90 ) قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ) * * * * الغرق ( ^ أو قوم هود ) من الريح ( ^ أو قوم صالح ) من الصيحة الصعقة . وقوله ( ^ وما قوم لوط منكم ببعيد ) قيل : إنهم كانوا جيران قوم لوط في الديار ، وكانت مدائنهم قريبا بعضها من بعض . < < هود : ( 90 ) واستغفروا ربكم ثم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) قد بينا المعنى . وقوله : ( ^ إن ربي رحيم ودود ) في الودود معنيان :
أحدهما : أن الودود هو المحب لعباده .
والثاني : أو الودود بمعنى المودود أي : يحبه العباد لفضله وإحسانه .
وفي الخبر المعروف أن النبي قال : ' أحبوا الله بما يغذوكم به منه نعمه ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي ' .
وفي بعض الأخبار عن النبي قال : ' كان شعيب خطيب الأنبياء ' . < < هود : ( 91 ) قالوا يا شعيب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) معناه : ما نفهم كثيرا مما تقول . وقوله : ( ^ وإنا لنراك فينا ضعيفا ) في الضعيف أقوال ، أكثر المفسرين أن الضعيف هاهنا : هو ضرير بالبصر . ويقال : إنه لغة حمير .
والقول الثاني : أن الضعيف هو الضعيف في البدن .
والثالث : أنه قليل الأتباع .
____________________

( ^ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( 91 ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( 92 ) ويا قوم اعملوا على ) * * * *
وقوله : ( ^ ولولا رهطك لرجمناك ) أي : ولولا عشيرتك لرجمناك ، والرجم أقبح القتلات . وقوله : ( ^ وما أنت علينا بعزيز ) يعني : ما أنت عندنا بعزيز ، وإنما نتركك لمكان رهطك . < < هود : ( 92 ) قال يا قوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله ) معناه : أمكان رهطي عندكم أهيب وأمنع من الله تعالى ؟ وحقيقة المعنى : أنكم تركتم قتلي بمكان رهطي فأولى أن تحفظوني في الله تعالى .
وقوله : ( ^ واتخذتموه وراءكم ظهريا ) معناه : وألقيتم أمر الله تعالى وراء ظهوركم . يقال : فلان جعل كذا منه ظهريا أي : ألقاه وراء ظهره .
وقوله : ( ^ إن ربي بما تعملون محيط ) ظاهر المعنى .
وذكر الأزهري في تقدير الآية ومعناها قال : إنكم تزعمون أنكم تتركون قتلي لكرامة رهطي ، فأولى أن تكرموا أمر الله وتتبعوه ؛ وحقيقة المعنى : هو الإنكار على من اتقى الناس ولم يتق الله . قال : وقوله : ( ^ واتخذتموه وراءكم ظهريا ) تقول العرب : فلان جعل كذا بظهر إذا تركه ولم يلتفت إليه . قال الشاعر :
( تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ** بظهر فلا يعيا على جوابها ) < < هود : ( 93 ) ويا قوم اعملوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ) قيل : المكانة : هي الحالة التي يتمكن فيها المرء من الفعل ) .
ومعنى الآية : اعملوا على تمكنكم ومنزلتكم ( ^ إني عامل ) على تمكني ومنزلتي ( ^ سوف تعلمون ) من ينجو ومن يهلك .
والآية فيها تهديد ووعيد شديد ، وليس في القرآن ( ^ سوف تعلمون ) إلا في هذه الآية .
____________________

( ^ مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( 93 ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( 94 ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( 95 ) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( 96 ) إلى ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ من يأتيه عذاب يخزيه ) يذله ويفضحه ( ^ ومن هو كاذب ) فيه حذف ، وتقدير الآية : سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ومن هو كاذب يخزى أيضا .
وقوله : ( ^ وارتقبوا إني معكم رقيب ) يعني : انتظروا إني معكم منتظر . < < هود : ( 94 ) ولما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما جاء أمرنا ) معناه : لما جاء وقت عذابنا ( ^ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة ) والصيحة : الهلاك ، تقول العرب : صاح فلان في مال فلان أي : أهلكه ، قال امرؤ القيس :
( فدع عنك نهبا صيح في حجراته ** ولكن حديثا ما حديث الرواحل )
روي أن عليا - رضي الله عنه - تمثل بهذا البيت في بعض أموره .
ويقال : إن الصيحة هاهنا صيحة جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم ، فهذا معنى قوله : ( ^ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) أي : ميتين خامدين ، لا يتحركون . < < هود : ( 95 ) كأن لم يغنوا . . . . . > >
قوله : ( ^ كأن لم يغنوا فيها ) معناه : كأن لم يكونوا يقيمون فيها منعمين مسرورين .
وقوله : ( ^ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ) معناه : ألا خيبة وهلاكا لمدين كما خابت وهلكت ثمود . < < هود : ( 96 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ) معناه : بآياتنا التسع ، وسلطان مبين أي : حجة بينة ، وكل سلطان ذكر في القرآن فهو بمعنى الحجة . وقيل :
____________________

( ^ فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ( 97 ) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( 98 ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( 99 ) ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ( 100 ) وما ) * * * *
السلطان مأخوذ من السليط ، وهو الزيت الذي يستضاء به . < < هود : ( 97 ) إلى فرعون وملئه . . . . . > >
قوله : ( ^ إلى فرعون وملئه ) وملأه معلوم . قوله : ( ^ فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ) معناه : اتبعوا أمر فرعون في اتخاذه إلها وترك الإيمان بموسى ( ^ وما أمر فرعون برشيد ) أي : بمرشد إلى خير وصلاح . < < هود : ( 98 ) يقدم قومه يوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يقدم قومه يوم القيامة ) معناه : يتقدم قومه يوم القيامة ( ^ فأوردهم النار ) فأدخلهم النار . ( ^ وبئس الورد المورود ) معناه : بئس الداخل وبئس المدخل .
وفي بعض المسانيد : عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ، ثم يرفع لكل قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فيوردونهم النار ، ويبقى المؤمنون ، فيقول الله عز وعلا لهم : ماذا تنتظرون ؟ فيقولون : ننتظر ربا كنا نعبده بالغيب ، فيقول لهم : هل تعرفونه ؟ فيقولون : إن شاء عرفنا نفسه . قال : فيتجلى لهم ، فيخرون له سجدا ، فيقول الله سبحانه وتعالى : يا أهل التوحيد ، ارفعوا رءوسكم ؛ فقد أوجبت لكم الجنة ، وجعلت مكان كل واحد منكم يهوديا أو نصرانيا ' . < < هود : ( 99 ) وأتبعوا في هذه . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وأتبعوا في هذه لعنة ) معناه : في الدنيا لعنة بعذاب التفريق ( ^ ويوم القيامة ) لعنة بعذاب النار . وقوله : ( ^ بئس الرفد المرفود ) يعني : بئست اللعنة بعد اللعنة . وقال أبو عبيدة : أي : بئس العون ( المعان ) ، ومعناه هاهنا : أن اللعنة جعلت لهم في موضع المعونة . وقيل : بئس العطاء المعطي . < < هود : ( 100 ) ذلك من أنباء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك ) معناه : من أخبار القرى نقصه
____________________

( ^ ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ( 101 ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( 102 ) إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( 103 ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( 104 ) يوم ) * * * * عليك ( ^ منها قائم وحصيد ) أي : منها معمور وخراب . وقيل معناه : منها قائم أي : بقيت الحيطان ، وسقطت السقوف . ومنها حصيد : أي : انمحى أثره . < < هود : ( 101 ) وما ظلمناهم ولكن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ) قد بيناه من قبل . وقوله : ( ^ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر بك ) يعني : بالعذاب . وقوله : ( ^ وما زادوهم غير تتبيب ) أي : غي تخسير . وقيل : غير تدمير . < < هود : ( 102 ) وكذلك أخذ ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة ) وجه التشبيه أن أخذه هؤلاء في حال الظلم والشرك كأخذه أهل القرى حين كانوا في مثل حالهم من الظلم والشرك . وقوله : ( ^ إن أخذه أليم شديد ) ظاهر المعنى .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' إن الله بمهل الظالم - أو يملي الظالم - حتى إذا أخذه لم يفلته ' ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ) والخبر في ' الصحيحين ' برواية أبي موسى الأشعري . < < هود : ( 103 ) إن في ذلك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن في ذلك لآية ) معناه : لعبرة ( ^ لمن خاف عذاب الآخرة ) ظاهر المعنى ( ^ ذلك يوم مجموع له الناس ) يعني : يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين ( ^ وذلك يوم مشهود ) يعني : يشهده جميع الخلق . وقيل : أهل السماء وأهل الأرض . < < هود : ( 104 ) وما نؤخره إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما نؤخره إلا لأجل معدود ) يعني : إلا لوقت معلوم عند الله لا
____________________

( ^ يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( 105 ) ) عند الناس .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما أنه قال : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، لا يدري أحدكم ما مضى منها وكم بقي . < < هود : ( 105 ) يوم يأت لا . . . . . > >
وقوله : ( ^ يوم يأت ) وقرئ : ' يوم يأتي ' بالياء . وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول : لا أدر ، أي : لا أدري . وذكر الفراء أن العرب تجتزيء بالكسرة عن الياء بعدها . وقوله : ( ^ لا تكلم نفس إلا بإذنه ) في الآية سؤال معروف وهو : أن الله تعالى قد قال في ( موضع ) آخر : ( ^ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) وقال هاهنا : ( ^ لا تكلم نفس إلا بإذنه ) فكيف وجه التوفيق بينهما ؟
الجواب : قد ذكرنا أن في القيامة مواقف ؛ ففي موقف يتكلمون ويتساءلون ، وفي موضع يسكتون ولا يتكلمون ، وفي موقف يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم ، وقيل غير هذا ، وقد بينا .
وقوله : ( ^ فمنهم شقي وسعيد ) الشقاوة : قوة أسباب البلاء ، والسعادة : قوة أسباب النعمة . ومعنى الآية هاهنا عند أهل السنة : فمنهم شقي سبقت له الشقاوة ، ومنهم سعيد سبقت له السعادة .
وفي الأخبار المسندة : أن عبد الرحمن بن عوف لما حضرته الوفاة أغمي عليه ، فلما أفاق قال : أتاني ملكان فظان غليظان وجراني وقالا : تعال نحاكمك إلى العزيز الأمين ، قال : فلقيهما ملك وقال : أين تريدان به ؟ قالا : نحاكمه إلى العزيز الأمين ، فقال لهما : خليا عنه ، فإنه ممن سبقت له السعادة في الذكر الأول .
____________________

( ^ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( 106 ) ) * * * *
وقد صح عن النبي أنه قال في خبر ملك الأرحام : ' إنه إذا كتب أجله وعمله ورزقه يقول : يا رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقول الله تعالى ، ويكتب الملك ' . خرجه مسلم .
وروى ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهما - ' أنه لما نزل قوله تعالى : ( ^ فمنهم شقي وسعيد ) قال عمر : يا رسول الله : فيم العمل ؟ أنعمل في أمر قد فرغ منه وجرت به الأقلام ، أو في أمر لم يفرغ منه ؟ فقال : بل في أمر قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كل ميسر لما خلق له ' . أورده أبو عيسى في جامعه .
وقال بعضهم : إن السعادة والشقاوة هاهنا في الرزق والحرمان . وقال بعضهم : الشقاوة : بالعمل السيء ، والسعادة : بالعمل الحسن . والمأثور الصحيح هو الأول . < < هود : ( 106 ) فأما الذين شقوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ) هذه الآية تعد من مشكلات القرآن ، وقد أكثر العلماء فيها الأقوال ، ونذكر ما يعتمد عليه :
أما الزفير : قيل : إنه صوت في الحلق ، والشهيق : صوت في الجوف . ويقال : إن الزفير : أول نهاق الحمير ، والشهيق : آخر نهاق الحمير . < < هود : ( 107 ) خالدين فيها ما . . . . . > >
وقوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) أما بالمعنى المأثور : روى الضحاك ، عن ابن عباس : أن الآية نزلت في قوم من المؤمنين يدخلهم الله تعالى النار ، ثم يخرجهم منها إلى الجنة ، ويسمون الجهنميين . وقد ثبت برواية جابر أن النبي
____________________

( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( 107 ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ) * * * * قال : ' يخرج الله قوما من النار قد صاروا ( حمما ) فيدخلهم الجنة ' .
وفي الباب أخبار كثيرة .
فعلى هذا القول معنى الآية : فأما الذين شقوا : هؤلاء الذين أدخلهم النار ( ^ لهم فيها زفير وشهيق ) ظاهر المعنى ( ^ خالدين فيها ) مقيمين فيها ( ^ ما دامت السموات والأرض ) عبر بهذا عن طول المكث .
وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) الاستثناء وقع على ما بعد الإخراج من النار بشفاعة الأنبياء والمؤمنين . < < هود : ( 108 ) وأما الذين سعدوا . . . . . > >
وأما قوله : ( ^ وأما الذين سعدوا ففي الجنة ) أراد به المؤمنين الذين أدخلهم الجنة من غير أن يدخلوا في النار . وقوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) أي : مقيمين فيها ما دامت السموات والأرض ، كنى بهذا عن طول المكث ، والعرب تقول مثل هذا وتريد به الأبد ، فإنهم يقولون : لا آتيك ما دامت السموات والأرض يعني : لا آتيك أبدا ، ولا آتيك ما كان لله في البحر قطرة يعني : لا آتيك أبدا . فخرج هذا الكلام على مخرج كلام العرب . وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك ) الاستثناء وقع على المدة التي كانوا في النار قبل إدخالهم الجنة .
وفي الآية قولان آخران معروفان سوى هذا عند أهل المعاني :
أحدهما : أن معنى قوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) هو على ظاهره ، أي : مدة بقاء السموات والأرض . وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك ) معناه : سوى ما شاء ربك من الزيادة على مدة بقائهما . وحكى الفراء عن العرب أنهم يقولون : لك علي ألف إلا الألفين يعني : سوى الألفين الذين تقدما .
____________________

( ^ ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( 108 ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( 109 ) ولقد آتينا )
والقول الثاني : أن معنى قوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) أي : ما دام سموات الجنة وأرضها . وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك ) الاستثناء واقف على زمان الوقوف في القيامة ومدة المكث في القبر .
وقيل في الاستثناء قول ثالث وهو : أنه قال : ( ^ إلا ما شاء ربك ) معناه : ولو شاء لقطع التخليد عليهم ، ولكن لا يشاء ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ وما [ يكون ] لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء الله رب العالمين ، ولكن لا يشاء الله . وقوله : ( ^ إن ربك فعال لما يرد ) يعني : لا يمتنع عليه شيء ، وقال في الآية الثانية : ( ^ عطاء غير مجذوذ ) غير مقطوع .
وفي بعض التفاسير عن أبي هريرة أنه قال : يأتي على جهنم زمان لا يبقى فيها أحد . وعن الحسن البصري قريبا من هذا .
ومعنى هذا عند أهل السنة - إن ثبت - أن المراد منه الموضع الذي فيه المؤمنون من النار ، ثم يخرجون عنه فلا يبقى فيها أحد ، وأما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم أبد الأبد على ما نطق به الكتاب والسنة ، نعوذ بالله من النار . < < هود : ( 109 ) فلا تك في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا تك في مرية ) في شك ( ^ مما يعبد هؤلاء ) يقال : إن الخطاب معه والمراد منه الأمة . وقوله : ( ^ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) قال ابن عباس معناه : لموفوهم نصيبهم من الخير والشر بلا نقصان .
____________________

( ^ موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ( 110 ) وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعلمون خبير ( 111 ) فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ( 112 ) ) * * * * < < هود : ( 110 ) ولقد آتينا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ) المراد من الآية : تسلية النبي ، كأنه قال : إن اختلفوا عليك ولم يؤمنوا بك فقد اختلفوا على موسى ولم يؤمنوا به . وقوله : ( ^ ولولا كلمة سبقت من ربك ) يعني : لولا ما سبق من حكم الله بتأخير العذاب إلى يوم القيامة . وقوله : ( ^ لقضي بينهم ) أي : لعذبوا في الحال وأهلكوا . وقوله : ( ^ وإنهم لفي شك منه مريب ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 111 ) وإن كلا لما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كلا ) قرئ : ' وإن ' و ' إن ' - بالتخفيف والتشديد - ، أما ' إن ' و ' إن ' قالوا : هما بمعنى واحد ، قال الشاعر :
( ( ووجه ) حسن النحر ** كأن ثدييه حقان )
معناه : كأن ثدييه حقان .
وقوله : ( ^ لما ) بالتخفيف قيل : ' لما ' بمعنى ' لمن ' ، ويقال : إن اللام للقسم ، كأن الله تعالى قال : وإن كلا لمن الله ليوفينهم ربك أعمالهم . وأما قوله : ' لما ' بالتشديد قيل : معنى ' لما ' بالتشديد هو معناها بالتخفيف . ذكره المازني .
وقال الأزهري : أصح المعاني أن ' لما ' بمعنى ' إلا ' أي : وإلا ليوفينهم ربك أعمالهم ( ^ إنه بما يعملون خبير ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 112 ) فاستقم كما أمرت . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فاستقم كما أمرت ) معنى الاستقامة : هو المداومة على موجب الأمر والنهي . وقد روي عن النبي برواية أبي مسلم الخولاني ، عن عمر بن الخطاب - والصحيح عن أبي ذر - أنه قال : ' لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا ، وصمتم حتى تكونوا كالحنائر - ومعناه : كالأوتاد - ثم كان الاثنان أحب إليكم
____________________

من الواحد لم تبلغوا حد الاستقامة ' . روى هذا الخبر جماعة من الزهاد ؛ رواه حاتم الأصم ، عن شقيق ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن مالك بن دينار ، عن أبي مسلم بهذا الإسناد .
وفي الخبر المعروف : أن النبي قال : ' استقيموا ولن تحصوا ، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ' . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعالب . وهذا أثر مشهور .
وقد روي غير هذا في الاستقامة ، يذكر في موضعها .
وفي الخبر المعروف أيضا : أن النبي قال : ' شيبتني هود ' وفيه معنيان :
أحدهما : قال هذا لكثرة ما ذكر الله تعالى في هذه السورة من إهلاك القرون الماضية ( و ) الأمم السالفة .
والمعنى الثاني : أنه قال ؛ لقوله تعالى ( ^ فاستقم كما أمرت ) .
وقوله : ( ^ ومن تاب معك ) معناه : ومن أسلم معك . وقوله : ( ^ ولا تطغوا ) فيه معنيان :
____________________

( ^ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( 113 ) ) * * * *
أحدهما : ولا تطغوا في الاستقامة يعني : لا تزيدوا على ما أمرت ونهيت ، فتحرموا ما أحل الله ، وتكلفوا أنفسكم ما لم يشرعه الله ولم يفعله الرسول وأصحابه .
والمعنى الثاني : الطغيان هو البطر لزيادة النعمة . وقيل : الطغيان والبغي بمعنى واحد .
( ^ إنه بما تعملون بصير ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 113 ) ولا تركنوا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فمسكم النار ) الركون : هو المحبة والمودة والميل بالقلب . وعن أبي العالية الرياحي قال : هو الرضا بأعمالهم . وعن السدي قال : هو المداهنة معهم . وعن عكرمة قال : هو طاعتهم . وقوله : ( ^ فتمسكم النار ) أي : فتصيبكم النار .
وقوله : ( ^ وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 114 ) وأقم الصلاة طرفي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار ) قال الحسن البصري : طرفي النهار : الصبح والعصر ، ( ^ وزلفا من الليل ) : المغرب والعشاء .
وقال مجاهد : طرفي النهار : الصبح والظهر والعصر ، وزلفا من الليل : المغرب والعشاء .
وعلى هذا القول : الآية جامعة للصلوات الخمس . وعن بعضهم : طرفا النهار : الصبح والمغرب ، وزلفا من الليل : العتمة .
ومعنى قوله : ( ^ زلفا من الليل ) ساعات الليل . وقيل : ساعة من الليل . وقرأ مجاهد : ' وزلفى من الليل ' وقرأ ابن محيصن : ' وزلفا من الليل ' . والمعروف : زلفا من الليل . قال الشاعر :
( طي الليالي زلفا فزلفا ** سماوة الهلال حتى احقوقفا )
____________________

( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( 114 ) ) * * * *
وسبب نزول الآية : ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ' أن رجلا أتى النبي فقال : يا رسول الله ، إني دخلت بستانا فأصبت امرأة ، فنلت منها ما ينال الرجل من امرأته ، إلا أني لم أجامعها ، وها أنا ذا بين يديك فاصنع ما شئت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ وأقم الصلاة ) إلى ان قال : ( ^ إن الحسنات يذهبن السيئات ) . قال معاذ بن جبل : يا رسول الله - وفي رواية قال : جاء رجل من القوم فقال : يا رسول الله - هذا له خاصة أو للمسلمين عامة ؟ فقال رسول الله : بل للمسلمين عامة ' .
وروى أبو أمامة الباهلي : ' أن رجلا أتى رسول الله وقال : يا رسول الله : إني أصبت حدا فأقمه علي ، فقال : هل شهدت معنا هذه الصلاة وقد تطهرت ؟ فقال : نعم . قال عليه السلام : اذهب فقد غفر الله لك ما أصبت ' . وروت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال : ' لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه خمس مرات في اليوم ، هل يبقى من درنه شيئا ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا ' . وهذا خبر صحيح .
وفي تكفير الخطايا بالصلوات الخمس خبر عثمان - رضي الله عنه - وذكر فيه : ' أن كل صلاة تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى ' . وعن سلمان - رضي الله عنه
____________________

( ^ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( 115 ) ) * * * * - أنه كان قاعدا في ظل شجرة فأخذ منها غصنا يابسا وهزه فتحات عنه الورق ، ثم قال : هل تدرون لم فعلت هذا ؟ قالوا : لا . فقال : من تطهر وصلى الصلوات الخمس تحاتت عنه الذنوب كما تحات هذا الورق من هذا الغصن . وعن أبي اليسر - رجل من الأنصار - ' أن امرأة أتت إليه تطلب تمرا تشتريه ، فقال : في الدكان تمر أجود مما ترينه ، قال : فدخلت الدكان فقبلها والتزمها ، وأصاب منها ما يصيب الرجل من امرأته إلا أنه لم يجامعها ، ثم جاء إلى النبي - عليه السلام - وذكر له ذلك ، وقال : افعل بي ما شئت ، فسكت النبي ساعة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار ) إلى أن قال : ( ^ إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
وروي عن معاذ أنه قال : يا رسول الله ، أوصني ، فقال : ' اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ' .
فهذه الأخبار كلها دالة على معنى الآية .
وفي بعض التفاسير : أن رجلا جلس إلى سعيد بن المسيب ، فسمعه ابن المسيب يقول : اللهم وفقني للباقيات الصالحات ، فقال له سعيد : وما الباقيات الصالحات ؟ قال : الصلوات الخمس ، فقال سعيد : لا ، إنما الباقيات الصالحات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنما الصلوات الخمس هي الحسنات .
وقوله : ( ^ ذلك ذكرى للذاكرين ) يعني : ذلك عظة للمتعظين .
____________________

( ^ فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( 116 ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( 117 ) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( 118 ) ) * * * * < < هود : ( 115 ) واصبر فإن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ظاهر المعنى ، حث على الصبر على هذه الصلوات ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . < < هود : ( 116 ) فلولا كان من . . . . . > >
قوله : ( ^ فلولا كان من القرون من قبلكم ) الآية ، قوله : ' فلولا ' معناه : فهلا ، وقيل : فلم لا ، والآية للتوبيخ والتعجيب . وقوله : ( ^ أولوا بقية ) قيل : أولوا طاعة . وقيل : أولوا تمييز . وقيل : أولو بقية من خير . ويقال : فلان على بقية من الخير إذا كان على طاعة ، أو مسكة من عقل ، أو على خصلة محمودة . وقوله : ( ^ ينهون عن الفساد في الأرض ) يعني : يقومون بالنهي عن الفساد . وقوله : ( ^ إلا قليلا ) هذا استثناء منقطع ، ومعناه : لكن قليلا ممن أنجينا من القرون ( نهوا ) عن الفساد .
وقوله : ( ^ ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) المترف : هو المتنعم . وقيل : هو المعود بالسعة واللذة . وقيل : المترف : هو الذي أبطره الغنى والنعمة .
فمعنى الآية : واتبع الذين ظلموا ما عودوا من ركوب الشهوات واللذات .
( ^ وكانوا مجرمين ) ظاهر . < < هود : ( 117 ) وما كان ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) في الآية قولان :
أحدهما : أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك إذا تعاطوا الإنصاف فيما بينهم ، ولم يظلم بعضهم بعضا .
والثاني : هو أن الله لا يظلم أهل قرية فيهلكهم بلا جناية . والأول أشهر . < < هود : ( 118 ) ولو شاء ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) أي : ولو شاء ربك لجعل
____________________

( ^ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( 119 ) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في ) * * * * الناس على دين واحد .
وقوله : ( ^ ولا يزالون مختلفين ) المراد منه : أهل الباطل كاليهود والنصارى والمجوس وأهل الشرك ، وكذلك من خالف السنة من أهل القبلة . < < هود : ( 119 ) إلا من رحم . . . . . > >
وقوله : ( ^ إلا من رحم ربك ) أي : لكن من رحم ربك ، وهم أهل الحق لا يختلفون . وقوله : ( ^ ولذلك خلقهم ) فيه أقوال :
أحدها : ما روي عن مجاهد أنه قال : وللرحمة خلقهم . وهو مروي عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : وللاختلاف خلقهم . وهو أيضا مروي عن ابن عباس ، وعن الحسن البصري في رواية أخرى : خلق أهل الجنة للجنة ، وخلق أهل النار للنار ، وخلق أهل الشقاء للشقاء ، وخلق أهل السعادة للسعادة .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : إن الذي أختاره في معنى الآية : أنه خلق فريقا للرحمة وفريقا للعذاب . قال : وعليه أهل السنة .
وذكر بعضهم : أن مقصود الآية هو أن أهل الباطل مختلفون ، وأهل الحق متفقون ، وخلق أهل الباطل للاختلاف ، وخلق أهل الحق للاتفاق .
قال النحاس : وهذا أبين الأقوال وأسرحها .
واستدل أبو عبيد على ما زعم من المعنى بقوله تعالى : ( ^ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) قال : ومعناه : وتم حكم ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وقد ثبت عن النبي أنه قال - حاكيا عن الله محاجة الجنة والنار ، فقال للجنة : ' أنت رحمتي أرحم بك من شئت من عبادي ، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من شئت ، ولكل واحدة منكما ملؤها ' .
____________________

( ^ هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( 120 ) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( 121 ) وانتظروا إنا منتظرون ( 122 ) ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( 123 ) ) * * * * < < هود : ( 120 ) وكلا نقص عليك . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) معناه : وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصها عليك ؛ لثبت بها فؤادك . فإن قيل : قد كان فؤاده ثابتا فأيش معنى قوله : ( ^ لنثبت به فؤادك ) ؟
قلنا معناه : لتزداد ثباتا ، وهذا مثل قوله تعالى في قصة إبراهيم : ( ^ ولكن ليطمئن قلبي ) .
وقوله : ( ^ وجاءك في هذه الحق ) الأكثرون أن معناه : وجاءك في هذه السورة الحق . وقال بعضهم : وجاءك في هذه الدنيا الحق .
فإن قيل : أي فائدة في تخصيص هذه السورة وقد جاءه الحق في كل سورة ؟
قلنا : فائدته : تشريف السورة ، وتشريفها بالتخصيص لا يدل على انه لم يأته الحق في غيرها ، ألا ترى أن الإنسان يقول : فلان في الحق إذا حضره الموت ، وإن كان في الحق قبله وبعده .
قوله : ( ^ وموعظة ) معناه : وجاءتك موعظة ( ^ وذكرى للمؤمنين ) أي : وتذكير للمؤمنين . < < هود : ( 121 ) وقل للذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ) معنى الآية : هو التهديد والوعيد على ما بينا من قبل . < < هود : ( 122 ) وانتظروا إنا منتظرون > >
وقوله : ( ^ وانتظروا إنا منتظرون ) في معنى الآية . < < هود : ( 123 ) ولله غيب السماوات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله غيب السموات والأرض ) أي : ولله علم ما غاب في السموات والأرض .
وقوله : ( ^ وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ) معناه : إليه يرجع أمر العباد فيجازيهم على الخير والشر ( ^ وما ربك بغافل عما تعملون ) يعني : أنه لا يغيب عنه شيء من أعمال العباد وإن صغر ، والله أعلم .
____________________


____________________

تم بحمد الله تعالى المجلد الثاني من تفسير أبي المظفر السمعاني ويتلوه المجلد الثالث إن شاء الله تعالى وأوله تفسير سورة يوسف
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> <
> تفسير سورة يوسف <
>
وهي مكية باتفاق القراء ، وفي الأخبار : أن الله تعالى أنزل ما أنزل من القرآن فقرأه المسلمون مدة ، ثم قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؛ فأنزل الله تعالى هذه السورة ، وفيها : ( ^ نحن نقص عليك أحسن القصص ) ثم قالوا بعد ذلك : لو حدثتنا يا رسول الله ، فأنزل ( ^ الله نزل أحسن الحديث ) ، ثم قالوا : ( لو ذكرتنا ) يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : ( ^ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) كل ذلك يحيلهم على القرآن .
وعن خالد بن معدان أنه قال : سورة يوسف وسورة مريم يتفكه ( بهما ) أهل الجنة في الجنة .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ' إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت إلى ما دعى إليه لأجبت ' - وعنى حين دعاه الملك من السجن . والخبر صحيح .
____________________

( ^ الر تلك آيات الكتاب المبين ( 1 ) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ( 2 ) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) * * * * < < يوسف : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الر ) معناه : أنا الله أرى ؛ وقد بينا من قبل سوى هذا من المعنى في معنى [ الحروف ] المقطعة ، فلا نعيد .
وقوله : ( ^ تلك آيات الكتاب المبين ) يعني : هذه الآيات التي أنزلتها عليك هي تلك الآيات التي وعدت إنزالها في التوراة والإنجيل . وقوله : ( ^ المبين ) معناه : البين حلاله وحرامه . وقيل : البين رشده وغيه . < < يوسف : ( 2 ) إنا أنزلناه قرآنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) أكثر المفسرين على أن المراد منه : إنا أنزلنا القرآن عربيا . وفي مسانيد ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي أنه قال : ' أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي ، والقرآن عربي ، وكلام أهل الجنة بالعربية ' . وقوله ( ^ لعلكم تعقلون ) أي : تفهمون . < < يوسف : ( 3 ) نحن نقص عليك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ نحن نقص عليك أحسن القصص ) قال أهل التفسير : معناه : نحن نبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان ؛ والقاص : هو الذي يأتي بالخبر على وجهه . وقيل : إن المراد من الآية قصة يوسف خاصة ؛ سماها أحسن القصص لزيادة التشريف . ( وقيل ) : أعجب القصص . وقيل : أحكم القصص . والأول هو القول المشهور . وحكي عن ابن عطاء أنه قال : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها
____________________

( ( 3 ) إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( 4 ) قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن ) * * * *
وقوله : ( ^ بما أوحينا إليك هذا القرآن ) معناه : بوحينا إليك هذا القرآن . وقوله : ( ^ وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) أي : لمن الساهين عن هذه القصة وغيرها . < < يوسف : ( 4 ) إذ قال يوسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ قال يوسف لأبيه ) معناه : اذكر إذ قال يوسف لأبيه : ( ^ يا أبت ) قرىء بقراءتين : ' يا أبت ' و ' يا أبت ' بالكسر والفتح ؛ أما بالكسر فالأصل : ' يا أبتي ' ثم حذف الياء واجتزىء بالكسرة . وأما بالفتح : فالأصل : ' يا أبتا ' ثم أسقط الألف واكتفى بالنصب . قال الأعشى :
( فيا أبتا لا تزل عندنا ** فإنا نخاف بأن نخترم )
وقوله : ( ^ إني رأيت أحد عشر كوكبا ) في القصة : أن يوسف كان له اثنتا عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا . وقد قيل غير ذلك ، والله أعلم . وروى ( أنه رأى هذه ) الرؤيا ليلة الجمعة ليلة القدر . وقوله ( ^ أحد عشر كوكبا ) يعني : أحد عشر نجما من نجوم السماء ، وكان المراد منها إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا ، يستضاء بهم كما يستضاء بالكواكب . وقوله ( ^ والشمس والقمر ) تأويل الشمس : أبوه ، وتأويل القمر : أمه . هكذا قال قتادة وغيره . وقال بعضهم : كانت أمه في الموتى ، وهذه خالته راحيل . وقال ابن جريج : القمر : أبوه ، والشمس : أمه ؛ لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر . وقوله : ( ^ رأيتهم لي ساجدين ) قال بعضهم : عندي ساجدين لله . والأصح : أنهم سجدوا له تحية وكرامة . فإن قال قائل : ( قد قال ) : ( ^ ساجدين ) ولم يقل ' ساجدات ' وحق العربية في النجوم أن يقال : ' ساجدات ' .
الجواب : أن الله تعالى لما أخبر عنهم بفعل من يعقل وهو السجود ألحقهم بمن يعقل في إعراب الكلام فقال : ساجدين ، ولم يقل : ' ساجدات ' بهذا .
____________________

( ^ الشيطان للإنسان عدو مبين ( 5 ) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ( 6 ) لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ( 7 ) إذ قالوا ) * * * * < < يوسف : ( 5 ) قال يا بني . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك ) قال أهل التفسير : إن رؤيا الأنبياء وحي ، فعلم يعقوب أن الإخوة لو سمعوا ( بهذه ) الرؤيا عرفوا أنها حق فيحسدونه ( فأمره بالكتمان ) لهذا المعنى . وقوله : ( ^ فيكيدوا لك كيدا ) معناه : فيحتالوا لك حيلة . ( ^ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ) ومعناه : إن الشيطان يزين لهم ذلك ويحملهم عليه لعداوته . للعداوة القديمة . < < يوسف : ( 6 ) وكذلك يجتبيك ربك . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وكذلك يجتبيك ربك ) معناه : وكما رفع منزلتك وأراك هذه الرؤيا فكذلك يجتبيك أي : يصطفيك ربك . ( ^ ويعلمك من تأويل الأحاديث ) تأويل [ ما تؤول إليه عاقبة أمره ] . وأكثر المفسرين على أن المراد من هذا علم التعبير وما تؤول إليه الرؤيا ، قالوا : وكان يوسف أعلم الناس بالرؤيا وأعبرهم لها . وقوله : ( ^ ويتم نعمته عليك ) يعني : يجعلك نبيا ، وذلك تمام النعمة على الأنبياء ( ^ وعلى آل يعقوب ) وعلى أولاد يعقوب ؛ فإن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء . وقوله : ( ^ كما أتمها على أبوك من قبل إبراهيم وإسحاق ) يعني : كما جعلهما نبيين من قبل كذلك يجعلك نبيا .
وقوله : ( ^ إن ربك عليم حكيم ) ظاهر المعنى .
وقد قيل : إن المراد من تمام النعمة على إبراهيم : هو إنجاؤه من النار ، والمراد من تمام النعمة على إسحاق : هو إنجاؤه من الذبح . وهذا قول مشهور . وذكر الحسن البصري أنه كان بين هذه الرؤيا وبين هذا القول وبين تحقيقها ، ثمانون سنة . وذكر عبد الله بن شداد أنه كان بينهما أربعون سنة . وهذا أشهر القولين .
____________________

( ^ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ( 8 ) اقتلوا ) * * * * < < يوسف : ( 7 ) لقد كان في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ) وفي بعض المصاحف : ' عبرة للسائلين ' ، والآيات : جمع الآية ؛ والآية : هي الدلالة على أمر عظيم . وفي معنى الآية قولان :
أحدهما : أن اليهود سألوا رسول الله عن قصة يوسف - عليه [ الصلاة ] السلام - وفي بعض الروايات ( أنهم سألوه ) عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعنان إلى مصر ، فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ آيات للسائلين ) أي : دلالة على نبوة الرسول .
والقول الثاني : أن ( نعنى ) قوله : ( ^ آيات للسائلين ) يعني : أنها غبر للمعتبرين فإنها تشتمل على ذكر حسد إخوة يوسف له وما آل إليه أمرهم في الحسد ، وتشتمل على ذكر رؤياه وما حقق الله منها ، وتشتمل على ما صبر يوسف عن قضاء الشهوة ، وعلى العبودية في السجن ، وما آل إليه أمره من الملك ، وتشتمل أيضا على ذكر حزن يعقوب وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد ، وذهاب الحزن عنه ، وغير هذا مما يذكر في السورة ؛ فهذه عبر للمعتبرين . < < يوسف : ( 8 ) إذ قالوا ليوسف . . . . . > >
قوله : ( ^ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) الآية ، كان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة ، وكان يعقوب شديد الحب ليوسف ، وكان إخوة يوسف يرون منه من الميل إليه ما لا [ يرونه ] لأنفسهم ، فقالوا هذه المقالة . وقوله : ( ^ ونحن عصبة ) قال الفراء : العصبة هي : العشرة فما زادت . ( قال القتيبي ) ومن العشرة إلى الأربعين . وقال غيرهما : ' ونحن عصبة ' أي : جماعة يتعصب بعضنا لبعض . وقوله : ( ^ إن أبانا لفي ضلال مبين ) معناه : إن أبانا لفي خطأ ظاهر . فإن قال قائل : كيف وصفوا رسولا من رسل الله مثل يعقوب بالضلالة ؟
الجواب عنه : ليس ( المعنى ) من الضلال هاهنا هو الضلال في الدين ، ولو
____________________

( ^ يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ( 9 ) ) * * * * أرادوه صاروا كفارا ؛ وإنما المراد من الضلال هاهنا : هو الخطأ ( في تدبير ) أمر الدنيا ، وعنوا بذلك : أنا أولى بالمحبة في تدبير أمر الدنيا ؛ لأنا أنفع له وأكبر من يوسف ، ونصلح له أمر معايشه ، ونرعى له مواشيه ؛ فهو مخطىء من هذا الوجه . < < يوسف : ( 9 ) اقتلوا يوسف أو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اقتلوا يوسف ) القتل : تخريب البنية على وجه لا يصح معها وجود الحياة .
وقوله : ( ^ أو اطرحوه أرضا ) أي : اطرحوه في أرض تأكله السباع ، وقيل : اطرحوه إلى أرض يبعد عن أبيه ويبعد أبوه عنه . وقوله : ( ^ يخل لكم وجه أبيكم ) يعني : يخلص لكم وجه أبيكم . وقوله : ( ^ وتكونوا من بعده قوما صالحين ) يعني : توبوا بعد أن فعلتم هذا ، ودوموا على الصلاح يعف الله عنكم .
واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن توبة القاتل عمدا مقبولة ؛ فإن الله تعالى ذكر عزم القتل [ منهم ] وذكر التوبة ولم ينكر عليهم التوبة بعد القتل ؛ دل أنها مقبولة .
قال ابن إسحاق - يعني : محمد بن إسحاق - : وقد اشتمل فعلهم على جرائم ، منها : قطيعة الرحم ، وعقوق ( الوالد ) ، وقلة الرأفة بالصغير الطريح الذي لا ذنب له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهد بالحفظ ، والكذب الذي عزموا عليه مع أبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام ، ثم عفا الله عنهم مع هذا كله ؛ لئلا ييأس أحد من رحمته . وقال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله ؛ ولكن الله تعالى حبسهم عن قتله رأفة ورحمة بهم ، ولو مضوا على قتله لهلكوا أجمعين . < < يوسف : ( 10 ) قال قائل منهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال قائل منهم ) الأكثرون على أن هذا كان يهوذا ، وكان أكبرهم
____________________

( ^ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم ) * * * *
في العقل لا أكبرهم في السن . هذا قول ابن عباس ، قال : وكان ابن خالة يوسف .
وقال قتادة : هو روبيل .
وقال سفيان بن عيينة : هو شمعون . وأصح الأقوال هو الأول .
وقوله : ( ^ لا تقتلوا يوسف ) أشار عليهم أن لا ترتكبوا هذه الكبيرة العظيمة . وقوله ( ^ وألقوه في غيابة الجب ) يعني : أسفل الجب ، والغيابة : كل موضع ستر عنك الشيء ( وغيبه ) . قال الشاعر :
( بني إذا ما غيبتني غيابتي ** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل )
وعنى بالغيابة : القبر ؛ لأنه يغيب الميت ويستره . والجب : هو البئر التي لم تطو لأنه قطع قطعا ولم تطو بعد ، والجب : هو القطع .
قوله : ( ^ يلتقطه بعض السيارة ) أي : يجده بعض السيارة ، والالتقاط : هو أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه ، والسيارة : هم المسافرون . قوله : ( ^ إن كنتم فاعلين ) يعني : إن عزمتم على فعلكم .
واختلف أهل العلم أنهم كانوا بالغين أو لم يكونوا بالغين حين عزموا على هذا وفعلوا ؟
فالأكثرون أنهم كانوا رجالا بالغين ، إلا أنهم لم يكونوا أنبياء بعد ، والدليل عليه : أنهم قالوا : وتكونوا من بعده قوما صالحين ؛ وهذا إنما يستقيم بعد البلوغ ويدل ( عليه ) أنهم قالوا : يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ، والصغير لا ذنب له ، دل أنهم كانوا رجالا .
ومنهم من قال : كانوا صغارا . وهذا القول غير مرضي . واستدل من قال بهذا القول
____________________

( ^ فاعلين ( 10 ) قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ( 11 ) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ( 12 ) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف ) * * * * بأنهم قالوا : ' أرسله معنا غدا نرتع ونلعب ' ، واللعب فعل الصغار لا فعل الكبار .
وأجابوا عن هذا : أنهم لم يذكروا لعبا حراما ، وإنما عنوا لعبا مباحا .
وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سئل عن قوله : ( ^ نلعب ) فقيل له : كيف قالوا : ' نلعب ' وقد كانوا أنبياء ؟ فقال : هذا قبل أن نبأهم الله تعالى . < < يوسف : ( 11 ) قالوا يا أبانا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف ) بدءوا أولا ( بالإنكار ) عليه في ترك إرساله معهم وحفظه مع نفسه من بينهم ، كأنهم قالوا له : إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه ؟ !
قوله : ( ^ وإنا له لناصحون ) النصح هاهنا : هو القيام بمصلحه ، وقيل : إنه البر والعطف ، ومعناه : إنا عاطفون عليه ، بارون به ، قائمون بمصلحته . < < يوسف : ( 12 ) أرسله معنا غدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أرسله معنا غدا نرتع ونلعب وإنا له لحافظون ) قوله : ( ^ نرتع ) الرتع : هو الاتساع في الملاذ في طلب وجوهها يمينا وشمالا . وقيل معنى الآية : نأكل ونشرب وننشط ونلهو . وقرىء : ' يرتع ويلعب ' بالياء ، وهو في معنى الأول ، إلا أنه ينصرف إلى يوسف خاصة ، وقرىء : ' يرتعي ' وهو يفتعل من الرعي ، ومعناه : إنه يرعى الماشية كما نرعى . وقوله : ( ^ وإنا له لحافظون ) . < < يوسف : ( 13 ) قال إني ليحزنني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به ) معناه : إني ليغمني أن تذهبوا به ؛ والحزن هاهنا : ألم القلب بفراق المحبوب . وقوله : ( ^ وأخاف أن يأكله الذئب ) في القصة : أن يعقوب صلوات الله عليه كان رأى في المنام كأن ذئبا شد على يوسف - وكان يخاف من ذلك - فقال ما قال بذلك الخوف . وقد قال بعضهم : إنه أراد بالذئب إياهم . وليس هذا بشيء ؛ لأنه لو خافهم عليه لم يدفعه إليهم ، وما كان يجوز له ذلك ، ولأنه معنى متكلف مستكره ، فلا يجوز أن يصار إليه . وقوله : ( ^ وأنتم عنه غافلون )
____________________

( ^ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( 13 ) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ( 14 ) فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوا في غيابت الجب وأوحينا إليه ) * * * * أي : ساهون . < < يوسف : ( 14 ) قالوا لئن أكله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة ) أي : جماعة يتقوى بعضنا ببعض . وقوله : ( ^ إنا ذا لخاسرون ) يعني : إنا إذا لعاجزون . < < يوسف : ( 15 ) فلما ذهبوا به . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ) الإجماع : هو العزم على الشيء ، والواو هاهنا مقحمة ، والمعنى : فلما ذهبوا به أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب . قال الشاعر :
( أجمعوا أمرهم بليل فلما ** أصبحوا أصبحوا علي لصوصا )
وقوله ( ^ [ وأجمعوا ] أن يجعلوه في غيابة الجب ) معناه : بأن يلقوه في غيابة الجب . وذكر وهب بن منبه ، وغيره أنهم لما أخذوا يوسف أخذوه بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه إلى أن أصحروا به ، فلما أصحروا به ألقوه وجعلوا يضربونه وهو يستغيث حتى كادوا يقتلونه ، ثم إن يهوذا منعهم منه . وذكروا أنه كان من أبناء [ اثنتى عشرة ] سنة . هذا هو المعروف .
وفي بعض الروايات : أنه كان ابن ست سنين . وفي بعض الروايات : أنه كان ابن سبع عشرة سنة . وهذا معروف أيضا .
ثم أنهم أجمعوا ( على أن ) يطرحوه في البئر ، فجاءوا إلى بئر على غير الطريق واسع الأسفل ، ضيق الرأس ، فطرحوه فيها ، فروي أنه كان يتعلق بجوانب البئر ، فشدوا
____________________

( ^ لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ( 15 ) وجاءوا أباهم عشاء يبكون ( 16 ) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا ) * * * * يديه ثم ألقوه . وفي بعض الروايات : ( أنهم ) جعلوه في دلو وأرسلوه في البئر ، فلما بلغ الماء فإذا صخرة فقام عليها . وروي أنهم قالوا له : اقعد في ذلك الطاق من البئر ، فإذا جاء من يستقي فتعلق بالدلو حتى تخرج .
قال محمد بن مسلم الطائفي : لما صار يوسف في البئر دعا الله تعالى فقال : يا شاهدا غير غائب ، ويا غالبا غير مغلوب ، ويا قريبا غير بعيد ، اجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا .
ثم اختلفت الرواية أنه كم بات في البئر ؟ فالأكثرون : أنه بات فيها ثلاث ليالي والقول الآخر : أنه بات فيها ليلة .
وقوله تعالى : ( ^ وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا ) [ قول ] أكثر أهل التفسير على أن هذا الوحي إلى يوسف ، وبعث الله جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج ويخبره : أنه ينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه وهم لا يعرفون أنه يوسف ، وسيأتي بعد هذه القصة . وقيل : ( ^ وهم لا يشعرون ) أنه أوحى إليه .
وفي الآية قول آخر : وهو أن الوحي هاهنا هو الإلهام ؛ وهو مثل قوله تعالى : ( ^ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) وأما إتيان جبريل كان بعد هذا . < < يوسف : ( 16 ) وجاؤوا أباهم عشاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ) قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب ؛ فروي أن يعقوب سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال : ما لكم ؟ هل أصاب الذئب من غنمكم شيئا ؟ قالوا : لا ؛ وإنما الذئب أكل يوسف . وقرأ الحسن : ' غشاء يبكون ' ، ومعناه : قد غشيت أبصارهم من البكاء . < < يوسف : ( 17 ) قالوا يا أبانا . . . . . > >
وقوله : ( ^ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ) أي : ننتضل وننظر لمن السبق . وقيل :
____________________

( ^ صادقين ( 17 ) وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر ) * * * * نستبق على أقدامنا . وقد ثبت أن النبي سابق عائشة رضي الله عنها مرتين ، فسبقته عائشة في المرة الأولى ، وسبقها النبي في المرة الثانية ، فقال لها : ' هذه بتلك ' .
وقوله : ( ^ وتركنا يوسف عند متاعنا ) يعني : عند ثيابنا وأقمشتنا ( ^ فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ) يعني : بمصدق لنا ( ^ ولو كنا صادقين ) يعني : وإن كنا صادقين .
فإن قال قائل : كيف يجوز أن يقولوا لنبي الله : أنت لا تصدق الصادق ؟ !
الجواب معناه : أنا لو كنا صادقين عندك كنت تتهمنا في هذا الأمر بشدة حبك له وميلك إليه ، فكيف وقد خفتنا في الابتداء واتهمتنا في حقه ؟ !
وفيه معنى آخر : وهو أن معنى قوله ( ^ وما أنت بمؤمن لنا ) : أنك لا تصدقنا لأنه لا دليل لنا على صدقنا ، وإن كنا صادقين عند الله . < < يوسف : ( 18 ) وجاؤوا على قميصه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءوا على قميصه بدم كذب ) هذا دليل على أنهم نزعوا قميصه عنه حين ألقوه في البئر ، فروى أنه قال لهم : دعوا لي قميصي أتستر به ، فقالوا له : ادع الشمس والقمر والكواكب تسترك - يعنون : ما رأى من الرؤيا .
وقوله : ( ^ بدم كذب ) وقيل : بدم يعني : بدم ذي كذب . وقيل : مكذوب فيه . وعن الحسن البصري أنه قرأ : ' بدم كدب ' بالدال غير المعجمة وهو الدم المتغير .
وفي القصة : أنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه ، فقال يعقوب صلوات الله عليه : كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه ؟ ! ما عهدت الذئب حليما . حكى عن الحسن البصري .
____________________

( ^ جميل والله المستعان على ما تصفون ( 18 ) وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون ( 19 ) وشروه بثمن ) * * * *
وروي أن بعضهم قالوا : قتله اللصوص ، فاختلفوا على يعقوب فاتهمهم به و ( ^ قال بل سولت لكم أنفسكم ) يعني : كذبتم ، بل زينت لكم أنفسكم ( ^ أمرا ) والتسويل : التزيين ، وقوله : ( ^ فصبر جميل ) معناه : فأمري صبر جميل . وقيل : فصبر جميل أختاره . والصبر الجميل : هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع . وقوله : ( ^ والله المستعان على ما تصفون ) معناه : والله المستعان على الصبر على ما تكذبون .
وفي القصة : أنهم ذهبوا وجاءوا بذئب وقالوا : هذا الذي أكل ولدك ، فقال له يعقوب : يا ذئب ! أكلت ولدي وثمرة فؤادي ؟ فأنطقه الله تعالى وقال : بالله ما رأيت وجه ابنك قط ، فقال : فكيف وقعت بأرض كنعان ؟ فقال : جئت لصلة قرابة . أورده النقاش في تفسيره ، والله أعلم .
واختلفوا في موضع البئر الذي أدلي فيها يوسف ؛ قال قتادة : هي بئر بيت المقدس . وقيل : إنها بئر بأرض الأردن ، وقال مقاتل : بئر معروفة ، كانت بين منزل يعقوب وبينها ثلاثة فراسخ ، والله أعلم . < < يوسف : ( 19 ) وجاءت سيارة فأرسلوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ) السيارة : هم القوم المسافرون ، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض . وقوله : ( ^ فأرسلوا واردهم ) والوارد : هو الذي يقدم القوم ليستقي الماء من البئر . قال الأصمعي : تقول العرب : أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ، ودليتها إذا نزعتها من البئر . وقوله ( ^ قال ( يا بشراي ) هذا غلام ) فيه قولان : أحدهما - وهو أظهر القولين - : أن معنى قوله : ( ^ يا بشراي ) أي : أبشروا ، هذا غلام . ذكره الفراء والزجاج .
والقول الثاني : أنه نادى صاحبه - وكان اسمه بشرى - فقال : يا بشراي ، هذا غلام أي : يا فلان ، هذا غلام . ذكره الأعمش والسدي .
____________________


وفي القصة : أن البئر كانت على غير الطريق ، ولكن القوم ضلوا الطريق حتى وقعوا عليها ، فلما جاء الوارد وأرسل الدلو لطلب الماء ، تعلق به يوسف ، نزعوا على ظن أنه الماء . وروى ابن مجاهد ، عن أبيه أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حتى أخرج منها . وفي القصة أيضا أن صاحب السيارة كان مالك بن دعر ، رجل من خزاعة . وقوله : ( ^ وأسروه بضاعة ) معناه : أن الوارد ومن كان معه أسروه بضاعة عن أهل الرفقة ، مخافة أن يطلبوا المشاركة فيه .
وقوله : ( ^ بضاعة ) معناه : أنهم قالوا : نقول للقوم : إن أهل الماء استبضعونا هذا الغلام . والبضاعة : هي القطعة من المال ، والبضع : هو القطع . ومنه قوله في فاطمة رضي الله عنها : ' إنها بضعة مني ' أي : قطعة مني . وهذا خبر ثابت .
وقوله : ( ^ والله عليم بما يعملون ) ظاهر . < < يوسف : ( 20 ) وشروه بثمن بخس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) أكثر أهل التفسير على أن الذين باعوه إخوته ، وهو قول ابن عباس وعامة المتقدمين . وقوله ' شروه ' هو بمعنى : باعوه .
قال الشاعر :
( وشريت بردا ليتني ** من بعد برد كنت هامة )
وفي القصة : أن القوم لما استخرجوا يوسف من البئر جاء إخوته وقالوا : هذا غلام أبق منا وهددوا يوسف حتى لم يعرف ( حاله ) وأقر ما قالوه ثم إنهم باعوه منهم .
والقول الثاني في الآية : أن الذين باعوا يوسف هم الذين استخرجوه من البئر . والصحيح هو الأول .
وقوله : ( ^ بثمن بخس ) البخس في اللغة : هو النقص ، ومعنى البخس هاهنا : هو الحرام ؛ سمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة . هذا قول الشعبي وغيره . وقال بعضهم : ( ^ بثمن بخس ) أي : ذي ظلم . وعن ابن مسعود ، وابن عباس أنهما قالا :
____________________

( ^ بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ( 20 ) وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ) * * * * بثمن بخس : زيوف . وقيل : بثمن بخس أي : قليلا .
اختلفوا ، كم كان الثمن ؟ قال مجاهد : كان [ اثنين وعشرين ] درهما ، والإخوة أحد عشر رجلا ، فاقتسموا وأخذ كل واحد درهمين سوى يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا . وعن ابن عباس قال : باعوه بعشرين درهما . وقيل : [ باعوه ] بأربعين .
قوله ( ^ دراهم معدودة ) يعني : أنهم عدوها عدا ولم يزنوها وزنا لقلتها . وقال : إنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية وهو أربعون درهما .
وقوله : ( ^ وكانوا فيه من الزاهدين ) يعني : ( أنهم ) لم يكن لهم رغبة في يوسف ؛ لأنهم لم يعرفوا كرامته على الله . وقيل : إنهم كانوا في الثمن من الزاهدين على معنى أنه لم يكن قصدهم الثمن ؛ إنما قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه . < < يوسف : ( 21 ) وقال الذي اشتراه . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ) في القصص : أن مالك بن دعر قدم به مصر وعرضه على البيع فاشتراه قطيفير صاحب أمر الملك وخازنه ، وقيل : قنطور ، وكان يسمى العزيز ولم يك أحد بمصر يسمى باسمه كرامة وتشريفا ، فروى أنه اشتراه بعشرين دينارا ونعلين وحلة . وذكر وهب بن منبه أنه لما عرض على البيع تزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه : وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا ووزنه حريرا ، وكان وزنه أربعمائة رطل ومائتا ( من ) ' . قال وهب : وكان ابن ثلاث عشرة سنة في ذلك الوقت . وقد بينا أن على قول بعضهم : كان ابن سبع عشرة سنة . قال كعب وغيره : كان من أحسن الناس وجها ، كان على صورة آدم حين خلقه
____________________

( ^ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من ) * * * * الله تعالى قبل أن يواقع المعصية . وفي بعض الآثار : ' أن يوسف أعطي شطر الحسن ' . وهو غريب ، وقيل : إنه انتزع إلى جدته سارة ، وكانت سارة أعطيت سدس الحسن .
وقوله : ( ^ لامرأته ) قيل : كان اسمها : راغيل . وقيل : كان اسمها : زليخة .
وقوله : ( ^ أكرمي مثواه ) معناه : أكرميه في المطعم والملبس والمقام . والمثوى في اللغة : موضع الإقامة ، ويقال : ثوى بالمكان إذا أقام .
وقوله ( ^ عسى أن ينفعنا ) يعني : نبيع بالربح إن أردنا البيع ، أو ينفعنا بالخدمة إن لم نبعه . وقوله ( ^ أو نتخذه ولدا ) يعني : أو نعتقه ونتبناه . وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برواية أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عنه أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز في يوسف حين قال لامرأته : ' أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ' وابنة شعيب في موسى - عليه السلام - حيث قالت : ' يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ' [ وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما ] حيث استخلفه .
وقوله : ( ^ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) معناه : كما خلصناه من الهلاك ونجيناه من ظلمة البئر كذلك مكناه في الأرض ؛ والأرض هاهنا : أرض مصر ، وقوله : ( ( ^ مكناه ) ) أي ( بالتهليل ) وبسط اليد ورفع المنزلة إلى أن بلغ ما بلغ .
وقوله : ( ^ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) قد بينا من قبل . وقوله : ( ^ والله غالب على أمره ) فيه قولان ؛ أحدهما : أن الله غالب على أمره لا يمنعه منه مانع ، ولا يرده عما يريد راد .
____________________

( ^ تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 21 ) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( 22 ) وراودته التي هو في بيتها عن ) * * * *
والقول الثاني : والله غالب على أمر يوسف بالتدبير والحياطة حتى يبلغه منتهى علمه فيه . وقوله : ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ظاهر . < < يوسف : ( 22 ) ولما بلغ أشده . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما بلغ أشده ) الأكثرون على أن الأشد : ثلاث وثلاثون سنة وإليها تنتهي ، يعني : قوة الشباب . وقيل : ثلاثون سنة . وقيل : من تمام [ ثماني عشرة ] سنة إلى أربعين . وسئل مالك عن الأشد ، فقال : هو الحلم .
وقوله ( ^ آتيناه حكما وعلما ) أي : فقها وعقلا . وقيل : الحكم : النبوة ، والعلم : هو الفقه في الدين . والفرق بين الحكيم والعالم : أن العالم هو الذي يعلم الأشياء ، والحكيم : هو الذي يعلم بما يوجبه العلم . وقيل : هو الذي يمنع نفسه عما يجهله ويسفهه ، ومنه حكمة الدابة ؛ لأنها تمنع الدابة عن الفساد . قال الشاعر :
( أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا )
يعني : امنعوا سفهاءكم .
وقوله : ( ^ وكذلك نجزي المحسنين ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 23 ) وراودته التي هو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ) معنى المراودة : طلب الفعل ، والمراد هاهنا : هو الدعاء إلى الفاحشة . وقوله : ( ^ وغلقت الأبواب ) يعني : أطبقت الأبواب واستوثقت منها ، ويقال : إنها غلقت سبعة أبواب . وقوله : ( ^ وقالت هيت لك ) معناه : هلم ، وعلى هذا أكثر المفسرين . وقيل : معناه : تعال أنا لك . وقريء : ' هيت لك ' أي : تهيأت لك . وأنكر الكسائي هذه القراءة . قال الشاعر في قوله هيت :
( أبلغ أمير المؤمنين ** أخا العراق إذا أتينا )
( أن العراق وأهله ** عنق إليك فهيت هيتا )
____________________

( ^ نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ( 23 ) ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) * * * *
وقوله : ( ^ قال معاذ الله ) معناه : قال : أعوذ بالله أي : أعتصم به إنه ربي .
[ و ] الأكثرون أنه أراد به العزيز ؛ ومعناه : إنه سيدي . وقوله : ( ^ إنه ربي أحسن مثواي ) أي : أكرم مثواي . وقوله : ( ^ إنه لا يفلح الظالمون ) أنه لا يسعد الزناة ولا العصاة . < < يوسف : ( 24 ) ولقد همت به . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد همت به وهم بها ) [ الآية ] ، الهم : هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . وقوله : ( ^ ولقد همت به ) همها : هو عزمها على المعصية والزنا ، وأما هم يوسف : فاعلم أنه قد ثبت عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن قوله ( ^ وهم بها ) قال : جلس منها مجلس الخاتن وحل هميانه . رواه ابن أبي مليكة ، وعطاء وغيرهما . وعن مجاهد أنه قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه . وهذا قول أكثر المتقدمين ؛ منهم : سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والضحاك وغيرهم .
[ و ] قال أبو عبيد القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول ؛ والقول ما قاله متقدمو هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم . وكذلك قال ابن الأنباري ، وزعم بعض المتأخرين أن الهم ( كان منها ) : هو العزيمة على المعصية ، وأما الهم منه : كان خاطر القلب وشدة المحبة بالشهوة .
وفي القصة : أن المرأة قالت له : ما أحسن عينيك ، فقال : هي أول ما تسيل من وجهي في قبري ، فقالت : ما أحسن شعرك ، فقال : هو أول ما ينشر في قبري ، فقالت إن فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي ، فقال : إذا يذهب نصيبي من الجنة ، فقالت : إن الجنينة عطشة فقم فاسقها ، فقال : إن المفتاح بيد غيري ، قال : فجاء
____________________

الشيطان ودخل بينهما وأخذ يحنكه وحنكها حتى همت به وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره . وقال قطرب : معنى قوله : ( ^ وهم بها ) أي : وهم بها لولا أن رأى برهان ربه .
وأنكر سائر النحاة عليه هذا القول ، وقالوا إن العرب لا تؤخر لولا عن الفعل ، وإنما كلام العرب هو التقديم فحسب ، فإنهم يقولون : لولا كذا لفعلت كذا ، ولا يقولون ، فعلت كذا لولا كذا . وقال بعضهم : ' وهم بها ' أي : بضربها ودفعها عن نفسه ، وهو تأويل بعيد . وقال بعض أهل التفسير : يحتمل أن ذلك القدر الذي فعله يوسف من الهم كان في تلك الشريعة من الصغائر يجوز على الأنبياء . قال الحسن البصري : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء في القرآن ليعيرهم بها ؛ ولكن ذكرها ليبين موقع النعمة عليهم بالعفو ، ولئلا ييأس أحد من رحمته وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية . وقوله : ( ^ لولا أن رأى برهان ربه ) أكثر أهل التفسير : أنه رأى يعقوب صلوات الله عليه [ صكه ] في صدره وهو يقول له : أتعمل عمل السفهاء وأنت في ديوان الأنبياء ؟ !
وروى ليث ، عن ابن عباس أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته فرأى كفا بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها : : ( ^ وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) ففزع وهرب ، ثم إنه عاد ، فظهر ذلك الكف مكتوبا عليها : ( ^ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ففزع وهرب ، ثم إنه عاد فرأى ذلك الكف أيضا مكتوبا عليها : ( ^ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) ففزع وهرب ، ثم إنه عاد ؛ فقال الله لجبريل : أدرك عبدي قبل أن يواقع الخطيئة ، فجاء ومسحه بجناحه حتى خرجت شهوته من أنامله .
____________________

( ^ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( 24 ) واستبقا الباب ) * * * *
وقال جعفر بن محمد الصادق : معنى البرهان : أنه كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف : لم فعلت هذا ؟ فقالت : استحييت منه أن يراني وأنا أواقع المعصية ، فقال يوسف : أنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب .
وقال محمد بن كعب القرظي : البرهان : هو أن الله تعالى أخطر بقلب يوسف حرمة الزنا ، وشدة العقوبة عليه ، فهرب وترك . وأورد النقاش أنه لما قرب منها رأى شعرة بيضاء في أنفها فعافها وتركها . وهذا قول بعيد ؛ والأصح من هذه الأقوال : الأول .
وقد روي أن يعقوب صلوات الله عليه لما تمثل له صك في صدره وقال : يا يوسف أنت قبل أن تزني كالطير في جو السماء [ ولا تطاق ] ، فإذا زنيت فأنت كالطير يسقط ويموت ، وأنت قبل أن تزني كالثور لا يطاق ، فإذا زنيت صرت كالثور يهلك فيدخل النمل في ( أصول ) قرنه .
وقوله : ( ^ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) السوء : هو الثناء القبيح ، والفحشاء : هو مواقعة الزنا . فإن قيل : هذا دليل على أنه لم يهم بالزنا ولم يقصده ، قلنا : لا ، هذا بعد الهم . فإن قيل : أليس قد قال في أثناء السورة : ( ^ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) ؟ قلنا : قد ثبت عن النبي : ' أن يوسف لما قال هذا ، قال له جبريل : ولا حين هممت ؟ فقال : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ' .
قوله : ( ^ إنه من عبادنا المخلصين ) قرئ : ' المخلَصين ' و ' المخلِصين ' ومعنى المخلِص : هو الذي يخلص الطاعة لله ، ومعنى المخلَص : هو الذي أخلصه الله واختاره .
____________________

( ^ وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ( 25 ) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( 26 ) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ( 27 ) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن ) * * * * < < يوسف : ( 25 ) واستبقا الباب وقدت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ [ واستبقا ] الباب ) روي أن يوسف بادر الباب ليفتح ويخرج ، والمرأة بادرت الباب لتمسك الباب فلا يخرج يوسف ، فسبق يوسف وأدركته المرأة وأخذت بثوبه وشقته من دبر ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ وقدت قميصه من دبر ) أي : شقت . وقوله : ( ^ وألفيا سيدها لدا الباب ) يعني : وجدا زوج المرأة عند الباب فبادرت المرأة ( ^ قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ) ثم خافت عليه أن يقتل فقالت : ( ^ إلا أن يسجن أو عذاب أليم ) ضرب بالسياط ، فلما سمع يوسف مقالتها < < يوسف : ( 26 - 27 ) قال هي راودتني . . . . . > > ( ^ قال هي راودتني عن نفسي ) يعني : هي طلبت مني الفاحشة . وقوله : ( ^ وشهد شاهد من أهلها ) فيه قولان : أحدهما : أن الشاهد كان صبيا في المهد قال هذا القول ، وهذا قول أبي هريرة وسعيد بن جبير والضحاك ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس . قال أبو هريرة : ' تكلم ثلاثة من الصبيان في المهد : عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ( وصاحب ) جريج وشاهد يوسف ' والقول الثاني أن الشاهد كان رجلا حكيما من قرابات المرأة وكان قائما مع زوجها فسمع الجلبة من وراء الباب ورأى شق القميص فقال القول وهو قوله تعالى : ( ^ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . . . ) الآية . < < يوسف : ( 28 ) فلما رأى قميصه . . . . . > >
وقوله : ( ^ فلما رأى قميصه قد من دبر ) عرف أن الذنب لها ( ^ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ) وفي القصة : أنه كان قليل الحمية والغيرة ، ثم قال ليوسف : < < يوسف : ( 29 ) يوسف أعرض عن . . . . . > > ( ^ يوسف أعرض عن هذا ) يعني : لا تذكر هذا حتى يشيع ، ثم قال للمرأة : ( ^ واستغفري لذنبك ) توبي إلى الله تعالى ( ^ إنك كنت من الخاطئين ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ كيدكن عظيم ( 28 ) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( 29 ) وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا ) * * * * < < يوسف : ( 30 ) وقال نسوة في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ) المدينة هاهنا : مدينة مصر ، وقيل : إنها مدينة عين شمس .
وأما النسوة قالوا : هن خمس نسوة : امرأة حاجب الملك ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب الطعام ، وامرأة صاحب الشراب ، وامرأة صاحب السجن . وقال بعضهم : هن نسوة من أشراف نسوة مصر .
وقوله : ( ^ امرأة العزيز ) قيل العزيز : هو الممتنع بقدرته عن أن يضام في أمره . وقوله : ( ^ تراود فتاها عن نفسه ) فتاها هاهنا بمعنى : عبدها ، والمعنى : أنها تطلب من عبدها [ أن ] يرتكب الفاحشة . وقوله ( ^ قد شغفها حبا ) روي عن ابن عباس - رضي الله عنها - أنه قال : ' شغفها حبا ' أي : غلبها . وروي عنه أيضا أنه قال : ' شغفها حبا ' أي : دخل الحب في شغاف قلبها ، وشغاف القلب : داخل القلب . وقيل : شغاف القلب : جلدة القلب ؛ كأن الحب خرق الجلدة وأصاب القلب وغلب عليه . وقيل : شغاف القلب : [ سويداء ] القلب . وقيل : حبة القلب . قال الشاعر :
( ولا [ وجد ] إلا دون وجد وجدته ** أصاب شغاف القلب فالقلب مشغف )
قرئ في الشاذ : ( شعفها ) حبا ' ومعناه : ذهب الحب بها كل مذهب ، ومنه : شعف الجبال أي : رءوسها .
وقوله : ( ^ إنا لنراها في ضلال مبين ) أي : في خطأ ظاهر . ويقال : في ضلال مبين يعني : أنها تركت ما يكون عليه أمثالها من الستر والعفاف .
____________________

( ^ لنراها في ضلال مبين ( 30 ) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ) * * * * < < يوسف : ( 31 ) فلما سمعت بمكرهن . . . . . > >
قوله : ( ^ فلما سمعت بمكرهن ) أي : بتدبيرهن . وقد روي أنها أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك ؛ فلهذا سماه مكرا . وقوله : ( ^ وأرسلت إليهن ) أي : دعتهن . وقوله : ( ^ وأعتدت لهن متكئا ) قال ابن عباس ومجاهد : المتكأ يتكئون على الوسائد . وقد روي عن النبي أنه قال : ' أما أنا فلا آكل متكئا ' وهذا مما اختاره الله تعالى له من التواضع ، وأما الجبارون والعظماء فقد اعتادوا الأكل متكئين . وقيل : ' وأعتدت لهن متكئا ' أي : طعاما وشرابا واتكاء .
وقرىء في الشاذ : ' وأعتدت لهن متكا ' والمتك : هو الأترج . ذكره ابن عباس ومجاهد . وقيل : إنه البزماورد . أورده الضحاك . وقيل : هو كل ما يحز بالسكين . وفي القصة : أنها دعت أربعين امرأة من أشراف [ نساء ] مصر وزينت بيتا بألوان الفواكه والوسائد وفرشت البسط . وقوله : ( ^ وآتت كل واحدة منهن سكينا ) أي : وأعطت كل واحدة منهن سكينا ؛ وقد كانوا يأكلون اللحم جزا بالسكين ؛ والسنة هو النهش .
وقوله : ( ^ وقالت اخرج عليهن ) أمرت يوسف بأن يخرج عليهن فخرج وقد أخذن السكاكين ليقطعن المأكول . وقوله : ( ^ فلما رأينه أكبرنه ) فيه قولان : أحدهما : أعظمنه . والآخر : حضن . قال الشاعر :
( نأتي النساء لدى أطهارهن ولا ** نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا )
يعني : إذا حضن . والأولى هو الأول . وأنكر أبو عبيدة أن يكون ' أكبرن ' بمعنى :
____________________

( ^ وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ( 31 ) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) * * * * حضن .
وقوله ( ^ وقطعن أيديهن ) الأكثرون على أن هذا خدش وجرح بلا إبانة . وقال بعضهم : إنهن قطعن أيديهن على ( تحقيق ) قطع اليد جملة . والأول أصح . يقال : قطع فلان يده إذا خدشها وجرحها .
وفي القصة : أنهن بهتن وذهبت عقولهن [ و ] قطعن أيديهن ولم يعلمن بذلك حتى سالت الدماء منهن وقوله : ( ^ وقلن حاش الله ) وقرىء : ' حاشا لله ' ومعناه : [ معاذ ] الله أن يكون ( ^ ما هذا بشرا ) ومعناه : بشرا مثل سائر البشر . وقرىء : ' ما هذا مشتريا ' أي : بعبد مشترى . وقوله : ( ^ إن هذا إلا ملك كريم ) يعني : ملك كريم على ربه . وقد روى أنس ، عن النبي أنه قال : ' أعطي يوسف شطر الحسن ' . وعن ابن إسحاق - صاحب المعاني - قال : ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن .
وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي في قصة المعراج ' أنه رأى يوسف في السماء الثالثة ، قال : فرأيت وجهه كالقمر ليلة البدر ' . وروي أنه كان إذا مشى في سكك مصر رئي لوجهه ضوء على الجدران . وروي أنه لما ملك ، وكان إذا دخلت عليه امرأة غطى وجهه لئلا تفتتن به . < < يوسف : ( 32 ) قالت فذلكن الذي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) الملامة هو الوصف بالقبيح على وجه التحقير ، ومعنى قولها ' فذلكن الذي لمتنني فيه ' أن هذا هو الذي لمتنني فيه ،
____________________

( ^ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ( 32 ) قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب ) * * * * ثم صرحت بما فعلت ( وقالت ) : ( ^ ولقد راودته عن نفسه ) وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهن بعد ذلك وقد أصابهن ما أصابهن من رؤيته . وقوله تعالى : ( ^ فاستعصم ) أي : امتنع . وقوله : ( ^ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن ) يعني : ليعاقبن بالحبس . وقوله : ( ^ وليكونا من الصاغرين ) أي : ( ليكونن ) من المستحقرين والمستذلين . وعن وهب بن منبه : أن أولئك النسوة عشقنه وماتت جماعة منهن من عشقه . < < يوسف : ( 33 ) قال رب السجن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب السجن أحب إلي ) وقرىء في الشاذ : ' رب السجن ' وهو الحبس ، والسجن موضع الحبس ( ^ مما يدعونني إليه ) يقال : لو لم يقل هذا لم يبتل بالسجن . وفي بعض الأخبار : ' البلاء موكل بالمنطق ' ، والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية .
وقوله : ( ^ مما يدعونني إليه ) فيه قولان : أحدهما : أن الدعاء كان منها خاصة ؛ لكنه أضاف إلى جميع النسوة خروجا من التصريح إلى التعريض .
والقول الثاني : أنهن جميعا دعينه إلى أنفسهن .
وقوله : ( ^ وإلا تصرف عني كيدهن ) معناه : وإلا تصرف عنى شرهن ( ^ أصب إليهن ) أي : أمل إليهن . قال الشاعر :
( حتى متى تصبو ورأسك أشمط ** أظننت أن الموت باسمك يغلط )
وقوله : ( ^ وأكن من الجاهلين ) هذا دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة ، وقيل معناه : وأكن من المذمومين كما يذم الإنسان بفعل ما يقدم عليه جاهلا .
____________________

( ^ إليهن وأكن من الجاهلين ( 33 ) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ( 34 ) ثم بدا لهن من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ( 35 ) ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق ) * * * * < < يوسف : ( 34 ) فاستجاب له ربه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فاستجاب له ربه ) أي : أجاب له ربه . وقوله : ( ^ فصرف عنه كيدهن ) أي : شرهن ( ^ إنه هو السميع العليم ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 35 ) ثم بدا لهم . . . . . > >
قوله : ( ^ ثم بدا لهم ) أي : ظهر لهم . وقوله : ( ^ من بعد ما رأوا الآيات ) هاهنا شق القميص ، وكلام الطفل ، وجز النساء أيديهن بالسكاكين ، وذهاب عقولهن بما رأين من جماله . وقوله : ( ^ ليسجننه حتى حين ) أي : ليحبسنه إلى مدة . قال عطاء : إلى حين : إلى أن تنقطع مقالة الناس . < < يوسف : ( 36 ) ودخل معه السجن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ودخل معه السجن فتيان ) في القصة : أن المرأة قالت لزوجها : قد فضحني هذا الغلام العبراني ( في الناس ) ، فإما أن تأذن [ لي ] أخرج وأعتذر من الناس ، وإما أن تحبسه ، فحبسه ، ولما حبس حبس الملك بعد ذلك رجلين من خاصته ؛ أحدهما : صاحب طعامه ، والآخر : صاحب شرابه ، ويقال : كان يسمى أحدهما : سرهم ، والآخر : شرهم . وكان سبب حبسهما : أن الملك اتهم صاحب الطعام [ أنه ] : قصد سمه ، وظن أيضا أن صاحب الشراب مالأه على ذلك ؛ وكان الملك هو الوليد بن مروان العمليقي ، وقيل غير هذا الاسم .
وقوله : ( ^ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ) وروي أن يوسف - عليه السلام - لما دخل السجن جعل يدعو إلى الله وينشر علمه ، فرأى هذين الرجلين وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما صاحبا الملك ، وأن الملك حبسهما ، وقد رأيا رؤيا وقد غمهما ذلك ، فقال لهما : قصا علي ما رأيتما ، فقصا عليه رؤياهما ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ) . وفي القصة : أنه قال : رأيت حبلة عليها ثلاثة عناقيد فجنيتهن وعصرتهن خمرا وسقيت منه الملك .
____________________

( ^ رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ( 36 ) قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة ) * * * *
وقوله : ( ^ أعصر خمرا ) العصر : هو الاعتماد باليد على ما فيه مائية ليحلب عنه الماء . وقوله ( ^ خمرا ) : قيل : عنبا ، قيل : هذا بلغة عمان ، قال المعتمر : لقيت أعرابيا معه سلة فيها [ عنب ] فقلت : ما معك ؟ قال : الخمر . وقال الشاعر :
( ينازعني به ندمان صدق ( شواء ) الطير والعنب الحقينا )
وأراد بالعنب : الخمر . ويقال : معنى قوله : ( ^ أعصر خمرا ) أي : عنب خمر . ويقال : معنى قوله : ( ^ أعصر خمرا ) أي : عنبا ؛ سماه خمرا باسم ما يؤول إليه ؛ تقول العرب : فلان يعصر الدبس ويطبخ الآجر يعني : يعصر العنب للدبس ، ويطبخ اللبن للآجر ، قال الشاعر :
( الحمد لله الجليل المنان ** صار الثريد في رءوس العيدان )
وقوله : ( ^ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ) روي أن الآخر قال : إني أراني كأني أحمل ثلاث سلال من الخبز على رأسي وسباع الطير ينهش منه .
وقوله : ( ^ نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) قال : كان يوسف عليه السلام إذا مرض في السجن مريض عاده وقام عليه ، وإذا افتقر إنسان جمع له شيئا ، وإذا رأى مظلوما نصره ، وإذا رأى حزينا سلاه ، وكان مع هذا يقوم الليل كله بالصلاة .
والقول الثاني : ( ^ إنا نراك من المحسنين ) يعني : من المحسنين لعبارة الرؤيا ، والإحسان بمعنى العلم ؛ يقال : فلان يحسن كذا ، أي : يعلمه . < < يوسف : ( 37 ) قال لا يأتيكما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لا يأتيكما طعام ) الآية ، بدأ يوسف - صلوات الله عليه - قبل تعبير الرؤيا بإظهار المعجزة والدعاء إلى توحيد الله ؛ فقوله : ( ^ لا يأتيكما طعام ترزقانه
____________________

( ^ قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( 37 ) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى ) * * * * إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تدعوان بطعام من منازلكما إلا نبأتكما بقدره ولونه وطعمه والوقت الذي يصل إليكما فيه قبل أن يصل إليكما ؛ وهذه المعجزة مثل معجزة عيسى - عليه السلام - وقوله : ( ^ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) .
والقول الثاني : أنه كان من رسم الملك إذا أراد أن يقتل إنسانا يبعث إليه بطعام معروف عندهم ، وإذا أراد أن يكرم إنسانا بعث إليه بطعام معروف عندهم ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ لا يأتيكما طعام ترزقانه ) .
والقول الثالث : لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة ، فقالوا : من أين لك ذلك ، أتتكهن أم تتنجم ؟ فقال : لا ؛ ولكن مما علمني ربي . فهذا معنى قوله ( ^ ذلكما مما علمني ربي ) . وقوله : ( ^ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ) ظاهر . < < يوسف : ( 38 ) واتبعت ملة آبائي . . . . . > >
ثم قال : ( ^ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) أظهر أنه نبي وأنه من ولد الأنبياء . وقوله : ( ^ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ) معناه : أن الله قد عصمنا من الإشراك به . وقوله : ( ^ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) يعني به : ما أقام من الدليل وبين من الهدى . وقوله : ( ^ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) ظاهر المعنى .
ثم زاد في الدلالة على التوحيد فقال : < < يوسف : ( 39 ) يا صاحبي السجن . . . . . > > ( ^ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون ) وسماهما : صاحبي السجن ؛ لأنهما كانا في السجن ، وقوله ( ^ أأرباب متفرقون ) أي : أملاك متباينون هذا [ من ] ذهب ، وهذا من فضة ، وهذا من نحاس ، وهذا من خشب ، وقيل : هذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدنى ، وقوله : ( ^ خير أم الله الواحد القهار ) الواحد الغالب على كل شيء ، والمراد ، نفي الخيرية منهم أصلا ، وقد ذكرنا
____________________

( ^ الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( 38 ) يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( 39 ) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 40 ) يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر ) * * * * من قبل ثم زاد وقال : < < يوسف : ( 40 ) ما تعبدون من . . . . . > > ( ^ ما تعبدون من دونه ) أي : من دون الله ( ^ إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) يعني : هذه الأصنام أسماء مجردة خالية عن المعنى . وقوله : ( ^ ما أنزل الله بها من سلطان ) أي : حجة ( ^ إن الحكم إلا لله ) ما الحكم إلا الله ( ^ أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) ظاهر المعنى . قوله : ( ^ ذلك الدين القيم ) أي : الطريق المستقيم ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ظاهر المعنى .
وفي القصة : أن صاحب السجن لما سمع منه ما سمع ، ورأى منه ما رأى أحبه حبا شديدا وجعله على أهل السجن ، وكذلك أهل السجن أحبوه حتى كان الرجل يخلى من السجن فيعود إليه ، فروي أن صاحب السجن قال له : أنا أحبك فقال : أنشدك الله أن تحبني - يعني : أن لا تحبني - فإن من أحبني يوقعني في البلاء ، أحبتني عمتي فوقعت في بلاء ، وأحبني والدي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحبست . وروي أن صاحبي الملك قالا له هذه المقالة فأجابهما بهذا . < < يوسف : ( 41 ) يا صاحبي السجن . . . . . > >
قوله : ( ^ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ) روي أنه قال لصاحب الشراب : أما تأويل رؤياك : فإنك تدعى بعد ثلاثة أيام وترد إلى منزلتك من الملك .
وقوله : ( ^ وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ) قال : وأما أنت يا صاحب الطعام فتدعى بعد ثلاثة أيام وتصلب وتأكل الطير من رأسك ؛ فروي أنهما جميعا قالا : كذبنا ما رأينا شيئا ، فقال : ( ^ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) يعني : فرغ من الأمر وما قلت كائن ؛ رأيتما أو لم ترياه . وقال أبو مجلز : الذي قال له : أنا لم أر شيئا هو صاحب الطعام خاصة . وقد روي أنهما قد رأيا ما قالا حقيقة . قوله : ( ^ قضي الأمر ) تتميم الكلام .
____________________

( ^ فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ( 41 ) وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ) * * * * < < يوسف : ( 42 ) وقال للذي ظن . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ وقال للذي ظن أنه ناج منهما ) معناه : أنه ( أيقن ) أنه ناج منهما ( ^ اذكرني عند ربك ) أي : عند سيدك ، فروي أنه قال له : قل للملك : إن في السجن رجلا مظلوما قد طال حبسه . وقوله : ( ^ فأنساه الشيطان ذكر ربه ) الأكثرون : معناه : فأنسى يوسف الشيطان ذكر ربه حتى استغاث بمخلوق مثله ، وهذا قول ابن عباس وغيره .
والقول الثاني : أن الشيطان أنسى الرجل الذي خلي من السجن ذكر يوسف لسيده .
وقوله : ( ^ فلبث في السجن بضع سنين ) الأكثرون : على أن بضع سنين هاهنا : سبع سنين وقد كان لبث من قبل خمس سنين ؛ فمكث فيه [ اثنتي عشرة ] سنة . وقال الأخفش : البضع : من الواحد إلى العشرة ، وقيل : من ثلاث إلى التسع ؛ فروي : أن الله تعالى بعث جبريل إليه ، فقال له : قل يا يوسف من حببك إلى أبيك ؟ فقال : أنت يا رب ، فقال : من خلصك من الجب ؟ قال : أنت يا رب ، قال : من صرف عنك السوء والفحشاء ؟ قال : أنت يا رب ، قال : فما استحييت مني أن استعنت بمخلوق ؟ ! وعزتي لأطيلن مكثك في السجن . وروي أنه قال : يا رب بحق آبائي اغفر لي ذنبي ، فجاء جبريل وقال له : وأي حق لآبائك علي ؟ ! أما جدك إبراهيم : فقد جعلت النار عليه بردا وسلاما ، وأما إسماعيل : ففديته بكبش عظيم ، وأما أبوك يعقوب : ( فأعطيته ) اثني عشر ابنا وأخذت منهم واحدا ، فما زال يبكي حتى ابيضت عيناه وجعل يشكوني ، فقال يوسف : إلهي بمنك القديم وفضلك العظيم وأياديك الكثيرة اغفر لي ذنبي ، فغفر له . وروي عن الحسن البصري أنه قال : دخل جبريل على
____________________

( ( 42 ) وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون ( 43 ) قالوا ) * * * * يوسف عليهما السلام في السجن ، فقال له : يوسف ، يا أخ المنذرين ما تعمل بين المذنبين ؟ فقال [ له ] جبريل : يا طيب ابن الطيبين يقول لك ربك : أما ( استحييت ) مني أن استعنت بمخلوق مثلك ؟ ! وعزتي لأطيلن حبسك ، فقال له يوسف عليه السلام : أهو راض عني ؟ فقال : نعم . فقال : إذا لا أبالي . وروي أنه قال لجبريل : ما بلغ حزن أبي يعقوب ؟ فقال : حزن سبعين ثكلى ، فقال : وكيف أجره ؟ فقال : أجر مائة شهيد . < < يوسف : ( 43 ) وقال الملك إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان [ يأكلهن سبع عجاف ] ) الملك هاهنا : ملك مصر ، والملك هو القادر الواسع المقدور فيما يرجع إلى السياسة والتدبير . وقوله : ( ^ إني أرى ) معناه : إني أرى في المنام . وقوله : ( ^ بقرات ) : البقر : حيوان معروف يصلح للكراب ، ومنه ( المثل ) : الكراب على البقر ؛ لأنه أقوم به .
وقوله : ( ^ سمان ) معلوم المعنى .
وروي أن الملك رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر كأسمن ما يكون من البقر ، ثم خرج عقيبه سبع بقرات عجاف في غاية الهزال والعجف ، ثم إن العجاف ابتلعت السمان وأكلتها حتى لم يتبين على العجاف منها شيء ، ثم رأى [ ( ^ وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) أي : ] سبع سنبلات يابسة التوت على الخضر حتى غلبت عليها فلم يبق من خضرتها شيء . وقوله : ( ^ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ) الرؤيا ( هو ) ما يتخيله الإنسان في المنام ، وقد بينا أن النبي قال في الرؤيا الصادقة : ' تلك عاجل بشرى المؤمن ' وروي عن النبي أنه قال :
____________________

( ^ أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ( 44 ) وقال الذي نجا منهما وادكر ) * * * * ' إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ' وله معنيان : أحدهما : أن تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار ؛ والطباع عند استواء الليل والنهار أصح ؛ فالرؤيا أصدق . والمعنى الثاني : أن تقارب الزمان هو تقارب الساعة . وقد روي في بدء وحي النبي : ' أنه كان إذا رأى الرؤيا جاءت مثل فلق الصبح ' .
وقوله : ( ^ إن كنتم للرؤيا تعبرون ) يقال : عبرت الرؤيا : إذا فسرتها ، والتعبير هو التفسير هاهنا . < < يوسف : ( 44 ) قالوا أضغاث أحلام . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ قالوا أضغاث أحلام ) الضغث : كل ما قبض عليه من الأخلاط من الحشيش وغيره . ومعنى الآية : روي عن قتادة أنه قال : أضغاث أحلام أي : أخلاط أحلام . وعن مجاهد قال : أهاويل أحلام ، وقيل : أباطيل أحلام . وقوله : ( ^ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ) ( ومعناه ) : وما نحن بتأويل الأحلام ( التي ) وصفتها هذه بعالمين . < < يوسف : ( 45 ) وقال الذي نجا . . . . . > >
قوله : ( ^ وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ) أي : مدة ، [ و ] في القصة : أن الملك جمع السحرة والكهنة والمعبرين وقص عليهم رؤياه ، فلما عجزوا عن تعبيرها اهتم هما شديدا ، فتذكر الغلام الساقي حال يوسف عليه السلام ، وقد كان فجىء بقوله ، فجثى بين يدي الملك وقال : إن في السجن رجلا محبوسا وهو يعبر الرؤيا ، وذكر قصته ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة ) والأمة هاهنا بمعنى الحين ؛ وقد بينا أنه حبس سبع سنين بعد ما عبر رؤيا صاحب الملك . وعن وهب
____________________

( ^ بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ( 45 ) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ( 46 ) قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا ) * * * * بن منبه قال : مكث يوسف في السجن سبع سنين ، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين . وقرىء في الشاذ : ' وادكر بعد أمة ' بالهاء ؛ ومعناه : بعد نسيان . وقوله : ( ^ أنا أنبئكم بتأويله ) معناه : أنا آتيكم بتأويله ( ^ فأرسلون ) يعني : أرسلني أيها الملك إليه . < < يوسف : ( 46 ) يوسف أيها الصديق . . . . . > >
وقوله : ( ^ يوسف أيها الصديق ) في الآية اختصار ، ومعناه : أن الملك أرسله إلى يوسف ، وهو قال : يوسف أيها الصديق ، والصديق : ( الكثير للصدق ) . وقوله : ( ^ أفتنا ) معناه : أجبنا ( ^ في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) هذا ذكر تقصيص الرجل رؤيا الملك على يوسف .
وقوله : ( ^ لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) فيه قولان : أحدهما : لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا . والثاني [ معناه ] : لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون منزلتك ودرجتك في العلم . < < يوسف : ( 47 ) قال تزرعون سبع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال تزرعون سبع سنين دأبا ) هذا خبر بمعنى الأمر ؛ ومعناه : ازرعوا سبع سنين ، يعني : على عادتكم ؛ والدأب : العادة . وقوله ( ^ فما حصدتم ) الحصاد معلوم . وقوله : ( ^ فذروه في سنبله ) أمرهم أن يتركوا الحنطة في السنابل ليكون أبقى على الزمان . وقوله : ( ^ إلا قليلا مما تأكلون ) يعني : مما تدرسون وتأكلون ؛ فكأنه أمرهم أن يحفظوا الأكثر ويأكلوا بقدر الحاجة . < < يوسف : ( 48 ) ثم يأتي من . . . . . > >
وقوله : ( ^ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ) سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس . وقوله : ( ^ يأكلن ما قدمتم لهن ) معناه : ( يفنين ) ويهلكن
____________________

( ^ مما تأكلون ( 47 ) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ( 48 ) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ( 49 ) وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي ) * * * * ما قدمتم لهن ، وهذا على طريق التوسع والمجاز ؛ فإن السنين لا تأكل شيئا ، وإن القوم في السنين يأكلون . وقوله : ( ^ إلا قليلا مما تحصنون ) يعني : تحرزون ؛ ومعناه : تحرزون للبذر . < < يوسف : ( 49 ) ثم يأتي من . . . . . > >
وقوله : ( ^ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس ) الغياث هاهنا : هو الخصب والسعة . وقوله ( ^ وفيه يعصرون ) قرىء بقراءتين : ' يعصرون ' و ' تعصرون ' ومعناه : يعصرون الزيت من الزيتون ، ومن العنب العصير ، ومن السمسم الدهن . هذا قول ابن عباس ومجاهد .
وقيل : يعصرون : ينجون . قال الشاعر :
( وصاديا يستغيث غير مغاث ** ولقد كان عصرة المنجود )
ولقد كان عصرة المنجود يعني : المنجاة . وقيل : يعصرون : ينزل عليهم المطر من السحاب ، قال الله تعالى ( ^ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) . < < يوسف : ( 50 ) وقال الملك ائتوني . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وقال الملك ائتوني به ) في الآية اختصار أيضا فإن الرجل رجع إلى الملك وقص عليه تأويل الرؤيا ثم قال الملك : ائتوني به . وقوله : ( ! ( فلما جاءه الرسول قال ) ! ارجع إلى ربك ) إلى سيدك ( ^ فاسأله ما بال النسوة اللاتي ) أي : ما حال النسوة اللاتي ( ^ قطعن أيديهن ) على ما بينا من قبل ، ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما . وقوله : ( ^ إن ربي بكيدهن عليم ) أي : بحيلهن ومكرهن عليم .
واعلم أنه قد صح عن النبي أنه قال : ' لو لبثت في السجن مثل ما لبث يوسف ثم جاءني الداعي لأجبت ' وفي بعض الروايات أن النبي قال : ' رحم الله أخي يوسف ؛ لقد كان ذا حلم وأناة ، ولو كنت مكانه ثم دعيت لبادرت ' .
____________________

( ^ قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( 50 ) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( 51 ) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي ) * * * * فإن قيل : أيش قصد يوسف عليه السلام من رد الرسول وذكر النسوة ، وقد مضى على ذلك الزمان الطويل ؟
الجواب : المراد أنه أن لا ينظر إليه الملك بعين التهمة ويصير إليه وقد زال الشكوك عن أمره فقال ما قال هذا . < < يوسف : ( 51 ) قال ما خطبكن . . . . . > >
قوله ( تعالى ) ( ^ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف ) روي أن الملك بعث إلى النسوة وفيهن امرأة العزيز فدعا بهن وقال لهن هذه المقالة ، وقوله : ( ^ ما خطبكن ) أي : ما ( حالكن ) ؟ وقيل : ما أمركن ؟ وقوله : ( ^ إذ راودتن يوسف عن نفسه ) خاطبهن بهذه المقالة ، والمراد : امرأة العزيز خاصة ، وقيل : إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بالطاعة لها ؛ فلهذا قال : إذ راودتن يوسف عن نفسه . وقوله : ( ^ قلن حاش لله ) معاذ الله ( ^ ما علمنا عليه من سوء ) يعني : ما علمنا عليه من تهمة ولا خيانة . وقوله : ( ^ قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه ) وفي القصة : أن النسوة لما أخبرن ببراءة يوسف عما قرن به أقبلن على امرأة العزيز يقرونها . وروي أنها خافت أن يقبلن عليها ويشهدن عليها فأقرت وقالت : الآن حصحص الحق . معناه : تبين الحق . وقيل : معناه : الآن ظهر الأمر بعد الانكتام . قال الشاعر :
( ألا مبلغ عني خداشا بأنه ** كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم )
( ^ أنا راودته عن نفسه ) ظاهر المعنى .
قوله : ( ^ وإنه لمن الصادقين ) < < يوسف : ( 52 ) ذلك ليعلم أني . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ذلك ليعلم ) اختلفوا على أن هذا قول من ؟ الأكثرون أنه قول يوسف ؛ ومعناه : ذلك ليعلم العزيز ( ^ أني لم أخنه بالغيب
____________________

( ^ كيد الخائنين ( 52 ) وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( 53 ) وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم ) * * * * وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) ومعناه : إنه لا يوضح ولا يرشد كيد الخائنين . فإن قال قائل : كيف دخل قول يوسف في وسط هذا الكلام ، وإنما المذكور كلام جرى بين الملك والنسوة ؟ !
قلنا : اعتراض كلام آخر بين كلام . جائز على لغة العرب ؛ قال الله تعالى في قصة سليمان حكاية عن بلقيس : ( ^ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) كلام الله تعالى اعتراض في الوسط ومنهم من قال : وفي [ الآية ] تقدير من التقديم والتأخير ، معناه : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ؛ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ، ثم يرتب على هذا في المعنى قوله : ( ^ ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ) . < < يوسف : ( 53 ) وما أبرئ نفسي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أبرىء نفسي ) الآية . روي : ' أن جبريل عليه السلام قال ليوسف حين قال : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب . [ فقال له ] : ولا حين هممت ' . وروي أنه قال : حين حللت التكة . فقال يوسف : ( وما أبرىء نفسي ) ( ^ إن النفس لأمارة بالسوء ) يعني : إن النفس كثيرة الأمر بالسوء : السوء هاهنا هو المعصية . وقوله : ( ^ إلا ما رحم ربي ) قيل : إلا من رحم ربي ، وفيه معنيان ؛ أحدهما : أنه أشار إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان . والقول الثاني : إلا من رحم ربي : هم الملائكة ؛ فإن الله تعالى لم يركب فيهم الشهوة وخلقهم على العصمة من الهم وغيره .
____________________

( ^ لدينا مكين أمين ( 54 ) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( 55 ) وكذلك )
وقوله : ( ^ إن ربي غفور رحيم ) ظاهر . < < يوسف : ( 54 ) وقال الملك ائتوني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ) معناه : أجعله خاصا لنفسي لا يشركني فيه أحد ( ^ فلما كلمه ) في الآية اختصار أيضا فروي أنه ذهب الرسول ودعاه فقام واغتسل ولبس ثيابا ( نضافا ) وجاء إلى الملك . وقوله : ( ^ فلما كلمه ) في القصة أن الملك طلب منه أن يعيد تعبير الرؤيا ليسمع منه شفاها ، فقص عليه ، فهذا معنى قوله : ( ^ فلما كلمه ) وقيل : إن الملك كان يعلم سبعين لغة من لغات الناس فكلم يوسف بتلك اللغات فأجابه يوسف بها كلها وزاد ( لسان ) العبرية والعربية ولم يكن الملك يعلم ذلك ، فقال : ( ^ إنك اليوم لدينا مكين أمين ) والمكانة : هي الجاه والحشمة والدرجة الرفيعة ، وقوله : ( ^ أمين ) أي : صادق . < < يوسف : ( 55 ) قال اجعلني على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال اجعلني على خزائن الأرض ) اختلفوا أن يوسف عليه السلام لم طلب هذا ؟ قال ( بعضهم ) : إنما طلب ذلك لأنه عرف أن ذلك ؛ وصله إلى وصول أهله إليه من أبيه وإخوته وغيرهم ، ومنهم من قال : إنما طلب ذلك لأنه عرف أنه أقوم الناس بالقيام بمصالح الناس في السنين الشداد ، فطلب لهذا المعنى .
وقوله : ( ^ اجعلني على خزائن الأرض ) الأرض هاهنا : أرض مصر ، والخزائن : هي خزائن الطعام والأموال . وقال ربيع بن أنس : ' اجعلني على خزائن الأرض ' أي : على خراج مصر ودخلها .
( ^ إني حفيظ عليم ) أي : حفيظ للخزائن ، عليم بوجوه مصالحها . وفي بعض التفاسير : ' إني حفيظ عليم ' أي : كاتب حاسب . فإن قيل : هل يجوز أن يتولى المسلم من يد كافر عملا ؟
قلنا قد قالوا : إنه إذا علم أن الكافر يخليه والعمل بالحق يجوز أن يتولى . وقد
____________________

( ^ مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر ) * * * * روي أن ملك مصر لم يكن طاغيا ظالما ، وإنما كان رجلا عفيفا في دينه ، وإنما الطاغي الظالم كان فرعون موسى . وفي القصة : أن الملك مكث سنة لا يوليه ثم ولاه . وفي بعض الغرائب من الأخبار برواية أنس عن النبي : ' أن يوسف لو لم يطلب يوليه في الحال ، ولكنه لما طلب أخر الملك سنة ' . فإن قال قائل : أيجوز للإنسان أن يزكي نفسه وقد قال يوسف عليه السلام : ' إني حفيظ عليم ' ؟
قلنا : يجوز إذا كان في ذلك مصلحة عامة . وقيل : إنه يجوز ( إذا عرف أنه ) لا يلحقه بذلك آفة وأمن العجب على نفسه . وعن بعض الأئمة : لا يضر المدح من عرف نفسه . وقد قال عليه السلام : ' أنا سيد ولد آدم ولا فخر ' والخبر بطوله . < < يوسف : ( 56 ) وكذلك مكنا ليوسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك مكنا ) روي أن الملك ولاه ما طلب بعد سنة وتوجه بتاج مرصع بجواهر وأجلسه على سرير الذهب واعتزل الأمر كله ، وفوض إليه ، ودانت له الملوك وسمي بالعزيز . وفي القصة أيضا أن امرأة العزيز مات زوجها فزوجها الملك من يوسف - عليه السلام - وولدت له ولدين . وفي بعض الروايات : أنها وقفت على طريق يوسف عليه السلام ونادت : سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم ، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم .
قوله تعالى : ( ^ [ مكنا ] ) ومعناه : ملكنا وبسطنا ( ^ ليوسف في الأرض ) يعني : أرض مصر ( ^ يتبوأ منها حيث يشاء ) أي : ينزل منها حيث يشاء ( ^ نصيب
____________________

( ^ المحسنين ( 56 ) ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ( 57 ) وجاء إخوة يوسف ) * * * * برحمتنا ) معناه : ( نصيب بنعمتنا ) ( ^ من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 57 ) ولأجر الآخرة خير . . . . . > >
قوله : ( ^ ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا ) معناه : ثواب الآخرة خير للذين آمنوا . وقوله : ( ^ وكانوا يتقون ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 58 ) وجاء إخوة يوسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه ) قال أصحاب الأخبار : لما نصب الملك يوسف - عليه السلام - للقيام بالأمر ، وتدبير مال مصر دبر في جمع الطعام أحسن التدبير بنى الحصون والبيوت الكبيرة ، وجمع فيها طعاما للسنين المجدبة ، وأنفق منها بالمعروف حتى مضت السنون المخصبة ودخلت سنون القحط ، فروي أنه كان دبر في [ طعام ] الملك وحاشيته مرة واحدة وهو نصف النهار ، فكلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذ الجوع هو الملك فنادى بنصف الليل : يا يوسف ، الجوع ، الجوع . وفي بعض الأخبار أنه كان يقدر لكل اثنين طعام اثنين وكان يقدم جميعه بين يدي الواحد فلا يأكل إلا نصفه ، فلما دخلت سنة القحط ( قدم طعام اثنين بين يدي واحد فقدم فأكل جميعه وطلب زيادة فعرف يوسف عليه السلام أنه دخلت سنة القحط ) ، والله أعلم . قالوا : ودخلت السنة الأولى بهول وشدة لم يعهد الناس مثله ، وكان كلما جاءت سنة أخرى كانت أهول وأشد ، فلما كانت السنة الثانية وصل القحط إلى كنعان - وهو منزل يعقوب وأولاده - فاحتاجوا إلى الطعام حاجة شديدة فدعا بنيه وقال لهم : بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا واذهبوا إليه لتشتروا منه الطعام ، قال : فأرسلهم وهم عشرة نفر وحبس [ ابنه بنيامين ] عنده فقدموا مصر ، فهذا معنى قوله : ( ^ وجاء إخوة يوسف ) . وقوله : ( ^ فعرفهم )
____________________

( ^ فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ( 58 ) ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ( 59 ) فإن لم ) * * * *
قال ابن عباس ومجاهد : عرفهم بأول ما نظر إليهم ، وقال الحسن : لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه . ومعنى الآية : فعرفهم بالتعريف ؛ والمعرفة : تبين الشيء بما لو شوهد لميز بينه وبين غيره . وقوله : ( ^ وهم له منكرون ) يعني : أنهم لم يعرفوه ؛ والإنكار إبطال المعرفة بالقول ، فإن قال قائل ، كيف عرفهم ولم [ يعرفوه ] وهم إخوة ؟ !
والجواب من وجوه : قال عطاء بن أبي رباح : كان عليه تاج الملك وكان قاعدا على سرير الملك فلم يعرفوه . وذكر الكلبي أنه كان على زي ملوك مصر والأعاجم .
والقول الثاني : أنه كلمهم من وراء ستر فلم يعرفوه لهذا وعرفهم ؛ لأنه أبصرهم ولم يعرفوه ؛ لأنهم لم يبصروه ، وهذا أضعف الأقوال .
والقول الثالث : أنهم كانوا تركوه صغيرا ، وكان بين أن باعوه وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة فلم يعرفوه لهذا . وهذا قول حسن . وأما هو فكان تركهم رجالا .
والقول الرابع : أن يوسف كان يتوقع قدومهم عليه فلما [ جاءوا ] عرفهم ، وأما الإخوة ما ظنوا أنه يصل إلى ما وصل إليه [ فأنكروه ] لهذا . < < يوسف : ( 59 ) ولما جهزهم بجهازهم . . . . . > >
قوله ( ^ ولما جهزهم بجهازهم ) الآية ، الجهاز : هو فاخر المتاع الذي ينقل من بلد إلى بلد ؛ ومعنى التجهيز هاهنا : هو أنه باع منهم الطعام وسلمه إليهم وسهل لهم الرجوع إلى بلدهم .
وقوله : ( ^ قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) في القصة : أنهم لما دخلوا عليه خلا بهم في البيت وقال : إني استربت بحالكم فأخبروني من أنتم ؟ فقالوا : نحن بنو رجل صديق ، فقال : ومن هو ؟ قالوا : يعقوب ، فاستخبرهم عن حاله ، فذكروا أنه كان له اثنا
____________________

( ^ تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ( 60 ) قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ( 61 ) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا * * * * عشر ابنا وأنه هلك واحد منهم في البرية ( وحبس ) واحدا وهو أخوه لأمه ليستأنس به ، فقال : أنا مستريب بكم ، فإن كنتم صادقين فاحملوا ذلك الأخ معكم لتزول الريبة عن حالكم . وقيل : إنه قال لهم لما قصت القصة عليه ، قصتي مثل قصتكم أيها القوم وقد فقدت أخا لي من أمي وأنا شديد الحزن عليه وقد نغص فراقه علي ملكي فأحب أن تحملوه إلي لأشكو إليه حزني ويشكو إلي حزنه ، فبهذا الطريق قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم .
وفي بعض ( التفاسير ) : أنهم ذكروا إيثار يعقوب بنيامين ) و ( أخاه ) في المحبة فأحب أن يرى بنيامين لينظر هل هو موضع الإيثار ؟
وقوله : ( ^ ألا ترون أني أوفي الكيل ) يعني : أتم الكيل ولا أبخسه . وقوله : ( ^ وأنا خير المنزلين ) قال مجاهد : أنا خير المضيفين ، وكان قد أحسن ضيافتهم . < < يوسف : ( 60 ) فإن لم تأتوني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ) قال الحسن : إن لم تأتوني به فلا طعام لكم عندي إن جئتم . وقوله : ( ^ ولا تقربون ) أي : لا تقربوا بلادي ولا داري . < < يوسف : ( 61 ) قالوا سنراود عنه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا سنراود عنه أباه ) معناه : سنطلب إلى أبيه أن يرسله معنا . وقوله : ( ^ وإنا لفاعلون ) أي : مجتهدون . < < يوسف : ( 62 ) وقال لفتيانه اجعلوا . . . . . > >
قوله : ( ^ وقال لفتيته ) قرىء بقراءتين : ' لفتيانه ' و ' لفتيته ' والفتى : هو الشباب الكامل في القوة ، والفتية والفتيان هاهنا : الغلمان . وقوله : ( ^ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ) يقال : إن بضاعتهم كانت دارهم حملوها لشراء الطعام . وعن بعضهم : أن بضاعتهم كانت ثمانية جرب من سويق المقل . والأصح هو الأول . وقوله : ( ^ في رحالهم ) الرحل هاهنا : وعاء المتاع . وقيل : في جواليقهم . وقوله : ( ^ لعلهم يعرفونها
____________________

( ^ انقلوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ( 62 ) فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ( 63 ) قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ( 64 ) ) * * * * إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) فيه قولان : أحدهما : لعلهم يعرفون كرامتهم علينا ، وإحساننا إليهم فيحملهم ذلك على الرجوع .
والقول الثاني : لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم - يعني : البضاعة - فيرجعون لرد البضاعة نفيا للغلط . واختلف القول في أنه لم رد بضاعتهم عليهم ؟
فأحد الأقوال : ما بينا ، وهو أن يكون ذلك حثا لهم على الرجوع . والثاني : أنه عرف أن الدراهم كانت قليلة عندهم فرد الدراهم عليهم ليكون عونا لهم على شراء الطعام . والثالث : أنه استحيا أن يعطي أباه وإخوته بالثمن مع شدة حاجتهم وسعة الأمر عليه . < < يوسف : ( 63 ) فلما رجعوا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل ) إن لم نحمل أخانا معنا . والثاني : أنه كان أعطى باسم كل واحد منهم وقرا ، ولم يعط باسم بنيامين شيئا ، وقال : احملوه لأعطي باسمه ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ منع منا الكيل ) أي : منع منا الكيل لبنيامين ؛ والمعنى بالكيل هو الطعام ؛ لأنه يكال . وقوله : ( ^ فأرسل معنا أخانا نكتل ) أي : نكيل الطعام ، وقيل : نكتل له . وقوله : ( ^ وإنا له لحافظون ) ظاهر . < < يوسف : ( 64 ) قال هل آمنكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال هل ءآمنكم عليه ) الآية ، معنى هذا : كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم . وقوله : ( ^ فالله خير حافظا ) قرىء : ' حفظا ' و ' حافظا ' ومعناه : حفظ الله خير من حفظكم ، وحافظ الله خير من حافظكم .
قوله : ( ^ وهو أرحم الراحمين ) ظاهر . < < يوسف : ( 65 ) ولما فتحوا متاعهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ) يعني : ما حملوا من الدراهم ( ^ قالوا يا أبانا ما نبغي ) فيه قولان : أحدهما : أي شيء نطلب ؟ على طريق الاستفهام ؛ قاله قتادة . وحقيقته : أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك
____________________

( ^ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ( 65 ) قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط ) * * * * إليهم وإكرامه إياهم ، [ وحثوه ] بذلك على إرسال بنيامين ، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة قالوا : أي شيء نطلب بالكلام ، هذا هو العيان في الإحسان والإكرام .
والقول الثاني : أن ' ما ' هاهنا للنفي ؛ ومعناه : لا نطلب منك مالا لنشري به الطعام ( ^ هذه بضاعتنا ردت إلينا ) هذا المال قد رد إلينا فنحمله ونشتري به الطعام . والقول الأول أصح .
وقوله : ( ^ ونمير أهلنا ) يقال : مار أهله إذا حمل لهم الطعام من بلد إلى بلد ؛ والميرة : هو الطعام المحمول . وقوله : ( ^ ونحفظ أخانا ) يعني : مما تخاف عليه . وقوله : ( ^ ونزداد كيل بعير ) قال مجاهد : البعير هاهنا : هو الحمار ، قال : هو لغة ، وكانوا أصحاب حمر ولم يكن لهم إبل . والأصح أنه البعير المعروف . وقوله : ( ^ ونزداد ) إنما قالوا هذا لأنه كان يعطى حمل بعير باسم كل رجل ولا يزيد ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ ونزداد كيل بعير ) . قوله : ( ^ ذلك كيل يسير ) فيه معنيان : أحدهما : ذلك كيل قليل ؛ يعني : ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا ، فأرسل معنا أخانا [ نكتل ] ليكثر ما نحمله من الطعام . والمعنى الثاني : ذلك كيل يسير أي : هين على من يكتاله . < < يوسف : ( 66 ) قال لن أرسله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لن أرسله معكم ) في القصة : أن الإخوة جهدوا أشد الجهد وضاق الأمر على يعقوب وقومه في الطعام فلم يجد بدا من إرسال [ بنيامين ] معهم فقال : ( ^ لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله ) الموثق : هو العهد المؤكد بالقسم ، وقيل : المؤكد بإشهاد الله على نفسه . وقوله : ( ^ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) فيه قولان ، أحدهما : إلا أن تهلكوا جميعا . والآخر : إلا أن يأتيكم أمر من السماء ليس لكم به قوة .
____________________

( ^ بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ( 66 ) وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من ) * * * *
وقوله : ( ^ فلما آتوه موثقهم ) يعني : أعطوه ( ^ قال الله ) تعالى ( ^ على ما نقول وكيل ) قال يعقوب : الله على ما نقول وكيل ؛ والوكيل هو القائم بالتدبير ، وقيل : وكيل أي : شاهد [ وقيل : شهيد ، أي : شاهد ] وقيل : حفيظ . < < يوسف : ( 67 ) وقال يا بني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد ) أكثر المفسرين [ على ] أنه خاف العين : لأنه كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامة ، هذا قول ابن عباس وغيره من المفسرين ؛ والعين حق . وقد روي عن النبي أنه كان يعوذ الحسن والحسين فيقول : ( أعيذكما بكلمات الله [ التامة ] من كل شيطان [ و ] هامة ، ومن كل عين لامة ' ( 3 ) .
وفي الباب أخبار كثيرة ، وفي بعض الآثار . ' العين حق ، تدخل الجمل القدر والرجل القبر ' .
وفي الآية قول آخر : وهو أنه خاف عليهم ملك مصر إذا رأى قوتهم واجتماعهم أن يحبسهم أو يقتلهم . وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال : كان يرجو يعقوب أن يروا يوسف ويجدوه فقال : ( ^ وادخلوا من أبواب متفرقة ) لعلكم ( تجدون ) يوسف [ أو ] تلقونه . والصحيح هو الأول .
وقوله : ( ^ وما أغنى عنكم من الله من شيء ) معناه : إن كان الله قضى فيكم [ قضاء ] فيصيبكم [ قضاؤه ] مجتمعين كنتم أو متفرقين ؛ ومعنى ' أغنى '
____________________

( ^ شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ( 67 ) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 68 ) ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما ) * * * * أي : أدفع . وفي الخبر : الحذر لا يرد القدر . وقوله : ( ^ إن الحكم إلا لله ) هذا تفويض يعقوب عليه السلام أموره إلى الله ؛ والحكم : هو الفصل بين الخصوم بموجب العلم من البشر ، ومن الله صنع بموجب الحكمة ( ^ عليه توكلت ) يعني : به وثقت وعليه اعتمدت .
( ^ وعليه فليتوكل المتوكلون ) معناه : وبه يثق الواثقون . < < يوسف : ( 68 ) ولما دخلوا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ) يعني : من الأبواب المتفرقة قيل : إن المدينة مدينة الفرما ، و ( كانت ) لها أربعة أبواب ، كانت مدينة العريش . وقوله ( ^ ما كان يغني عنهم من الله من شيء ) معناه : ما كان يدفع عنهم من الله من شيء ، وهذا الحق تحقيق لما ذكره يعقوب من قوله : ( ^ وما أغنى عنكم من الله من شيء ) . وقوله : ( ^ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ) يعني : إلا مرادا ليعقوب عليه السلام ذكره وجرى الأمر على ذلك . وقوله : ( ^ وإنه لذو علم لما علمناه ) قال أهل التفسير : معناه : وأنه كان يعمل ما يعمل عن علم ، لا عن جهل . ومنهم من قال : وإنه لذو علم بسبب تعليمنا إياه ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) لأنهم لم يسلكوا طريق العلم . < < يوسف : ( 69 ) ولما دخلوا على . . . . . > >
قوله : ( ^ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه ) آوى إليه : ضم إليه ، ومعناه : أنزله مع نفسه . وفي القصة : أنه أنزل كل أخوين من أم بيتا ، فبقي بنيامين وحده فقال : انزل معي ، وكان كل أخوين من أم على حدة . وقوله : ( ^ قال إني أنا أخوك )
____________________

( ^ كانوا يعملون ( 69 ) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ( 70 ) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ) * * * * فيه قولان : أحدهما : أنه أسر إليه أنه أخوه . والآخر : أنه قال : أنا لك مكان أخيك الهالك . ذكره وهب وغيره . وقوله : ( ^ فلا تبتئس بما كانوا يعملون ) معناه : فلا تحزن بما عملوا مع أخيك ، فإني لك بدل أخيك ، فروي أنه قال له بنيامين : ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ؛ ولكنك لست من يعقوب ؛ فحينئذ ذكر أنه أخوه حقيقة . < < يوسف : ( 70 ) فلما جهزهم بجهازهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جهزهم بجهازهم ) قد ذكرنا . وقوله : ( ^ وجعل السقاية ) السقاية : هي الإناء الذي يشرب به . واختلفوا أنها من أيش كانت ؟ قال ابن عباس : كانت من زبرجد . وقال مجاهد : كانت من فضة مرصعة بالجوهر ، وقيل : كان من ذهب . وعن بعضهم : أنه كان ( إناء ) مستطيلا شبه المكوك وله رأسان وفي وسطه مقبض ، فكان يكال من أحد الرأسين ويشرب من ( الرأس ) الآخر ، وكان لا يكال إلا به لعزة الطعام ، وكان يسمع لها صوت : قد كيل في كذا .
وقوله : ( ^ في رحل أخيه ) أي : في وعاء أخيه بين طعامه . وقوله : ( ^ ثم أذن مؤذن ) روي أنه تركهم حتى ذهبوا منزلا ، وقيل : حتى أصحروا وخرجوا من العمارة ، ثم بعث من خلفهم من استوقفهم وقال : ( ^ أيتها العير إنكم لسارقون ) والعير : هم أصحاب الحمير . وقيل : قد يذكر ويراد به الإبل . فإن قال قائل : كيف استجاز يوسف أن ينسبهم إلى السرقة ولم يسرقوا ؟
الجواب عنه من وجوه : أحدها معناه : إنكم لسارقو يوسف من أبيه ، وعملتم كما يعمل السراق . والثاني : أن الرجل قال من غير أمر يوسف ، فإنه حين فقد الصاع ظن أنهم سرقوا . والثالث : أن هذه هفوة من يوسف عليه السلام . وقد قالوا : إنه عير ثلاث عيرات : الأولى : حين هم بامرأة العزيز إلى أن رأى البرهان ، والثاني حين قال للساقي : اذكرني عند ربك ، والثالث : هذا ؛ وهو أنه نسب إخوته إلى السرقة .
والقول الأول أجود الأقاويل ، ويقال : إنه كان واضع مع بنيامين ، وقال ما قال بالمواضعة ، والله أعلم .
____________________

( ( 71 ) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ( 72 ) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ( 73 ) قالوا فما ) * * * * < < يوسف : ( 71 ) قالوا وأقبلوا عليهم . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ) روي أنهم وقفوا وقالوا للقوم : ماذا تطلبون ؟ < < يوسف : ( 72 ) قالوا نفقد صواع . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا نفقد صواع الملك ) قرأ يحيى بن يعمر : ' صوغ الملك ' بالغين المعجمة [ و ] الصوغ من الذهب أو الفضة ، والصواع يذكر ويؤنث ، [ و ] الصواع : هو السقاية التي ذكرها في الآية الأولى . وقيل : إنه كان يكون بين يدي الملك ، فإذا احتيج إليه أخذ .
وقوله : ( ^ ولمن جاء به حمل بعير ) يعني : ولمن رده حمل بعير من الطعام .
وقوله : ( ^ وأنا به زعيم ) أي : كفيل ، والزعيم والكفيل والضمين بمعنى واحد ، ويسمى الرئيس زعيما ؛ لأنه كفل أمور القوم زعيم يقوم بمصالحهم ويتكلم عنهم . فإن قيل : أتجوز الكفالة بالمجهول عندكم وهذه كفالة بالمجهول ؟ قلنا : لا تجوز ، ويحتمل أن حمل البعير كان معلوما قدره عندهم . والثاني : أن هذه جعالة ولم تكن كفالة ، وعندنا تجوز مثل هذه الجعالة . < < يوسف : ( 73 ) قالوا تالله لقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ) يعني : والله ما جئنا لنفسد في الأرض أي : لنسرق في ملك مصر ( ^ وما كنا سارقين ) في بلادنا فنسرق في بلادكم . فإن قال قائل : كيف قالوا : لقد علمتم وكان ( من جوابهم ) أن يقولوا : نحن لا نعلم ؟ ( قلنا ) : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم كانوا جماعة لهم قوة وشدة ولم يكونوا يظلمون أحدا من الطريق ولا يتركون دوابهم تدخل في حرث أحد ، وروي أنهم دخلوا مصر حين دخلوا وقد جعلوا الأكمة على رءوس دوابهم لئلا تفسد شيئا .
وجواب آخر : أنهم إنما قالوا هذا لأنهم ردوا البضاعة المحمولة في رحالهم قالوا : فلو
____________________

( ^ جزاؤه إن كنتم كاذبين ( 74 ) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين ( 75 ) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من ) * * * * كنا سارقين ما رددنا البضاعة ؛ لأن من يطلب شيئا ليسرقه لا يخلي شيئا وقع في يده .
فإن قيل : كيف جاز في العربية أن يقول القائل : ( تالله ، ولا يجوز أن يقول : تالرحمن وتالرحيم ) ؟ قلنا : لأن التاء بدل الباء ؛ فإن الأصل في القسم حرف الباء ثم أبدلت الواو بالتاء فلما كانت بدل البدل ضعفت عن التصرف واقتصرت على الاسم الذي هو الأصل في القسم عادة ولسانا وهو ' الله ' . < < يوسف : ( 74 ) قالوا فما جزاؤه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ) معناه : فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين بقولكم إنا لم نسرق ؟ < < يوسف : ( 75 ) قالوا جزاؤه من . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ) استعباد السارق من وجد في رحله ( فهذا ) الجزاء جزاؤه ؛ فيكون الثاني تأكيدا للأول . وفي الأول حذف على عادة كلام العرب ، والقول الثاني : قالوا : جزاؤه من وجد في رحله فالسارق جزاؤه ؛ فهو كناية عن السارق ، ومعنى جعله جزاء : أنه يسترق ويستعبد . واعلم أنه كان من سنة يعقوب : أن من سرق شيئا استرق سنة ، وكان حكم ملك مصر أن يضرب ويغرم ضعفي قيمته ، [ فمراد ] يوسف أن يحبس أخاه عنده فرد الحكم في السرقة إليهم فذكروا من حكم السرقة بما عرفوه في شريعة يعقوب عليه السلام ، فأخذ يوسف عليه السلام بذلك وحصل مراده من حبس أخيه .
وقوله : ( ^ كذلك نجزي الظالمين ) يعني : أن إخوة يوسف قالوا : كذلك نجزي السراق عندنا . < < يوسف : ( 76 ) فبدأ بأوعيتهم قبل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ) روي أن المؤذن فتش عن أوعيتهم ، وروي أنه رد جماعتهم إلى يوسف - عليه السلام -
____________________

( ^ وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ( 76 ) قالوا إن يسرق ) * * * * فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه . وفي القصة : أن ذلك الرجل كان كلما فتش وعاء ولم يجد الصاع استغفر الله وأظهر التوبة فلما بقي رحل بنيامين قال : ما أظن أن هذا أخذ شيئا قالوا : والله لا نتركك حتى تفتش وعاءه فتطيب أنفسنا ونفسك ، ففتش وعاءه واستخرج الصاع فبقوا منكسرين مستحيين ونكسوا رءوسهم خجلا وقالوا لبنيامين : ما هذا يا ابن راحيل ؟ ! فقال : والله ما سرقت ، فقالوا : كيف وقد وجد الصاع في رحلك ؟ ! فقال : وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم . قال : وأخذوا بنيامين رقيقا عبدا . وفي القصة : أن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق . وقوله : ( ^ كذلك كدنا ليوسف ) معناه : دبرنا ليوسف ، وقيل : صنعنا ليوسف . وقال ابن الأنباري : أردنا ليوسف ؛ وأنشد قول الشاعر
( كادت وكدت وذاك خير إرادة ** لو عاد من لهو الصبابة ما مضى )
فإن قيل : ما معنى قوله : ( ^ كذلك ) وأيش هذه الكاف ، والكاف للتشبيه ؟ الجواب عنه : أن هذا منصرف إلى قول يعقوب في أول السورة : ( ^ فيكيدوا لك كيدا ) وكان كيدهم : أنهم أخذوه من أبيه بحيلة وألقوه في الجب فقال الله تعالى : كما كادوا في أمر يوسف : ( ^ كدنا ليوسف ) في أمرهم ؛ والكيد من الخلق هو : الحيلة ، ومن الله : التدبير بالحق . وقوله : ( ^ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) معناه : ما كان يوسف ليجازي أخاه في حكم الملك ، وقيل : في عادة الملك . قال الشاعر :
( أقول وقد درأت لها وضيني ** أهذا دينه أبدا وديني )
و ' ما ' هاهنا للنفي . وقوله : ( ^ إلا أن يشاء الله ) معناه : إلا بمشيئة الله يعني : فعل ما فعل بمشيئة الله تعالى . وقوله : ( ^ نرفع درجات من نشاء ) قال هذا في هذا الموضع ؛ لأنه رفع درجة يوسف على درجتهم في العلم والملك والعقل وغيره . وقيل :
____________________

( ^ فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون ( 77 ) قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) * * * * نرفع درجات من نشاء بالتوفيق والعصمة . وقوله : ( ^ وفوق كل ذي علم عليم ) قال ابن عباس : وفوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله . وقرأ ابن مسعود : وفوق كل عالم عليم ' . < < يوسف : ( 77 ) قالوا إن يسرق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ) أرادوا بأخيه من قبل : يوسف - عليه السلام - واختلف القول في أنه أيش سرق ؟
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان عند جده إلى أمه صورة تعبد فأخذها سرا وألقاها لئلا تعبد . والقول الثاني : أنه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرا فيعطيه المساكين .
والقول الثالث : أنه كان عند عمته تربيه ، فأراد يعقوب أن ينتزعه منها فشدت عمته تحت ثيابه منطقة ، وادعت أنه سرقها لتحبسه عند نفسها ويترك عندها ؛ فإنها كرهت أن يؤخذ منها وكانت أحبته حبا شديدا ، ذكره ابن إسحاق .
وقوله : ( ^ فأسرها يوسف في نفسه ) فإن قال قائل : إلى أين يرجع قوله : ( ^ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ) ؟ قلنا : ليس لهذا مذكور سابق ، ومعناه : أسر الكلمة في نفسه ، وتلك الكلمة أنه قال : ( ^ أنتم شر مكانا ) ، ولم يصرح بهذا القول . وقوله : ( ^ شر مكانا ) يعني : شر صنيعا . وحقيقة معناه : أنه لم يكن من يوسف سرقة صحيحة ، وقد كانت منكم سرقة صحيحة ؛ وهو سرقتكم يوسف من أبيه .
وقوله : ( ^ والله أعلم بما تصفون ) يعني : والله أعلم أن أخاه قد سرق أو لم يسرق < < يوسف : ( 78 ) قالوا يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) في القصة : أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة ، وكان يهوذا إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ، وإذا صاح [ فكل ] امرأة حامل سمعت صياحه ألقت ولدها ، وكان مع هذا إذا مسه أحد من
____________________

( ^ فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ( 78 ) قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ( 79 ) فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال ) * * * * ولد يعقوب [ سكن ] غضبه ، وقيل : إن هذا كان صفة شمعون من أولاد يعقوب ؛ فروي أنه قال لإخوته : كم يكون من عدد الأسواق بمصر ؟ فقالوا : عشرة أسواق ، فقال : اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفكم الملك ، أو قال : اكفوني أنتم الملك وأنا أكفكم الأسواق ، قال : فدخلوا على يوسف فقال له يهوذا : أتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة تلقي كل حامل ولدها في هذه البلدة ، وكان عند يوسف ابن له صغير قائم عنده فقال : اذهب وخذ بيد ذلك الرجل وائتني به ، فذهب وأخذ بيده فسكن غضبه ، فقال لإخوته : والله إن هاهنا بذرا من بذر يعقوب ، فقال له الابن الصغير : ومن يعقوب وأنا لا أدري يعقوب ولا ولده ؟ . وروي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف وركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال : معشر العبرانيين تظنون أن لا أحد أشد منكم ، ذكر هذا كله السدي وغيره ، فلما صار أمرهم إلى هذا خضعوا وذلوا وقالوا : ( ^ يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) .
والعز : منع الضيم أو الضير بسعة السلطان والقدرة ، والعزيز : هو المنيع بما حصل له من واسع المقدور .
قوله : ( ^ إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه ) معناه : خذ أحدنا بدله ، ونصب شيخا على نعت قوله : ( ^ أبا ) .
وقوله : ( ^ إنا نراك من المحسنين ) يعني : إنا نراك من المحسنين إلينا ، وإحسانه إليهم بتوفية الكيل ، وحسن الضيافة ، ورد البضاعة ، وغيره . < < يوسف : ( 79 ) قال معاذ الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال معاذ الله ) أعتصم بالله ( ^ أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ) معلوم المعنى ، ومعناه : أن نأخذ البرىء بدل الجاني ، فإن أخذنا فإنا ظالمون . < < يوسف : ( 80 ) فلما استيأسوا منه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما استيأسوا منه ) في القصة : أنه لما استخرج الصاع وعاد الإخوة إليه دعا بالصاع ونقره بقضيب في يده فطن الصاع .
____________________

( ^ كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير ) * * * *
فقال : يا قوم إن هذا الصاع ليخبرني بخبر ، قالوا : وما يخبرك أيها الملك ؟ فقال : إنه يخبرني أنكم كنتم ( اثنى ) عشر إخوة وأنكم أخذتم أخا لكم من أبيكم وألقيتموه في الجب وبعتموه من بعد ، قال : فجعل ينظر بعضهم إلى بعض فقام بنيامين وسجد له ، وقال : صدق صاعك ( أيها الملك ) ، سله : أحي أخي أو لا ؟ ، فنقر الصاع ثانيا وطن فقال : إنه يقول : هو حي ، وستراه . فقال : سله من سرق الصاع ؟ فقال : هو غضبان - يعني الصاع - ويقول كيف تسألني وقد رأيت في يد من كنت ؟ ! أورده النقاش وأبو الحسن بن فارس وغيرهما ، والله أعلم .
ومعنى قوله : ( ^ فلما استيأسوا منه ) أي : تيأسوا منه ، وقال أبو عبيدة : استيأسوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم ، وأنشد :
( أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم )
يعني : ألم تعلموا . وقوله ( ^ خلصوا نجيا ) يعني : انفردوا يتناجون ، ويتشاورون في أمر أخيهم ، ومعنى ( ^ خلصوا ) : أنه لم يكن معهم غيرهم . تقول العرب : قوم نجى . قال الشاعر :
( حتى إذا ما القوم كانوا أنجية ** واختلطت أحوالهم كالأرشية )
وقوله : ( ^ قال كبيرهم ) قال ابن عباس : هو يهوذا ولم يكن أكبرهم في السن ، ولكن كان في العقل أكبرهم ، وقال مجاهد : هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته ، وقال قتادة : هو الروبيل وكان أكبرهم في السن .
وقوله : ( ^ ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ) قد بينا معنى الموثق . وقوله : ( ^ ومن قبل ما فرطتم في يوسف ) يعني : قصرتم وتركتم عهد أبيكم .
____________________

( ^ الحاكمين ( 80 ) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ( 81 ) واسأل القربة التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ( 82 ) قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر ) * * * * وقوله : ( ^ فلن أبرح الأرض ) يعني : لن أبرح أرض مصر ( ^ حتى يأذن لي أبي ) يعني : يدعوني أبي ( ^ أو يحكم الله لي ) أي : يرد أخي إلي ، وقيل : يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي ( ^ وهو خير الحاكمين ) يعني : وهو خير الفاصلين . < < يوسف : ( 81 ) ارجعوا إلى أبيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ارجعوا إلى أبيكم ) الآية : امضوا إلى أبيكم ( ^ فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ) وحكي عن ابن عباس أنه قرأ : ' أنه إن ابنك سرق ' وفيه معنيان : أحدهما : اتهم بالسرقة . والآخر : علم منه السرقة . وقوله : ( ^ وما شهدنا إلا بما علمنا ) يعني : إلا بما رأينا فإنا رأينا إخراج الصاع من متاعه . وقوله : ( ^ وما كنا للغيب حافظين ) فيه قولان : أحدهما : ما كنا لليله ونهاره وذهابه ومجيئه حافظين ، وإنما كنا نعلم من حاله مادام عندنا ، والقول الثاني يعني : أنا لو علمنا أنه سيسرق ما حملناه مع أنفسنا فنحن لم نعلم هذا الغيب . < < يوسف : ( 82 ) واسأل القرية التي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واسأل القرية التي كنا فيها ) يعني : أهل القرية التي كنا فيها . ( ^ والعير التي أقبلنا فيها ) يعني : وأهل العير التي أقبلنا فيها ، أي : كنا فيها .
وقوله : ( ^ وإنا لصادقون ) ظاهر . فإن قال قائل : كيف استجاز يوسف - عليه السلام - أن يعمل كل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه ولم يرسل إليه أحدا ، ثم حبس أخاه عنده وقد عرف شدة وجده عليه ، وهذا أعظم من كل عقوق ، وفيه قطع الرحم وقلة الشفقة ؟ الجواب عنه : قد أكثر الناس في هذا ، والصحيح أنه عمل ما عمل بأمر الله تعالى ، وأمره الله تعالى بذلك ليزيد في بلاء يعقوب ويضاعف له الأجر ، ويرفع درجته [ فيلحقه ] في الدرجة بآبائه الماضين . وقيل : إنه لم يظهر نفسه للإخوة ؛ لأنه لم يأمن عليهم أن يدبروا ، في ذلك تدبيرا ويكتموا عن أبيهم ، والصحيح هو الأول . < < يوسف : ( 83 ) قال بل سولت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) في الآية اختصار ؛ لأنهم رجعوا
____________________

( ^ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العلم الحكيم ( 83 ) وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ( 84 ) ) * * * * وذكروا لأبيهم بما علمهم كبيرهم ، ثم إن يعقوب قال ما قال ، ومعنى التسويل هاهنا : أن زينت لكم أنفسكم حمل أخيكم إلى مصر لتطلبوا نفعا عاجلا .
قوله تعالى : ( ^ فصبر جميل ) أي : فصبري صبر جميل . والصبر : حبس النفس عما تنازع إليه النفس وقد بينا معنى الجميل . وقوله : ( ^ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ) يعني : يوسف وأخاه بنيامين ويهوذا . وفي القصة : أن ملك الموت - عليه السلام - زار يعقوب فقال له : أيها الملك الطيب ريحه ، الحسن صورته هل قبضت روح ولدي في الأرواح ؟ فقال : لا . فسكن يعقوب على ذلك ، وعلم أنه حي وطمع في رؤيته . وقوله : ( ^ إنه هو العليم الحكيم ) معناه : العليم بمكانهم ، الحكيم في تدبيرهم . < < يوسف : ( 84 ) وتولى عنهم وقال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف ) الآية . روي أن بنيامين لما حبسه يوسف اشتد الأمر على يعقوب غاية الشدة وبلغ الحزن [ به نهايته ] ، ولم يملك بعد ذلك الصبر ، فجزع ، فهذا معنى قوله : ( ^ وتولى عنهم ) أي : أعرض عنهم ( ^ وقال يا أسفى ) وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي : ' أن بعض إخوان يعقوب زاره فقال له : يا يعقوب ، ما الذي أعمى عينيك وقوس ظهرك ؟ فقال : أعمى عيني كثرة البكاء على يوسف ، وقوس ظهري شدة الحزن على بنيامين ، فبعث الله تعالى إليه جبريل - عليه السلام - وقال : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ ! فبعد ذلك دخل بيته ورد بابه ، و ( ^ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ' ومعنى
____________________

( ^ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ( 85 ) قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ( 86 ) يا بني ) * * * * قوله : ( ^ يا أسفى ) يا حزن على يوسف ، والأسف : شدة الحزن . وقوله : ( ^ وابيضت عيناه من الحزن ) يعني : غلب البياض على الحدقة وذهبت الرؤية . ونسبه إلى الحزن ؛ لأنه كان يبكي لشدة الحزن وعمي لشدة البكاء . وقوله : ( ^ فهو كظيم ) أي : ممسك على حزنه لا يبثه ولا يذكره للناس . فهذا بعد أن نهاه الله عن ذلك على ما بينا . < < يوسف : ( 85 ) قالوا تالله تفتأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ) يعني : لا تزال تذكر يوسف ، و ' لا ' محذوفة ، وقوله : ( ^ حتى تكون حرضا ) قال ثعلب - أحمد بن يحيى - الحرض : كل شيء لا ينتفع به ، قال مجاهد : الحرض ما دون الموت ، وقال الفراء : الحرض هو الذي فسد جسمه وعقله ، وقال أبو عبيدة : الحرض هو الذي أذابه الحزن . وقيل : هو المدنف البال ، والأقوال متقاربة .
وعن أنس بن مالك أنه قرأ : ' حتى تكون حرضا ' والحرض : الأشنان ، ومعناه : حتى تصير كعود [ الأشنان ] ، وقوله : ( ^ أو تكون من الهالكين ) أي : من الميتين . < < يوسف : ( 86 ) قال إنما أشكو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) قد بينا الخبر [ الوارد ] في هذا برواية أنس . والبث : الهم ، ( ^ وحزني إلى الله ) ، وروى أنه قال : يا رب ، أما ترحمني ، قد أخذت مني كذا وكذا - وجعل يعدد - رد إلي ريحانتي ( فأشمها شمة ثم افعل ) بي ما أردت ولا أبالي ، فأوحى الله - تعالى - إليه : أن اسكن وفرغ روعك فسأردهما إليك . وفي الآثار المسندة عن الحسن البصري أنه قال : بكى يعقوب ثمانين سنة وما جف له دمع ، ولم يكن على وجه الأرض أحد أكرم على الله منه . قوله : ( ^ وأعلم من الله ما لا تعلمون ) يعني : أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون ، وقيل : أعلم من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون ، فإن قال قائل :
____________________

كيف بكى يعقوب كل هذا البكاء وحزن هذا الحزن ، وهل أصيب إلا بفقد ولد واحد ، أفما كان عليه أن يسلم الأمر إلى الله تعالى ويصبر ؟ الجواب عنه : أنه امتحن في هذا بما لم يمتحن به غيره ، ولم يسأل عن يوسف مع طول الزمان ، وكان [ ابتلاؤه ] فيه أنه لم يعلم حياته فيرجو رؤيته ، ولم يعلم موته فيسأل عنه ، وكان يوسف من بين سائر الإخوة خص بالجمال الكامل ( والعقل ) وحسن الخلق وسائر ما يميل القلب إليه . وروي عن الحسن البصري أنه مات أخوه فبكى عليه بكاء شديدا فسئل عن ذلك ؟ فقال : سبحان من لم يجعل الحزن عارا على أهله ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) . وروى حبيب بن أبي ثابت قال : لما كبر يعقوب وطال عليه الحزن سقط حاجباه على عينيه من الكبر فكان يرفعهما بخرقة ، فدخل عليه بعض جيرانه وقال : ما الذي بلغ بك ما بلغ ولم تبلغ سن أبيك بعد ؟ قال : طول الزمان وكثرة [ الأحزان ] ، فبعث الله إليه جبريل - عليه السلام - وقال : يا يعقوب ، شكوتني إلى خلقي ؟ ! فقال : خطيئة فاغفرها لي يا رب . فغفرها الله له ، وكان بعد ذلك إذا سئل عن حاله قال : ' إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ' وعن وهب بن منبه : أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب - عليه السلام - فقال : أتدري لم عاقبتك وفرقت بينك وبين ولدك ؟ قال : يا رب لا ، فقال : لأنك ذبحت شاة وشويتها وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه ؛ وقد روى أنس ، عن النبي قريبا من هذا أورده الحاكم أبو عبد الله . وفي خبر أنس : ' أن الله تعالى قال ليعقوب : اتخذ طعاما وادع إليه المساكين ، ففعل وكان بعد ذلك إذا تغد أمر من ينادي : من أراد الغداء فليأت يعقوب ، وإذا أفطر أمر من ينادي : من أراد أن يفطر فليأت يعقوب ، فكان يتغدى معه القوم الكثير ، ويتعشى معه القوم الكثير من المساكين ' .
وفي القصة : أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمها وهي تخور . وعن عبد الله بن يزيد وابن أبي فروة : أن يعقوب - عليه السلام - كتب كتابا إلى
____________________

( ^ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( 87 ) فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا ) * * * * يوسف حين حبس بنيامين : بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد : فإنا أهل بيت ( وكل ) بنا البلاء ، أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلهما الله عليه بردا وسلاما ؛ وأما أبي إسحاق فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ففداه الله بكبش ، وأما أنا فابتليت بفراق أحب أولادي إلي وكنت أتسلى بأخيه من أمه وقد حبسته وزعمت أنه سرق ، والله ما أنا بسارق ولم ألد سارقا فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك . فلما بلغ ( إليه الكتاب ) بكى بكاء شديدا وأظهر نفسه على ما يرد . < < يوسف : ( 87 ) يا بني اذهبوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف ) التحسس : طلب الشيء بالحاسة ، ومعناه : اطلبوا وابحثوا عن خبر يوسف وأخيه .
وقوله : ( ^ ولا تيأسوا من روح الله ) في الشاذ قرىء : ' من روح الله ' ( وعن أبي بن كعب أنه قرأ : ' من رحمة الله ' والروح مأخوذ من الريح ، وهو في الحقيقة ما يستراح به . وقيل : من روح الله ) أي : من فرج الله ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقيل : من رحمة الله ، وقيل : من فضل الله .
وقوله : ( ^ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 88 ) فلما دخلوا عليه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ( فلما دخلوا عليه ) قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) يعني : الجوع والحاجة . وقوله : ( ^ وجئنا ببضاعة مزجاة ) قال ابن عباس : كانت دراهمهم زيوفا في هذه الكرة ، ولم تك تنفق في الطعام فهذا معنى المزجاة ، وعن مجاهد وقتادة : مزجاة : قليلة يسيرة ، وقال مقاتل : كانت بضاعتهم حبة الخضراء ، وعن الكلبي قال : كانت بضاعتهم الحبال وخلق الغرائر ، وقيل : كانت سويق المقل .
____________________

( ^ وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ( 88 ) قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ( 89 ) قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه ) * * * *
وقال ( كعب : كانت عشرة دنانير . وقيل : كان متاع الأعراب من الصوف والأقط وغيره . وقوله : ( ^ فأوف لنا الكيل ) معناه : أتم كما كنت تتم كل مرة . وقوله : ( ^ وتصدق علينا ) أي : بما بين النافق والكاسد . وقيل : تصدق علينا بالتجوز . قال الشاعر :
( تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب ** وأمر علينا الأشعري لياليا )
يعنون : أبا موسى الأشعري ، وقيل : وتصدق علينا بإطلاق أخينا ، وعن مجاهد قال : يكره أن يقول الرجل : اللهم تصدق علي ؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب . فإن قال قائل : كيف قالوا : وتصدق علينا ، والصدقة لا تحل للأنبياء ؟ الجواب : أن سفيان ابن عيينة قال : قد كانت حلالا لهم ، ولأنا بينا أن المراد منه التجوز والمحاباة ، وهذا جائز بالاتفاق . وقوله : ( ^ إن الله يجزي المتصدقين ) لم يقولوا : يجزيك ؛ لأنهم لم يثقوا بإيمانه ، فقالوا : إن الله يجزي المتصدقين على الإطلاق لهذا . < < يوسف : ( 89 ) قال هل علمتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ) روي أنهم [ لما ] قالوا هذا وسمعه يوسف أدركته الرقة ، فقال لهم هذا القول : هل [ علمتم ] ما فعلتم أي : ما صنعتم بيوسف وأخيه ، والذي فعلوا بأخيه هو التفريق بينهما ولم يذكر ما فعلوا بيعقوب دفعا لحشمته وتعظيما له . وقوله : ( ^ إذ أنتم جاهلون ) معناه : إذ أنتم آثمون عاصون ، وعن ابن عباس قال : إذ أنتم صبيان ، وعن الحسن قال : إذ أنتم شبان ومعكم جهل الشبان ، وفي القصة : أنه لما قال هذا القول تبسم فرأوا ثناياه منظوما كاللؤلؤ فعرفوه وقالوا : < < يوسف : ( 90 ) قالوا أئنك لأنت . . . . . > > ( ^ أئنك لأنت يوسف ) وقال بعضهم : قالوا هذا على التوهم ولم يكونوا تيقنوا بعد حتى قال لهم : أنا يوسف . وقوله : ( ^ أنا يوسف وهذا أخي )
____________________

( ^ من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( 90 ) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ( 91 ) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ( 92 ) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم ) * * * *
حكى الضحاك أن في قراءة ابن مسعود : ' وهذا أخي بيني وبينه قربى ' . وقوله : ( ^ قد من الله علينا ) أي : أنعم الله علينا ( ^ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) معناه : من يتق عن المعاصي ويصبر على الطاعات والمصائب . وعن إبراهيم النخعي قال : من يتق الزنا ويصبر على العزوبة . < < يوسف : ( 91 ) قالوا تالله لقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا ) يعني : فضلك الله علينا ( ^ وإن كنا لخاطئين ) وما كنا إلا خاطئين ، وقيل : وقد كنا خاطئين ، والفرق بين خطأ وأخطأ أن خطأ : خطأ إذا تعمد ، وأخطأ : خطأ إذا كان غير متعمد . < < يوسف : ( 92 ) قال لا تثريب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لا تثريب عليكم اليوم ) التثريب هو التعيير ذكره ثعلب وغيره ، وقيل : لا تثريب عليكم اليوم أي : لا عقوبة عليكم اليوم بعد اعترافكم بالذنب ، قال الشاعر :
( فعفوت عنكم عفو غير مثرب ** وتركتكم لعقاب يوم سرمد )
وقوله : ( ^ اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 93 ) اذهبوا بقميصي هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اذهبوا بقميصي هذا ) روي أن الله تعالى لما جعل النار على إبراهيم بردا وسلاما أنزل عليه قميصا من حرير الجنة فأعطاه إبراهيم إسحاق ، وأعطاه إسحاق يعقوب فجعله يعقوب في ( قصبة ) وشد رأسها وعلقها في عنق يوسف - عليه السلام - وكان يكون في عنقه ، فلما كان هذا الوقت بعث الله جبريل - عليه السلام - أن افتح القصبة : وابعث إليه بالقميص فإنه لا يمسه مبتلى إلا عوفي ، ولا سقيم إلا صح وبرأ ، فبعث بذلك القميص إلى يعقوب ، فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ اذهبوا بقميصي هذا ) وفي القصة أن يهوذا قال : أنا أذهب بالقميص إليه فإني
____________________

( ^ أجمعين ( 93 ) ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) * * * * ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إليه ، فأعطاه وخرج حافيا [ حاسرا ] يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوفها حتى بلغ كنعان ، وقيل : إنه بعث على يد غيره ، [ وقال ] : ( ^ فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) قال الفراء : يرجع بصيرا ، وقال غيره : يعد بصيرا ؛ قال الحسن : لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله ذلك .
وقوله : ( ^ وأتوني بأهلكم أجمعين ) أي : جيئوني بأهلكم أجمعين . < < يوسف : ( 94 ) ولما فصلت العير . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما فصلت العير ) يعني : انفصلت من مصر وخرجت . قوله : ( ^ قال أبوهم إني لأجد ) في القصة : أن ريح الصبا استأذنت من ربها أن تأتي بريح يوسف إلى يعقوب - عليهما السلام - فهي التي جاءت بريح يوسف ، والصبا : ريح تأتي من قبل المشرق إذا هبت على الأبدان لينتها ونعمتها وطيبتها ، وهيجت الأشواق إلى الأحباب والحنين إلى الأوطان ، قال الشاعر :
( أيا جبلي نعمان بالله خليا ** سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها )
( فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ** على قلب محزون تجلت همومها )
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ' وروي أن القميص لما نشر هاجت منه ريح الجنة [ فشمها ] يعقوب - عليه السلام - فعلم أنها جاءت من قبل قميص يوسف ؛ لأنه لم يكن في الأرض شيء من الجنة سواه .
وقوله : ( ^ لولا أن تفندون ) معناه : لولا أن تضعفوا رأي ، وقيل : لولا أن تسفهوني ، وقيل : لولا أن تنسبوني إلى الخوف والجهل .
قال الشاعر :
____________________

( ^ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ( 95 ) فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ( 96 ) قالوا يا أبانا استغفر ) * * * *
( يا صاحبي دعا الملامة واقصرا ** طال الهوى وأطلتما التفنيدا ) < < يوسف : ( 95 ) قالوا تالله إنك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) هذا قول بني بنيه ، فإن بنيه كانوا بمصر ، ومعناه : تالله إنك لفي خطئك القديم ، والخطأ : هو الذهاب عن طريق الصواب ؛ فإنه كان عندهم أن يوسف قد مات ، وكانوا يرون يعقوب قد لهج بذكره فإنه كان يخرج من بيته فيلقاه الرجل ومعه شيء يحمله فيقول : ضعه واسمع مني حديثي ، وكان يلقاه الخادم والجارية فيقول معه مثل هذا القول ؛ وكانوا يظنون به خرفا وخطأ عظيما ، فهذا معني قولهم : إنك لفي ضلالك القديم ، وقيل : إنك لفي [ شقائك ] القديم ، والشقاء هاهنا بمعنى التعب ، وقيل : في غفلتك القديمة ، وقيل : في محبتك القديمة ؛ قال الحسن البصري : فكان هذا عقوقا ( عظيما ) منهم . < < يوسف : ( 96 ) فلما أن جاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه ) ومعناه : ألقى القميص على وجهه . وقوله : ( ^ فارتد بصيرا ) أي : عاد بصيرا ورجع بصيرا ، فروي أنه عادت قوته في الحال ، وذهبت [ الغشاوة ] وزال البياض الذي كان بعينه ، وفتح عينيه كأحسن ما يكون ، و ( ^ قال ) لبنيه وبني بنيه : ( ^ ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) وهذا دليل على أنه قد كان قال لهم : إن يوسف حي ، وإني أرجو رؤيته . ( وقيل ) : ( ^ إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) يعني : من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون ، وفي بعض الأخبار أنه قال للبشير : ليس عندي شيء أعطيك ولكن هون الله عليك سكرات الموت . وروي أنه لما جاءه خبر يوسف قال للبشير : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة . < < يوسف : ( 97 ) قالوا يا أبانا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) هذا دليل على أنهم عملوا ما عملوا وكانوا بالغين .
____________________

( ^ لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ( 97 ) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ( 98 ) فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) * * * * < < يوسف : ( 98 ) قال سوف أستغفر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال سوف أستغفر لكم ربي ) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وجماعة من التابعين أنهم قالوا : أخر الدعاء إلى السحر وهو الوقت الذي يقول الله تعالى : هل من داع ( فيستجاب ) له ؟ هل من سائل فيعطى سؤله ' ؟ ( الخبر ) ' هل من مستغفر فيغفر له ؟ ' والقول الثاني : أنه أخر إلى ليلة الجمعة حكى هذا عن ابن عباس ، وقد روي في بعض الأخبار مرفوعا إلى النبي . وعن عطاء بن ميسرة الخراساني قال : الحاجة إلى الشباب أسرع إجابة من الحاجة إلى الشيوخ ، فإن يوسف - عليه السلام - قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ولم يؤخر ، وحين طلبوا من يعقوب سوف وأخر . وفي القصة : أن يعقوب كان يصلي من الليل ويقوم يوسف خلفه ويقوم بنوه خلف يوسف ويستغفرون لهم هكذا عشرين سنة إلى أن نزل الوحي بمغفرتهم ، وقوله : ( ^ إنه هو الغفور الرحيم ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 99 ) فلما دخلوا على . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ) روي أن يوسف بعث بمائتي راحلة وجهاز كثير ليأتوا بيعقوب وقومه ، قال مسروق : كانوا ثلاثة وتسعين من بين رجل وامرأة ، وروي : اثنان وسبعين وهو الأشهر . قال أهل الأخبار : ولما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر كان قد ( بلغ ) عددهم ستمائة ألف مقاتل وسبعين ألفا ، والذرية ألف ألف وسبعمائة ألف وكذا في القصة أنهم جاءوا فلما قربوا من مصر
____________________

( ^ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رءياي من قبل ) * * * * خرج يوسف ليلقاهم مع الجند ، وروي أنه حمل الملك الأكبر مع نفسه ، فلما وصلوا إلى يعقوب قالوا ليعقوب : هذا ابنك قد جاء ، قال : فأراد يوسف أن يبدأه بالسلام ، فقال جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال ( يعقوب : ) السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وقد روي أنهما نزلا وتعانقا ، وفي بعض القصص أنهما مشيا فتقدمه يوسف بخطوة فجاء جبريل وقال له : أتتقدم على أبيك لا أخرج من ذريتك نبيا أبدا ، وفي بعض القصص : أن يوسف كان في أربعة آلاف من الجند ، وقد قيل غيره . وقوله : ( ^ آوى إليه أبويه ) أي : ضم إليه أبويه ، والأكثرون أن أبويه أي : أباه وخالته ، وقال الحسن البصري : هو أبوه وأمه وقد كانت حية ، وفي بعض التفاسير : أن الله تعالى بعث أمه وأحياها حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) اختلفوا في [ معنى ] المشيئة هاهنا ، قال بعضهم : ادخلوا آمنين من الجواز ( ^ إن شاء الله ) ، وقد كانوا لا يدخلون قبل ذلك لمصر إلا بجواز ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير ومعناه : سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقال : ادخلوا مصر آمنين . < < يوسف : ( 100 ) ورفع أبويه على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ورفع أبويه على العرش ) الرفع : هو النقل إلى العلو ، وضده الوضع ، والعرش : سرير الملك ، وقد روي عن النبي أنه قال : ' اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ' قيل : أراد به سريره ( الذي حمل عليه وليس بشيء ؛ لأن الكلام خرج على وصف التكريم ، ولا كرامة في اهتزاز سريره الذي حمل عليه ) ، وفي بعض الروايات : ' اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ' فالعرش في هذا الخبر هو العرش المعروف واهتزازه استبشاره لإقبال روح سعد بن معاذ . ويجوز أن يكون المراد
____________________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق